شرح العقيدة الطحاوية (36)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

سم.

"بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا واجزه عنا خيرا، قال الشارح رحمه الله تعالى:

فإن قيل كيف يرضى لعبده شيئا ولا يعينه عليه قيل لأن إعانته عليه قد تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها له، وقد يكون وقوع تلك الطاعة منه يتضمن مفسدة هي أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة، وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [سورة التوبة:46] الآيتين، فأخبر سبحانه أنه كره انبعاثهم إلى الغزو مع رسوله وهو طاعة فلما كرهه منهم ثبّطهم عنه، ثم ذكر سبحانه بعض المفاسد التي كانت تترتب على خروجهم مع رسوله فقال {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} [سورة التوبة:47] أي فسادا وشرًّا {ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ} [سورة التوبة:47] أي سعوا بينكم بالفساد والشر {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [سورة التوبة:47] أي قابلون منهم مستجيبون لهم، فيتولد من سعي هؤلاء وقبول هؤلاء من الشر ما هو أعظم من مصلحة خروجهم فاقتضت الحكمة والرحمة أن أقعدهم عنه."

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، هذا السؤال الذي أورده المؤلف- رحمه الله تعالى- مثال واضح أجاب بالآية وهي من أوضح الأمثلة على ذلك، يقول: فإن قيل كيف يرضى لعباده شيئًا ولا يعينه عليه؟ في الأمثلة العادية عندنا لو أنني مدحت كتابًا نافعا لطلاب العلم، بمعنى أني رضيته لكم وأحببت لكم أن تقتنوه وتقرؤوا فيه لكن ما دللتكم على مكانه ولا أخبرتكم به بل عندي منه نسخ ولا أعطيتكم منها لماذا؟ لأن تيسير أمر الحصول عليه قد يخفف شأنه عندكم، يعني أنا لو قلت خذوا هذا الكتاب ووزعته عليكم، أو قلت لكم في المكتبة الفلانية، هذا يختلف عما لو تعبتم على الحصول عليه؛ لأن الذي يتعب على الشيء يعتني به ويهتم به؛ ولذلكم أزهد الناس بالكتب من يقتنيها مجانًا، والكتب التي توزع مجانًا تقل الاستفادة منها بخلاف ما يشترى بالدراهم ويتعب على اقتنائه، هذا يُتعَب عليه ويحرص عليه ويحافظ عليه ويقرأ فيه، لكن لو تيسر أمره أي كتاب أردته خذ تصير مجرد جمع بدون فائدة؛ لأن الأمر السهل ليست العناية فيه والمحافظة عليه مثل الذي يشق الحصول عليه، هذا مثال عادي وبسيط هذا نفهمه كلنا؛ ولذلك يوصي بعض العلماء ألا يطبع كتاب وقف يوزع مجانًا  و تكون الكمية ضعف المطبوع، يعني بدل ما يطبع منه عشرة آلاف يطبع عشرون ألفا، وبدلاً من أن يوزع مجانًا هذه العشرة آلاف يوزع بنصف القيمة، ويباع بنصف القيمة؛ لأننا نرى الكتب التي تؤخذ من مستودعات التوزيع تستلم من أول النهار وآخر النهار في الحراج تباع لماذا؟ لأنه ما تعب عليها، بينما الذي يتعب على الكتاب يقرأ فيه فإعانته عليه فساد له وضرر عليه، هذا في أمثلتنا العادية فكيف بأحكم الحاكمين؟ حكمة الله البالغة، يقول: فكيف يرضى لعبده شيئًا ولا يعينه عليه؟ قيل لأن إعانته عليه قد ت ستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها له، وقد يكون وقوع تلك الطاعة يتضمن مفسدة هي أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة، ثم ذكر الآية وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [سورة التوبة:46] الخروج إلى الجهاد محبوب إلى الله- جل وعلا- ومن أفضل الطاعات لكن كيف كره الله انبعاثهم فثبطهم ما أعانهم، هو محبوب من جهة ومطلوب من جهة، خروجهم مطلوب ومحبوب لكن خروجهم المتضمن لهذه المفاسد والمشتمل عليها مكروه إلى الله- جل وعلا- والنتيجة ثبطهم والسبب {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} [سورة التوبة:47] فسادا {ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ} [سورة التوبة:47] نعم قد يكون في اجتماع بعض الشباب من طلاب العلم يجتمع خمسة في عزبة أو في شقة وهم كلهم طلاب علم وفي مستوى واحد وزملاء في الدراسة ويعين بعضهم بعضًا على المذاكرة، ويوضح بعضهم لبعض؛ لأن بعضهم يكون أذكى وأنبه من بعض وأحفظ، لكن قد يتضمن ذلك مفسدة، فيه مجال لضياع الوقت، بخلاف ما لو كان الواحد بمفرده فمثل هذه المصالح قد تشتمل على مفاسد لكن قد تكون هذه المصالح راجحة وقد تكون المفاسد راجحة فثبطهم {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} [سورة التوبة:47] أي فسادًا وشرًا {ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ} [سورة التوبة:47] أي سعوا بينكم بالفساد والشر {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [سورة التوبة:47] أي قابلون منهم مستجيبون لهم فيتولد من سعي هؤلاء بالفساد وقبول هؤلاء لهذا الفساد وذلك الشر ما هو أعظم من مصلحة خروجهم، فاقتضت الحكمة والرحمة أن أقعدهم، يقول:

"فاجعل هذا المثال أصلاً وقس عليه، وأما الوجه الثاني: وهو الذي من جهة العبد فهو أيضًا ممكن بل واقع فإن العبد يسخط الفسوق والمعاصي ويكرهها من حيث هي فعل العبد واقعة بكسبه وإرادته واختياره ويرضى بعلم الله وكتابته ومشيئته وإرادته وأمره الكوني فيرضى بما مِن الله ويسخط ما هو منه فهذا مسلك طائفة من أهل العلم العرفان."

يقول ابن عبد القوي رحمه الله:

وكن صابرا للفقر وادَّرِع الرضا

 

 

 

 

بما قدر الرحمن واشكره واحمد

 

 

أنت عندك مقامين: مقام الرضا بما قدر الله، وعندك الصبر على قدره وإن كنت غير راض له من فقر ومرض وما أشبه ذلك، راض بقضاء الله لكن بالمصيبة التي حلت بك وإن كان بعضهم يرى أن الرضا والفرح بالمصيبة وهي منزلة لا ينالها كثير من الناس، يرى أن الرضا والفرح بما قدر الله من المصائب وغيرها محبوب عند الله- جل وعلا- ومرغوب فيه، وإن كانت النفس قد تنازع في شيء من هذا وحظ النفس معتبر بلا شك.

"وطائفة أخرى كرهتها مطلقًا وقولهم يرجع إلى هذا القول لأن إطلاقهم للكراهة لا يريدون به شموله لعلم الرب وكتابته ومشيئته، وسر المسألة أن الذي إلى الرب منها غير مكروه والذي إلى العبد مكروه، فإن قيل ليس إلى العبد شيء منها قيل.."

لأن فعل العبد مخلوق لله- جل و علا- {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [سورة الصافات:96] فليس للعبد شيء منها، الله- جل وعلا- قدرها عليه وكتبها عليه وجعله يتحرك لفعلها ويتجه إليها، لكن العبد كسبها بطوعه واختياره ما أجبر عليها فهي منسوبة إليه من هذه الحيثية؛ ولذا جاء «والشر ليس إليك».

"قيل هذا هو الجبر الباطل الذي لا يمكن صاحبه التخلص.."

صاحبَه.

"الذي لا يمكن صاحبَه التخلص من هذا المقام الضيق والقدري المنكر أقرب من التخلص منه من الجبري، وأهل السنة المتوسطون بين القدرية والجبرية أسعد بالتخلص من الفريقين."

نعم لماذا كان القدري المنكر أقرب إلى التخلص من الجبري؟ القدري المنكر أقرب إلى تنزيه الخالق من ظلم العبد بخلاف الجبري من هذه الجهة، وإلا فالقدري وقع في إنكار علم الله جل وعلا وجعل قدرة العبد غالبة لقدرة الله- جل وعلا- فهو من هذه الحيثية وقع في الخطأ لكنه أخف من الذي يتهم الله- جل وعلا- بالظلم وإن كان كلاهما مخطئ، والحق مع ما وفق الله أهل السنة والجماعة إليه.

"فإن قيل كيف يتأتى الندم والتوبة مع شهود الحكمة في التقدير ومع شهود القيُّومة والمشيئة.."

القيومية.

"أحسن الله إليك.

ومع شهود القيوميّة والمشيئة النافذة قيل هذا هو الذي أوقع من عميت بصيرته في شهود الأمر على خلاف ما هو عليه فرأى تلك الأفعال طاعات لموافقته فيها المشيئة والقدر وقال إن عصيت أمره فقد أطعت إرادته وفي ذلك قيل:

أصبحت منفعلاً لما تختاره

 

 

 

 

مني ففعلي كله طاعات

 

 

وهؤلاء أعمى الخلق بصائر وأجهلهم بالله وأحكامه الدينية والكونية فإن الطاعة هي موافقة الأمر الديني الشرعي لا موافقة القدر والمشيئة، ولو كان موافقة القدر طاعة لكان إبليس من أعظم المطيعين له ولكان قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وقوم فرعون كلهم مطيعين وهذا غاية الجهل."

لأن ما وقع منهم من كفر موافق لمشيئة الله وقدره، موافق للمشيئة الكونية، الله أراد منهم ذلك كونًا لكن أراد منهم شرعا أن يطيعوه ويؤمنوا به فعصوا فاستحقوا ما استحقوه من العذاب.

"لكن إذا شهد العبد عجز نفسه ونفوذ الأقدار فيه وكمال فقره إلى ربه وعدم استغنائه عن عصمته وحفظه طرفة عين كان بالله في هذه الحال لا بنفسه فوقوع الذنب منه لا يتأتى في هذه الحال البتة، فإن عليه حصنًا حصينًا من فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي.."

يعني له نصيبه من هذا الحديث القدسي.

"فلا يُتصور منه الذنب في هذه الحال فإذا حجب عن هذا المشهد وبقي بنفسه استولى عليه حكم النفس فهنالك نُصِبت عليه الشباك والأشراك وأرسلت وأُرسلت عليه الصيادون فإذا انقشع عنه ضباب ذلك الوجود الطبعي فهنالك يحضره الندم والتوبة والإنابة فإنه كان في المعصية محجوبًا بنفسه عن ربه فلما فارق ذلك الوجود صار في وجود آخر فبقي بربه لا بنفسه."

كما في الحديث «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمرة حين يشربها وهو مؤمن» يرتفع عنه الإيمان ثم يغشى ما يغشى ثم إذا عاد إليه إيمانه ورشده ندم على ذلك.

"فإن قيل إذا كان الكفر بقضاء الله وقدره ونحن مأمورون أن نرضى بقضاء الله فكيف ننكره ونكره؟ فالجواب أن يقال أولا نحن غير مأمورين بالرضا بكل ما يقضيه الله ويقدره ولم يرد بذلك كتاب ولا سنة."

وإلا فكيف نرضى بالكفر والفسوق والعصيان والله كرهها إلينا؟!

"ولم يرد بذلك كتاب ولا سنة، بل من المقضي ما يرضى به ومنه ما يسخط ويمقت كما لا يَرضى به القاضي لأقضيته سبحانه بل من القضاء ما يُسخَط كما أن من الأعيان المقضية ما يُغضَب عليه ويمقت ويلعن ويذم ويُقال ثانيًا هو أمران قضاء الله وهو فعل قائم بذات الله تعالى ومقضي وهو المفعول المنفصل عنه فالقضاء كله خير وعدل وحكمة فيُرضى به كله، والمقضي قسمان منه ما يرضى به ومنه ما لا يرضى به، ويقال ثالثًا: القضاء له وجهان أحدهما تعلقه بالرب تعالى ونسبته إليه فمن هذا الوجه يُرضى به. والوجه الثاني: تعلقه بالعبد ونسبته إليه فمن هذا الوجه ينقسم إلى ما يُرضى به وإلى ما لا يرضى به مثال ذلك قتل النفس له اعتباران فمن حيث قدّره الله وقضاه وكتبه وشاءه وجعله أجلاً للمقتول ونهاية لعمره نرضى به ومن حيث صدر من القاتل .."

وباشره صدر من القاتل وباشره.

"ومن حيث صدر من القاتل وباشره وكسبه وأقدم عليه باختياره وعصى الله بفعله نسخطه ولا نرضى به. وقوله: والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان إلى آخره، التعمق هو المبالغة في طلب الشيء والمعنى أن المبالغة في طلب القدر والغوص في الكلام فيه ذريعة الخذلان، الذريعة: الوسيلة، والذريعة والدرجة والسلم متقارب المعنى، وكذلك الخذلان والحرمان والطغيان متقارب المعنى أيضًا، لكن الخذلان في مقابلة النصر، والحرمان في مقابلة الظفر، والطغيان في مقابلة الاستقامة، وقوله فالحذر كل الحذر من ذلك نظرًا وفكرا ووسوسة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال.."

التعمق والغلو والمبالغة في الشيء سواء كان في الأقوال والتشدق فيها أو في الاعتقادات أو في الأفعال كله على خلاف هديه -عليه الصلاة والسلام- «اكلفوا من العمل ما تطيقون» رفع الحصى، حصى الرمي رمي الجمرة وقال: "بمثل هذا فارموا إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو" وذم المتفيهقين والمتشدقين في كلامهم وكل هذا مذموم والله المستعان.

"عن أبي هريرة رضي الله عنه قال جاء ناس من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسألوه إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال «وقد وجدتموه؟» قالوا نعم قال «ذاك صريح الإيمان» رواه مسلم الإشارة بقوله «ذاك صريح الإيمان» إلى تعاظمهم أن يتكلموا به."

وليست الإشارة إلى وجوده في قلوبهم، فالوساوس كلها مذمومة والخواطر والهواجس ولها أسبابها من قبل العبد عليه أن يسد جميع المنافذ إلى القلب ويحفظه من هذه الوساوس، لكن إذا وجدتا أعرض عنها واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، فذاك صريح الإيمان، كونه لا يتكلم ولا يسترسل معها هذا صريح الإيمان.

"ولمسلم أيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الوسوسة فقال «تلك محض الإيمان» وهو بمعنى حديث أبي هريرة فإن وسوسة النفس ومدافعة وسواسها بمنزلة المحادثة الكائنة بين اثنين فمدافعة الوسوسة الشيطانية واستعظامها صريح الإيمان ومحض الإيمان هذه طريقة الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان.."

في كتب المتكلمين المطولة المبسوطة كشروح المواقف والمقاصد وغيرها من كتبهم لوجدتها نتيجة لاسترسالهم وراء هذه الوساوس، وساوس ما تنتهي كلها استرسال في متابعة هذه الوساوس إلى أن يصلوا إلى آخرها ولن يصلوا، وأدت بهم إلى الحيرة في النهاية.

"هذه طريقة الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان ثم خلف من بعدهم خلف سودوا الأوراق بتلك الوساوس التي هي شكوك وشبه، بل وسودوا القلوب وجادلوا بالباطل ليُدحضوا به الحق؛ ولذلك أطنب الشيخ- رحمه الله- في ذم الخوض في الكلام في القدر والفحص عنه، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «إن أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصم» وقال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية قال حدثنا داود بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.."

إذا نظرنا في علم السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة وجدنا كلامهم مختصر جدًا بقدر الحاجة، الحكم مقرون بدليله من غير تشقيق ومن غير استرسال ومن غير تطويل واستطرادات، هذه سمة علم السلف كما قرر ذلك ابن رجب- رحمه الله- في فضل علم السلف على الخلف حتى قال: إن من فضل عالمًا على آخر بكثرة كلامه فقد أزرى بسلف هذه الأمة، والله المستعان. نعم قد يُحتاج في بعض المواطن وبعض المواقف إلى شيء من البسط والتوضيح لبعض القضايا التي تحتاج إلى ذلك، هذا مطلوب لكن أحيانًا استرسال في غير موقعه وتشقيق لا حاجة إليه، ولذلك استطرد شيخ الإسلام؛ لأنه احتاج لمثل هذه الاستطرادات ليرد عليهم بطرائقهم وأساليبهم، هم أهل جدل وأهل نقاش طويل فأراد أن يرد عليهم بمثل أو ببضاعتهم.

ومن العجيب أنه بسلاحهم

 

 

 

 

أرداهم نحو الحضيض الداني

 

 

لكن من دونه ممن لا يحتاج إلى ذلك لا داعي لكثرة الكلام لاسيما في الغيبيات وقلّ من استرسل فيها إلا ويقع منه شيء.

"عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم والناس يتكلمون في القدر قال فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب قال فقال «ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض بهذا هلك من كان قبلكم» قال فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله لم أشهده بما غبطت نفسي بذلك المجلس أني لم أشهده ورواه ابن ماجه أيضًا وقال تعالى {فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ} [سورة التوبة:69].

يعني ضرب الكتاب بعضهم ببعض، فعلى سبيل المثال نصوص الوعيد يضربها من يقابلهم بنصوص الوعد، حينما يرد المرجئ على الخارجي أو العكس تجد هذا يضرب نص هذا بهذا، والموفق من يستطيع التوفيق بينهما فيحمل هذا على حاله وذاك على حاله ويوفق بينهما وتمشي أموره على مراد الله- جل وعلا- كما فعل أهل السنة والجماعة، ما ضربوا نصوص الكتاب بعضها ببعض ولا أخذوا بعضها وتركوا بعضها ولا آمنوا ببعض وكفروا ببعض والله المستعان.

"الخلاق النصيب قال تعالى {وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} [سورة البقرة:200] أي استمتعتم بنصيبكم من الدنيا كما استمتع الذين من قبلكم بنصيبهم وخضتم كالذي خاضوا أي كالخوض الذي خاضوه أو كالفوج أو الصنف أو الجيل الذي خاضوا، وجمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق وبين الخوض؛ لأن فساد الدين إما في العمل وإما في الاعتقاد؛ فالأول من جهة الشهوات، والثاني: من جهة الشبهات، وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال «لتأخذن أمتي مآخذ القرون قبلها شبرًا بشبر»."

وهذه هي أمراض القلوب تنشأ من شهوات أو من شهوات {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} [سورة البقرة:10] هذه شبهات {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [سورة الأحزاب:32] هذه الشهوة وكلاهما مرض.

"«وذراعًا بذراع قالوا فارس والروم قال فمن الناس إلا أولئك» وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية كان في أمتي من ينصع ذلك وإن بني إسرائيل تفرّقوا على ثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة» قالوا من هي يا رسول الله؟ قال «ما أنا عليه وأصحابي» رواه الترمذي وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال «تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن صحيح."

ماجه عليها نقط.

"أحسن الله إليك.

وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن صحيح، وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة يعني الأهواء كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة."

على كل حال الحديث بمجموع طرقه وإن كانت لا تسلم مفرداته من مقال لكن بمجموعها يثبت به الخبر.

"وأكبر المسائل التي وقع فيها الخلاف بين الأمة مسألة القدر وقد اتسع الكلام فيها غاية الاتساع وقوله فمن سأل لمَ فعل فقد رد حكم الكتاب ومن رد.."

لأن الله- جل وعلا- لا يُسأل عما يفعل، سأل لم فعل الله هذا الفعل؟ لماذا شرع كذا؟

لا يسأل عما يفعل، فمن سأل لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب.

ومن رد..

لحظة لحظة..

طالب: .........

القذة ريشة السهم.

طالب: .........

هم اليهود والنصارى ومنهم أجل.

طالب: .........

هؤلاء وهؤلاء لكن اليهود والنصارى كفار، وفارس كفار المقصود القدر الجامع بين هذه الطوائف وهو الكفر.

"ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين، اعلم أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي صدقت بنبيها وآمنت بما جاء به أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به ونهاها عنه وبلَّغها عن ربها ولو فعلت ذلك لما.."

يعني كون الإنسان يؤمن بما جاءه عن الله، ويصدق بما جاءه عن رسول الله ويستسلم لما أُمر به ونهي عنه، ثم يبحث عن حكمه من باب ليطمئن قلبي أو ليقنع غيره بذلك هذا لا يلام؛ ولذلك تجدون الحِكم مذكورة في كتب أهل العلم لا لشك أو تردد في القبول لا، وإنما هو لزيادة يقين أو لإقناع خصم.

"ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها بل انقادت وسلمت وأذعنت وما عرفت من الحكمة عرفته وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وتسليمها "

تسليمها على معرفته.

عندنا تاء زائدة يا شيخ.

نعم.

لم تتوقف في انقيادها وتسليما على معرفته.

ولذا يقول أهل العلم في كثير من الأحكام هذا تعبّدي، هذا تعبد أو تعبدي؛ لأننا لم نعرف حكمته ولم نطلع عليها، والنتيجة أننا آمنا وسلمنا وعملنا واستسلمنا وانقدنا، ما نتوقف في القبول حتى نقف على الحكمة أبدا.

"ولا جعلت ذلك من شأنها وكان رسولها أعظم عندها من أن تسألْه عن ذلك."

تسألَه.

"وكان رسولها أعظم عندنا من أن تسألَه عن ذلك كما في الإنجيل يا بني إسرائيل لا تقولوا لمَ أمر ربنا ولكن قولوا بم أمر ربنا، ولهذا كان سلف هذه الأمة التي هي أكمل الأمم عقولا ومعارف وعلوما لا تسأل نبيها لم أمر الله بكذا ولم نهى عن كذا ولم قدر كذا ولم فعل كذا لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام، وأن قدم الإسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم فأول مراتب تعظيم.."

عامي من عوام المسلمين لا يقرأ ولا يكتب سمع الإمام وهو يحدث عن الدجال ويقول إن خبره يبلغ الآفاق في ساعة، فتلقى هذا العامي ونقله إلى زوجته، قالت: كيف يبلغ في ساعة؟ الناس جالسون بعد صلاة العصر يقرؤون القرآن صيام، والناس في بلدان مجاورة قريبة عشرون كيلو ثمانون كيلو معيدين ما بلغهم العيد، يعني هذا قبل وسائل الاتصال الموجودة الآن كيف؟! قال لها تشهدي أنت رددت حكم الله وحكم رسوله، الرسول يقول كذا وأنت تقولين كذا؟! سمعنا وأطعنا فتشهدت من جديد، نعم هذه الفطرة التي ما اجتالتها الشياطين ولا تأثرت بأقوال الأفاكين مثل ما يدار الآن كل شيء يناقَش فيه، كل شيء حتى صريح القرآن يتردد في قبوله- نسأل الله العافية- جالسون  بعد صلاة العصر يقرؤون القرآن صائمون، والقرية المجاورة لهم مفطرون عيد، ما وصلهم الخبر فكيف يصل بساعة؟ فزوجها أخبرها بأن هذا اعتراض على حديث الرسول -عليه الصلاة والسلام- ومن رد حكم الكتاب، ناظر عندك كان من الكافرين هذا الاستسلام والانقياد والله المستعان.

"فأول مراتب تعظيم الأمر التصديق به ثم العزم الجازم على امتثاله ثم.."

جاءت هذه الآلات الخبر يحتاج إلى ساعة إلى أن يبلغ الآفاق؟ ثواني.

"ثم المسارعة إليه والمبادرة به القواطع والموانع.."

نعم سارعوا سابقوا والمبادرة به القواطع والموانع لأنك إذا ترددت ولبثت وتريثت جاءك ما يعوقك وجاءك الشيطان يثبطك وقرناء السوء يثبطونك فاقطع الطريق عليهم.

"ثم بذل الجهد والنصح في الإتيان به على أكمل الوجوه ثم فعله لكونه مأمورًا به بحيث لا يتوقف الإتيان به على معرفة حكمته فإن ظهرت له فعله وإلا عطّله فإن هذا ينافي الانقياد ويقدح في الامتثال، قال القرطبي ناقلاً عن ابن عبد البر فمن سأل مستفهمًا راغبًا في العلم ونفي الجهل عن نفسه باحثًا عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه فلا بأس به."

يعني عن تفاصيل الحكم من أجل تأديته على الوجه المأمور به، ما يسأل عن أصل الحكم وإنما يسأل عن تفاصيله وعن كيفية أدائه هذا لا بأس لأنه لا يتم إلا به.

"فشفاء العي السؤال، ومن سأل متعنتا غير متفقه ولا متعلم فهو الذي لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره، قال ابن العربي: الذي ينبغي للعالم أن يشتغل به هو بسط الأدلة وإيضاح سبل النظر وتحصيل مقدمات الاجتهاد وإعداد الآلة المعينة على الاستمداد قال: فإذا عرضت نازلة أتيَت من بابها ونشدت من مظانها والله يفتح وجه الصواب فيها انتهى. وقال -صلى الله عليه وسلم- «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» رواه الترمذي وغيره. ولا شك في تكفير من رد حكم الكتاب ولكن من تأول حكم الكتاب لشبهة عرضت له بُيِّن له الصواب ليرجع إليه والله سبحانه وتعالى لا يُسأَل عما يفعل لكمال حكمته ورحمته وعدله لا لمجرد قهره وقدرته كما يقول جهم وأتباعه، وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قول الشيخ و لا نكفّر أحدًا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله."

بعض الزنادقة من المعاصرين له تغريدة يقول فيها إذا كان يعني الذين خدموا العالم بصناعاتهم واختراعاتهم وذكر منهم أديسون الذي نوَّر العالَم على حد زعمه، وذكر من معه، إذا كان هؤلاء في النار وهؤلاء الذين جمدوا على كتبهم وما أفادوا العالَم في الجنة فأنا مع أولئك- نسأل الله العافية-.

طالب: .........

الموصلة للاجتهاد، أنت عندك نازلة، أنت لا تبحث عن حكمها باعتبار أنها ليس لها حكم شرعي، أو إذا ظهر لك حكم سترده لا، هذا  مسلم لكن كيف تصل إلى حكم هذه المسألة بالطرق الشرعية؟ بسبل الاجتهاد لا بد أن تحصِّل طرق الاجتهاد وسبله ووسائله ثم تحكم عليها.

طالب: .........

لا، إيضاح سبل النصر، هو عنده لوثة كلام لكن أنا أفترض أنه في المسائل الاجتهادية.

"قوله فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منوَّر قلبه من أولياء الله تعالى وهي درجة الراسخين في العلم؛ لأن العلم علمان علم في الخَلْق موجود وعلم في الخلق مفقود فإنكار العلم الموجود كفر وادعاء العلم المفقود كفر ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود وترك طلب العلم المفقود."

يعني ما يتعلق بالمخلوق يجب تعلمه لأنه لا يمكن أن يؤدي ما أُمر به إلا بعد التعلم على حسب المراتب المعروفة عند أهل العلم، منها ما هو فرض عين، ومنها ما هو فرض كفاية إلى آخره، وأما العلم المفقود الذي يتعلق بالله- جل وعلا- وقدره وقضائه هذا لا نبحث فيه ولا نسترسل فيه.

"الإشارة بقوله فهذا إلى ما تقدم ذكره مما يجب اعتقاده والعمل به مما جاءت به الشريعة وقوله وهي درجة الراسخين في العلم، أي علم ما جاء به الرسول جملة وتفصيلا نفيًا وإثباتًا، ويعني بالعلم المفقود علم القدر الذي طواه الله عن أنامه ونهاهم عن مرامه، ويعني بالعلم الموجود علم الشريعة أصولها وفروعها فمن أنكر شيئًا مما جاء به الرسول كان من الكافرين، ومن ادعى علم الغيب كان من الكافرين قال تعالى {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً   إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} [سورة الجن:26-27] الآية وقال تعالى {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [سورة لقمان:34] ولا يلزم من خفاء حكمة الله تعالى علينا عدمها ولا انتفاؤها جهلنا حكمته ألا ترى أن.."

ولا يلزم من جهلنا حكمته انتفاءه يعني تقديم وتأخير.

طالب: عندنا ولا من جهلنا انتفاء حكمته.

هذا هو تقديم وتأخير.

"ألا ترى أن خفاء حكمة الله علينا في خلق الحيّات والعقارب والفأر والحشرات التي لا يعلم منها إلا المضرة لم ينف أن يكون الله تعالى خالقًا لها، ولا يلزم ألا يكون فيها حكمة خفيت علينا؛ لأن عدم العلم لا يكون علمًا بالمعدوم."

 

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد.