التعليق على تفسير القرطبي - سورة الإسراء (09)

"بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه.

 قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:

"قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70].

 فيه ثلاث مسائل:

الأولى: قوله -تعالى-: {وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] لما ذكر من الترهيب ما ذكر بيّن النعمة عليهم أيضا. {كَرَّمْنا} [الإسراء: 70] تضعيف كرم".

ما ذكره من الترهيب في الآيتين السابقتين: {أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البَرِّ} [الإسراء: 68] والآية التي تليها: {أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الرِّيحِ} [الإسراء: 69]، هذا ترهيب، وهذه قاعدة مطردة وعادة في القرآن إذا أتى بالترهيب جاء بالترغيب، وإذا أتى بما يدل على شيء من الإهانة لمن خالف، جاء بما يدل على شيء من الإهانة لمن خالف جاء بما يدل على الكرامة لمن اتبع، فأتبع ذلك بقوله -جلَّ وعلا-: {وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70].

آدم لا شك أنه مكرم على سائر المخلوقات، والخلاف بين أهل العلم في المفاضلة بين بني آدم والملائكة، والمراد ببني آدم الصالحون منهم على خلاف بين أهل العلم تقدم في مواضع من هذا الكتاب، أما بالنسبة لسائر المخلوقات، فلا خلاف في أن بني آدم أكرم منهم، {وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] على سائر ما خلق الله -جلَّ وعلا-، والمراد بذلك من قَبِلَ هذه الكرامة وشكر هذه النعمة، وإلا من ردَّ هذه الكرامة وهذه النعمة {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان: 44].

فهذه نعمة تحتاج إلى شكر، وشكرها بتحقيق توحيد الله -جلَّ وعلا-، وعبادته على مراده ومراد نبيه -عليه الصلاة والسلام-، فإذا لم تُشكر هذه النعمة انقلبت نقمة كسائر النعم. البصر نعمة إن شكرت هذه النعمة أُجر عليها الإنسان، وأفاد منها، وإن كُفرت، واستعملت فيما لا يرضي الله- جلَّ وعلا- صارت نقمة، وصارت عذابًا ووبالًا على صاحبها، العمى خير ممن يستعمل البصر فيما لا يرضي الله -جلَّ وعلا-، الصمم خير ممن يستمع ما لا يرضي الله -جلَّ وعلا-، على كل حال هذه النعم تحتاج إلى شكر، ومنها هذه الكرامة التي كرَّم الله بها بني آدم.

ومما كُتب في الباب كتاب اسمه تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب، هل مثل هذا يتعارض مع قوله -جلَّ وعلا-: {وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70]، المراد بكثير ممن لبس الثياب من لم يقبل هذه النعمة، ولم يشكر هذه النعمة، وإلا فمن قبل وشكر فالخلاف في المفاضلة بينه وبين الملائكة معروف عند أهل العلم، فضلًا عن سائر المخلوقات، والله المستعان.

"{كَرَّمْنا} [الإسراء: 70] تضعيف كرم أي جعلنا لهم كرمًا أي شرفًا وفضلًا. وهذا هو كرم نفي النقصان لا كرم المال".

لا كرم المال؛ لأنه يوجد في بني آدم من لا مال، بينما هذه الكرامة في الخلقة وفي العقل الذي ميَّز الله به هذا المخلوق موجود عند عامة بني آدم في الجملة، نعم قد يطرأ على بعض أوجه هذه الكرامة بعض النقص؛ لحكمة إلهية وابتلاء من الله -جلَّ وعلا-.

"وهذه الكرامة يدخل فيها خلقهم على هذه الهيئة في امتداد القامة وحسن الصورة، وحملهم في البر والبحر مما لا يصح لحيوان سوى بنى آدم أن يكون يتحمل بإرادته وقصده وتدبيره".

نعم، قد يقول قائل: المواشي من الإبل والبقر والغنم وسائر المخلوقات تُحمل في البر والبحر، تُحمل على بواخر، تُحمل على الشاحنات، وتُحمل، لكن هل رأى منكم أحد شيء من هذه الأنعام يأتي بنفسه ويحجز لنفسه ويركب؟ لا، تجده يأخذ تذكرة ويركب بنفسه؟ لا، يُقاد ويُركب ويُنزل ما يدري أين، والله المستعان.

مع الأسف الشديد إن كثيرًا من بني آدم بهذه الصورة غافلون عما يُراد بهم كأنهم غنم.

 الناس في غفلة عما يُراد بهم             كأنهم غنم في أيدي جزار

 سائر إلى غير هدف وغير غاية، كثير من الناس، مع الأسف الشديد أنه يوجد هذا في بعض من ينتسب إلى الإسلام.

"وتخصيصهم بما خصَّهم به من المطاعم والمشارب والملابس، وهذا لا يتسع فيه حيوان اتساع بنى آدم؛ لأنهم يكسبون المال خاصة دون الحيوان، ويلبسون الثياب ويأكلون المركبات من الأطعمة".

يأكلون المركبات من الأطعمة، الحيوان يأكل الأطعمة، لكن ما يأكل مركبًا، يأكل مفردات، ما معنى هذا؟ هل رأيتم حيوانًا يقطع شيئًا من الأطعمة ويخلطها بطعام آخر؟ أو يأكل ما وجد مما هو مفرد أو ركبه الآدمي؟ أما الحيوان فلا يركب، الذي يركب الآدمي، هو الذي يقطع هذا، ويضع هذا، ويخلط معه هذا، يخلط الأطعمة بعضها ببعض؛ لتحلو وتطيب، ويضع عليها المقبلات، ويضع عليها الكوامخ والجوارش؛ لتطيب له، أما الحيوان فيأكل ما يجد مما رُكِّب له أو من المفردات، يأكل الطماطم على حدة، والخيار على حدة، لكن ما يجمع بينهما.

"وغاية كل حيوان يأكل لحما نيئًا أو طعامًا غير مركب. وحكى الطبري عن جماعة أن التفضيل هو أن يأكل بيده وسائر الحيوان بالفم.

وروي عن ابن عباس، ذكره المهدوي والنحاس".

والأكل باليد نعمة من الله -جلَّ وعلا-، نعمة؛ لأن تحمل اليد للحار والبارد أعظم من تحمل الفم، أعظم من تحمل الفم، تستطيع أن تحمل بيدك شيئًا حارًّا، ولو لاحظتم أن تحمل باطن اليد أعظم من تحمل ظاهر اليد، هذا شيء مشاهد، فكيف لو كُلف الإنسان أن يأكل بفمه؟ هذه نعمة يجب على الإنسان شكرها.

"وروي عن ابن عباس، ذكره المهدوي والنحاس، وهو قول الكلبي ومقاتل، ذكره الماوردي.

وقال الضحاك: كرَّمهم بالنطق والتمييز. وقال عطاء: كرَّمهم بتعديل القامة وامتدادها".

نعم هذه كلها من أوجه الكرامة، لكن من أعظم ما كُرم به الإنسان العقل الذي هو مناط التكليف، والذي يميِّز به بين ما ينفعه وما يضره، العقل، هذا هو الذي يميِّز الإنسان عن بقية المخلوقات، نعم قد يوجد في بعض الحيوانات قوى مدركة تدرك بعض ما يضر وبعض ما ينفع، لكن ليست بمستوى عقل بني آدم، وقد يهبط الإنسان بعقله فتكون هذه الحيوانات أقرب منه إلى العقل، قد يهبط الإنسان وهو عاقل، يدّعي العقل، لكنه لا يعقل في الحقيقة، قد يكون الإنسان يسمع وهو لا يسمع حقيقةً، وقد يكون يبصر وهو لا يرى في حقيقة الأمر؛ لأن هذه النعم إنما وجودها بالانتفاع بها، أما الذي لا ينتفع بها فوجوده مثل عدمه، ولذا نفى الله -جلَّ وعلا- العقول عن الكفار وإن كان لهم قلوب، لهم قلوب لا يعقلون بها، لهم آذان لا يسمعون بها، وهكذا، فالعبرة بالانتفاع، العبرة بالانتفاع.

وبعض الحشرات وبعض الحيوانات لها قوى تدرك بها بعض ما ينفعها وما يضرها، لكن ليست بمستوى عقل الإنسان، النملة تُدرك أن الحبة تنبت، فإذا ادخرتها في جحرها كسرتها بنصفين؛ لئلا تنبت، بعض بني آدم قد لا يدرك مثل هذا التصرف، وإن كان عاقلًا.

قد يكون بعض الحيوانات أشد غيرة من بني آدم لا سيما ممن ابتُلي ببعض الأسباب التي تذهب الغيرة، يعني يُسمع من بعض بني آدم من ماتت فيه الغيرة، ماتت بالكلية أو ضعفت، وذكر ابن حجر وغيره أن فرسًا كُلّف بالنزوّ على أمه فرفض، رفض رفضًا شديدًا، حاولوا ولم يستطيعوا، فجلّلت الأم فنزل عليها، يعني غُطيت، ما عرفها فنزل عليها، فلما كُشف الغطاء عرف، فالتفت إلى ذكره فقطعه بأسنانه، مثل هذا أفضل من كثير من بني آدم، وأنتم ترون الكفار عندهم مثل هذه الأمور علنًا، ويبثّونها على الناس لإفسادهم، ويفتخرون بذلك، ويظنون أن هذه هي الحرية، وهذه هي الحياة الطيبة عندهم -نسأل الله العافية-، البهائم أفضل منهم بلا شك.

ولذا لما أُلِّف الكتاب الذي ذكرناه آنفًا استنكره بعض الناس، كيف تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب، كتاب يؤلَّف في هذا والله -جلَّ وعلا- يقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70]، نعم هذا الأصل ابن آدم مكرم، لكن من قبل الكرامة فهو مكرم، وإلا فلا، وإلا فهو أضل من الأنعام، نسأل الله العافية.

"وقال يمان: بحسن الصورة. وقال محمد بن كعب: بأن جعل محمدًا -صلى الله عليه وسلم- منهم. وقيل: أكرم الرجال باللحى، والنساء بالذوائب".

أكرم الرجال باللحى، والنساء بالذوائب، وهذا مأثور عن عائشة -رضي الله عنها- الذي جمَّل الرجال باللحى، كما جمل النساء بالذوائب، من المؤسف أن حال كثير من المسلمين على العكس، على العكس تمامًا مخالفةً للفطرة، كثير من الذكور يحلقون لحاهم، وكثير من النساء يتصرفن في شعورهن بما يشبه ما يقرب من الحلق؛ مشابهة للكفار، نعم الأخذ من الشعر بالنسبة للمرأة لا على وجه التقليد لا بأس به، ثبت في صحيح مسلم أن نساء النبي -عليه الصلاة والسلام- يأخذن من شعورهن، لكن الإشكال إذا كان على جهة التقليد إما للكفار أو للرجال، كما هو الواقع الآن، هذه مشكلة، وهذا من انتكاس الفطر، إذا كان هو المعروف إكرام الرجال وجمال الرجال باللحى، النساء جمالهن بالذوائب، وإلى عهد قريب فطول الشعر منقبة بالنسبة للمرأة، والآن العكس، لما صار المنظور إليه والقدوة في هذا الباب هم الكفار وما يعرضونه في وسائل الإعلام.

قد يقول قائل: جمال الرجال باللحى، نعم إكرامهم باللحى بالنسبة للدنيا، هذا صحيح، لكن في الآخرة؟ لهم لحى أو ليس لهم لحى؟

طالب: ..........

ألوانهم بيض وليس لهم لحى
 

 

جُعد الشعور مكحلو الأجفان
 

هذا للآخرة ما يخصها، ولها جمالها المناسب لها، وللدنيا جمالها المناسب لها.

"وقال محمد بن جرير الطبري: بتسليطهم على سائر الخلق، وتسخير سائر الخلق لهم.

وقيل: بالكلام والخط.

وقيل: بالفهم والتمييز. والصحيح الذي يُعوّل عليه أن التفضيل إنما كان بالعقل الذي هو عمدة التكليف".

وإن كان جميع ما ذُكر من التكريم، من ألوان التكريم.

"وبه يُعرف الله ويُفهم كلامه، ويوصل إلى نعيمه وتصديق رسله، إلا أنه لما لم ينهض بكل المراد من العبد بُعثت الرسل وأُنزلت الكتب".

العقل لا يستقل بإدراك جميع ما يطلبه الشرع، نعم الفطرة تدل على وجود الخالق، وأنه المستحق للعبادة، لكن تفاصيل ما يستحقه الله -جلَّ وعلا- إنما يكون ببعث الرسل.

"فمثال الشرع الشمس، ومثال العقل العين، فإذا فتحت وكانت سليمة رأت الشمس، وأدركت تفاصيل الأشياء. وما تقدم من الأقوال بعضه أقوى من بعض. وقد جعل الله في بعض الحيوان خصالًا يفضل بها ابن آدم أيضًا، كجري الفرس وسمعه وإبصاره".

الجري بالنسبة للفرس أشد من جري بني آدم، وكذلك سمعه وبصره، كونه يوجد التفضيل في خصلة لا يعني أنه أفضل من سائر الوجوه.

"وقوه الفيل وشجاعة الأسد وكرم الديك. وإنما التكريم والتفضيل بالعقل كما بيَّنَّاه. والله أعلم.

الثانية: قالت فرقة: هذه الآية تقتضي تفضيل الملائكة على الانس والجن من حيث إنهم المستثنون في قوله -تعالى-: {ولَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172] وهذا غير لازم من الآية".

الآية ليس فيها ما يدل على ذلك، لو قيل: إن الآية تدل على عكس ما ذُكر لكان أظهر، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70]، لكن في قوله: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا} [الإسراء: 70]، يجعل الخلاف فيه قوة، {إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخَالِدِينَ} [الأعراف: 70]، فدل على أن التشبّه بالملك مطلب من مطالب بني آدم، فدل على أنهم دونهم، آدم إنما أكل من الشجرة ليكون كالملائكة، يدل على أنه تقصر مرتبته عنهم، هذه من حجج من يقول بتفضيل الملائكة، وكأنه متجه عند كثير من المحققين أن الأنبياء والرسل أفضل من الملائكة، ومن عداهم كلٌّ بحسبه، كلٌّ بحسبه.

"بل التفضيل فيها بين الإنس والجن، فإن هذه الآية إنما عدَّد الله فيها على بنى آدم ما خصَّهم به من سائر الحيوان، والجن هو الكثير المفضول، والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول، ولم تتعرض الآية لذكرهم، بل يحتمل أن الملائكة أفضل، ويحتمل العكس، ويحتمل التساوي، وعلى الجملة فالكلام لا ينتهى في هذه المسألة إلى القطع".

لأن لكل من الفريقين دليله، كل من الفريقين له دليله، ومضت المسألة مرارًا.

"وقد تحاشي قوم من الكلام في هذا كما تحاشوا من الكلام في تفضيل بعض الأنبياء على بعض؛ إذ في الخبر: «لا تخايروا بين الأنبياء، ولا تفضلوني على يونس بن متى». وهذا ليس بشيء؛ لوجود النص في القرآن في التفضيل بين الأنبياء".

{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم} [البقرة: 253]، فالتفضيل نص صحيح صريح، نص قطعي في التفضيل، لكن النهي عن التفضيل إذا اقتضى هذا التفضيل تنقُّص المفضول فينهى عنه، إذا اقتضى تنقُّص المفضول يُنهى عنه، وسبب ورود الحديث يدل على ذلك، سبب ورود الحديث يدل على ذلك، المشاجرة بين المسلم واليهودي، اليهودي يقول: لا، والذي فضَّل موسى على البشر، والمسلم: والذي فضَّل محمد، المقصود أنه حصلت المشاجرة، وفي مثل هذه الحال ومثل هذا الظرف هذه المشاجرة تحمل كل واحد من الخصمين أن يتنقص الآخر، ولذا جاء النهي عن التفضيل، والتنصيص على يونس بن متى ما حصل منه، وما ذكره الله، وما قصه الله -جلَّ وعلا- عنه، من لا يدرك حقائق الأمور قد يتنقصه، قد يتنقصه ، ولذا نُصَّ عليه.

"وقد بيناه في البقرة ومضى فيها الكلام في تفضيل الملائكة والمؤمن.

الثالثة: قوله -تعالى-: {وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ} [الإسراء: 70] يعني لذيذ المطاعم المشارب. قال مقاتل: السمن والعسل والزبد والتمر والحلوى، وجعل رزق غيرهم ما لا يخفى عليكم من التبن والعظام وغيرها. {وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70] أي على البهائم والدواب والوحش والطير بالغلبة والاستيلاء، والثواب والجزاء والحفظ والتمييز وإصابة الفراسة.

الرابعة: هذه الآية ترد ما روي عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «احرِموا أنفسكم طيب الطعام، فإنما قوي الشيطان أن يجرى في العروق منها». وبه يستدل كثير من الصوفية في ترك أكل الطيبات، ولا أصل له".

الله -جلَّ وعلا- امتن عليهم بقوله: {وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ} [الإسراء: 70]، رزقهم من الطيبات ليتفرجوا عليها؟ لا، إنما ليأكلوها، امتنَّ عليهم بهذا للأكل، فكيف نحرم أنفسنا من هذه الطيبات؟ {قُلْ مَنْ حَرَّمَ} [الأعراف: 32]، فكيف نحرم أنفسنا من هذه الطيبات التي امتنّ الله بها علينا؟ نعم، إذا أدى الإكثار من هذه الطيبات إلى ارتكاب محظور أو ترك مأمور نقف، إذا كان الإنسان يريد أن يؤثر بهذه الطيبات غيره ممن هو أحوج منه، نعم صار الإيثار فاضلًا، أما ما عدا ذلك فحرمان الناس من هذه الطيبات لا شك أنه التعبد به خطأ، يعني الحديث الذي ذُكر عن عائشة باطل، لا أصل له، وهو مخالف للآية وغيرها.

طالب: {كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الأعراف: 60]، الأمر؟

نعم.

طالب: ..........

كلٌّ له نصيبه منها، لكن الفراسة النافعة، أقول: الفراسة النافعة لا شك أنها فراسة المؤمن، الفراسة التي هي مجرد استدلال بمقدمات على نتائج هذه موجودة في كثير من الناس.

"وبه يستدل كثير من الصوفية في ترك أكل الطيبات، ولا أصل له؛ لأن القرآن يرده، والسنة الثابتة بخلافه، على ما تقرر في غير موضع. وقد حكى أبو حامد الطوسي قال: كان سهل يقتات ورق النبق مدة. وأكل دقاق ورق التين ثلاث سنين. وذكر إبراهيم بن البنا قال: صحبت ذا النون من إخميم إلى الإسكندرية، فلما كان وقت إفطاره أخرجت قرصًا وملحًا كان معي، وقلت: هلم. فقال لي: ملحك مدقوق؟ قلت نعم. قال: لست تفلح! فنظرت إلى مزوده وإذا فيه قليل سويق شعير يستف منه.

وقال أبو يزيد: ما أكلت شيئًا مما يأكله بنو آدم أربعين سنة. قال علماؤنا: وهذا مما لا يجوز حمل النفس عليه؛ لأن الله -تعالى- أكرم الآدمي بالحنطة، وجعل قشورها لبهائمهم، فلا يصح مزاحمة الدواب في أكل التبن".

لكن لو قال: أنا لا أزاحم البهائم، أعطيهم الحنطة وآكل القشور؟ هذا نقص في العقل، هذا خلل في العقل، نعم كثرة الأكل الذي يؤدي إلى الإخلال بالمأمورات أو قد يجر إلى ارتكاب بعض المحظورات؛ لأن الاسترسال في المباحات يجر إلى طلبها عند فقدها إما من وجهها إن تيسير، أو من غير وجهها إن لم يتيسر وجهها، والسلف أُثر عنهم أنهم كانوا يتركون كثيرًا من الطيبات، لكن ليس معنى هذا أنهم يحرمون أنفسهم من الطيبات ويأكلون ما لا يليق بهم.

"وأما سويق الشعير فإنه يورث القولنج، وإذا اقتصر الإنسان على خبز الشعير والملح الجريش فإنه ينحرف مزاجه؛ لأن خبز الشعير بارد مجفف، والملح يابس قابض يضر الدماغ والبصر. وإذا مالت النفس إلى ما يصلحها فمنعت فقد قومت حكمة البارئ سبحانه بردِّها".

يعني عُورضت.

"ثم يؤثر ذلك في البدن، فكان هذا الفعل مخالفًا للشرع والعقل. ومعلوم أن البدن مطية الآدمي".

لا يجوز للإنسان أن يتناول ما يضره، لا يجوز له بحال أن يتناول ما يضره، وهذه التي اقتصروا عليها تضر، بلا شك مع الاقتصار عليها تضر بني آدم، حينئذ لا يجوز تناولها، نعم التقليل من الطعام بقدر الإمكان، والاقتصار على ما يقيم الصلب هذا مطلوب؛ لأن البدن مطية، ينبغي أن يستخدم فيما يرضي الله -جلَّ وعلا-، وما يُوصل إلى جنته، فيُقتصر من أمور الدنيا على ما يقيم الصلب؛ لأن ما زاد على ذلك ضار، كثير من الناس إنما أُوتي من كثرة الأكل، علته في كثرة الأكل، وكم من أكلة قالت لآكلها: دعني.

" ومعلوم أن البدن مطية الآدمي، ومتى لم يرفق بالمطية لم تبلغ".

الجمادات فضلًا عن الحيوانات إذا أسيئ استعمالها تتلف، السيارات الآن إذا استعملت على غير وجهها، وحُمِّلت ما لا تطيق، وجار عليها صاحبها لا شك أنه أسرع إلى تلفها، وهي من الحديد، فكيف بهذا البدن الذي من اللحم والدم؟

"وروي عن إبراهيم بن أدهم أنه اشترى زبدًا وعسلًا وخبز حواري، فقيل له: هذا كله؟ فقال: إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال، وإذا عدمنا صبرنا صبر الرجال. وكان الثوري يأكل اللحم والعنب والفالوذج ثم يقوم إلى الصلاة. ومثل هذا عن السلف كثير. وقد تقدم منه ما يكفي في المائدة والأعراف وغيرهما. والأول غلو في الدين إن صح عنهم. {وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27].

قوله -تعالى-: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [الإسراء: 71]، روى الترمذي عن أبى هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله -تعالى-: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ} [الإسراء: 71]، قال: «يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه، ويمد له في جسمه ستون ذراعًا، ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ، فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون: اللهم ائتنا بهذا، وبارك لنا في هذا حتى يأتيهم فيقول: أبشروا لكل منكم مثل هذا -قال- وأما الكافر فيسود وجهه ويمد له في جسمه ستون ذرعًا على صورة آدم، ويلبس تاجًا فيراه أصحابه فيقولون: نعوذ بالله من شر هذا! اللهم لا تأتنا بهذا»

الطول صح في الصحيحين وغيرهما أنهم طول أبيهم آدم ستون ذراعًا، والعرض في المسند سبعة أذرع.

الطول طول أبيهم ستون
 

 

في سبع .........................
 

الطول صح بغير مين في الصحيـ
 

 

ـحين اللذين هما لنا شمسان
 

والعرض لا نعرفه في إحداهما
 

 

ورواه أحمد الشيباني
 

المقصود أن الطول ثابت في الصحيحين، وأما العرض فهو في المسند.

"«قال: فيأتيهم فيقولون اللهم أخزه. فيقول أبعدكم الله، فإن لكل رجل منكم مثل هذا». قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. ونظير هذا قوله: {وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 28]".

وعلى هذا فالإمام في الآية هو الكتاب، {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ} [الإسراء: 71]، يعني بكتابهم، فمنهم من يأخذ كتابه بيمينه، ومنهم من يُعطاه بشماله.

"والكتاب يسمى إمامًا؛ لأنه يُرجع إليه في تعرف أعمالهم.

وقال ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك: {بِإِمامِهِمْ} [الإسراء: 71] أي بكتابهم، أي بكتاب كل إنسان منهم الذي فيه عمله، دليله: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ} [الإسراء: 71].

وقال ابن زيد: بالكتاب المنزل عليهم. أي يدعى كل إنسان بكتابه الذي كان يتلوه، فيدعى أهل التوراة بالتوراة، وأهل القرآن بالقرآن، فيقال: يا أهل القرآن، ماذا عملتم، هل امتثلتم أوامره هل اجتنبتم نواهيه؟ وهكذا.

وقال مجاهد: {بِإِمامِهِمْ} [الإسراء: 71] بنبيهم، والامام من يؤتم به. فيقال: هاتوا متبعي إبراهيم -عليه السلام-، هاتوا متبعي موسى -عليه السلام-، هاتوا متبعي الشيطان، هاتوا متبعي الأصنام. فيقوم أهل الحق فيأخذون كتابهم بأيمانهم، ويقوم أهل الباطل فيأخذون كتابهم بشمالهم. وقاله قتادة.

وقال علي -رضي الله عنه-: بإمام عصرهم.

وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ} [الإسراء: 71]، فقال: «كلٌّ يدعى بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم فيقول: هاتوا متبعي إبراهيم، هاتوا متبعي موسى، هاتوا متبعي عيسى، هاتوا متبعي محمدًا -عليهم أفضل الصلوات والسلام-، فيقوم أهل الحق فيأخذون كتابهم بأيمانهم، ويقول: هاتوا متبعي الشيطان هاتوا متبعي رؤساء الضلالة إمام هدى وإمام ضلالة».

وقال الحسن وأبو العالية: {بِإِمامِهِمْ} [الإسراء: 71] أي بأعمالهم. وقاله ابن عباس. فيقال: أين الراضون بالمقدور؟ أين الصابرون عن المحذور؟

وقيل: بمذاهبهم، فيدعون بمن كانوا يأتمون به في الدنيا: يا حنفي، يا شافعي، يا معتزلي، يا قدري، ونحوه، فيتبعونه في خير أو شر أو على حق أو باطل، وهذا معنى قول أبى عبيدة، وقد تقدم".

وهذا ظاهر في لفظ الإمام، هؤلاء أئمة، منهم أئمة هدى، ومنهم أئمة ضلالة، فيدعون بأئمتهم لا سيما من يتعصبون لهم، والذي يحرص على اتباع السنة فإمامه محمد -عليه الصلاة والسلام-، والذي يقلِّد أحدًا من الرجال، ويتعصب له، ويوالي ويعادي عليه يُدعى به، يُدعى به؛ لأنه هو قدوته في كل شيء، وهذا ظاهر في متعصبة المذاهب سواء كانت الأصلية أو الفرعية، لكن من كانت قدوته محمدًا -عليه الصلاة والسلام-، فإمامه محمد، ومن كانت قدوته أبا حنيفة -رحمه الله-، وهو إمام -إمام هدى- لكن من يتعصب له ويقتدي به في كل شيء، ويرد الحق من أجله، لا شك أنه ليس على خير، ومثله سائر المذاهب، وهذا في المذاهب الفرعية والأصلية أيضًا، من يتعصب لمذهب الجهمية، من يتعصب لمذهب المعتزلة، من يتعصب لمذهب كذا وكذا، كلٌّ يدعون بأئمتهم، وهؤلاء أئمتهم الذين يقتدون بهم، والموفق من يقتدي بمحمد -عليه الصلاة والسلام- الذي هو الأسوة والقدوة.

"وقال أبو هريرة: يدعى أهل الصدقة من باب الصدقة، وأهل الجهاد من باب الجهاد...، الحديث بطوله. وقال أبو سهل: يقال أين فلان المصلى والصوام، وعكسه الدفاف والنمام.

وقال محمد بن كعب: {بِإِمامِهِمْ} [الإسراء: 71] بأمهاتهم. وإمام جمع أم. قالت الحكماء: وفى ذلك ثلاثة أوجه من الحكمة".

علَّلوا ذلك بأن الإمام جمع أم، علَّلوا ذلك من أجل عيسى -عليه السلام-، ولإظهار شرف الحسن والحسين، وسترًا على أولاد الزنا الذين لا يُنسبون إلى آبائهم، لكن هذا القول ضعيف، فلا تجمع الأمة على إمام، إنما تجمع على أمهات، وأمات.

"وفى ذلك ثلاثة أوجه من الحكمة أحدها: لأجل عيسى. والثاني: إظهار لشرف الحسن والحسين. والثالث: لئلا يفتضح أولاد الزنى. قلت: وفى هذا القول نظر، فإن في الحديث الصحيح عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيام يرفع لكل غادر لواء فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان» خرَّجه مسلم والبخاري".

ما يقال: ابن فلانة، يُدعى بأحب الأسماء إليه.

"خرَّجه مسلم والبخاري، فقوله: «هذه غدرة فلان ابن فلان» دليل على أن الناس يدعون في الآخرة بأسمائهم وأسماء آبائهم، وهذا يرد على من قال: إنما يدعون بأسماء أمهاتهم؛ لأن في ذلك سترًا على آبائهم. والله أعلم".

سترًا على آبائهم، يعني من ارتكب المحظور ونُودي على رؤوس الخلائق من الخونة والغادرين أهل الغدر، وأهل الظلم، يقول: ستر على آبائهم، هل الأب أولى بالستر من الأم؟ ليس الأب بأولى، {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18]، قد يكون الأب من خيار الناس، وولده من الشرار، والعكس، هذا لا يضيره أن يقال: إن ابنه، إن ابنه في النار، هذا ما كسبت يداه، نعم إذا كان في دائرة الإسلام وعنده بعض النقص، والأب من الخيار، من المؤمنين، يُلحق به ولده ممن كان في دائرة الإسلام، ولم يرتكب ما يقتضي عدم دخوله الجنة، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21]، يُلحق به، من ذلك الزوجات، الزوجة تبع لزوجها في منزلته، فأمهات المؤمنين بمنزلة النبي -عليه الصلاة والسلام-، معه، وهذا ما جعل ابن حزم يفضل أمهات المؤمنين على العشرة، على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي؛ لأنهن معه في منزلته، ومنزلته فوق منزلة هؤلاء، لكن يلزم عليه أن يفضلهن على الأنبياء؛ لأن منزلة النبي -عليه الصلاة والسلام- فوق منزلة الأنبياء، وكون الإنسان ينال شيئًا من المنزلة تبعًا لا استقلالًا لا يعني أنه فاضل على غيره، وهذا محسوس عند الناس، هذا محسوس، قد يكون الشخص له منزلة بين الناس ومقام، فكل من تبعه يُلحق به في هذا المقام، فتجد السائق في بيوت الأغنياء يسكن أفخر المساكن ويأكل ويلبس، ويركب أفضل المراكب، بينما السائق عند الأسر المتواضعة أو عند ضعاف الناس منزلته أقل، بل منزلة أوساط الناس أقل من منزلة سائق عند علية القوم، فهل معنى هذا أن السائق أفضل من هؤلاء؟ أو الخادم في بيت فلان من الناس من الأعيان أفضل من أوساط الناس؟ إنما نال هذا تبعًا لغيره لا استقلالًا، فلا شك أن الذريات يُلحقون بآبائهم إذا ماتوا على الإسلام، وإن اقتضى ما يُوجب تعذيبهم، فهذه مسألة أخرى، إن لم يموتوا على توبة، يُعذبون، ثم يُنقّون ويهذبون ويلحقون بآبائهم، {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم} [الطور: 21]، يعني ما نقصاهم {مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} [الطور: 21].

"قوله -تعالى-: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ} [الإسراء: 71] هذا يقوى قول من قال: {بِإِمامِهِمْ} [الإسراء: 71] بكتابهم. ويقويه أيضًا قوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ} [يس: 12]. {فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [الإسراء: 71] الفتيل الذي في شق النواة، وقد مضى في النساء".

شَق، أما شِق فنصف.

"الفتيل الذي في شق النواة، وقد مضى في النساء".

الفتيل والقطمير.

"قوله -تعالى-: {وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الإسراء: 72]، أي في الدنيا عن وإبصار الحق. {فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ} [الإسراء: 72] أي في أمر الآخرة {أَعْمى}  [الإسراء: 72].

وقال عكرمة: جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسألوه عن هذه الآية فقال: اقرءوا ما قبلها {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ} [الإسراء: 66] إلى {تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]. قال ابن عباس: من كان في هذه النعم والآيات التي رأى أعمى فهو عن الآخرة التي لم يعاين أعمى وأضل سبيلًا".

يعني أشد عمى، أشد عمى، ولا يعني هذا أن من كان في هذه الدنيا أعمى فاقد البصر هو كذلك في الآخرة، لا، فالعمى هنا ليس المراد به عمى الأبصار، وإنما القلوب التي في الصدور، {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، هذا هو المحك، وإلا فكم من أعمى خير من ملء الأرض من بعض المبصرين، والله المستعان.

"وقيل: المعنى من عمى عن النعم التي أنعم الله بها عليه في الدنيا فهو عن نعم الآخرة أعمى.

وقيل: المعنى من كان في الدنيا التي أُمهل فيها، وفسح له، ووعد بقبول التوبة أعمى فهو في الآخرة التي لا توبة فيها أعمى.

وقال الحسن: ما كان في هذه الدنيا كافرًا ضالًا، فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلًا.

وقيل: ومن كان في الدنيا أعمى عن حجج الله بعثه الله يوم القيامة أعمى، كما قال: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى} [طه: 124] الآيات".

كما في قوله -جلَّ وعلا-: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ} [البقرة: 275]، قال بعض أهل العلم: إن آكل الربا يبعث مجنونًا يوم القيامة -نسأل الله العافية-، وهنا ماذا قال؟ من كان في هذه الدينا أعمى بُعث يوم القيامة أعمى -نسأل الله العافية-، والجزاء من جنس العمل.

"وقال: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ} [الإسراء: 97].

وقيل: المعنى في قوله: {فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى} [الإسراء: 72] في جميع الأقوال: أشد عمى؛ لأنه من عمى القلب، ولا يقال مثله في عمى العين".

لأن مثل هذه الصيغة التي هي أفعل تفضيل لا تُصاغ من مثل هذا؛ لأنه لا يتفاوت، لأنه لا يتفاوت، ما تقول: فلان أعمى من فلان، العمى نسبته واحدة، نعم، هذا لا يتفاوت، فلا تُصاغ منه أفعل التفضيل.

لكن عمى القلب متفاوت، عمى القلب درجات، بينما عمى البصر، الذي فقد البصر، إن لم يفقد البصر بالكلية فليس بأعمى، وإن فقده بالكلية فلا تفاوت.

"قال الخليل وسيبويه: لأنه خلقة بمنزلة اليد والرجل. فلم يقل: ما أعماه كما لا يقال: ما أيداه. الأخفش: لم يقل فيه ذلك؛ لأنه على أكثر من ثلاثة أحرف، وأصله أعمى. وقد أجاز بعض النحويين ما أعماه، وما أعشاه؛ لأن فعله عمي وعشي.

وقال الفراء: حدثني بالشام شيخ بصري أنه سمع العرب تقول: ما أسود شعره. قال الشاعر:

ما في المعالي لكم ظل ولا ثمر
 

 

وفي المخازي لكم أشباح أشياخ
 

أما الملوك فأنت اليوم ألأمهم
 

 

لؤمًا وأبيضهم سربال طباخ
 

وأمال أبو بكر وحمزة والكسائي وخلف الحرفين (أعمى) [الإسراء: 72] و(أعمى) [الإسراء: 72] وفتح الباقون. وأمال أبو عمرو الأول وفتح الثاني. {وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء: 72] يعني أنه لا يجد طريقًا إلى الهداية".

فتحه يعني مده، مده من غير إمالة.

طالب: ..........

هل يختلف المعنى هنا {وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى} [الإسراء: 72]؛ لأن الساعة تختلف عن الساعة في آية الروم، وهل يختلف العمى في هذا، عن هذا أو هو واحد؟

طالب: ..........

هو وإن جاز التفضيل من هذه الصيغة، إن جاز التفضيل فلا بأس؛ لأن مثل هذه العاهات عمومًا لا يدخل منها أفعل تفضيل.

"قوله -تعالى-: {وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} [الإسراء: 73].

قال سعيد بن جبير: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستلم الحجر الأسود في طوافه، فمنعته قريش وقالوا: لا ندعك تستلم حتى تلم بآلهتنا. فحدث نفسه وقال: «ما علي أن ألم بها بعد أن يدعوني أستلم الحجر والله يعلم أنى لها كاره»، فأبى الله -تعالى- ذلك، وأنزل عليه هذه الآية، قاله مجاهد وقتادة.

وقال ابن عباس في رواية عطاء: نزلت في وفد ثقيف، أتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فسألوه شططًا وقالوا: متِّعنا بآلهتنا سنة حتى نأخذ ما يهدى لها، فإذا أخذناه كسرناها وأسلمنا، وحرّم وادينا كما حرّمت مكة، حتى تعرف العرب فضلنا عليهم، فهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يعطيهم ذلك، فنزلت هذه الآية.

وقيل: هو قول أكابر قريش للنبي -صلى الله عليه وسلم-: اطرد عنا هؤلاء السقاط والموالي حتى نجلس معك ونسمع منك، فهمَّ بذلك حتى نهي عنه.

وقال قتادة: ذكر لنا أن قريشًا خلوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة إلى الصبح يكلمونه ويفخِّمونه، ويسوِّدونه ويقاربونه، فقالوا: إنك تأتى بشيء لا يأتي به أحد من الناس، وأنت سيدنا يا سيدنا، وما زالوا به حتى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون، ثم عصمه الله من ذلك، وأنزل الله -تعالى- هذه الآية. ومعنى {لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء: 73] أي يزيلونك. يقال: فتنت الرجل عن رأيه إذا أزلته عما كان عليه".

ما ذُكر من ميله -عليه الصلاة والسلام- لما طُلب منه، في بعضها لا يسلم من نكارة، كيف يُظن بالنبي -عليه الصلاة والسلام- أنه كاد أن يلمّ بآلهتهم؟ كيف يظن به أنه يوافق ثقيفًا على أن يبقوا على شركهم، وأن يحرم لهم واديهم؟ نعم ما جاء في وادي وج، وهو خبر ضعيف من تحريمه، أقول: خبر ضعيف، وإن قال به بعض أهل العلم، لكن هذه الإلمامة التي ذكروها لا شك أنها منكر.

والأصل في الفتنة أن تُطلق على الأمر العظيم، وتُطلق على الشيء اليسير، مجرد الانشغال عن الأهم فتنة، {كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء: 73] يعني يشغلونك عن الذي أوحينا إليك، ما المانع؟ لما صلى -عليه الصلاة والسلام- بالخميصة قال: «كادت أن تفتنني»، أن تشغلني عن صلاتي، «فتنة الرجل في أهله وماله» أي: انشغاله بهم، فهذا هو الذي يُظن ويُفهم من الآية، {كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء: 73] يعني يشغلونك {عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} [الإسراء: 73]، إذا انشغل عن الحق فهذه مرحلة، فإذا استمر على الانشغال عن الحق فمن لازم ذلك أن يفتري، لكن {كَادُوا} [الإسراء: 73]، معلوم أن كاد المثبت دليل على إيش؟ {كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء: 73]؟

طالب: النفي.

{كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} [الإسراء: 74].

طالب: النفي.

مقاربة الوقوع، ولما يقع؟ مقاربة الوقوع ولما يقع.

"يقال: فتنت الرجل عن رأيه إذا أزلته عما كان عليه. قاله الهروي. وقيل: يصرفونك، والمعنى واحد. {عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ} [الإسراء: 73] أي حكم القرآن؛ لأن في إعطائهم ما سألوه مخالفة لحكم القرآن. {لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ} [الإسراء: 73] أي لتختلق علينا غير ما أوحينا إليك، وهو قول ثقيف: وحرم وادينا كما حرمت مكة، شجرها وطيرها ووحشها، فإن سألتك العرب لمَ خصصتهم؟ فقل: الله أمرني بذلك حتى يكون عذرًا لك. {وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} [الإسراء: 73] أي لو فعلت ما أرادوا لاتخذوك خليلًا، أي والوك وصافوك، مأخوذ من الخلة بالضم وهى الصداقة لممايلته لهم.

وقيل: {لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} [الإسراء: 73] أي فقيرًا. مأخوذ من الخلة بفتح الخاء وهى الفقر لحاجته إليهم".

كيف يتخذونه فقيرًا؟ {وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} [الإسراء: 73]، يعني فقيرًا، هذا بعيد، المعنى الأول. يعني إذا مال إليهم، إذا مال إليهم وانشغل بما، باقتراحاتهم اتخذوه خليلًا، فالميل إلى الشيء يجلب المودة والإلف، وهو معنى الخلة.

طالب: أحسن الله إليك، ما المعنى لاستخفوا بك وبقدرك وبكذا، إذا طاوعتهم؟

{لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء: 73]؟

طالب: نعم، يستخفون بقدرك ومنزلتك لمطاوعتك لهم؟

معلوم، معلوم أن المبطل صاحب الباطل يستدرج المحق، يستدرج صاحب الحق بالكلام اللين وبالصلة، ثم بعد ذلك إذا أخذ منه ما يريد بعد أن كان خليلًا تنقلب هذه الخلة عداوة؛ لأنها ليست لله -جلَّ وعلا-، يتخذونه خليلًا؛ لأنه تنازل معهم، وعلى هذا ينبغي أن يكون طالب العلم حذرًا من هذه الأساليب، الأساليب الماكرة التي يسلكها من يقتدي بأولئك، ولا شك أن الشيطان وأتباع الشيطان لهم أساليب، ولهم طرق لفتنة أهل الحق عن حقهم.

"{وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً} [الإسراء: 74-75].

قوله -تعالى-: {وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ} [الإسراء: 74] أي على الحق وعصمناك من موافقتهم. {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} [الإسراء: 74] أي تميل. {شَيْئاً قَلِيلًا} [الإسراء: 74] أي ركونًا قليلًا. قال قتادة: لما نزلت هذه الآية قال -عليه السلام-: «اللهم لا تكلني نفسي طرفة عين».

وقيل: ظاهر الخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- وباطنه إخبار عن ثقيف. والمعنى: وإن كادوا ليركنونك، أي كادوا يخبرون عنك بأنك ملت إلى قولهم، فنسب فعلهم إليه مجازًا واتساعًا، كما تقول لرجل: كدت تقتل نفسك، أي كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت".

إذا تسبَّب الإنسان لقتل نفسه أو لأي عمل من الأعمال نُسب إليه؛ لأنه سببه، وإن كان الفاعل الحقيقي هو المباشر، هو المباشر، نعم المتسبِّب لا يسلم من التبعة لكن المؤاخذ أولًا وآخرًا هو المباشر إلا إذا كان المباشر غير مكلف، فحينئذ ينتقل، تنتقل المؤاخذة للمتسبب.

"أي كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت، ذكره المهدوي. وقيل ما كان منه هم بالركون إليهم، بل المعنى: ولولا فضل الله عليك لكان منك ميل إلى موافقتهم، ولكن تم فضل الله عليك فلم تفعل، ذكره القشيري.

وقال ابن عباس: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معصومًا، ولكن هذا تعريف للأمة لئلا يركن أحد منهم إلى المشركين في شيء من أحكام الله -تعالى- وشرائعه.

وقوله -تعالى-: {إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ} [الإسراء: 75] أي لو ركنت لأذقناك مثلي عذاب الحياة في الدنيا ومثلي عذاب الممات في الآخرة، قاله ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وهذا غاية الوعيد. وكلما كانت الدرجة أعلى كان العذاب عند المخالقة أعظم. قال الله- تعالى-: {يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ} [الإحزاب: 30]، وضعف الشيء مثله مرتين، وقد يكون الضعف النصيب، كقوله -عز وجل-: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ} [الأعراف: 38] أي نصيب. وقد تقدم في الأعراف".

ومع هذا يعني مضاعفة العذاب لمضاعفة الأجر، كما أن مضاعفة المصائب لمضاعفة الأجور، النبي -عليه الصلاة والسلام- يوعك كما يوعك الرجلان، قال ابن مسعود: ذلك أن لك أجرين، قال: "أجل"، وأمهات المؤمنين يضاعف لهن العذاب ضعفين لو وقع منهن شيء، ولكنه لم يقع، وهذا تهديد، نعم {نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31]، فالأجر مضاعف، والإثم مضاعف.

 وهذا أمر موجود حتى في حياة الناس اليومية، الإنسان يؤاخذ القريب إليه المحفوف بعنايته أكثر من مؤاخذته غيره، العالم يُؤاخذ أكثر مما يؤاخذ الجاهل، وكلٌّ بحسبه؛ لأن أجره أعظم، ثوابه أعظم، ووزره أيضًا أعظم، فلينظر الإنسان أين يضع نفسه، فليحرص على كسب الأجور واتقاء الأوزار.

"{وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 76]، هذه الآية قيل: إنها مدنية، حسبما تقدم في أول السورة. قال ابن عباس: حسدت اليهود مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة فقالوا: إن الأنبياء إنما بُعثوا بالشام، فإن كنت نبيًّا فالحق بها، فإنك إن خرجت إليها صدقناك وآمنا بك، فوقع ذلك في قلبه لما يحب من إسلامهم، فرحل من المدينة على مرحلة، فأنزل الله هذه الآية.

وقال عبد الرحمن بن غنم: غزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غزوة تبوك لا يريد إلا الشام، فلما نزل تبوك نزل {وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ} [الإسراء: 76] بعد ما ختمت السورة، وأُمر بالرجوع.

وقيل: إنها مكية. قال مجاهد وقتادة: نزلت في هَمِّ أهل مكة بإخراجه، ولو أخرجوه لما أمهلوا ولكن الله أمره بالهجرة فخرج، وهذا أصح؛ لأن السورة مكية، ولأن ما قبلها خبر عن أهل مكة، ولم يجر لليهود ذكر. وقول: {مِنَ الْأَرْضِ} [الإسراء: 76] يريد أرض مكة. كقوله: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ} [يوسف: 80] أي أرض مصر".

أي: الأرض المعهودة، (أل) هذه ليست للجنس، جنس الأرض، لو كانت جنسية، يخرجونه إلى أي شيء، لكن الكلام على أن (أل) هنا المعهودة، وهي مكة، لا يُقال: {لِيُخْرِجُوكَ مِنْها} [الإسراء: 76]، يعني يخرجونه إلى البحر، يخرجونه من الأرض إلى البحر؟ لا، إنما يخرجونه من الأرض المعهودة وهي مكة.

"دليله {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} [محمد: 13] يعني مكة. ومعناه: هم أهلها بإخراجه، فلهذا أضاف إليها وقال: {أَخْرَجَتْكَ} [محمد: 13]".

هم تسبَّبوا، هم تسبَّبوا في خروجه -عليه الصلاة والسلام- وإن لم يباشروا ذلك؛ لأنهم لو باشروا ذلك ما أمهلوا، لكنهم تسبَّبوا في خروجه، فخرج -عليه الصلاة والسلام- بأمر الله -جلَّ وعلا-.

"معناه: هم أهلها بإخراجه، فلهذا أضاف إليها وقال: {أَخْرَجَتْكَ} [محمد: 13]، وقيل: هَمَّ الكفار كلهم أن يستخفوه من أرض العرب بتظاهرهم عليه فمنعه الله، ولو أخرجوه من أرض العرب لم يمهلوا، وهو معنى قوله: {وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 76]، وقرأ عطاء ابن أبي رباح: (لا يلبّثون) [الإسراء: 76] الباء مشددة، (خلفك) [الإسراء: 76] وقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر وأبو عمرو، ومعناه بعدك، وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي {خِلافَكَ} [الإسراء: 76] واختاره أبو حاتم، اعتبارًا بقوله: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 81]، ومعناه أيضًا بعدك، قال الشاعر:

عفت الديار خلافهم فكأنما
 

 

بسط الشواطب بينهن حصيرا
 

بسط البواسط، في الماوردي، يقال: شطبت المرأة الجريد إذا شقته لتعمل منه الحصر".

الشواطب أم الشواطئ؟

طالب: الشواطب.

خلِّنا من البيت، لكن الكلام الذي بعده؟

طالب: بسط البواسط.

البواسط؟

طالب: في الماوردي، يقال: شطبت المرأة.

نعم.

"في الماوردي، يقال: شطبت المرأة الجريد إذا شقته لتعمل منه الحصر، قال أبو عبيد: ثم تلقيه الشاطبة إلى المنقية.

وقيل: (خلفك) [الإسراء: 76] بمعنى بعدك، و{خِلافَكَ} [الإسراء: 76] بمعنى مخالفتك، ذكره ابن الأنباري، {إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 76] فيه وجهان: أحدهما: أن المدة التي لبثوها بعده ما بين إخراجهم له إلى قتلهم يوم بدر، وهذا قول من ذكر أنهم قريش. الثاني: ما بين ذلك وقتل بني قريظة وجلاء بنى النضير، وهذا قول من ذكر أنهم اليهود.

قوله -تعالى-: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً} [الإسراء: 77]، أي يعذبون كسنة من قد أرسلنا، فهو نصب بإضمار يعذبون، فلما سقط الخافض عمل الفعل، قاله الفراء، وقيل: انتصب على معنى سننا سنة من قد أرسلنا، وقيل: هو منصوب على تقدير حذف الكاف، والتقدير لا يلبثون خلفك إلا قليلًا كسنة من قد أرسلنا، فلا يوقف على هذا التقدير على قوله: {إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 76] ويوقف على الأول والثاني.

{قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا} [الإسراء: 77] وقف حسن، {وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 77] أي لا خلف في وعدها".

وقيل: هو منصوب على تقدير حذف الكاف، يعني على نزع الخافض، سنةَ، والأصل: كسنة، فلا يوقف على هذا التقدير على قوله: {إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 76]، يعني {لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 76]، أي: سنة، ما يوقف على {إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 76]، لكن على التقدير الأول والثاني يوقف عليها.

طويل الكلام على الآية؟

طالب: ..........

باقٍ نصف الآن؟

طالب: ..........

خمس صفحات.

طالب: ..........

نعم.

"قوله -تعالى-: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً} [الإسراء: 78]، فيه سبع مسائل:

الأولى: قوله -تعالى-: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] لما ذكر مكايد المشركين أمر نبيه -عليه السلام- بالصبر والمحافظة على الصلاة، وفيها طلب النصر على الأعداء. ومثله {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 97-98]".

يعني الزم، الزم الصلاة والذكر، من أعظم أنواع وأبواب الصبر لزوم الصلاة والذكر أيضًا، بهذا يحصل النصر على الأعداء، ويحصل الانتصار -انتصار النفس على الشيطان-، ومراغمة الشيطان.

"وتقدم القول في معنى إقامة الصلاة في أول سورة البقرة".

إقامتها الإتيان بها على الوجه المأمور به، باكتمال شروطها وأركانها وواجباتها، هذه إقامتها.

"وهذا الآية بإجماع من المفسرين إشارة إلى الصلوات المفروضة. واختلف العلماء في الدلوك على قولين: أحدهما: أنه زوال الشمس عن كبد السماء، قاله عمر وابنه وأبو هريرة وابن عباس وطائفة سواهم من علماء التابعين وغيرهم".

هو قول الأكثر أن الدلوك هو الزوال، ذكر الزمخشري أن سبب التسمية -تسمية الدلوك، أو الزوال بالدلوك- يقول: لأن الناظر إلى الشمس في هذا الوقت -وقت الزوال- تؤلمه عينه، فيحتاج إلى دلكها، بخلاف القول الثاني -الذي هو وقت الغروب- ما تحتاج إلى دلك.

"الثاني: أن الدلوك هو الغروب، قاله على وابن مسعود وأبي بن كعب، وروي عن ابن عباس. قال الماوردي: من جعل الدلوك اسمًا لغروبها، فلأن الإنسان يدلك عينيه براحته؛ لتبينها حالة المغيب".

لا تحتاج إلى دلك في مثل هذا الوقت، في مثل هذا الوقت لا تحتاج إلى دلك؛ لأن المغيب واضح، وهادئ أيضًا لا يحتاج إلى دلك العين بخلاف الزوال.

"ومن جعله اسمًا لزوالها، فلأنه يدلك عينيه لشدة شعاعها.

وقال أبو عبيد: دلوكها غروبها. ودلكت براح يعني الشمس، أي غابت، وأنشد قطرب:

هذا مقام قدمي رباح
 

 

ذبب حتى دلكت براح
 

براح بفتح الباء على وزن حزام وقطام ورقاس".

ورقاش.

ورَقاش، اسم من أسماء الشمس".

براح اسم من أسماء الشمس، وهو مبني على كسر آخره مثل حزام وقطام.

"على وزن حزام وقطام ورَقاش اسم من أسماء الشمس".

طالب: ..........

ماذا فيه؟ حزام، حزام بالزاي، ماذا عندك؟

طالب: ..........

لا، حزام وقطام معروفة.

"ورواه الفراء بكسر الباء وهو جمع راحة وهى الكف، أي غابت وهو ينظر إليها وقد جعل كفه على حاجبه، ومنه قوله العجاج:

والشمس قد كادت تكون دنفًا
 

 

أدفعها بالراح كي تزحلفا
 

قال ابن الاعرابي: الزحلوفة مكان منحدر أملس؛ لأنهم يتزحلفون فيه".

طالب: ما الزحلوقة يا شيخ، يتزحلقون فيه؟

نفسها، نفسها.

"لأنهم يتزحلفون فيه، قال: والزحلفة كالدحرجة والدفع، يقال: زحلفته فتزحلف. ويقال: دلكت الشمس إذا غابت. قال ذو الرمة:

مصابيح ليست باللواتي تقودها
 

 

نجوم ولا بالآفلات الدوالك
 

قال ابن عطية: الدلوك هو الميل- في اللغة- فأول الدلوك هو الزوال وآخره هو الغروب. ومن وقت الزوال إلى الغروب يُسمى دلوكًا؛ لأنها في حالة ميل".

ميل إلى جهة المغرب.

"فذكر الله -تعالى- الصلوات التي تكون في حالة الدلوك وعنده، فيدخل في ذلك الظهر والعصر والمغرب، ويصح أن تكون المغرب داخلة في غسق الليل. وقد ذهب قوم إلى أن صلاة الظهر يتمادى وقتها من الزوال إلى الغروب؛ لأنه الله -سبحانه- علَّق وجوبها على الدلوك، وهذا دلوك كله، قاله الأوزاعي وأبو حنيفة في تفصيل. وأشار إليه مالك والشافعي في حالة الضرورة".

لأن وقت صلاتي الظهر والعصر كالوقت الواحد في حال الضرورة، في حال الترخص، إذا وُجد سببه، ولذا تُؤمر الحائض إذا طهرت قبل غروب الشمس أن تصلي الظهر والعصر؛ لأن الوقتين كالوقت الواحد حكمًا.

"الثانية: قوله -تعالى-: {إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] روى مالك عن ابن عباس قال: دلوك الشمس ميلها، وغسق الليل اجتماع الليل وظلمته.

وقال أبو عبيدة: الغسق سواد الليل. قال ابن قيس الرقيات:

إن هذا الليل قد غسقا
 

 

واشتكيت الهم والأرقا
 

وقد قيل: غسق الليل مغيب الشفق.

وقيل: إقبال ظلمته. قال زهير:

ظلت تجود يدها وهي لاهية
 

 

حتى إذا جنح الإظلام والغسق
 

يقال: غسق الليل غسوقًا. والغسق اسم بفتح السين. وأصل الكلمة من السيلان، يقال: غسقت العين إذا سالت، تغسق. وغسق الجرح غسقانًا، أي سال منه ماء أصفر. وأغسق المؤذن، أي أخَّر المغرب إلى غسق الليل. وحكى الفراء: غسق الليل وأغسق، وظلم أظلم، ودجا وأدجى، وغبس وأغبس، وغبش وأغبش".

هذه الصيغة أغسق وأظلم وأغبس وأغبش كلها تدل على الدخول فيه، أغسق دخل في الغسق، أظلم دخل في الظلام، أدجى وهكذا، كما يقال: أنجد وأتهم، إذا دخل نجدًا أو دخل تهامة.

"وكان الربيع بن خثيم يقول لمؤذنه في يوم غيم: أغسق أغسق. يقول: أخر المغرب حتى يغسق الليل، وهو إظلامه".

لئلا تطلع عليهم الشمس، في يوم غيم يُخشى أن تطلع الشمس، فيتأكدون، لا يُؤذن لصلاة المغرب؛ لئلا تقع الصلاة في غير وقتها، كما حصل في عصره -عليه الصلاة والسلام- في يوم غيم أفطروا، ثم طلعت عليهم الشمس.

"الثالثة: اختلف العلماء في آخر وقت المغرب، فقيل: وقتها وقت واحد لا وقت لها إلا حين تحجب الشمس، وذلك بيّن في إمامة جبريل".

لأنه صلاها في اليومين الأول والثاني في وقت واحد حين غابت الشمس، ولم يؤخرها في اليوم الثاني كغيرها من الصلوات إلى قبيل غروب الشفق، يدل على أن وقتها واحد، صلاها في اليوم الثاني في الوقت الذي صلاها فيه في اليوم الأول، فدلَّ على أنه ليس لها إلا هذا الوقت، لكن في حديث عبد الله بن عمرو في الصحيح: «ووقت صلاة المغرب من مغيب الشمس إلى مغيب الشفق».

"وذلك بيّن في إمامة جبريل، فإنه صلاها باليومين لوقت واحد، وذلك غروب الشمس، وهو الظاهر من مذهب مالك عند أصحابه. وهو أحد قولي الشافعي في المشهور عنه أيضًا، وبه قال الثوري.

وقال مالك في الموطأ: فإذا غاب الشفق فقد خرجت من وقت المغرب، ودخل وقت العشاء. وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن حي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود؛ لأن وقت الغروب إلى الشفق غسق كله. ولحديث أبى موسى، وفيه: أن النبي- صلى الله عليه وسلم-".

لما سئل عن أوقات الصلاة -عليه الصلاة والسلام-، صلى في اليوم الأول في أوائل الأوقات، وفي اليوم الثاني في أواخر الأوقات، وقال: «أين السائل؟ الوقت بين هذين الوقتين».

"وفيه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى بالسائل المغرب في اليوم الثاني، فأخَّر حتى كان سقوط الشفق. خرَّجه مسلم. قالوا: وهذا أولى من أخبار إمامة جبريل؛ لأنه متأخر بالمدنية، وإمامة جبريل بمكة، والمتأخر أولى من فعله وأمره؛ لأنه ناسخ لما قبله. وزعم ابن العربي أن هذا القول هو المشهور من مذهب مالك، وقوله في موطئه الذي أقرأَه طول عمره وأملاه في حياته".

هذا هو المعروف عند المالكية، إنما كون المغرب ليس لها إلا وقت واحد هذا معروف عند الشافعية، والجمهور على أن لها وقتين.

"والنكتة في هذا أن الأحكام المتعلقة بالأسماء هل تتعلق بأوائلها أو بآخرها أو يرتبط الحكم بجميعها؟

والأقوى في النظر أن يرتبط الحكم بأوائلها؛ لئلا يكون ذكرها لغوًا، فإذا ارتبط بأوائلها جرى بعد ذلك النظر في تعلُّقه بالكل إلى الآخر.

 قلت: القول بالتوسعة أرجح. وقد خرَّج الإمام الحافظ أبو محمد عبد الغنى بن سعيد من حديث الأجلح بن عبد الله الكندي، عن أبى الزبير، عن جابر، قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة قريبًا من غروب الشمس، فلم يصلِّ المغرب حتى أتى سرف، وذلك تسعة أميال. وأما القول بالنسخ فليس بالبين، وإن كان التاريخ معلومًا، فإن الجمع ممكن. قال علماؤنا: تحمل أحاديث جبريل على الأفضلية في وقت المغرب".

الأفضل في صلاة المغرب أن يُبادَر بها، أن يبادَر بها بخلاف العشاء.

"ولذلك اتفقت الأمة فيها على تعجيلها، والمبادرة إليها في حين غروب الشمس. قال ابن خويز منداد: ولا نعلم أحدًا من المسلمين تأخَّر بإقامة المغرب في مسجد جماعة عن وقت غروب الشمس".

وهذا خلاف المبتدعة الذين يؤخِّرون صلاة المغرب، ويؤخِّرون الإفطار مخالفة للسنة في الموضعين حتى تشتبك النجوم.

"وأحاديث التوسعة تبيِّن وقت الجواز، فيرتفع التعارض ويصح الجمع، وهو أولى من الترجيح باتفاق الأصوليين؛ لأن فيه إعمال كل واحد من الدليلين، والقول بالنسخ أو الترجيح فيه إسقاط أحدهما.

والله أعلم.

الرابعة: قوله -تعالى-: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] انتصب {قُرْآنَ} [الإسراء: 78] من وجهين: أحدهما أن يكون معطوفًا على الصلاة، المعنى: وأقم قرآن الفجر أي صلاة الصبح، قاله الفراء".

أطلق على صلاة الصبح قرآن؛ لأنه أطول أركانها، وجاء في حديث عائشة القصر إلا الصبح فإنها تطول فيها القراءة، القراءة أطول أفعالها وأذكارها، فأطلقت عليها من باب إطلاق البعض وإرادة الكل.

"وقال أهل البصرة: انتصب على الإغراء، أي فعليك بقرآن الفجر، قاله الزجاج. وعبر عنها بالقرآن خاصة دون غيرها من الصلوات؛ لأن القرآن هو أعظمها، إذ قراءتها طويلة مجهور بها حسبما هو مشهور مسطور، عن الزجاج أيضًا.

قلت: وقد استقر عمل المدينة على استحباب إطالة القراءة في الصبح قدرًا لا يضر بمن خلفه- يقرأ فيها بطوال المفصل، ويليها في ذلك الظهر والجمعة-، وتخفيف القراءة في المغرب، وتوسطها في العصر والعشاء. وقد قيل في العصر: إنها تخفف كالمغرب. وأما ما ورد في صحيح مسلم وغيره من الإطالة فيما استقر فيه التقصير، أو من التقصير فيما استقرت فيه الإطالة، كقراءته في الفجر المعوذتين".

لبيان الجواز، تُطال صلاة المغرب لبيان الجواز، تُقصر صلاة الفجر لبيان الجواز، وإن كان الأفضل في غالب الأحوال ما ذُكر.

" كقراءته في الفجر المعوذتين -كما رواه النسائي-، وكقراءة الأعراف والمرسلات والطور في المغرب، فمتروك بالعمل، ولإنكاره على معاذ التطويل حين أم قومه في العشاء فافتتح سورة البقرة. خرجه الصحيح. وبأمره الأئمة بالتخفيف فقال: «أيها الناس إن منكم منفرين، فأيكم أم الناس فليخفف، فإن فيهم الصغير والكبير والمريض والسقيم والضعيف وذا الحاجة». وقال: «فإذا صلى أحدكم وحده فليطول ما شاء الله»، كله مسطور في صحيح الحديث".

طالب: ..........

يقول: إن -على كلامه- إن هذا اتفقت الأمة على ترك العمل به، تواطأت الأمة على ترك العمل به، فلا يجوز للإمام أن يقرأ الأعراف في المغرب؛ لأن قراءة الأعراف في سورة المغرب تنفير، كما حصل من معاذ، فالأمة لم تعمل بهذا، وهناك أحاديث صحيحة اتفقت الأمة على عدم العمل بها؛ لوجود ناسخ ولو لم نطلع عليه، لكن كون الشيء يُفعل أحيانًا لا يعني أنه منسوخ، أو أن القاعدة المطردة تقضي على هذا الشيء اليسير، النبي -عليه الصلاة والسلام- فعل مثل ذلك؛ لبيان الجواز، فإذا وُجد جماعة يطيقون الصلاة بالأعراف، وليس فيهم ذو حاجة ولا مريض ولا صغير ولا ضعيف، فما المانع أن تطبق هذه السنة؟ هم المالكية عندهم عمل أهل المدينة، لم يعمل بها أحد من أهل المدينة على مر العصور، إذًا نترك العمل.

طالب: ..........

في الصحيح هذه، في صحيح البخاري، في البخاري ومسلم حديث جبير بن مطعم قرأ في المغرب بالطور، وقرأ المرسلات، وقرأ الأعراف، وقرأ {إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة: 1] في الركعتين في الفجر.

 على كل حال مخالفة القاعدة المطردة لبيان الجواز.

طالب: ..........

نهاية وقت صلاة العشاء؟

طالب: ..........

المسألة خلافية بين أهل العلم، الأكثر على أنه يمتد إلى طلوع الفجر، حديث: «ليس في النوم تفريط، إنما التفريط فيمن يؤخر الصلاة إلى وقت صلاة أخرى»، لكن هذا العموم مخصوص بصلاة الصبح والإجماع، لا يمتد وقت صلاة الصبح إلى وقت الظهر اتفاقًا، ونقول: هو مخصوص بصلاة العشاء بحديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم، «ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط»، يعني إلى منتصف الليل، فينتهي وقت صلاة العشاء بنصف الليل، بدلالة حديث عبد الله بن عمرو الصريح، الحديث في الصحيح.

الخامسة: قوله -تعالى-: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] دليل على أن لا صلاة إلا بقراءة؛ لأنه سمى الصلاة قرآنًا. وقد اختلف العلماء في القراءة في الصلاة".

نقف على هذا، الوقت تأخر، باقي لنا أقل من ربع.