كتاب العلم (04)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نعم.

طالب: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم اغفر لنا ولشيخنا والسامعين يا ذا الجلال والإكرام.

قال الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-: بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي المُنَاوَلَةِ، وَكِتَابِ أَهْلِ العِلْمِ بِالعِلْمِ إِلَى البُلْدَانِ. وَقَالَ أَنَسٌ: نَسَخَ عُثْمَانُ المَصَاحِفَ فَبَعَثَ بِهَا إِلَى الآفَاقِ، وَرَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَمَالِكٌ ذَلِكَ جَائِزًا، وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الحِجَازِ فِي المُنَاوَلَةِ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَيْثُ كَتَبَ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ كِتَابًا وَقَالَ: «لاَ تَقْرَأْهُ حَتَّى تَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا». فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ المَكَانَ قَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ، وَأَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَ بِكِتَابِهِ رَجُلاً وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ البَحْرَيْنِ فَدَفَعَهُ عَظِيمُ البَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى، فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ، فَحَسِبْتُ أَنَّ ابْنَ المُسَيِّبِ قَالَ: فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ».

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الحَسَنِ المَرْوَزِيُّ، قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عنهُ-، قَالَ: كَتَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كِتَابًا- أَوْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ-، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لاَ يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلَّا مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ نَقْشُهُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ، فَقُلْتُ لِقَتَادَةَ مَنْ قَالَ: نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنَسٌ".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد، فيقول الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-: "بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي المُنَاوَلَةِ، وَكِتَابِ أَهْلِ العِلْمِ بِالعِلْمِ إِلَى البُلْدَانِ".

المناولة هي أن يناول الشيخ تلميذه أو الراوي عنه شيئًا من حديثه، هذه هي المناولة المجردة، وإن أذن له برواية ما يناوله فهي المناولة المقرونة بالإجازة. والمناولة إذا خلت عن الإجازة قال بها بعض العلماء: والأصح أنها لا تصح. يعني مجرد ما يأخذ كتابًا أو مجموعًا من أحاديث يقول: خذ، هل معناه أنه أذن لها بروايتها؟ يمكن على وجه الهدية، أو شيء من هذا أو العطية، ولذا يقول الحافظ العراقي:

وإن خلت عن إذن المناولة       قيل تصح والأصح باطلة

 أما إذا اقترنت بالإجازة فهي أقوى من الإجازة المجردة، أن يناوله الكتاب إما أن يكون على وجه الدوام بأن يهبه له ويقول: اروه عني، أو يُمكنه من رؤيته وتصفحه ثم يسترده. على كل حال مع الإجازة هي أقوى من الإجازة المجردة، والإجازة المجردة أقوى من المناولة المجردة؛ لأن طرق التحمل ثمانية: السماع من لفظ الشيخ وهو أعلاها على ما تقدم، والقراءة على الشيخ التي تسمى العرض، والإجازة، والمناولة، والكتابة، والإعلام، والوصية، والوجادة. ثمانٍ.

فقال -رَحِمَهُ اللهُ-: "بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي المُنَاوَلَةِ، وَكِتَابِ أَهْلِ العِلْمِ بِالعِلْمِ إِلَى البُلْدَانِ"، هذه هي المكاتبة، والمكاتبة أن يكتب الشيخ بأحاديث إلى من يرويها عنه وينقلها عنه، أو يكتب الراوي إلى شيخ من الشيوخ عنده مرويات يرويها بإسناده بأن يكتب بها له، فتكون مكاتبة من الطرفين. وأما إذا كتب الشيخ ابتداء من الطالب هذه كتابة وليست مكاتبة، إذا كتب الطالب إلى الشيخ يطلب منه أن يكتب له ببعض حديثه وكتب الشيخ إليه هذه مفاعلة من الطرفين مكاتبة، وهذه جرت، وفي الصحيح منها شيء في البخاري ومسلم وغيرهما من دواوين الإسلام كتابة من الصحابي إلى التابعي، ومن التابعين بعضهم إلى بعض، وهكذا، فالمقصود أنها موجودة وطريقة من طرق التحمل، من أقوى الطرق؛ لا سيما إذا كانت الكتابة لا يشك فيها، ولا يمكن تزويرها ولا العبث بها.

"وَقَالَ أَنَسٌ: نَسَخَ عُثْمَانُ المَصَاحِفَ فَبَعَثَ بِهَا إِلَى الآفَاقِ"، عثمان جمع ما عند حفصة وما عند غيرها، وأمر زيد بن ثابت، وكتب المصاحف الأئمة، وأرسلها إلى البلدان، إلى الآفاق، والآفاق البلدان البعيدة، احتفظ بواحد في المدينة، وبعث إلى الآفاق أربعة أو خمسة، على خلاف بين ذلك، أو ستة. المقصود أن بعث المصاحف إلى الآفاق هذه مناولة من عثمان لمن أرسل المصحف معه، وبعث به إلى هذه الأمصار.

"وَرَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَمَالِكُ بنُ أنسٍ ذَلِكَ جَائِزًا"، يعني يجوز، والنبي- عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- كتب الكتب والرسائل وبعث بها مع رسله إلى الملوك والأمراء.

 "وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الحِجَازِ فِي المُنَاوَلَةِ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَيْثُ كَتَبَ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ كِتَابًا وَقَالَ: «لاَ تَقْرَأْهُ حَتَّى تَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا»" حدَّد له الموضع "فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ المَكَانَ قَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ" لما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس، "وَأَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" وما عارض أحد، ولا خالف أحد منهم، ما قالوا: هذا ما هو بصحيح؛ إنما اعتمدوا هذه الكتابة وهذه المناولة لأمير السرية.

قال -رَحِمَهُ اللهُ-: "حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ" وهو ابن كيسان، "عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَ بِكِتَابِهِ رَجُلاً وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ البَحْرَيْنِ"، هذه مناولة وفي الوقت نفسه مكاتبة، "فَدَفَعَهُ عَظِيمُ البَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى" ملك الفرس، "فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ، فَحَسِبْتُ أَنَّ ابْنَ المُسَيِّبِ قَالَ: فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ»" وهكذا حصل، والحمد لله.

قال الشارح -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-: (قوله: باب ما يذكر في المناولة، لما فرغ من تقرير السماع والعرض) أقوى طرق التحمل السماع، وأقوى أنواع السماع الإملاء على ما تقدم، ويليه العرض، وإن كان بعضهم كالإمام مالك يرى أنهما سواء، القراءة على العالم وقراءة العالم سواء، واشتد نكيره على من تردد في قبول الرواية بطريق العرض، وقال: يجزيك بالقرآن ولا يجزيك بالحديث والقرآن أعظم؟ وكل هذا تقدم.

(أردفه ببقية وجوه التحمل المعتبرة عند الجمهور، فمنها المناولة، وصورتها أن يعطي الشيخُ الطالبَ الكتاب فيقول له: هذا سماعي من فلان، أو هذا تصنيفي فاروه عني) يعني يقرن هذه المناولة بالإجازة.

قال: (وقد قدَّمنا صورة عرض المناولة) بخلاف العرض الذي هو عرض القراءة، الذي هو القراءة على الشيخ يسمونه عرض القراءة، وهذا يُسمى عرض المناولة، (عرض المناولة وهي إحضار الطالب الكتاب) يأتي إلى الشيخ والكتاب مع الطالب، ما هو بالشيخ الذي يعطي الطالب الكتاب، لا، يسمونه عرض المناولة، يعرضه على الشيخ فيتصفحه الشيخ ويقول: هذا من مروي فاروِه عني، هذا يسمونه عرض مناولة. (وإحضار الطالب الكتاب، وقد سوغ الجمهور الرواية بها وردها من رد عرض القراءة من باب الأولى).

 يعني الذي يرد عرض القراءة، وهذا خلاف انقرض، كان في أول الأمر وكان في أهل التشديد من أهل العراق من رد عرض القراءة، لكنه خلاف انقرض، وثبت الإجماع على صحة الرواية بالعرض، يعني القراءة على الشيخ، والذي رد عرض القراءة لا شك أنه يرد عرض المناولة.

(قوله: إلى البلدان، أي إلى أهل البلدان، وكتاب مصدر وهو متعلَّق إلى، وذكر البلدان على سبيل المثال وإلا فالحكم عام في القرى وغيرها) يعني البلدان كبيرة كانت أو صغيرة، مدنًا أو قرى. (والمكاتبة من أقسام التحمل، وهي أن يكتب الشيخ حديثه بخطه أو يأذن لمن يثق به بكَتْبه ويرسله بعد تحريره إلى الطالب) يعني بعد تحريره وختمه وشده وإرساله مع ثقة، إذ لا تُقبل المكاتبة إلا بهذه الشروط: يكتبها الشيخ بخطه، أو يأمر من يثق به فيكتبه، وبعد ذلك يختمه ويشده، مثل ما يفعل الناس الآن في الظروف، وقد يزيد على ذلك مبالغة فيه مثل الشمع الأحمر. كل هذا من باب التوثق، ويرسله مع ثقة.

(بعد تحريره إلى الطالب ويأذن له في روايته عنه، وقد سوَّى المصنف بينها وبين المناولة، ورجَّح قوم المناولة عليها؛ لحصول المشافهة فيها بالإذن دون المكاتبة) المشافهة إذا ناول فالراوي الذي يريد أن يروي هذه الأحاديث في هذا الكتاب أو في هذه الصحف موجود، الشيخ يشافهه مشافهة بالإذن، أما من يكتب إليه فهو بعيد، يؤذن له، لكن ما فيها مشافهة؛ لأنه بعيد.

(وقد جوَّز جماعة من القدماء إطلاق الإخبار فيها) بأن يقول: أخبرني فلان، وقد روى بطريق المناولة أو بطريق المكاتبة، (والأولى ما عليه المحققون من اشتراط بيان ذلك) بأن يقول: أخبرني فلان مناولة، أو أخبرني فلان مكاتبة، يبين الواقع؛ لئلا يلتبس بالرواية بطريق العرض التي يقال فيها: أخبرنا من دون قيد.

(قوله: نسخ عثمان المصاحف، هو طرف من حديث طويل يأتي الكلام عليه في فضائل القرآن إن شاء الله تعالى، ودلالته على تسويغ الرواية بالمكاتبة واضح، فإن عثمان أمرهم بالاعتماد على ما في تلك المصاحف، ومخالفة ما عداها، والمستفاد من بعثه المصاحف إنما هو ثبوت إسناد صورة المكتوب فيها إلى عثمان) يعني الواسطة الذي بعثها هؤلاء يروون عن هذا الواسطة، والواسطة عن عثمان.

طالب: .......

هذه المفاعلة.

طالب: .......

هذه كتابة، كتب القرآن وأرسله، هذا من باب التجوز؛ لأنه تطلق المفاعلة من طريق واحد، مثل المسافرة: المسافرة من واحد، ما فيه واحد سافر وواحد سافر إليه، لا، يقول: طارقت النعل، سافرت، عاقبت اللص. لكن الأصل أن المفاعلة تكون من طرفين.

(والمستفاد من بعثه المصاحف إنما هو ثبوت إسناد صورة المكتوب فيها إلى عثمان لا أصل ثبوت القرآن فإنه متواتر عندهم.

قوله: ورأى عبد الله بن عمر، كذا في جميع نسخ الجامع عُمر بضم العين، وكنت أظنه العُمَري المدني، وخرَّجت الأثر عنه بذلك في تغليق التعليق، وكذا جزم به الكرماني، ثم ظهر لي من قرينة تقديمه في الذكر على يحيى بن سعيد أنه غير العمري؛ لأن يحيى أكبر منه سنًّا وقدرًا) عبيد الله بن عمر متكلم فيه، العمري المكبر متكلم فيه، وأخوه المصغر ثقة. لكن كيف يقدم على يحيى بن سعيد، وهو دونه في السن والمنزلة؟

(لأن يحيى أكبر منه سنًّا وقدرًا، فتتبعت فلم أجده عن عبد الله بن عمر بن الخطاب صريحًا، لكن وجدت في كتاب الوصية لأبي القاسم بن منده من طريق البخاري بسند له صحيح إلى أبي عبد الرحمن الحُبُلي بضم المهملة والموحدة، أنه أتى عبد الله بكتاب فيه أحاديث فقال: انظر في هذا الكتاب فما عرفت منه اتركه وما لم تعرفه امحه، فذكر الخبر، وهو أصل في عرض المناولة، وعبد الله يحتمل أن يكون هو ابن عمر بن الخطاب فإن الحبلي سمع منه، ويحتمل أن يكون ابن عمرو بن العاص، فإن الحبلي مشهور بالرواية عنه، وأما الأثر بذلك عن يحيى بن سعيد ومالك فأخرجه الحاكم في علوم الحديث من طريق إسماعيل بن أبي أويس قال: سمعت خالي مالك بن أنس يقول: قال لي يحيى بن سعيد الأنصاري لما أراد الخروج إلى العراق: التقِط لي مائة حديث من حديث ابن شهاب حتى أرويها عنك، قال مالك: فكتبتها ثم بعثتها إليه.

 وروى الرامهرمزي من طريق بن أبي أويس أيضًا عن مالك في وجوه التحمل قال: قراءتك على العالِم ثم قراءته وأنت تسمع ثم أن يدفع) يعني يذكر بعض الطرق للتحمل: (قراءتك على العالم) التي هي العرض، (ثم قراءته وأنت تسمع) يعني السماع من لفظ الشيخ، والترتيب بثم يدل على أن العرض عنده أقوى من السماع، (ثم أن يدفع إليك كتابه فيقول: اروِ هذا عني.

قوله: واحتج بعض أهل الحجاز، هذا المحتج هو الحميدي) الحميدي شيخ البخاري عبد الله بن الزبير، (ذكر ذلك في كتاب النوادر له. قوله: في المناولة، أي في صحة المناولة، والحديث الذي أشار إليه لم يورده موصولاً في هذا الكتاب وهو صحيح، وقد وجدته من طريقين إحداهما مرسلة ذكرها ابن إسحاق في المغازي عن يزيد بن رومان، وأبو اليمان في نسخته عن شعيب) أبو اليمان اسمه الحكم بن نافع، وشعيب هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) الإمام المعروف (كلاهما عن عروة بن الزبير، والأخرى موصولة أخرجها الطبراني من حديث جندب البجلي بإسناد حسن، ثم وجدت له شاهدًا من حديث ابن عباس عند الطبري في التفسير، فبمجموع هذه الطرق يكون صحيحًا.

وأمير السرية اسمه عبد الله بن جحش الأسدي أخو زينب أم المؤمنين، وكان تأميره في السنة الثانية قبل وقعة بدر، والسَّرِيَّة بفتح المهملة وكسر الراء وتشديد الياء التحتانية القطعة من الجيش، وكانوا اثني عشر رجلاً من المهاجرين.

قوله: حتى تبلغ مكان كذا وكذا، هكذا في حديث جندب على الإبهام، وفي رواية عروة أنه قال له: إذا سرت يومين فافتح الكتاب، قالا: ففتحه هناك، فإذا فيه أن امض حتى تنزل نخلةً فتأتينا من أخبار قريش ولا تستكرهنَّ أحدًا) يعني إذا قرأت عليهم الكتاب وقال أحدهم: لا أريد الاستمرار سأرجع، فخله يرجع، (ولا تستكرهن أحدًا. قال في حديث جندب: فرجع رجلان ومضى الباقون، فلقوا عمرو بن الحضرمي ومعه عير -أي تجارة لقريش- فقتلوه، فكان أول مقتول من الكفار في الإسلام، وذلك في أول يوم من رجب).

 واستعظم المشركون قتله في رجب، لكنهم تردّدوا هل كان في رجب أو في آخر يوم من جمادى؛ لأن رجب شهر حرام لا يجوز فيه القتل. (وذلك في أول يوم من رجب، وغنموا ما كان معهم فكانت أول غنيمة في الإسلام، فعاب عليهم المشركون ذلك، فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217] الآية، ووجه الدلالة من هذا الحديث ظاهرة، فإنه ناوله الكتاب، وأمره أن يقرأه على أصحابه؛ ليعملوا بما فيه، ففيه المناولة ومعنى المكاتبة، وتعقَّبه بعضهم بأن الحجة إنما وجبت به؛ لعدم توهم التبديل والتغيير فيه لعدالة الصحابة بخلاف من بعدهم) لكن إذا توافر الشرط الذي هو شرط العدالة صار حكمها حكم الكتابة لأمير السرية.

(حكاه البيهقي، وأقول: شرط قيام الحجة بالمكاتبة أن يكون الكتاب مختومًا وحامله مؤتَمنًا والمكتوب إليه يعرف خط الشيخ، إلى غير ذلك من الشروط الدافعة لتوهم التغيير، والله أعلم.

قوله: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، هو ابن أبي أويس وصالح هو ابن كيسان. قوله: بعث بكتابه رجلاً، هو عبد الله بن حذافة السهمي كما سماه المؤلف في هذا الحديث في المغازي، وكسرى هو أبرويز بن هرمز بن أنوشروان، ووهم من قال: هو أنوشروان، وعظيم البحرين هو المنذر بن ساوَى بالمهملة وفتح الواو الممالة، وسيأتي الكلام على هذا الحديث في المغازي.

قوله: فحسبت، القائل هو ابن شهاب راوي الحديث، فقصة الكتاب عنده موصولة وقصة الدعاء مرسلة) فقصة الكتاب موصولة ما عنده تردد في روايتها، لكن قصة دعاء النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- على كسرى وقومه على الفرس هذه مرسلة، فحسبت أن ابن المسيب قال: فدعا عليهم الرسول، يعني من رواية ابن المسيب عن النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، فهي مرسلة.

(ووجه دلالته على المكاتبة ظاهر، ويمكن أن يستدل به على المناولة، من حيث إن النبي -صلى الله عليه وسلم- ناول الكتاب لرسوله وأمره أن يخبر عظيم البحرين بأن هذا كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن لم يكن سمع ما فيه ولا قرأه).

قال -رَحِمَهُ اللهُ-: "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الحَسَنِ، قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَتَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كِتَابًا -أَوْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ-، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لاَ يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلَّا مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ نَقْشُهُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ، فَقُلْتُ لِقَتَادَةَ مَنْ قَالَ: نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنَسٌ"، هذا يستدل به من يقول: إنه لا يستحب اتخاذ الخاتم إلا من احتاج إليه، النبي- عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- ما اتخذ الخاتم حتى احتاج إليه، النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- ما اتخذه إلا بعد أن قالوا: إنه لا يقبلون إلا مختومًا، فآحاد الناس الذين ما يحتاجون في حكمه- عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- قبل أن يقال له ....... وقبل أن يتخذ الخاتم، ومنهم من يرى أنه يقتدى به فيه، اتخذه النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- بغض النظر عن الحاجة وعدمها، لكن ربطه بالحاجة ظاهر.

طالب: .......

عند الحاجة نعم يُسن.

(قوله: عبد الله، هو ابن المبارك. قوله: كتب أو أراد أن يكتب، شك من الراوي، ونسبة الكتابة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- مجازية، أي كتب الكاتب بأمره) يعني أمر أن يكتب.

(قوله: لا يقرءون كتابًا إلا مختومًا، يعرف من هذا فائدة إيراده هذا الحديث في هذا الباب) لأنه قد يقول قائل: ما الفائدة من إيراد الخاتم بهذا؟ يعني من شرط قبول الكتاب التوثيق، والختم من التوثيق. (يعرف من هذا فائدة إيراده هذا الحديث في هذا الباب؛ لينبه على أن شرط العمل بالمكاتبة أن يكون الكتاب مختومًا؛ ليحصل الأمن من توهم تغييره، لكن قد يستغنى عن ختمه إذا كان الحامل عدلاً مؤتَمنًا) إذا صار ثقة، يعني كما يحفظه في صدره ويؤديه، يحفظه في مكتوب ويؤديه.

(قوله: فقلت، القائل هو شعبة، وسيأتي باقي الكلام على هذا الحديث في الجهاد وفي اللباس إن شاء الله تعالى. فائدة: لم يذكر المصنف من أقسام التحمل الإجازة المجردة عن المناولة أو المكاتبة). وهي أشهر طرق الرواية عند المتأخرين، الإجازة أن يأذن الشيخ للطالب بأن يروي عنه كتابًا معينًا أو كتبًا معينة يسردها أو مروياته، عموم مروياته. في أول الأمر كانت الرواية بالسماع من لفظ الشيخ والقراءة عليه، كثر الناس، وكثر الطلاب، وصعب التحمل بطريق السماع أو العرض، فاضطر الناس إلى الإجازة، وتردَّد في قبولها جمع من أهل العلم، وشدَّد بعضهم في أمرها، يعني تروي شيئًا عن شيخ ما سمعته منه ولا قرأته عليه. أذنت لك أن تقرأ عني، في صحيح البخاري، حتى قال بعضهم: إن من قال لغيره أذنت لك أن تروي عني ما لم تسمعه مني فكأنه قال: أذنت لك أن تكذب علي؛ لأنه ما سمع من الشيخ، ولا الشيخ سمع منه، فكيف يرويه؟ اروِ عني فقط؟ كيف أروي عنك؟ صح، الكتاب مضبوط وعلى رواية معينة أو طبعة معينة ومصححة وموثقة، وهو من مرويات الشيخ، اروه عني، أذن له أن يرويه عنه.

هذه اشتهرت عند المتأخرين، واحتاج الناس إليها في القرن الثالث فما دونه إلى يومنا هذا، وتوسع الناس فيها توسُّعًا غير مرضي، وفي أصلها ضعف، وفي الاستدلال لها غموض، وتزداد ضعفًا مع التوسُّع الذي سلكه بعض أهل العلم في الرواية، أذنت لك ولعقبك ما تناسلوا أن تروي عني، أجزت لمن قال: لا إله إلا الله، يجاز الحمل في بطن أمه تبعًا لوالده، يجاز للمعدوم إذا كان يئول أو المجهول إذا كان يئول إلى العلم، كل هذا توسع. ويشاهد إلى يومنا هذا فتنة الناس بالإجازات، والإجازة لا قيمة لها في الواقع، ما لها قيمة في الواقع، ثم ماذا إذا كان عندك سند في صحيح البخاري بينك وبين البخاري عشرون راويًا منهم الضعفاء ومنهم الوضاعون؛ لأن الأسانيد مع طولها وتأخرها ما تصلح. ثم ماذا يستفيد البخاري من روايتك له بإسنادك؟ هل الحديث يصح إذا أنت رويته أم ما رويته، أو يضعف؟ هي ما فيها إلا إبقاء سلسلة الإسناد التي هي خصيصة هذه الأمة، لكن يبقى أنه الانفتان وراءها وتضييع الأوقات من أجلها، يسافر طالب علم إلى الهند أو إلى المغرب أو إلى المشرق أو إلى أقطار الدنيا من أجل أن يقال: عنده مائة إجازة أو مائتا إجازة، هذا ليس بمقصد شرعي، ولا يسلم من خدش، نعم ينتقي الإنسان من أفضل علماء زمنه ممن لديه رواية أو من أعلاهم سندًا، ويحتفظ بإسناد، إسنادين، ثلاثة محافظة لهذه السلسلة ممن يتشرف بالرواية عنهم، أما بالطريقة الموجودة الآن يتسامح حتى مع بعض من عنده إسناد عنده مخالفات شرعية، تجد الطالب يذهب إليه يضرب أكباد الطائرات من أجله، ثم بعد ذلك عند هذا الشخص مخالفات، وقد يكون عنده بدع ولا ينكر عليه؛ لأنه لو أنكر عليه ما أعطاه إجازة، مثل هذا ينال به مثل هذا العلم الشريف؟ ثم ماذا إذا كان عندك إجازة من شخص متساهل، كان بعضهم ممن لا يرى صلاة الجمعة، وتجلس عنده حتى يعطيك إجازة، وما تقول له: صلِّ بالمسجد، أو يدخن مثلاً، لأنها صارت مهنة، وبعض الناس يهمه أنه عنده أعلى إسناد، أو عنده مائة إسناد، أو كذا، وكل هذا لا قيمة له.

واشترط ابن عبد البر أن الإجازة لا تجوز إلا لماهر في الصناعة، الحمل في بطن أمه يجاز؟ الإجازة العامة تشمل كل من وُجد على وجه الأرض، ويروي بها السيوطي عن ابن حجر وعمره ثلاث سنوات أو سنتان وقت وفاة ابن حجر، يمكن وقت الإجازة ما وُلد، والرواية بالإجازة العامة شديدة الضعف، وأصل الرواية بالإجازة فيه ضعف، وفي الاستدلال لها غموض من حيث اللغة، ومع ذلك الناس ينساقون وراءها.

وأقول: لا مانع من باب إبقاء خصيصة الأمة التي هي سلسلة الإسناد، يعني ينتقي الإنسان من شيوخ العصر من يتشرف بالانتساب إليه، لا مانع.

طالب: .......

لا إذا خلط انتهت ما فيه إجازة، ما تصير إجازة. ما يسمعون الحديث المسلسل بالأولية. ما هو؟

طالب: .......

ما علاقته؟

طالب: .......

الحديث المسلسل بالأولية «الراحمون يرحمهم الرحمن» باعتبار لفظ أول فيقول: هو أول حديث سمعته منه، يسمعونه من الشيخ، ويطردون الباقي على جميع أحاديث الشيخ، لا شك أن مثل هذا التساهل قطع الرحلة لطلب العلم وطلب الحديث، بدلاً من أن ترحل لتروي عن عالم بالهند وتستفيد منه يرسل لك بالبريد إجازة أو مع أحد وما يحتاج أن ترحل له، ولذلك قال بعضهم: لو جازت الإجازة لبطلت الرحلة.

(لم يذكر المصنف من أقسام التحمل الإجازة المجردة عن المناولة أو المكاتبة ولا الوجادة ولا الوصية ولا الإعلام) الوجادة أن يجد الطالب بخط شيخه الذي لا يشك فيه أحاديث يرويها عنه بهذه الوجادة، وفي المسند أحاديث كثيرة يقول فيها عبد الله ابن الإمام أحمد: وجدت بخط أبي، الوصية (ولا الوصية) يعني إذا أوصيت بكتبك إلى فلان يرويها عنك بهذه الوصية مجرد الوصية. ولا...

طالب: .......

 ما يقول له تروي ولا يأذن له ولا شيء. يقول ما وصى بهذه الكتب لفلان؛ لأنه يريد الرواية وعمل بعضهم، ولكنها لا قيمة لها حقيقة، يعني أن يوصي بكتاب أو بكتب: أعطوها فلانًا بعد وفاتي ثم يروي عنه؟ ماذا يروي عنه؟

طالب: .......

ما همه مناولة، مات الرجل وما سُلمت الكتبة، وصية الكتب.

هذا إذا كان لا يشك وهي بطريق الوجادة ما فيها إشكال.

(ولا الإعلام المجردات عن الإجازة) ولا الإعلام، ولا مجرد الإعلام، زرت شيخًا من المشايخ وأطلعك على مكتبته وقال لك: هذا صحيح البخاري وهذا مسلم وهذا تفسير ابن كثير، هذا فتح الباري، هذا كذا، يعني مجرد الكتب، إعلام مجرد، بعضهم أجاز الرواية بهذا ويقول: ما أطلعك وأعلمك إلا من أجل أن تروي عنه، هذا كلام ما هو بصحيح، هذه طرق ضعيفة، الوصية والإعلام طرق ضعيفة.

أما الوجادة فاستدل لها الحافظ ابن كثير في تفسيره بما رواه الحسن بن عرفة.

طالب: .......

انظر ابن كثير الأول. {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3].

وفي الحديث يقول: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة فقلنا: يا رسول الله، هل من قوم أعظم منا أجرًا؟ آمنا بالله واتبعناك؟ قال: «ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء، بل قوم من بعدكم يأتيهم كتاب من بين لوحين يؤمنون به، ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجرًا مرتين»، ثم إلى أن قال: وهذا الحديث فيه دلالة على العمل بالوجادة التي اختلف فيها أهل الحديث، كما قررت في أول شرح البخاري؛ لأنه مدحهم على ذلك، وذكر أنهم أعظم أجرًا من هذه الحيثية لا مطلقًا.

(وكأنه لا يرى بشيء منها) يعني البخاري، (وقد ادعى ابن منده أن كل ما يقول البخاري فيه: قال لي فهي إجازة، وهي دعوى مردودة بدليل أني استقريت كثيرًا من المواضع التي يقول فيها في الجامع قال لي، فوجدته في غير الجامع يقول فيها: حدثنا، والبخاري لا يستجيز في الإجازة إطلاق التحديث، فدل على أنها عنده من المسموع، لكن سبب استعماله لهذه الصيغة؛ ليفرق بين ما يبلغ شرطه وما لا يبلغ، والله أعلم).

نعم.

طالب: قال البخاري -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-: "بَابُ مَنْ قَعَدَ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ المَجْلِسُ، وَمَنْ رَأَى فُرْجَةً فِي الحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا.

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي المَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ، إِذْ أَقْبَلَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَذَهَبَ وَاحِدٌ، قَالَ: فَوَقَفَنا.."

فوقفا.

قال: فوقفا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الآخَرُ: فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فآوى إلى الله".

فَأَوَى.

طالب: "فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ»".

الفرق بين أوى وآوى، أنه أوى بنفسه، وآوى غيره.

قال -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-: (قوله: باب من قعد حيث ينتهي به المجلس، مناسبة هذا لكتاب العلم من جهة أن المراد بالمجلس أو بالحلقة حلقة العلم ومجلس العلم) ونسمع كثيرًا من يفتح اللام، يقول: حلَقة، ونص الحافظ ابن حجر وغيره على أن هذا شذوذ، وضبطها بسكون اللام، (وبالحلْقة حلقة العلم ومجلس العلم، فيدخل في أدب الطالب من عدة أوجه، كما سنبينه، والتراجم الماضية كلها تتعلق بصفات العالم.

 قوله: مولى عقيل، بفتح العين، وقيل لأبي مرة ذلك؛ للزومه إياه، وإنما هو مولى أخته أم هانئ بنت أبي طالب.

قوله: عن أبي واقد، صرح بالتحديث)؛ لأنه يراه ملازمًا له، وكل من يراه ملازمًا له يرى أنه كأنه له. (قوله: عن أبي واقد، صرح بالتحديث في رواية النسائي من طريق يحيى بن أبي كثير عن إسحاق فقال: عن أبي مرة أن أبا واقد حدثه، وقد قدمنا أن اسم أبي واقد الحارث بن مالك وقيل: ابن عوف، وقيل: عوف بن الحارث، وليس له في البخاري غير هذا الحديث، ورجال إسناده مدنيون وهو في الموطأ، ولم يروِه عن أبي واقد إلا أبو مرة، ولا عنه إلا إسحاق، وأبو مرة والراوي عنه تابعيان، وله شاهد من حديث أنس أخرجه البزار والحاكم. قوله: ثلاثة نفر، النَّفَر بالتحريك للرجال من ثلاثة إلى عشرة، والمعنى ثلاثة هم نفر، والنفر).

 الآن يطلقون النفر على الواحد، النفر واحد.

طالب: .......

 لا النفر للرجال من ثلاثة إلى عشرة، والمعنى ثلاثة هم نفر، مثل {تِسْعَةُ رَهْطٍ} [النمل: 48]، تسعة هم رهط.

(والنفر اسم جمع، ولهذا وقع مميزًا للجمع كقوله تعالى: {تِسْعَةُ رَهْطٍ} [النمل: 48]. قوله: فأقبل اثنان بعد قوله: أقبل ثلاثة، هما إقبالان).

طالب: .......

 ماذا فيه؟ يضاف العدد إلى التمييز، يضاف نعم، والأصل فيها النصب لكنه ....

 (بعد قوله: أقبل ثلاثة، هما إقبالان كأنهم أقبلوا أولاً من الطريق، فدخلوا المسجد مارين كما في حديث أنس: فإذا ثلاثة نفر يمرون، فلما رأوا مجلس النبي -صلى الله عليه وسلم- أقبل إليه اثنان منهم واستمر الثالث ذاهبًا).

 يعني ما جلس، ولا شك أن في هذا رغبة وزهدًا عن الخير، رغبة عن الخير وزهد فيه، وأنتم ترون إذا كان المسجد يُقرأ فيه حديث أو حديثان بعد صلاة العصر بعض الناس يقطع الأذكار ويمشي، لولا الحديث لكان كمل الأذكار، نسأل الله العافية ونعوذ بالله من الحرمان، يقطع الأذكار ويمشي وهو بالأمس ما فيه حديث، لكن جلس إلى أن ينتهي، لا شك أن في هذا زهدًا في الخير، وليست علامة خير.

(أقبل إليه اثنان منهم واستمر الثالث ذاهبًا. قوله: فوقفا، زاد أكثر رواة الموطأ: فلما وقفا سلمَا، وكذا عند الترمذي والنسائي، ولم يذكر المصنف هنا ولا في الصلاة السلام، وكذا لم يقع في رواية مسلم. ويستفاد منه أن الداخل يبدأ بالسلام، وأن القائم يسلم على القاعد، وإنما لم يُذكر رد السلام عليهما اكتفاءً بشهرته، أو يستفاد منه أن المستغرق في العبادة يسقط عنه الرد) يعني يسلم على القارئ ويسلم على المصلي، والنبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- سُلم عليه وهو يصلي فرد بالإشارة.

(أو يستفاد منه أن المستغرق في العبادة يسقط عنه الرد، وسيأتي البحث فيه في كتاب الاستئذان، ولم يذكر أنهما صليا تحية المسجد إما لكون ذلك كان قبل أن تُشرع أو كانا على غير وضوء أو وقع فلم ينقل للاهتمام بغير ذلك من القصة)؛ لأن تحية المسجد ثبتت بأدلة أخرى، ولا يُحتاج أن يُنبه إليها في كل مناسبة بعد أن استقر تشريعها. (أو كان في غير وقت تنفل) كأوقات النهي مثلاً، (قاله القاضي عياض بناءً على مذهبه في أنها لا تُصلى في الأوقات المكروهة)، وهو مذهب الجمهور، مذهب القاضي عياض الذي هو المالكي ومثله الحنفي والحنابلة كذلك، ولم يخالف في هذا إلا الشافعية الذي هو مذهب ابن حجر. (قاله القاضي عياض بناءً على مذهبه).

 يعني كأنه يقرر أن الراجح أنها تصلى، بناءً على مذهبه أيضًا الشافعية أنهم يصلون يفعلون ذوات الأسباب في أوقات النهي، لكن عامة أهل العلم على خلافه. (أنها لا تصلى في الأوقات المكروهة.

قوله: فوقفا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أي على مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو على بمعنى عند.

قوله: فرجة، بالضم والفتح معًا هي الخلل بين الشيئين، والحلْقة بإسكان اللام كل شيء مستدير خالي الوسط، والجمع حَلَق بفتحتين وحكي فتح اللام في الواحد وهو نادر)، وفي موضع ثان قال: شاذ، (وفيه استحباب التحليق في مجالس الذكر والعلم، وفيه أن من سبق إلى موضع منها كان أحق به) من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به من المباحات. قال: (كل مستدير خالي الوسط) بالمناسبة مناسبة المستدير فيه كِفة وفيه كُفة، قالوا: كل مستدير كِفة، كفة الميزان مستديرة، وكل مستطيل كُفة مثل كفة الثوب. (قوله: وأما الآخر، بفتح الخاء المعجمة، وفيه رد على من زعم أنه يختص بالأخير) الآخَر بالفتح غير الآخِر، الآخِر هو الأخير، وقد يقال له الأخِر يعني المتأخر، أما الآخَر فهو الثاني. (بفتح الخاء المعجمة، وفيه رد على من زعم أنه يختص بالأخير لإطلاقه هنا على الثاني) وهنا ما الفرق بين ربيع وجمادى؟

طالب: .......

هذا الثاني وذا الآخرة، ....... هذا الآخِر أم ذاك الثانية؟

طالب: .......

كيف بعد؟ ربيع بعده ثالث؟ أين؟ وجمادى؟

طالب: .......

 يعني هذا يكفي في أن يوصف ربيع بالثاني وجمادى بالآخرة؟ على كل حال لو رجعتم إلى صبح الأعشى وأحضرتم لنا فائدة بالتفريق بينه.

طالب: .......

 معروف صبح الأعشى للقلاشندي نعم.

(قوله: «فأوى إلى الله فآواه الله»، قال القرطبي: الرواية الصحيحة بقصر الأولى ومد الثاني وهو المشهور في اللغة، وفي القرآن: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف: 10] بالقصر، {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} [المؤمنون: 50] بالمد) يعني أوى القاصر، وآوى غيره يعني المتعدي، (وحكي في اللغة القصر والمد معًا فيهما، ومعنى «أوى إلى الله» لجأ إلى الله) «أوى إلى الله» لجأ إلى الله، والعامة تستعمل المادة في أيش؟

طالب: .......

 نعم، العامة يستعملون هذه المادة في العطف، الله يأوي لك يعني: يعطف عليك، قال: أنت تأوي لي يعني: تعطف علي وترحمني، لكنه استعمال عامي، لا يسنده أصل من لغة العرب. (فمعنى «أوى إلى الله» لجأ إلى الله، أو على الحذف أي انضم إلى مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومعنى: «فآواه الله» أي جازاه بنظير فعله بأن ضمه إلى رحمته ورضوانه، وفيه استحباب الأدب في مجالس العلم، وفضل سد خَلل الحلقة كما ورد الترغيب في سد خلل الصفوف في الصلاة، وجواز التخطي لسدِّ الخلل ما لم يؤذِ، فإن خشي استحب الجلوس حيث ينتهي كما فعل الثاني، وفيه الثناء على من زاحم في طلب الخير.

قوله: «فاستحيا» أي ترك المزاحمة كما فعل رفيقه؛ حياءً من النبي -صلى الله عليه وسلم- وممن حضر؛ قاله القاضي عياض. وقد بيَّن أنس في روايته سبب استحياء هذا الثاني، فلفظه عند الحاكم: ومضى الثاني قليلاً ثم جاء فجلس، فالمعنى أنه استحيا من الذهاب عن المجلس كما فعل رفيقه الثالث) استحيا بياء، ما قال: استحى يستحي، استحيا يستحي، بياءين لغة قريش، وبواحدة لغة تميم، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي} [البقرة: 26]، «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي» بالياء، حُذفت إحداهما للجازم وبقيت الثانية. ولغة تميم: «إذا لم تستحِ» بالكسر لأنها ياء واحدة حذفت للجازم.

(قوله: «فاستحيا الله منه» أي رحمه ولم يعاقبه) وفيه إثبات صفة الحياء لله -جَلَّ وعَلا- على ما يليق بجلاله وعظمته. (قوله: «فأعرض الله عنه» أي سخط عليه، وهو محمول على من ذهب معرضًا لا لعذر، هذا إن كان مسلمًا، ويحتمل أن يكون منافقًا واطلع النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمره، كما يحتمل أن يكون قوله -صلى الله عليه وسلم-: «فأعرض الله عنه» إخبارًا أو دعاءً، ووقع في حديث أنس: «فاستغنى فاستغنى الله عنه»، وهذا يُرشِّح كونه خبرًا، وإطلاق الإعراض وغيره في حق الله تعالى على سبيل المقابلة والمشاكلة)، ولا مانع أن تُثبت هذه الأمور التي ثبتت بالأحاديث الصحيحة، على ما يليق بجلال الله وعظمته. (فيُحمل كل لفظ منها على ما يليق بجلاله -سُبحانه وتعالى-، وفائدة إطلاق ذلك بيان الشيء بطريق واضح، وفيه جواز الإخبار عن أهل المعاصي وأحوالهم؛ للزجر عنها، وأن ذلك لا يعد من الغيبة، وفي الحديث فضل ملازمة حِلق العلم والذكر وجلوس العالم والمذكِّر في المسجد) ما يقال إنه يجلس ....... على الناس ويجمع الشباب، يقوله بعض الشياب مثل كبار السن وبعض العوام يقول: يجمع ها الشباب يضيق على الناس وعلى المصلين. لا، هذا من الذكر، والمساجد بنيت لذكر الله، بل من أعظم وظيفة المسجد التعليم بعد الصلاة.

(وفي الحديث فضل ملازمة حلق العلم والذكر وجلوس العالم والمذكر في المسجد، وفيه الثناء على المستحي)؛ لأن «الحياء لا يأتي إلا بخير». (والجلوس حيث ينتهي به المجلس، ولم أقف في شيء من طرق هذا الحديث على تسمية واحد من الثلاثة المذكورين، والله تعالى أعلم).

 لأنه لو سُمي اثنان، سمي الذي أوى وسمي الذي استحيا؛ لأنه لا مانع من تسميتهما، المانع من تسمية الثالث من باب الستر عليه، للزم البحث عن الثالث، فتُرك الثلاثة؛ سترًا على ذلك الشخص الذي أتى ما يذم به، والله أعلم.

"