التعليق على تفسير القرطبي - سورة هود (13)

بَيَّنَ أَنَّهُ أَتْبَعَ النَّبِيَّ النَّبِيَّ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَإِزَاحَةِ كُلِّ عِلَّةٍ بِآيَاتِنَا أَيْ بِالتَّوْرَاةِ. وَقِيلَ: بِالْمُعْجِزَاتِ.

"وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ" أَيْ حُجَّةٍ بَيِّنَةٍ؛ يَعْنِي الْعَصَا. وَقَدْ مَضَى فِي "آلِ عِمْرَانَ" مَعْنَى السُّلْطَانِ وَاشْتِقَاقُهُ فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ. {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ}[هود: 97]".

الآن أتبع النبي بالنبي، فهل موسى أُتبع شعيبا؟ القصة السابقة قصة شعيب {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} [هود: 96]، يقول: إنه أتبع النبي النبي لإقامة الحجة، فهل أتبع موسى شُعيبًا؟ نعم

طالب: ............

أليس النبي السابق شعيب قصة شعيب مع قومه؟

طالب: .............

نعم، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} [هود: 96] أو نقول: هذه "الواو" لمطلق الجمع، ولا تقتضي ترتيبا، ولا تعقيبا؟ يعني بين موسى وشعيب أحد أم ما بينهم أحد؟

الأكثر على أن موسى بينه وبين شعيب مفاوز كثيرة؛ لأن شعيبًا من المتقدمين، وليس هو صاحب موسى، على ما تقرر في الدرس الماضي.

"{إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} [هود: 97] أَيْ شَأْنَهُ وَحَالَهُ، حَتَّى اتَّخَذُوهُ إِلَهًا، وَخَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى.

 {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] أَيْ بِسَدِيدٍ يُؤَدِّي إِلَى صَوَابٍ: وَقِيلَ: "بِرَشِيدٍ" أَيْ بِمُرْشِدٍ إِلَى خَيْرٍ".

"أمره" إذا كان أمره ليس برشيد، فمن باب أولى أن يكون ليس برشيدٍ هو، ولا شك أن من يدعو الناس إلى عبادته في غاية السفه، بعيد كل البعد عن الرشد.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [هود: 98] يَعْنِي أَنَّهُ يَتَقَدَّمُهُمْ إِلَى النَّارِ إِذْ هُوَ رَئِيسُهُمْ. يُقَالُ: قَدمهُمْ"؟

قَدَمَهُم.

"قْدَمَهُمْ قَدْمًا وَقُدُومًا إِذَا تَقَدَّمَهُمْ. {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود: 98] أَيْ أَدْخَلَهُمْ فِيهَا. ذُكِرَ بِلَفْظِ الْمَاضِي، وَالْمَعْنَى فَيُورِدُهُمُ النَّار، وَمَا تَحَقَّقَ وُجُودُهُ فَكَأَنَّهُ كَائِنٌ؛ فَلِهَذَا يُعَبَّرُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِالْمَاضِي".

المستقبل إذا كان متحقق الوقوع يعبر عنه بالماضي، كما في قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] هو ما أتى بعد، لكن سيأتي، لكن نظرًا لتحقق وقوعه عبر عنه بالماضي.

وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ" أَيْ بِئْسَ الْمَدْخَلُ الْمَدْخُولُ، وَلَمْ يَقُلْ: بِئْسَتْ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ يَرْجِعُ إِلَى الْمَوْرُودِ، وَهُوَ كَمَا تَقُولُ: نِعْمَ الْمَنْزِلُ دَارُكَ، وَنِعْمَتِ الْمَنْزِلُ دَارُكَ. وَالْمَوْرُودُ الْمَاءُ الَّذِي يُورَدُ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يُورَدُ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ.

"المورد" المكان الذي يورد، كما تورد الإبل الماء هؤلاء يوردون النار، نسأل الله العافية، والورد معروف يرد الماء ليشرب، وهنا يوردون النار ليعذبوا، نسأل الله العافية.

ولم يقل: بئست قال: بئس لماذا؟ الورد مؤنث أم مذكر؟ قال: لأنه أراد المورود "المورود" مذكر الذي هو اللفظ، لفظ المورود مذكر، وإنك كان المراد به مؤنثا وهو "النار"، نسأل الله العافية، فذكَّر إتباعًا للفظ.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً} [هود: 99] أَيْ فِي الدُّنْيَا. "وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ" أَيْ وَلَعْنَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى. بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ" حَكَى الْكِسَائِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: رَفَدْتُهُ أَرْفِدُهُ رَفْدًا؛ أَيْ أَعَنْتُهُ وَأَعْطَيْتُهُ. وَاسْمُ الْعَطِيَّةِ الرِّفْدُ، أَيْ بِئْسَ الْعَطَاءُ وَالْإِعَانَةُ.

ومازال المعنى مستعملًا، اللفظ لهذا المعنى مستعمل، العطية تسمى رفدًا، الذي يذهب يسأل الناس لحاجته، إما بسبب ديةٍ أو جائحة أو ما أشبه ذلك، يقال: ذهب فلان يسترفد أي يطلب "الرفد"، وهو العطية والإعانة.

وَالرِّفْدُ أَيْضًا الْقَدَحُ الضَّخْمُ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَالتَّقْدِيرُ: بِئْسَ الرِّفْدُ رِفْدُ الْمَرْفُودِ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَنَّ الرَّفْدَ بِفَتْحِ الرَّاءِ الْقَدَحُ، وَالرِّفْدِ بِكَسْرِهَا مَا فِي الْقَدَحِ مِنَ الشَّرَابِ، حُكِيَ ذَلِكَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ، فَكَأَنَّهُ ذَمَّ بِذَلِكَ مَا يَسْقُونَهُ فِي النَّارِ. وَقِيلَ: إِنَّ الرِّفْدَ الزِّيَادَةُ، أَيْ بِئْسَ مَا يَرْفِدُونَ بِهِ بَعْدَ الْغَرَقِ النَّارُ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ.

يسمى ما في القدح من طعامٍ وشراب "رفدًا"، وأيضًا هذا فيه قريب مما يستعمل إذا كان الطعام قليلا مثلًا يقال: خذ هذه الحاجة ارفد بها طعامك، ما أكل أكلًا كالمعتاد فيرفده، فإذا كان الغداة خفيفًا لصار العصر كالمكسرات ترفده مثلًا، يستعملون هذا، نسأل الله العافية.

 فهذا العذاب، وهذه النار لهم رفد، إذا كان هذا الرِّفد إيرادهم النار، نسأل الله العافية، {غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46]، فكيف بطعامهم الأصلي؟ نسأل الله السلامة والعافية.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} [هود: 100] "ذَلِكَ" رُفِعَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيِ الْأَمْرُ ذَلِكَ. وَإِنْ شِئْتَ بِالِابْتِدَاءِ؛ وَالْمَعْنَى: ذَلِكَ النَّبَأُ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ.

{مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} [هود: 100] قَالَه قَتَادَةُ"..

قال قتادة.

 "قَالَ قَتَادَةُ: الْقَائِمُ مَا كَانَ خَاوِيًا عَلَى عُرُوشِهِ، وَالْحَصِيدُ مَا لَا أَثَرَ لَهُ. وَقِيلَ: الْقَائِمُ"..

قائم، قائم، إذا مررتم على القرى المهجورة منها ما هو قائم البيوت قائمة ما تهدمت، لكن هجرت تركت، عمل الناس بيوتًا جديدة، وخرجوا وتركوها، ومنها ما هو حصيد، الطين إذا تتابع عليه المطر وهجر يسقط، ثم يصير حصيدًا كأنه نبات محصود لا وجود له.

 "وَقِيلَ: الْقَائِمُ الْعَامِرُ، وَالْحَصِيدُ الْخَرَابُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قَائِمٌ أو قَائِم خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، وَحَصِيدٌ مُسْتَأْصَلٌ، يَعْنِي مَحْصُودًا كَالزَّرْعِ إِذَا حُصِدَ؛ قَالَ الشَّاعِرُ".

يعني خاويًا على عروشه يعني "ساقطة"، وحصيد: لا أثر لها، تمرون بالبراري والقفار وكأنها ما سكنت قبل ذلك، فهذه حصيد مستأصلة لا أثر للعمارة فيها، وبعض البقاع العمارة لها أثر، وإن كانت ليست قائمة.

 "قَالَ الشَّاعِرُ:

وَالنَّاسُ فِي قَسْمِ الْمَنِيَّةِ بَيْنَهُمْ

 

كَالزَّرْعِ مِنْهُ قَائِمٌ وَحَصِيدُ

وَقَالَ آخَرُ:

إِنَّمَا نَحْنُ مِثْلُ خَامَةِ زَرْعٍ

 

فَمَتَى يَأْنِ يَأْتِ مُحْتَصِدُهْ"

معروف خامة الزرع، وقد مُثِّل بها المؤمن بالحديث، المؤمن لكثرة ما ينتابه من المصائب والأمراض مثل خامة الزرع تكفكفه الرياح في يومٍ مريض، ويومٍ مصاب، ويومٍ سليم، وهكذا، والحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- شرح هذا الحديث في رسالة مفردة في شرحٍ طيب- رحمه الله- كعادته.

"قَالَ الْأَخْفَشُ سَعِيدٌ: حَصِيدٌ أَيْ مَحْصُودٌ"

يحتاج أن يقول: سعيد؟ الأخفش إذا أطلق فالمراد به سعيد، سعيد بن مسعدة المجاشعي الأوسط، وإن كان الأخافش (ثلاثة عشر) أو أكثر من ذلك على ما قاله بعضهم، لكن هو إذا أطلق فالمراد به الأوسط.

 "وَجَمْعُهُ حَصْدَى وَحِصَادٌ مِثْلَ مَرْضَى وَمِرَاضٍ؛ قَالَ: يَكُونُ فِيمَنْ يَعْقِلُ حَصْدَى، مِثْلِ قَتِيلِ وَقَتْلَى.

{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} [هود: 101] أَصْلُ الظُّلْمِ فِي اللُّغَةِ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي "الْبَقَرَةِ" مُسْتَوْفًى".

الله سبحانه وتعالى لا يظلم، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ} [فصلت: 46] «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي»، فالظلم لا يقع منه سبحانه وتعالى، وإن كان مقدورًا له، فما يفعله في عبده من خيرٍ أو شر ليس بظلم؛ لأن حقيقة الظلم التصرف في ملك الغير، وجميع الأشياء ملك لله سبحانه وتعالى يتصرف فيها حيثُ يشاء، ومع ذلكم هو لا يظلم، لا يؤاخذ أحدًا بجريرة غيره. ومنهم من يقول: إن الظلم حرم عليه؛ لامتناعه، إذ ليس بمقدور له، وهذا كلام إذا كان الشيء غير مقدور فلا مدح فيه، فلا يمدح الله سبحانه وتعالى بعدم الظلم؛ لأنه لا يستطيعه، {تعالى الله عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 43]، هو يستطيع، لكن حرم الظلم على نفسه، وأوجب العدل تكرمًا منه، ولا يجب عليه شيء كما تقوله المعتزلة: بل يجب عليه فعل الأصلح، لا، لا يجب على الله سبحانه وتعالى إلا ما أوجبه على نفسه، ولا يحرم عليه شيء إلا ما حرمه على نفسه.

"{وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [هود: 101] بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ يُقَالُ: ظَلَمَ إِيَّاهُ {فَمَا أَغْنَتْ}[هود: 101] أَيْ دَفَعَتْ.

{عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [هود: 101] فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ، أَيْ يَدْعُونَ.

 { لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101] أَيْ غَيْرَ تَخْسِيرٍ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ. وَقَالَ لَبِيَدٌ:

فَلَقَدْ بَلِيتُ وَكُلُّ صَاحِبِ جِدَّةٍ

 

لِبِلًى يَعُودُ وَذَاكُمُ التَّتْبِيبُ"

كل جديد سوف يعود خلقًا إلا الليل والنهار، ولذا يقال لهمًا: "الجديدان" من وجود هذه الدنيا والليل والنهار موجودان، لكن الليل هو الليل بظلامه، والنهار هو النهار بضيائه هما الجديدان، وما عداهما يبلى ويخلق، والله المستعان.

"وَالتَّبَابُ الْهَلَاكُ وَالْخُسْرَانُ؛ وَفِيهِ إِضْمَارٌ؛ أَيْ مَا زَادَتْهُمْ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ؛ أَيْ كَانَتْ عِبَادَتُهُمْ إِيَّاهَا قَدْ خَسَّرَتْهُمْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى} [هود: 102] أَيْ كَمَا أَخَذَ هَذِهِ الْقُرَى الَّتِي كَانَتْ لِنُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ يَأْخُذُ جَمِيعَ الْقُرَى الظَّالِمَةِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ "وَكَذَلِكَ أَخَذَ رَبُّكَ إِذْ أَخَذَ الْقُرَى" وَعَنِ الْجَحْدَرِيِّ أَيْضًا: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ} [هود: 102] كَالْجَمَاعَةِ، "إِذْ أَخَذَ الْقُرَى". قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: مَنْ قَرَأ: "وَكَذَلِكَ".

 {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ} إذا أخذ ربُك يعني فيما مضى؛ لأن "إذا" للمستقبل، قراءة الجماعة "إذا أخذ"، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى}، وهذه القراءة من عاصم وطلحة بن مصرف "كذلك أَخَذَ ربك" التي سبق الحديث عنها، إذ أخذ القرى فيما مضى، الجحدري يقرأ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ} [هود: 102] مثل قراءة الجماعة، إذ أخذ، هذا الفرق بين قراءته، وبين قراءة الجماعة بدلًا من "إذا" أي "إذ"؛ لأن الفرق بين "إذا" و "إذ"، أن "إذا" للمستقبل، و "إذ" للماضي. والأخذ بالنسبة لما ذكر في هذه الصورة لا شك أنه في الماضي، فالمناسب "إذ"، لكن ما الذي يمنع أن تستعمل إذا لاسيما إذا أُريد بذلك التخويف؟ وهو أن الله سبحانه وتعالى كما أُخذ الأمم السابقة المتقدمة فيما مضى هو قادرٌ سبحانه وتعالى على أن يأخذ القرى وأهلها اللاحقن إذا أخذهم في المستقبل، الحديث عن الأمم السابقة، ولا فائدة للحديث عن الأمم السابقة إلا ليعتبر اللاحقون، "مضى القوم ولم يرد به سوانا" وفي آخر سورة يوسف: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ...} [يوسف: 111].

طالب: .........

نعم.

طالب: ...........

المقصود به: الإفادة والاستفادة، يستفيد الإنسان ويعتبر، ويدكر، ويتعظ من أحوال الماضين، فقراءة الجماعة في "إذا" وهي للاستقبال يُستفادُ منها التهديد لمن يسلك مسالك المتقدمين يكذب الرسل أن مصيره مصيرهم، وأنه سوف يؤخذ في المستقبل.

 

 "قال المهدوي: من قرأ {وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذْ أَخَذَ} فَهُوَ إِخْبَارٌ عَمَّا جَاءَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي إِهْلَاكِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ، وَالْمَعْنَى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ مَنْ أَخَذَهُ مِنَ الْأُمَمِ الْمُهْلَكَةِ إِذْ أَخَذَهُمْ. وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَالْمَعْنَى: كَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ مَنْ أَرَادَ إِهْلَاكَهُ مَتَى أَخَذَهُ، فَإِذْ لِمَا مَضَى، أَيْ حِينَ أَخَذَ الْقُرَى، وَإِذَا لِلْمُسْتَقْبَلِ، {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود: 102] أَيْ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ مِثْلُ: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ".

{وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود: 102] القرية تظلم؟ "القرى" جمع قرية، المراد ظلم أهلها، لكن ما المانع أن تطلق القرية على من فيها من الجمادات، والحيوانات، والناس أيضًا؟ وهنا يستقيم الكلام، أخذ القرية بما فيها من عاقل وغيره، مثل واسأل القرية، اسأل القرية. المراد بـ"القرية": جميع من فيها، فما كان من عاقل فسوف يخبرك وينبئك بمقاله، وما كان من غير عاقل فسوف يرد عليك بلسان حاله، كما خاطب علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- أهل القبور، وأخبرهم بما حصل بعدهم في أهليهم، وأن أموالهم قسمت، وأن زوجاتهم تزوجت، وما أشبه ذلك، قال: هذا ما عندنا فما عندكم؟ يسألهم، والجواب يكون ويقع في مثل هذه الحالة، وإن لم يكن بلسان المقال، فإنه أُجيب –رضي الله عنه-، وذكر الجواب لمن حوله بلسان الحال.

"{إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] أَيْ عُقُوبَتَهُ لِأَهْلِ الشِّرْكِ مُوجِعَةٌ غَلِيظَةٌ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ»، ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى} [هود: 102] الْآيَةَ. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ".

نعم وهو في مسلم.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} [هود: 103] أَيْ لَعِبْرَةً وَمَوْعِظَةً، {لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ} [هود: 103] ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ.

"مَجْمُوعٌ مِنْ نَعْتِهِ".

من نعته، من نعته اليوم.

"لَهُ النَّاسُ" اسْمُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ".

نعت حقيقي أم سببي؟

طالب: سببي.

 نعم، اليوم مجموع، أم المجموع الناس؟

طالب: الناس.

إذًا النعت ليس بإيش؟

طالب: حقيقيّ.

حقيقيّ، وإنما هو نعت سببي، وتقول: جاء زيدٌ القائم أبوه، زيد قائم؟ ما قام، لكن لو قلت: جاء زيدُ القائم خلاص النعت له، لكن لما تقول: جاء زيدٌ القائم أبوه صار نعتًا سببيًّا.

"لَهُ النَّاسُ" اسْمُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ مَجْمُوعُونَ، فَإِنْ قَدَّرْتَ ارْتِفَاعَ النَّاسِ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرَ".

اسمٌ لما لم يُسم فاعله، أين العامل في "الناس"؟

طالب: مجهول.

نعم.

طالب: مجهول.

اسم المفعول، واسم الفاعل أيضًا، والمصدر يعمل عمل؟

طالب: فعله.

فعله، اسم الفاعل يعمل عمل الفعل المبني للمعلوم، واسم المفعول يعمل عمل الفعل المبني للمجهول.

 "فَإِنْ قَدَّرْتَ ارْتِفَاعَ النَّاسِ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرَ {مَجْمُوعٌ لَهُ} [هود: 103] فَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: مَجْمُوعُونَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ؛ لِأَنَّ "لَهُ" يَقُومُ مَقَامَ الْفَاعِلِ".

يعني الجار والمجرور متعلق بمحذوف نائب فاعل، لاسم المفعول، ويبقى الناس لا عامل فيه إلا الابتداء.

 "وَالْجَمْعُ الْحَشْرُ، أَيْ يُحْشَرُونَ لِذَلِكَ الْيَوْمِ {وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود: 103] أَيْ يَشْهَدُهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَيَشْهَدُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَيْنَ الِاسْمَيْنِ مَعَ غَيْرِهِمَا مِنْ أَسْمَاءِ الْقِيَامَةِ فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ، وَبَيَّنَّاهُمَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ".

التذكرة في أحوال الآخرة موضوع متداول للقرطبي.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ} [هود: 104] أَيْ مَا نُؤَخِّرُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، {إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} [هود: 104] أَيْ لِأَجَلٍ سَبَقَ بِهِ قَضَاؤُنَا، وَهُوَ مَعْدُودٌ عِنْدَنَا".

نعم محسوب لا يتقدم، ولا يتأخر، أجله محدد.

"يَوْمَ يَأْتِي وَقُرِئَ {يَوْمَ يَأْتِ} [هود: 105]؛ لِأَنَّ الْيَاءَ تُحْذَفُ إِذَا كَانَ قَبْلَهَا كَسْرَةٌ؛ تَقُولُ: لَا أَدْرِ، ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ.

قَالَ النَّحَّاسُ: قَرَأَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْإِدْرَاجِ، وَحَذْفِهَا فِي الْوَقْفِ، وَرُوِيَ أَنَّ أُبَيًّا وَابْنَ مَسْعُودٍ قَرَآ "يَوْمَ يَأْتِي" بِالْيَاءِ فِي الْوَقْفِ وَالْوَصْلِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ "يَوْمَ يَأْتِ" بِغَيْرِ يَاءٍ فِي الْوَقْفِ وَالْوَصْلِ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: الْوَجْهُ فِي هَذَا أَلَّا يُوقَفَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُوصَلَ بِالْيَاءِ؛ لِأَنَّ جَمَاعَةً مِنَ النَّحْوِيِّينَ قَالُوا: لَا تُحْذَفُ الْيَاءُ، وَلَا يُجْزَمُ الشَّيْءُ بِغَيْرِ جَازِمٍ، فَأَمَّا الْوَقْفُ بِغَيْرِ يَاءٍ فَفِيهِ قَوْلٌ لِلْكِسَائِيِّ، قَالَ: لِأَنَّ الْفِعْلَ السَّالِمَ يُوقَفُ عَلَيْهِ كَالْمَجْزُومِ، فَحَذَفَ الْيَاءَ، كَمَا تُحْذَفُ الضَّمَّةُ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ حَمْزَةَ فَقَدِ احْتَجَّ أَبُو عُبَيْدٍ لِحَذْفِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ بِحُجَّتَيْنِ:

 إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ رَآهُ فِي الْإِمَامِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ إِنَّهُ مُصْحَفُ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بِغَيْرِ يَاءٍ.

وَالْحُجَّةُ الْأُخْرَى: أَنَّهُ حَكَى أَنَّهَا لُغَةُ هُذَيْلٍ، تَقُولُ: مَا أَدْرِ، قَالَ النَّحَّاسُ: أَمَّا حُجَّتُهُ بِمُصْحَفِ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَشَيْءٌ يَرُدُّهُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ؛ قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: سَأَلْتُ عَنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَقِيلَ لِي: ذَهَبَ، وَأَمَّا حُجَّتُهُ بِقَوْلِهِمْ: "مَا أَدْرِ" فَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَذْفَ قَدْ حَكَاهُ النَّحْوِيُّونَ الْقُدَمَاءُ، وَذَكَرُوا عِلَّتَهُ، وَأَنَّهُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ فِي حَذْفِ الْيَاءِ.

كَفَّاكَ كَفٌّ مَا تُلِيقُ دِرْهَمًا

 

جُودًا وَأُخْرَى تُعْطِ بِالسَّيْفِ الدَّمَا

أَيْ تُعْطِي.

وَقَدْ حَكَى سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلُ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ".

لكن هذا يقال: إن حذف الياء هنا للضرورة، ضرورة الشعر، لكن في النثر ما الداعي لها؟ الجزم بغير جازم.

"وَقَدْ حَكَى سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلُ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: لَا أَدْرِ، فَتَحْذِفُ الْيَاءَ وَتَجْتَزِئُ بِالْكَسْرَةِ، إِلَّا أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْأَجْوَدُ فِي النَّحْوِ إِثْبَاتُ الْيَاءِ، قَالَ: وَالَّذِي أَرَاهُ اتِّبَاعَ الْمُصْحَفِ وَإِجْمَاعَ الْقُرَّاءِ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ سُنَّةٌ، وَقَدْ جَاءَ مِثْلُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.

{لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [هود: 105] الْأَصْلُ تَتَكَلَّمُ، حُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا. وَفِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ لَا تَتَكَلَّمُ.."

لا لا، وفيه، تركت سطرًا؟

طالب: ............

سطر.

طالب: نعم.

وفيه.

"فِيهِ نَفْسٌ إِلَّا بِالْمَأْذُونِ فِيهِ مِنْ حُسْنِ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُمْ مُلْجَئُونَ"..

مُلْجَئُونَ

 "لِأَنَّهُمْ مُلْجَئُونَ ِلَى تَرْكِ الْقَبِيحِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تَكَلَّمُ بِحُجَّةٍ وَلَا شَفَاعَةٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ.

"وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تَكَلَّمُ بِحُجَّةٍ وَلَا شَفَاعَةٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ لَهُمْ فِي الْمَوْقِفِ وَقْتًا يُمْنَعُونَ فِيهِ مِنَ الْكَلَامِ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَكْثَرُ مَا يُسْأَلُ عَنْهَا أَهْلُ الْإِلْحَادِ فِي الدِّينِ فَيَقُولُ: لِمَ قَالَ".

يَسأَل.

"وَهَذِهِ الْآيَةُ أَكْثَرُ مَا يَسْأَلُ عَنْهَا أَهْلُ الْإِلْحَادِ فِي الدِّينِ فَيَقُولُ: لِمَ قَالَ: {لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [هود: 105] و{هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 35-36]. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ ذِكْرِ الْقِيَامَةِ: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27]. وَقَالَ: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل: 111]. وَقَالَ: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24]. وَقَالَ: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ}[الرحمن: 39]؟

 وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ بِحُجَّةٍ تَجِبُ لَهُمْ وَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ بِالْإِقْرَارِ بِذُنُوبِهِمْ، وَلَوْمِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَطَرْحِ بَعْضِهِمُ الذُّنُوبَ عَلَى بَعْضٍ؛ فَأَمَّا التَّكَلُّمُ وَالنُّطْقُ بِحُجَّةٍ لَهُمْ فَلَا، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ لِلَّذِي يُخَاطِبُكَ كَثِيرًا، وَخِطَابُهُ فَارِغٌ عَنِ الْحُجَّةِ: مَا تَكَلَّمْتَ بِشَيْءٍ، وَمَا نَطَقْتَ بِشَيْءٍ، فَسُمِّيَ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِلَا حُجَّةٍ فِيهِ لَهُ غَيْرَ مُتَكَلِّمٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: ذَلِكَ الْيَوْمُ طَوِيلٌ، وَلَهُ مَوَاطِنُ وَمَوَاقِفُ فِي بَعْضِهَا".

نعم هذا جواب ابن عباس، مواطن ومواقف، لا يتكلمون في بعض الموقف، ويتكلمون في مواطن أخرى.

 "يُمْنَعُونَ مِنَ الْكَلَامِ، وَفِي بَعْضِهَا يُطْلَقُ لَهُمُ الْكَلَامُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَتَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ.

{فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105] أَيْ مِنَ الْأَنْفُسِ، أَوْ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ ذَكَرَهُمْ فِي قَوْلِهِ: {يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} [هود: 103]. وَالشَّقِيُّ الَّذِي كُتِبَتْ عَلَيْهِ الشَّقَاوَةُ. وَالسَّعِيدُ الَّذِي كُتِبَتْ عَلَيْهِ السَّعَادَةُ؛ قَالَ لَبِيَدٌ:

 

فَمِنْهُمْ سَعِيدٌ آخِذٌ بِنَصِيبِهِ

 

وَمِنْهُمْ شَقِيٌّ بِالْمَعِيشَةِ قَانِعُ

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105] سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَعَلَامَ نَعْمَلُ؟ عَلَى شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، أَوْ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يُفْرَغْ مِنْهُ؟ فَقَالَ: «بَلْ عَلَى شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ وَجَرَتْ بِهِ الْأَقْلَامُ يَا عُمَرُ، وَلَكِنْ كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ». قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي "الْأَعْرَافِ".

 

الحديث ثابت، الصحابة استشكلوا، كل شيء مقدر ومكتوب، والملك يؤمر بكتب أربع عند نفخ الروح، ومنها الكتابة بأنه شقي أو سعيد، قالوا: الآن العمل في شيءٍ قد فرغ منه؟ قال: نعم شيء قد فرغ منه، طيب، لماذا نعمل ما دام انتهى؟ نعم، انتهى، يعني لو قدر أن النتائج ترصد قبل الامتحانات، فلماذا يختبر الناس؟ الامتحان ما له فائدة، فهم ظنوا الأمر كذلك، وهنا من كُتبت عليه السعادة فسوف ييسر لأمر أهل السعادة «اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له»، ومن كُتبت عليه الشقاوة فسوف يسهل وييسر عليه عمله أهل الشقاء، ولا يقال: إنه مجبور على عمله سواء كان سعادة أو شقاءً.

 لا، له إرادة، وله مشيئة تابعة لإرادة الله ومشيئته، {فأما من أَعْطَى وَاتَّقَى(5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل5-6] هذا يقدم ما عنده، والنتيجة {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 7] يعني قادر على أن يعطي، ويتقي، ويصدق، كما أنه لديه قدرة، وإمكانية أن يكذب ويبخل، فالله جعل له شيئًا من الحرية لكن ليست حرية مطلقة، وليست إرادة تامة، وإنما هي حرية مقيدة، وإرادة ومشيئة تابعة لمشيئة الله سبحانه وتعالى وإرادته.

 ولا شك أن هذا الموطن من مضايق الأنظار، ضاقت به أنظار الكبار من أهل العلم، لكن على الإنسان أن يؤمن، ويصدِّق، ويعمل، ولا يضمن النتائج، يعمل ولا يضمن النتيجة، «وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا زراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها»، مع كونه عاملًا لا يضمن، بل لا بد أن يكون خائفًا حتى آخر لحظة، ما يدري بأي شيء يُختم له، الأعمال بالخواتيم، وأشد ما يخافه السلف الذين جمعوا مع حسن العمل الخوف أكثر ما يخافون من سوء العاقبة، وكم من شخص فتن عند موته، فهؤلاء جمعوا بين الحسن، حسن العمل، مع الخوف من الله سبحانه وتعالى، بينما غيرهم يجمع بين الإساءة، والأمن، الأمن من مكر الله، والله المستعان.

طالب: في كلام السلف كثيرًا الخوف عند الموت، متى تكون الثقة بالله –عز وجل-؟

نعم، عند الاحتضار، عند الاحتضار إذا وثق، وأحب لقاء الله أحب الله لقاءه، من أجل هذا، يعني أقول: إنه إذا احتضر يحسن الظن بالله سبحانه وتعالى، ولذا كثيرٌ منهم يذكر بأنه عامل، وعامل في آخر لحظة من حياته؛ من أجل أن يحسنُ الظن بربهم، ومنهم من يذكر لغيره، يذكر لأولاده وليس هذا من باب الاغترار، ولكن من أجل أن يموت وهو يحسن الظن بالله سبحانه وتعالى، وأما طيلت الحياة فلا بد من الخوف، فلا بد من الخوف مع الرجاء لما عند لله سبحانه وتعالى.

طالب: يا شيخ

 نعم

طالب: .............

في حال الحياة يقول جمع من العلم في حال السعة الصحة يغلب جانب الخوف؛ لأنه يحثه على العمل.

طالب: ..............

نعم.

طالب: ..............

لا، هم ما يغلبون الخوف، لا، لما قال له الشيطان: "فتني يا أحمد" قال: بعضه صحيح، ما دامت الروح ما بعد طلعت، فهي محل فتنة.

طالب: .............

على كل حال في حال الاحتضار ينبغي أن يحسن الظن بربه، يحسن الظن بربه، ويتذكر ما فعله في حال الحياة من أجل أن تطلع روحه وهو محسن الظن بربه.

طالب: .............

لأنه في هذا الوقت ليس بوقت عمل، ما فيه إلا النطق بالشهادة، ما فيه عمل ينفعه الخوف من أجله؛ لأن الخوف فائدته الحث على العمل، لكن ما بقي عمل، ولذا في الدعاء للميت ماذا يقال؟

"اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام" لأن فيه العمل "ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان" الذي هو مجرد تصديق، وإذعان، وإقرار من دون عمل.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا} [هود: 106] ابْتِدَاءٌ. {فَفِي النَّارِ} [هود: 106] فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَكَذَا {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود: 106] قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الزَّفِيرُ مِنَ الصَّدْرِ. وَالشَّهِيقُ مِنَ الْحَلْقِ، وَعَنْهُ أَيْضًا ضِدُّ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الزَّفِيرُ مِنْ شِدَّةِ الْأَنِينِ، وَالشَّهِيقُ مِنَ الْأَنِينِ الْمُرْتَفِعِ جِدًّا. قَالَ: وَزَعَمَ أَهْلُ اللُّغَةِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الزَّفِيرَ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ صَوْتِ الْحَمِيرِ فِي النَّهِيقِ، وَالشَّهِيقَ بِمَنْزِلَةِ آخِرِ صَوْتِ الْحِمَارِ فِي النَّهِيقِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَكْسَهُ، قَالَ: الزَّفِيرُ الصَّوْتُ الشَّدِيدِ، وَالشَّهِيقُ الصَّوْتُ الضَّعِيفُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: الزَّفِيرُ مِثْلُ أَوَّلِ نَهِيقِ الْحِمَارِ، وَالشَّهِيقُ مِثْلُ آخِرِهِ حِينَ فَرَغَ مِنْ صَوْتِهِ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

حَشْرَجَ فِي الْجَوْفِ سَحِيلًا أَوْ شَهَقْ

 

حَتَّى يُقَالَ نَاهِقٌ وَمَا نَهَقْ

وَقِيلَ: الزَّفِيرُ إِخْرَاجُ النَّفَسِ، وَهُوَ أَنْ يَمْتَلِئَ الْجَوْفُ غَمًّا فَيَخْرُجُ بِالنَّفَسِ، وَالشَّهِيقُ رَدُّ النَّفَسِ.

 وَقِيلَ: الزَّفِيرُ تَرْدِيدُ النَّفَسِ مِنْ شِدَّةِ الْحُزْنِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الزَّفْرِ وَهُوَ الْحَمْلُ عَلَى الظَّهْرِ لِشِدَّتِهِ، وَالشَّهِيقُ النَّفَسُ الطَّوِيلُ الْمُمْتَدُّ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: جَبَلٌ شَاهِقٌ؛ أَيْ طَوِيلٌ. وَالزَّفِيرُ وَالشَّهِيقُ مِنْ أَصْوَاتِ الْمَحْزُونِينَ.

لما ذكر في آخر الآيات السابقة أن العباد منهم شقي وسعيد، وهذا على سبيل الإجمال، على سبيل اللف، ثم جاء البسط، والنشر فيما يتلو فقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ} [هود: 106] وهذا مرتب؛ لأنه بدأ بالإجمال باللف بالأشقياء، وبدأ بهم في النشر الذي هو البسط والتفصيل {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ} [هود: 106] ثم ثنى بالسعداء، وبعد ذلك قال: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} [هود: 108]، وهذا يسمونه لفًّا ونشرًا مرتبًا.

 وأما ما تقدم في آل عمران {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ} [آل عمران: 106] بدأ بمن ابيضت وجوههم قال: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] ثم ثنى بالمسود، ثم بدأ في التفصيل بالثاني دون الأول، فهناك اللف والنشر المرتب كما هنا، وفي آل عمران اللف والنشر غير المرتب الذي يسمى بكتب البلاغة اللف والنشر المشوش ما هو مرتب، وكلاهما فصيح سوءٌ كان مرتبًا أو غير مرتب، كلاهما فصيح، وجاء في صحيح الكلام، كما سمعتم.

طالب: ............

ماذا؟

طالب: ...........

هو كأنها من كتب الأدب، هم يطلقون.

طالب: لما كان اللف فيه انتقاص للكلام وو.

لا هو إذا عرفنا أنه سواء كان مرتبًا أو غير مرتب كلاهما فصيح، جاء في أفصح الكلام، نعم.

طالب: ...........

ما فيه إشكال.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [هود: 107] مَا دَامَتْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِ، أَيْ دَوَامَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَقْتَ ذَلِكَ. وَاخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ هَذَا؛ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ الضَّحَّاكُ: الْمَعْنَى مَا دَامَتْ سَمَاوَاتُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَأَرْضُهُمَا، وَالسَّمَاءُ كُلُّ مَا عَلَاكَ فَأَظَلَّكَ، وَالْأَرْضُ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَدَمُكَ، وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر: 74].

 وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ الْمَعْهُودَتَيْنِ فِي الدُّنْيَا وَأَجْرَى ذَلِكَ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ دَوَامِ الشَّيْءِ وَتَأْبِيدِهِ، كَقَوْلِهِمْ: لَا آتِيكَ مَا جَنَّ لَيْلٌ، أَوْ سَالَ سَيْلٌ، وَمَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَمَا نَاحَ الْحَمَامُ، وَمَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ".

يعني ما هو بجاءٍ أبدًا، تيئيس، هذا تيئيس.

 "وَنَحْوُ هَذَا مِمَّا يُرِيدُونَ بِهِ طُولًا مِنْ غَيْرِ نِهَايَةٍ، فَأَفْهَمَهُمُ اللَّهُ تَخْلِيدَ الْكَفَرَةِ بِذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخْبَرَ بِزَوَالِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَةِ أَصْلُهَا مِنْ نُورِ الْعَرْشِ، وَأَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي الْآخِرَةِ تُرَدّانِ إِلَى النُّورِ الَّذِي أُخِذَتَا مِنْهُ؛ فَهُمَا دَائِمَتَانِ أَبَدًا فِي نُورِ الْعَرْشِ.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ} [هود: 107]؛ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ لَيْسَ مِنَ الْأَوَّلِ؛ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ".

ليس من الأول يعني استثناءً منقطعًا، و"إلا" هنا تكون بمعنى"لكن".

"وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ عَشَرَةٍ: الْأُولَى: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ: {فَفِي النَّارِ} [هود: 106] كَأَنَّهُ قَالَ: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] مِنْ تَأْخِيرِ قَوْمٍ عَنْ ذَلِكَ".

الأولى أم الأول؟

طالب: عشرة..

هو عشرة.

طالب: عشر من..

من المذكر نعم.

طالب: الأول أو.

الأول بلا شك؛ لأن الذي يليه الثاني.

"الْأُولَى: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ".

يعني الأول من هذه الأقوال.

"الْأول: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ: {فَفِي النَّارِ} [هود: 106] كَأَنَّهُ قَالَ: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] مِنْ تَأْخِيرِ قَوْمٍ عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلٌ رَوَاهُ أَبُو نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَجَابِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-. وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ مَنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ الْعَدَدُ لَا الْأَشْخَاصُ، كَقَوْلِهِ: {مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3]. وَعَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «إِلَّا مَنْ شَاءَ أَلَّا يُدْخِلَهُمْ وَإِنْ شَقوا بِالْمَعْصِيَةِ».

شَقُوا.

 «إِلَّا مَنْ شَاءَ أَلَّا يُدْخِلَهُمْ وَإِنْ شَقوا بِالْمَعْصِيَةِ».

الثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا هُوَ لِلْعُصَاةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي إِخْرَاجِهِمْ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنَ النَّارِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا}[هود: 106]

شقوا شقوا.

 {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا} [هود: 106] عَامًّا فِي الْكَفَرَةِ وَالْعُصَاةِ، وَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ "خَالِدِينَ"، قَالَهُ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَأَبُو سِنَانٍ وَغَيْرُهُمْ. وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَدْخُلُ نَاسٌ جَهَنَّمَ حَتَّى إِذَا صَارُوا كَالْحُمَمَةِ أُخْرِجُوا مِنْهَا وَدَخَلُوا الْجَنَّةَ فَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ الْجَهَنَّمِيُّونَ»، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي "النِّسَاءِ"، وَغَيْرِهَا. الثَّالِثُ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الزَّفِيرِ وَالشَّهِيقِ، أَيْ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ الَّذِي لَمْ يَذْكُرْهُ، وَكَذَلِكَ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ النَّعِيمِ مَا ذُكِرَ، وَمَا لَمْ يُذْكَرْ. حَكَاهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ.

الرَّابِعُ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [هود: 107] لَا يَمُوتُونَ فِيهَا، وَلَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا، {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107]، وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَ النَّارَ فَتَأْكُلُهُمْ وَتُفْنِيَهُمْ، ثُمَّ يُجَدِّدُ خَلْقَهُمْ.

قُلْتُ: وَهَذَا الْقَوْلُ خَاصٌّ بِالْكَافِرِ وَالِاسْتِثْنَاءُ لَهُ فِي الْأَكْلِ، وَتَجْدِيدِ الْخَلْقِ.

 الْخَامِسُ: أَنَّ إِلَّا بِمَعْنَى "سِوَى" كَمَا تَقُولُ فِي الْكَلَامِ".

ما الداعي إلى هذه الأقوال العشرة؟

ما الذي دعاه إلى أن يذكر هذه العشرة الأقوال؟

الطالب: الاستثناء.

نعم؛ لأنه يلزم على الاستثناء القول بفناء النار، وأن الكفار لا يخلدون في النار، {خَالِدِينَ فِيهَا} [هود: 107] {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] فيلزم عليه القول بفناء النار، ويأتي أيضًا الاستثناء في الجنة، والقول بفناء الجنة والنار قول الجهنمية، القول بفناء الجنة والنار هو قول الجهنمية، والذي عليه أهل السنة أن الجنة النار دائمة دائمة أبدية، فمن كان في نعيم فهو أبدي، ومن كان في عذاب فهو سرمدي. وهذيل العلاف يقول: ما يفنون، باقون، من في النار باقون في النار، ومن في الجنة باقون في الجنة، لكن تفنى حركاتهم، تفنى حركاتهم.

 وهذا قول ساقط، والنصوص في الكتاب والسنة متضافرة على أن النعيم باقٍ، نعيم الجنة باقٍ، وأنه لا يفنى أبد الآباد، وكذلك عذاب أهل النار ممن حكم له بالخلود من الكفار من اليهود، والنصارى، والمشركين، وغيرهم.

 المقصود أن هذه الأقوال من أجل وجود هذا الاستثناء، يعني هل الاستثناء من خالدين، أو من غيره، أو معنى إلا ليست على بابها من الاستثناء، كما ذكره المؤلف -رحمه الله- في القول الخامس؟

 

"الْخَامِسُ: أَنَّ إِلَّا بِمَعْنَى "سِوَى" كَمَا تَقُولُ فِي الْكَلَامِ: مَا مَعِي رَجُلٌ إِلَّا زَيْدٌ، وَلِي عَلَيْكَ أَلْفَا دِرْهَمٍ إِلَّا الْأَلْفَ الَّتِي لِي عَلَيْكَ. قِيلَ: فَالْمَعْنَى مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ سِوَى مَا شَاءَ رَبُّكَ مِنَ الْخُلُودِ.

السَّادِسُ: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْإِخْرَاجِ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنْهَا. كَمَا تَقُولُ فِي الْكَلَامِ: أَرَدْتُ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ أَشَاءَ غَيْرَهُ، وَأَنْتَ مُقِيمٌ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَنْ يُخْرِجَهُمْ لَأَخْرَجَهُمْ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ خَالِدُونَ فِيهَا، ذَكَرَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ الزَّجَّاجُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، قَالَ: وَلِأَهْلِ الْمَعَانِي قَوْلَانِ آخَرَانِ، فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] مِنْ مِقْدَارِ مَوْقِفِهِمْ عَلَى رَأْسِ قُبُورِهِمْ، وَلِلْمُحَاسَبَةِ، وَقَدْرِ مُكْثِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَالْبَرْزَخِ، وَالْوُقُوفِ لِلْحِسَابِ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: وُقُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ، وَتَقْدِيرُهُ: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] مِنْ زِيَادَةِ النَّعِيمِ لِأَهْلِ النَّعِيمِ، وَزِيَادَةِ الْعَذَابِ لِأَهْلِ الْجَحِيمِ.

 قُلْتُ: فَالِاسْتِثْنَاءُ فِي الزِّيَادَةِ مِنَ الْخُلُودِ عَلَى مُدَّةِ كَوْنِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْمَعْهُودَتَيْنِ فِي الدُّنْيَا، وَاخْتَارَهُ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، أَيْ خَالِدِينَ فِيهَا مِقْدَارَ دَوَامِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَذَلِكَ مُدَّةُ الْعَالَمِ، وَلِلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَقْتٌ يَتَغَيَّرَانِ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} [إبراهيم: 48]، فَخَلَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْآدَمِيِّينَ وَعَامَلَهُمْ، وَاشْتَرَى مِنْهُمْ أَنْفُسَهَمْ وَأَمْوَالَهَمْ بِالْجَنَّةِ، وَعَلَى ذَلِكَ بَايَعَهُمْ يَوْمَ الْمِيثَاقِ، فَمَنْ وَفَّى بِذَلِكَ الْعَهْدِ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ ذَهَبَ بِرَقَبَتِهِ يَخْلُدُ فِي النَّارِ بِمِقْدَارِ دَوَامِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَإِنَّمَا دَامَتَا لِلْمُعَامَلَةِ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فِي الْجَنَّةِ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ، فَإِذَا تَمَّتْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ وَقَعَ الْجَمِيعُ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان: 38-39]، فَيَخْلُدُ أَهْلُ الدَّارَيْنِ بِمِقْدَارِ دَوَامِهِمَا، وَهُوَ حَقُّ الرُّبُوبِيَّةِ بِذَلِكَ الْمِقْدَارِ مِنَ الْعَظَمَةِ، ثُمَّ أَوْجَبَ لَهُمُ الْأَبَدَ فِي كِلْتَا الدَّارَيْنِ لِحَقِّ الْأَحَدِيَّةِ، فَمَنْ لَقِيَهُ مُوَحِّدًا لِأَحَدِيَّتِهِ بَقِيَ فِي دَارِهِ أَبَدًا، وَمَنْ لَقِيَهُ مُشْرِكًا بِأَحَدِيَّتِهِ إِلَهًا بَقِيَ فِي السِّجْنِ أَبَدًا، فَأَعْلَمَ اللَّهُ الْعِبَادَ مِقْدَارَ الْخُلُودِ، ثُمَّ قَالَ: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] مِنْ زِيَادَةِ الْمُدَّةِ الَّتِي تَعْجَزُ الْقُلُوبُ عَنْ إِدْرَاكِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا غَايَةَ لَهَا، فَبِالِاعْتِقَادِ دَامَ خُلُودُهُمْ فِي الدَّارَيْنِ أَبَدًا.

 وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ إِلَّا بِمَعْنَى الْوَاوِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَبَعْضُ أَهْلِ النَّظَرِ وَهُوَ الثَّامِنُ، وَالْمَعْنَى: وَمَا شَاءَ رَبُّكَ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي الْخُلُودِ عَلَى مُدَّةِ دَوَامِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي الدُّنْيَا.

وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [العنكبوت: 46] أَيْ وَلَا الَّذِينَ ظَلَمُوا. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ

 

لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَّا الْفَرْقَدَانِ

أَيْ وَالْفَرْقَدَانِ.

وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيٌّ: وَهَذَا قَوْلٌ بَعِيدٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ أَنْ تَكُونَ إِلَّا بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَقَدْ مَضَى فِي الْبَقَرَةِ بَيَانُهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَمَا شَاءَ رَبُّكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] أَيْ كَمَا قَدْ سَلَفَ، وَهُوَ: التَّاسِعُ.

 الْعَاشِرُ: وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] إِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي كُلِّ كَلَامٍ، فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ فِي وَاجِبٍ، وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي حُكْمِ الشَّرْطِ كَذَلِكَ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ شَاءَ رَبُّكَ، فَلَيْسَ يُوصَفُ بِمُتَّصِلٍ وَلَا مُنْقَطِعٍ، وَيُؤَيِّدُهُ وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108]، وَنَحْوُهُ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ".

يدل على عدم انقطاعه كونه: {غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108] دائم، ويكون الاستثناء على القول الأخير قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 108] من باب تعليم العباد أن يستثنوا إذا ذكروا شيئًا من باب التحقيق، والتبرك بمشيئة الله سبحانه وتعالى، وإن لم يكن من باب التعليق كما هنا.

"وَنَحْوُهُ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: تَقَدَّمَتْ عَزِيمَةُ الْمَشِيئَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي خُلُودِ الْفَرِيقَيْنِ فِي الدَّارَيْنِ، فَوَقَعَ لَفْظُ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْعَزِيمَةُ قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي الْخُلُودِ.

 قَالَ: وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَهُ حَتْمًا، فَلَمْ يُوجِبِ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ خِيَارًا؛ إِذِ الْمَشِيئَةُ قَدْ تَقَدَّمَتْ، بِالْعَزِيمَةِ فِي الْخُلُودِ فِي الدَّارَيْنِ وَالدُّخُولِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ وَنَحْوُهُ عَنِ الْفَرَّاءِ.

 وَقَوْلٌ -حَادِيَ عَشَرَ-: وَهُوَ أَنَّ الْأَشْقِيَاءَ هُمُ السُّعَدَاءُ، وَالسُّعَدَاءُ هُمُ الْأَشْقِيَاءُ لَا غَيْرُهُمْ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ، وَبَيَانُهُ أَنَّ "مَا" بِمَعْنَى "مَنْ"، اسْتَثْنَى اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنَ الدَّاخِلِينَ فِي النَّارِ الْمُخَلَّدِينَ فِيهَا الَّذِينَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَا مَعَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ، وَاسْتَثْنَى مِنَ الدَّاخِلِينَ فِي الْجَنَّةِ الْمُخَلَّدِينَ فِيهَا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ بِذُنُوبِهِمْ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُخْرَجُونَ مِنْهَا إِلَى الْجَنَّةِ. وَهُمُ الَّذِينَ وَقَعَ عَلَيْهِمُ الِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي؛ كَأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 106-107] أَلَّا يُخَلِّدَهُ فِيهَا، وَهُمُ الْخَارِجُونَ مِنْهَا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِإِيمَانِهِمْ وَبِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَهُمْ بِدُخُولِهِمُ النَّارَ يُسَمَّوْنَ الْأَشْقِيَاءَ، وَبِدُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ يُسَمَّوْنَ السُّعَدَاءَ، كَمَا رَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذْ قَالَ: الَّذِينَ سَعِدُوا شَقُوا بِدُخُولِ النَّارِ، ثُمَّ سَعِدُوا بِالْخُرُوجِ مِنْهَا وَدُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ".

طالب: ..........

ما معناه؟

"طالب: يقول: إن الاستثناء يبقى على الذين تأخر دخولهم إلى الجنة الذين عوقبوا بذنوب البصيرة، ثم دخول الجنة فلا خلود تام لهم هناك، ولا خلود هنا؟

يعني في الموضعين المراد بهم واحد.

طالب: الاستثناء واحد.

في الموضعين، الاستثناء في الموضوعين {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا} [هود 106-107] {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] بأن يدخلوا النار ثم يخرجون منها؛ لأنهم ليسوا من أهل الخلود، لكن من أهل المعاصي.

{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ} [هود: 108] أيضًا {خَالِدِينَ فِيهَا} [هود: 107] {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] {خَالِدِينَ فِيهَا} [هود: 107]. من أول الأمر أو من آخره؟

الطالب: من آخره.

نعم، فيكون الاستثناء لما كان قبل دخولهم الجنة، مع أن هذا يبعد، بعيد من السياق.

طالب: هذا الذي اختاره التفسير الميسر.

المقصود أنه بعيد عن السياق يكون المراد بالآيتين شيئًا واحدًا، يكون قوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105] نوعًا واحدًا، شقي وسعيد نوعًا واحدًا، فتكون الأنواع ثلاثة: مؤمن خالص هذا خالد في الجنة من أول الوقت إلى آخره، وكافرٌ خالص هذا مخلد في النار من أول الوقت إلى آخره، وشخصٌ ثالث شقيٌ وسعيد في آنٍ واحد "شقي" باعتبار الحال، "سعيد" باعتبار المآل، شقي في وقت دخوله النار، وسعيد..

طالب: بعد دخوله الجنة.

بعد دخوله الجنة {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا} [هود: 106]، {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} [هود: 108] "أما" هذه لإيش؟

طالب: تفصيل.

تفصيل، أما كذا، وأما كذا "تفصيل" تذكر لذكر أنواع، ولا تذكر لنوعٍ واحد، {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا} [هود: 106]، {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} [هود: 108] هذا نوع واحد، كلا الاثنين نوع واحد، فهم شقوا باعتبار الحال، وسعدوا باعتبار المآل، فالنهاية سعادتهم إذا أخرجوا من النار وأدخلوا الجنة.

 لكن هذا فيه بعد، الآيتان فيها صنفان من الناس، ولا شك أن الاستثناء مشكل، وإذا احتيج لمثل هذا الكلام إضافةً على قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ: 23].

طالب:.........

 نعم.

طالب: .............

"الأحقاب" مئات السنين، الأحقاب مئات السنين، لكن ماذا بعد هذه الأحقاب؟ هل معنى أنه بعد هذه الأحقاب يخرجون؟ لا؛ لأن الله حكم عليهم بالخلود، كلام عمر –رضي الله عن- لو لبثوا يعني: أهل النار، بقدر رمل عَالجْ، كثير كثير نفودٌ كبير جدًّا، يعني لو لبثوا من السنين بقدر رمل عَالجْ لكان لهم يوم يخرجون فيه، هذا يستدل به من يقول بفناء النار وأهل النار، لكن ليس فيه دليل، وتقدم قوله بأنه قد يقال في الكلام على وجه التيئيس بما يطول أمده، تقول: ما آتيك ما بقي الليل والنهار. هل معنى هذا أنه لو انتهى الليل والنهار سيأتيه؟

طالب: لا.

لا، ليس مفهومه هذا، أيضًا في قول عمر –رضي الله عنه-: بقدر رمل عَالجْ لكان لهم لو كان محددًا بقدر يوم عَالجْ لانتهى رمل عَالجْ وانتهى، لكنهم ما ربطوا برمل عالج، "لو لبثوا مقدار رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه"، لكنهم ما ربطوا، ما قيل: إنكم تمكثون في النار بقدر رمل عالج، وإلا فالرمل مهما كان عدده ينفد، فبقاؤهم ليس مربوطًا بقدار رمل عالج، وإن فهم بعضهم أن هذا القول يدل على فناء النار، ولو كان بعد آماد، لكن ليس فيه دليل.

المقصود أن مثل هذه الآية، وآية النبأ، وما يروى عن عمر يستدل بها من يقول "بفناء النار" يستدل بالآية الثانية من يقول بفناء الجنة، وهو قول الجهنمية كما هو معروف، والمعتمد عند أهل السنة والجماعة أن الجنة والنار باقيتان أبد الآباد مخلوقتان موجودتان في الدنيا، وأيضًا هما مستمرتان إلى ما لا نهاية لتعذيب أهل النار العذاب الأبدي السرمدي، ولنعيم أهل الجنة النعيم الذي لا حد له.

طالب: ابن القيم يا شيخ يرى الفناء؟

لا لا، ما يرى الفناء ولا شيئًا، ما فيه شيء صريح.

طالب: ...........

ما فيه شيء صريح، هو ذكر الأدلة، واستعرض الأقوال من غير ترجيح.

طالب: .........

لا لا، ما فيه أليق، كيف قال أليق؟

 يعني من حيث إن هذا عصى؟

طالب: .............

هو ذكر الأدلة، أدلة الفريقين، لكن نعلم منهم من يقول: إن شخصًا عصى مئة سنة، كيف يعذب آلاف السنين، يعذب بقدر ما عصى، عاش مئة سنة، يعذب مئة سنة.

طالب: ...........

 قد يقول بعضهم هذا وقد قيل، يعني من عدل الله ورحمته أن يعذب الشخص أن يعذب الذي عصى مئة سنة يعذبه آلاف السنين؟

طالب: ...............

هو بنيته، ومستصحب هذا، مستصحب الكفر، ما في نيته في يوم من الأيام أنه يعصي يعصي عشر سنين عشين سنة ثم يتوب، لا.

طالب: ............

ماذا؟

طالب: .........

ما ينفع، ما ينفع، يعني إذا عاين خلاص ما نفع.

طالب: ............

لو ردوا لعادوا، لو ردوا لعادوا.

طالب: القول بفناء النار فقط فيه شيء كبير؟

نعم، فيه أشياء، هو قول الجهمية.

طالب: فناء النار.

نعم.

طالب: فيه أدلة.

مثل هذا مثل فناء الجنة على أساس أنه موجود هنا وهناك.

طالب: ................

لا لا لا..

طالب: ............

نعم صحيح، نعم صحيح، أبدًا.

طالب: ابن القيم يا شيخ..

ابن القيم ذكر الأقوال واستطرد بذكرها وما رجح فقط.

الطالب: ................

لا لا، ما رجح، ما رجح، أنت استشففت، أنت اقرأ الأدلة الأخرى، وانظر قوتها.

طالب: ............

مثل صاحب دار السعادة لما ذكر الخلاف في الجنة التي دخلها آدم هل هي جنة الخلد أم جنة في الدنيا غيرها؟ تقرأ الخلاف ما تطلع بنتيجة؛ لأن الأدلة متكافئة عندهم، لكن ما نقول إنه رجح.

 "وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَفْصٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} [هود: 108] بِضَمِّ السِّينِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ سَعِدُوا أَنَّ الْأَوَّلَ شَقُوا وَلَمْ يَقُلْ: أُشْقُوا".

طالب: أم شقوا.

أين؟

طالب: يقول: شقوا أم يقول أشقوا.

ولم يقل: أُشقوا مثل سعدوا.

طالب: يعني هي للبناء للمجهول يقول شقوا بدون همزة.

لا لا لا.

 "قَالَ النَّحَّاسُ: وَرَأَيْتُ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ يَتَعَجَّبُ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ: سُعِدُوا مَعَ عِلْمِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ! إِذْ كَانَ هَذَا لَحْنًا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ: سَعِدَ فُلَانٌ وَأَسْعَدَهُ اللَّهُ، وَأَسْعَدَ".

وأُسعدَ.

"وَأَسْعَدَ مِثْلُ أَمْرَضَ، وَإِنَّمَا احْتَجَّ الْكِسَائِيُّ بِقَوْلِهِمْ: مَسْعُودٌ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: مَكَانٌ مَسْعُودٌ فِيهِ، ثُمَّ يُحْذَفُ فِيهِ وَيُسَمَّى بِهِ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَمَنْ ضَمَّ السِّينَ مِنْ سُعِدُوا فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى قَوْلِهِمْ: مَسْعُودٌ، وَهُوَ شَاذٌّ قَلِيلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: سَعِدَهُ اللَّهُ، إِنَّمَا يُقَالُ: أَسْعَدَهُ اللَّهُ.

"وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: سُعِدُوا بِضَمِّ السِّينِ أَيْ رُزِقُوا السَّعَادَةَ، يُقَالُ: سَعِدَ وَأَسْعَدَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: "سَعِدُوا" بِفَتْحِ السِّينِ قِيَاسًا عَلَى شَقُوا، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالسَّعَادَةُ خِلَافُ الشَّقَاوَةِ، تَقُولُ: مِنْهُ سَعِدَ الرَّجُلُ بِالْكَسْرِ فَهُوَ سَعِيدٌ، مِثْلُ سَلِمَ فَهُوَ سَلِيمٌ، وَسَعِدَ فَهُوَ مَسْعُودٌ؛ وَلَا يُقَالُ فِيهِ: مُسْعَدٌ، كَأَنَّهُمُ اسْتَغْنَوْا عَنْهُ بِمَسْعُودٍ.

وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ أَبُو نَصْرٍ عَبْدُ الرَّحِيمِ: وَقَدْ وَرَدَ سَعِدَهُ اللَّهُ فَهُوَ مَسْعُودٌ، وَأَسْعَدَهُ اللَّهُ فَهُوَ مُسْعَدٌ، فَهَذَا يُقَوِّي قَوْلَ الْكُوفِيِّينَ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: لَا يُقَالُ: سَعِدَ فُلَانٌ كَمَا لَا يُقَالُ: شَقِيَ فُلَانٌ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَتَعَدَّى. {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108] أَيْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ، مِنْ جَذَّهُ يَجُذُّهُ أَيْ قَطَعَهُ؛ قَالَ النَّابِغَةُ:

تَجُذُّ السَّلُوقِيَّ الْمُضَاعَفَ نَسْجُهُ

 

وَتُوقِدُ بِالصُّفَّاحِ نَارَ الْحُبَاحِبِ

قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا تَكُ} [هود: 109] جَزْمٌ بِالنَّهْيِ؛ وَحُذِفَتِ النُّونُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ".

كلها مجزومة؛ لأن الجزم إنما يكون بالنسبة كان يكون، قام يقوم. بأي شيء؟

 طالب:.........

لاجتماع الساكنين، حذف حرف العلة، ويجتمع الساكنان.

"{فِي مِرْيَةٍ} [هود: 109] أَيْ فِي شَكٍّ. {مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ} [هود: 109] مِنَ الْآلِهَةِ أَنَّهَا بَاطِلٌ. وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا: أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِكُلِّ مَنْ شَكَّ لَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ أَنَّ اللَّهَ- عَزَّ وَجَلَّ- مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَإِنَّمَا يَعْبُدُونَهَا كَمَا كَانَ آبَاؤُهُمْ يَفْعَلُونَ تَقْلِيدًا لَهُمْ.

 {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود: 109] فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: نَصِيبُهُمْ مِنَ الرِّزْقِ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ. الثَّانِي: نَصِيبُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. الثَّالِثُ: مَا وُعِدُوا بِهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-.

 [هود: 110] قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَينَهُمْ}[هود: 110] الْكَلِمَةُ: أَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - حَكَمَ أَنْ يُؤَخِّرَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِمَا عَلِمَ فِي ذَلِكَ مِنَ الصَّلَاحِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَضَى بَيْنَهُمْ أَجَلَهُمْ بِأَنْ يُثِيبَ الْمُؤْمِنَ وَيُعَاقِبَ الْكَافِرَ. قِيلَ: الْمُرَادُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي كِتَابِ مُوسَى، فَإِنَّهُمْ كَانُوا بَيْنَ مُصَدِّقٍ بِهِ وَمُكَذِّبٍ".

نعم، وهذا يدل عليه السياق، {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَينَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ منِهُ مُرِيبٍ} [هود: 110]
في الدنيا هؤلاء الذين اختلفوا في كتاب موسى.

 "وَقِيلَ: بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ فِيكَ يَا مُحَمَّدُ بِتَعْجِيلِ الْعِقَابِ، وَلَكِنْ سَبَقَ الْحُكْمُ بِتَأْخِيرِ الْعِقَابِ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنهُ مُرِيبٍ} [هود: 110] إِنْ حُمِلَتْ عَلَى قَوْمِ مُوسَى؛ أَيْ لَفِي شَكٍّ مِنْ كِتَابِ مُوسَى فَهُمْ فِي شَكٍّ مِنَ الْقُرْآنِ". 

نعم؛ لأن من شك في كتاب واحد من الكتب المنزلة فقد شك في الباقي، ومن أنكر نبيًّا أو رسالة رسول فقد كفر بالباقين، فالحكم واحد.

 " قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ}[هود: 111] أَيْ إِنَّ كُلًّا مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي عَدَدْنَاهُمْ يَرَوْنَ جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ، فَكَذَلِكَ قَوْمُكَ يَا مُحَمَّدُ".

نعم، يرونه في الآخرة، المحسن والمسيء.

"وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا} [هود: 111] فَقَرَأَ أَهْلُ الْحَرَمَيْ - نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُمْ -"وَإِنْ كُلًّا لَمَّا" بِالتَّخْفِيفِ، عَلَى أَنَّهَا "إِنْ" الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ مُعْمَلَةً، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْه، قَالَ سِيبَوَيْهِ: حَدَّثَنَا مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّهُ سَمِعَ الْعَرَبَ تَقُولُ: إِنْ زَيْدًا لَمُنْطَلِقٌ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ

كَأَنْ ظَبْيَةً تَعْطُو إِلَى وَارِقِ السَّلَم"

لكن إن وأخواتها إذا خُففت قل العمل، يقل عملها، إن هذا لساحران، يقول ابن مالك: خُففت إن فقل العمل، يجوز إعمالها، ولكن إهمالها وعدم إعمالها أرجح.

"أَرَادَ كَأَنَّهَا ظَبْيَةٌ فَخَفَّفَ وَنَصَبَ مَا بَعْدَهَا، وَالْبَصْرِيُّونَ يُجَوِّزُونَ تَخْفِيفَ إِنَّ الْمُشَدَّدَةَ مَعَ إِعْمَالِهَا؛ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْكِسَائِيُّ وَقَالَ: مَا أَدْرِي عَلَى أَيِّ شَيْءٍ قُرِئَ "وَإِنْ كُلًّا"! وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّهُ نَصَبَ كُلًّا فِي قِرَاءَةِ مَنْ خَفَّفَ بِقَوْلِهِ: لَيُوَفِّيَنَّهُمْ أَيْ وَإِنْ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ كُلًّا، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ جَمِيعُ النَّحْوِيِّينَ، وَقَالُوا: هَذَا مِنْ كَبِيرِ الْغَلَطِ، لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ: زَيْدًا لَأَضْرِبَنَّهُ. وَشَدَّدَ الْبَاقُونَ إِنَّ وَنَصَبُوا بِهَا كُلًّا عَلَى أَصْلِهَا.

وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَابْنُ عَامِرٍ لَمَّا بِالتَّشْدِيدِ. وَخَفَّفَهَا الْبَاقُونَ عَلَى مَعْنَى: وَإِنَّ كُلًّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ، جَعَلُوا "مَا" صِلَةً. وَقِيلَ: دَخَلَتْ لِتَفْصِلَ بَيْنَ اللَّامَيْنِ اللَّتَيْنِ تَتَلَقَّيَانِ الْقَسَمَ، وَكِلَاهُمَا مَفْتُوحٌ فَفُصِلَ بَيْنَهُمَا بِ "مَا".

وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَامُ "لَمَّا" لَامُ "إِنَّ" وَ"مَا" زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ، تَقُولُ: إِنَّ زَيْدًا لَمُنْطَلِقٌ، فَإِنَّ تَقْتَضِي أَنْ يَدْخُلَ عَلَى خَبَرِهَا أَوِ اسْمِهَا لَامٌ كَقَوْلِكَ: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى} وَاللَّامُ فِي لَيُوَفِّيَنَّهُمْ هِيَ الَّتِي يُتَلَقَّى بِهَا الْقَسَمُ، وَتَدْخُلُ عَلَى الْفِعْلِ وَيَلْزَمُهَا النُّونُ الْمُشَدَّدَةُ أَوِ الْمُخَفَّفَةُ".

يعني نون التوكيد سواء كانت مخففة أو مشددة، واللام الداخلة على المتأخر من اسم إن، أو خبرها يسمونها ايش؟

طالب: المزحلقة.

 المزحلقة، ويأتي بها للتوكيد، ويتعين معها كسر الهمزة.

"وَلَمَّا اجْتَمَعَتِ اللَّامَانِ فُصِلَ بَيْنَهُمَا بِ "مَا" وَ"مَا" زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ، وَقَالَ الفراء: "مَا" بِمَعْنَى "مَنْ" كَقَوْلِهِ: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ } [النساء: 72] أَيْ وَإِنَّ كُلًّا لَمَنْ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ، وَاللَّامُ فِي"لَيُوَفِّيَنَّهُمْ" لِلْقَسَمِ، وَهَذَا يَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ، غَيْرَ أَنَّ "مَا" عِنْدَ الزَّجَّاجِ زَائِدَةٌ وعند الفراء اسْمٌ بِمَعْنَى"مَنْ". وَقِيلَ: لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ، بَلْ هِيَ اسْمٌ دَخَلَ عَلَيْهَا لَامُ التَّأْكِيدِ، وَهِيَ خَبَرُ"إِنَّ" وَ"لَيُوَفِّيَنَّهُمْ" جَوَابُ الْقَسَمِ، التَّقْدِيرُ: وَإِنَّ كُلًّا خُلِقَ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ. وَقِيلَ: "مَا" بِمَعْنَى "مَنْ" كَقَوْلِهِ: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] أَيْ مَنْ، وَهَذَا كُلُّهُ هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ بِعَيْنِهِ. وَأَمَّا مَنْ شَدَّدَ لَمَّا وَقَرَأَ { وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا } [هود: 111] بِالتَّشْدِيدِ فِيهِمَا - وَهُوَ حَمْزَةُ وَمَنْ وَافَقَهُ- فَقِيلَ: إِنَّهُ لَحْنٌ، حُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ".

من محمد بن يزيد؟ من يعرفه؟

طالب:.........

 العباس؟

طالب: المبرد.

نعم.

طالب:.........

ماذا؟

طالب:.........

نعم.

وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا (وإن كلًّا خلق، ليوفينهم ربك) وَإِنَّ كُلًّا يعني كلًّا منهم خلق لله سبحانه وتعالى، والله ليوفيهن ربك.

وأما من شدد لما وقرأ "وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا بِالتَّشْدِيدِ فِيهِمَا - وَهُوَ حَمْزَةُ وَمَنْ وَافَقَهُ - فَقِيلَ: إِنَّهُ لَحْنٌ، حُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ زَيْدًا إِلَّا لَأَضْرِبَنَّهُ، وَلَا لَمَّا لَضَرَبْتُهُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَمَا أَعْرِفُ لَهَا وَجْهًا. وَقَالَ هُوَ وَأَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: التَّشْدِيدُ فِيهِمَا مُشْكِلٌ. قال النحاس وَغَيْرُهُ: وَلِلنَّحْوِيِّينَ فِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ أَصْلَهَا" لِمَنْ مَا" فَقُلِبَتِ النُّونُ مِيمًا، وَاجْتَمَعَتْ ثَلَاثُ مِيمَاتٍ فَحُذِفَتِ الْوُسْطَى فَصَارَتْ لَمَّا وَ"مَا" عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِمَعْنَى"مَنْ" تَقْدِيرُهُ: وَإِنَّ كُلًّا لِمَنِ الَّذِينَ، كَقَوْلِهِمْ:

 وَإِنِّي لَمَّا أُصْدِرُ الْأَمْرَ وَجْهَهُ             إِذَا هُوَ أَعْيَا بِالسَّبِيلِ مَصَادِرُهُ 

وَزَيَّفَ الزَّجَّاجُ هَذَا الْقَوْلِ، وَقَالَ: "مَنْ"اسْمٌ عَلَى حَرْفَيْنِ فَلَا يَجُوزُ حَذْفُهُ.

 الثَّانِي: أَنَّ الْأَصْلَ لَمِنْ مَا، فَحُذِفَتِ الْمِيمُ الْمَكْسُورَةُ؛ لِاجْتِمَاعِ الْمِيمَاتِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنَّ كُلًّا لَمِنْ خَلْقٍ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ. وَقِيلَ: "لَمَّا" مَصْدَرُ"لَمَّ".

لمّ.

طالب:.........

لم يلم لما.

 "وَجَاءَتْ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ حَمْلًا لِلْوَصْلِ عَلَى الْوَقْفِ".

نعم، كقوله: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكلًا لَمًّا} .

 "فَهِيَ عَلَى هَذَا كَقَوْلِهِ: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكلًا لَمًّا} [الفجر: 19] أَيْ جَامِعًا لِلْمَالِ الْمَأْكُولِ، فَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا: وَإِنَّ كُلًّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ تَوْفِيَةً لَمًّا، أَيْ جَامِعَةً لِأَعْمَالِهِمْ جَمْعًا، فَهُوَ كَقَوْلِكَ: قِيَامًا لَأَقُومَنَّ. وَقَدْ قَرَأَ الزُّهْرِيُّ لَمًّا بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّنوِينِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.

 الثَّالِثُ: أَنَّ "لَمَّا" بِمَعْنَى "إِلَّا" حَكَى أَهْلُ اللُّغَةِ: سَأَلْتُكَ بِاللَّهِ لَمَّا فَعَلْتَ، بِمَعْنَى إِلَّا فَعَلْتَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] أَيْ إِلَّا عَلَيْهَا، فَمَعْنَى الْآيَةِ: مَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ، قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَزَيَّفَ الزَّجَّاجُ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ لَا نَفيَ لِقَوْلِهِ: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا} [هود: 111] حَتَّى تُقَدَّرَ "إِلَّا"، وَلَا يُقَالُ: ذَهَبَ النَّاسُ لَمَّا زَيْدٍ.

 الرَّابِعُ: الْأَصْلُ وَإِنَّ كُلًّا لَمَا بِتَخْفِيفِ "لَمَّا" ثُمَّ ثُقِّلَتْ، كقوله:

 لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ أَرَى جَدَبًّا             فِي عَامِنَا ذَا بَعْدَمَا أَخْصَبَّا 


وَقَول أَبُو إِسحَاقَ الزَّجَّاجُ: هَذَا خَطَأٌ".

قال.

"وَقَال أَبُو إِسحَاقَ الزَّجَّاجُ: هَذَا خَطَأٌ. إِنَّمَا يُخَفَّفُ الْمُثَقَّلُ، وَلَا يُثَقَّلُ الْمُخَفَّفُ.

الْخَامِسُ: قَالَ أَبُو عُبَيدٍ الْقَاسِمُ بنُ سَلَّامٍ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّشْدِيدُ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَمَمْتُ الشَّيْءَ أَلُمُّهُ لَمًّا إِذَا جَمَعْتُهُ".

إذا جمعتَه.

"إذا جمعتَه، ثُمَّ بُنِيَ مِنهُ فَعْلَى، كَمَا قُرِئَ {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَترَى} [المؤمنون: 44] بِغَيرِ تَنوِينٍ وَبِتَنْوِينٍ. فَالْأَلِفُ عَلَى هَذَا لِلتَّأْنِيثِ، وَتُمَالُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِأَصْحَابِ الْإِمَالَةِ، قَالَ أَبُو إِسحَاقَ: الْقَوْلُ الَّذِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَتَكُونُ بِمَعْنَى "مَا" مِثلُ: {إِنْ كُلُّ نَفسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4]، وَكَذَا أَيْضًا تُشَدَّدُ عَلَى أَصلِهَا، وَتَكُونُ بِمَعْنَى "مَا" وَ"لَمَّا"بِمَعْنَى"إِلَّا"حَكَى ذَلِكَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَجَمِيعُ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَنَّ"لَمَّا"يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى "إِلَّا".

 قُلْتُ: هَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ارْتَضَاهُ الزَّجَّاجُ حَكَاهُ عَنهُ النَّحَّاسُ وَغَيرُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ وَتَضْعِيفُ الزَّجَّاجِ لَهُ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ صَوَابُهُ "إِنْ" فِيهِ نَافِيَةٌ، وَهُنَا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ فَافْتَرَقَا وَبَقِيَتْ قِرَاءَتَانِ.

الفرق بين النافية وبين المخففة من الثقيلة، النافية: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به}، والمخففة من الثقيلة: {علم أن سيكون}.

 قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ: "وَإِنْ كُلٌّ إِلَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ"، وَرُوِيَ عَنِ الْأَعْمَشِ: "وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا"بِتَخْفِيفِ"إِنْ" وَرَفعِ "كُلٌّ" وَبِتَشْدِيدِ"لَمَّا".

قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ الْمُخَالِفَةُ لِلسَّوَادِ تَكُونُ فِيهَا"إِنْ"بِمَعْنَى"مَا"لَا غَيرَ، وَتَكُونُ عَلَى التَّفسِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِمَا خَالَفَ السَّوَادَ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ.

 {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[هود: 111] تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ. 
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَلِغَيْرِهِ".

لأنه معصوم، فلا يؤمر بالاستقامة. كيف يؤمر بالاستقامة وهو مستقيم؟ كيف يؤمر بطلب الهداية وهو مهتدٍ؟ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة: 6] إنما المراد الدوام والثبوت على هذه الهداية، مع أن الاستقامة درجات، والهداية درجات، فإذا أمر بالاستقامة يؤمر بتحصيل أعلى هذه الدرجات، وإذا أُمر بالهداية يؤمر بأعلى درجات هذه الهداية، وإن كان على شيء من الهداية فيطلب ما هو أعلى منه، إن كان على درجة من الاستقامة يطلب أعلى من ذلك، فلا مانع من أن يؤمر بالاستقامة ويؤمر بطلب الهداية كائن من كان.

 "وَقِيلَ: لَهُ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ؛ قَالَهُ السُّدي. وَقِيلَ: "اسْتَقِمْ" اطْلُبِ الْإِقَامَةَ عَلَى الدِّينِ مِنَ اللَّهِ وَاسْأَلْهُ ذَلِكَ. فَتَكُونُ السِّينُ سِينَ السُّؤَالِ، كَمَا تَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ أَطْلُبُ الْغُفْرَانَ مِنْهُ. وَالِاسْتِقَامَةُ الِاسْتِمْرَارُ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ أَخْذٍ فِي جِهَةِ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ؛ فَاسْتَقِمْ عَلَى امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ ! قَالَ: «قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ» وَرَوَى الدَّارِمِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَاضِرٍ الْأَزْدِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ أَوْصِنِي! فَقَالَ: نَعَمْ ! عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالِاسْتِقَامَةِ، اتَّبِعْ وَلَا تَبْتَدِعْ".

في مسنده، عرفنا أن إدراج سنن الدارني في الأسانيد فيه ما فيه؛ لأنه سنن، وليس بمسند، ولذلك يقول: عده للدارني انتقد.


"وَمَنْ تَابَ مَعَكَ [هود: 112] أَيِ اسْتَقِمْ أَنْتَ وَهُمْ، يُرِيدُ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ تَابُوا مِنَ الشِّرْكِ وَمَنْ بَعْدَهُ مِمَّنِ اتَّبَعَهُ مِنْ أُمَّتِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آيَةٌ هِيَ أَشَدُّ وَلَا أَشَقُّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ حِينَ قَالُوا لَهُ: لَقَدْ أَسْرَعَ إِلَيْكَ الشَّيْبُ! فَقَالَ: »شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا»". 

نعم، منهم من قال: سبب شيبه –صلى الله عله وسلم- هي هذه الآية، {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] إذا كان الرسول –صلى الله عليه وسلم- تُطلب منه الاستقامة فدل على أن الأمر عظيم، الرسول –صلى الله عليه وسلم- تُطلب منه الاستقامة وهو مستقيم، فكيف بغيره من أفراد أمته وهو يزاول بعض المنكرات وبعض المعاصي، ولا شك أن مثل هذا أمر مخوف، فإذا طلبت منه –صلى الله عليه وسلم- مع ما هو فيه –صلى الله عليه وسلم- من تحصيل الاستقامة فغيره من باب أولى.

"وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَلِيٍّ السَّرّيَّ".

السَّرِيَّ.

سمعت أبا علي السَّرِيَّ يَقُولُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْمَنَامِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! رُوِيَ عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ: شَيَّبَتْنِي هُودٌ. فَقَالَ: نَعَمْ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا الَّذِي شَيَّبَكَ مِنْهَا؟ قَصَصُ الْأَنْبِيَاءِ وَهَلَاكُ الْأُمَمِ! فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ قَوْلُهُ: "فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ". 

{وَلَا تَطْغَوْا} [هود: 112] نَهَى عَنِ الطُّغْيَانِ، وَالطُّغْيَانُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ؛ وَمِنْهُ إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ[هود: 112]. وَقِيلَ: أَيْ لَا تَتَجَبَّرُوا عَلَى أَحَدٍ.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 113]. فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ:

الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَرْكَنُوا} الرُّكُونُ حَقِيقَةٌ الِاسْتِنَادُ وَالِاعْتِمَادُ وَالسُّكُونُ إِلَى الشَّيْءِ وَالرِّضَا بِهِ، قَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ لَا تَوَدُّوهُمْ وَلَا تُطِيعُوهُمْ. ابْنُ جُرَيْجٍ: لَا تَمِيلُوا إِلَيْهِمْ. أَبُو الْعَالِيَةِ: لَا تَرْضَوْا أَعْمَالَهُمْ، وَكُلُّهُ مُتَقَارِبٌ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الرُّكُونُ هُنَا الْإِدْهَانُ، وَذَلِكَ أَلَّا يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ كُفْرَهُمْ".

وكل هذا واقع، في واقع الأمة الآن، {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 112]. الركون واقع بجميع صوره، الاعتماد على الكفار حاصل، والمودة والطاعة والتوجيهات حاصل، والميل إليهم مرة إلى الشرق، ومرة إلى الغرب هذا هو الواقع، ورضا أعمالهم وتفضيل حالهم على حال المسلمين هذا واقع من كثير من المسلمين، نسأل الله العافية.

الركون: الادهان، تجد الكفار يوفدون إلى بلاد المسلمين ما تُقدم لهم كلمة نصيحة يدعون فيها إلى الله وإلى دين الله، ادهانًا ومداهنة لهم، ولا ينكر عليهم شيء من كفرهم، ولا يدعون إلى الله، وكل هذا من الركون إليهم، والله المستعان.

"الثَّانِيَةُ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَرْكَنُوا بِفَتْحِ الْكَافِ، قَالَ أَبُو عَمْرٍو: هِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: "تَرْكُنُوا" بِضَمِّ الْكَافِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ. وَجَوَّزَ قَوْمٌ رَكَنَ يَرْكَنُ مِثْل مَنَعَ يَمْنَعُ. 

الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} قِيلَ: أَهْلُ الشِّرْكِ. وَقِيلَ: عَامَّةٌ فِيهِمْ وَفِي الْعُصَاةِ، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} الْآيَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، وَأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى هِجْرَانِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ صُحْبَتَهُمْ كُفْرٌ أَوْ مَعْصِيَةٌ؛ إِذِ الصُّحْبَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا عَنْ مَوَدَّةٍ، وَقَدْ قَالَ حَكِيمٌ: عَنِ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ             فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارِنِ يَقْتَدِي

 فَإِنْ كَانَتِ الصُّحْبَةُ عَنْ ضَرُورَةٍ وَتَقِيَّةٍ فَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهَا فِي "آلِ عِمْرَانَ" وَ"الْمَائِدَةِ". وَصُحْبَةُ الظَّالِمِ عَلَى التَّقِيَّةِ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ النَّهْيِ بِحَالِ الِاضْطِرَارِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ".

نعم مع الخوف منه، صحبته ومدارته خوفًا منه، هذا فيه رخصة، الشأن في وقت السعة، من يبحث عنهم في وقت الساعة، وكثير ممن عاش بينهم ورأى أحوالهم وطباعهم، وأعجب بهم، يتمنى أن يصل حال المسلمين إلى حالهم، هذا موجود بين المسلمين، نسأل الله العافية، الصحبة لا تكون إلا عن مودة، ولذا إذا كثر الإمساس قل الإحساس، الذين يسكنون في بلاد الكفار سنين طويلة مثل هؤلاء لا ينكرون من أحوالهم شيئًا، بل بعضهم يبرر بعض أعمال الكفار، والله المستعان.

لرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} أَيْ تُحْرِقَكُمْ بِمُخَالَطَتِهِمْ وَمُصَاحَبَتِهِمْ وَمُمَالَأَتِهِمْ عَلَى إِعْرَاضِهِمْ وَمُوَافَقَتِهِمْ فِي أُمُورِهِمْ. 

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}[هود: 114].

فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ:

الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114] لَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي أَنَّ الصَّلَاةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُرَادُ بِهَا الصَّلَوَاتُ الْمَفْرُوضَةُ؛ وَخَصَّهَا بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهَا ثَانِيَةُ الْإِيمَانِ".

يعني بعد الشهادتين، ثانية أركان الإسلام بعد الشهادتين.

 "وَإِلَيْهَا يُفْزَعُ فِي النَّوَائِبِ؛» وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزِعَ إِلَى الصَّلَاةِ» 

 وقَالَ شُيُوخُ الصُّوفِيَّةِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ اسْتِغْرَاقُ الْأَوْقَاتِ بِالْعِبَادَةِ فَرْضًا وَنَفْلًا". 

طرفي النهار، هل معنى هذا أنك تصلي الطرف الأول تصلي والطرف الثاني وتترك الوسط، أو أن هذا تنبيه على استغراق جميع الوقت، وأن تكون مستغرقًا للعبادة من أول النهار من طرفه الأول إلى طرفه الثاني، على كل حال الواجب هو الفرائض وما عدا ذلك فهو.

 

"قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَتَنَاوَلْ ذَلِكَ إِلَّا وَاجِبًا لَا نَفْلًا، فَإِنَّ الْأَوْرَادَ مَعْلُومَةٌ، وَأَوْقَاتَ النَّوَافِلِ الْمُرَغَّبَ فِيهَا مَحْصُورَةٌ، وَمَا سِوَاهَا مِنَ الْأَوْقَاتِ يُسْتَرْسَلُ عَلَيْهَا النَّدْبُ عَلَى الْبَدَلِ لَا عَلَى الْعُمُومِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي قُوَّةِ بَشَرٍ"
الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {طَرَفَيِ النَّهَار} ِ[هود: 114]".

نعم يُذكر عن بعض المتقدمين أنه يصلي في اليوم ألف ركعة، قد ذُكر ذلك عن علي –رضي الله عنه-، وشيخ الإسلام استنكر وقال: ليس بمقدور، والزمان لا يتسع لهذا المقدار، لو قدرنا الركعة بدقيقة واحدة، وقلنا: إن الوقت يصفو منه عشر ساعات إذا استثنينا منه النوم والأكل والشرب والصلاة المفروضة، يعني ستمائة دقيقة، يعني شيخ الإسلام يقول: الوقت لا يستوعب أبدًا.

طالب:.........

حتى لو لم يكن مشغولًا بأمور الأمور ما يجد وقتًا لهذا.

يعني يذكر عن الإمام أحمد ثلاثمائة ركعة، يعني ممكن تصير معقولة هذه، لكن ألف.

طالب:.........

المقصود أنه مهما نقل، شيء يعني الثلاثمائة إذا قلت: دقيقة ركعة ففيها نقر معروف، صلاة فيها الخشوع المطلوب، ثلاثمائة تحتاج إلى خمس ساعات على الأقل، ويروى عن الحافظ عبد الغني -رحمه الله-. أنه يصلي الضحى ثلاثمائة ركعة، المقصود من ارتفاع الشمس إلى الزوال، انتهاء وقت النهي إلى دخول وقت النهي الثانب أكثر من خمس ساعات.

"{طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114] قَالَ مُجَاهِدٌ: الطَّرَفُ الْأَوَّلُ، صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَالطَّرَفُ الثَّانِي صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْر، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ: الطَّرَفَانِ الصُّبْحُ وَالْمَغْرِبُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا الطَّرَفُ الثَّانِي الْعَصْرُ وَحْدَهُ، وَقَالَهُ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: الطَّرَفَانِ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ. وَالزُّلَفُ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَالصُّبْحِ، كَأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ رَاعَى جَهْرَ الْقِرَاءَةِ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الطَّرَفَ الْأَوَّلَ صَلَاةُ الصُّبْحِ بِاتِّفَاقٍ ".

لا ينبغي أن يُخالف فيه، صلاة الصبح نهارية ليست ليلية.

"قُلْتُ: وَهَذَا الِاتِّفَاقُ يَنْقُصُهُ الْقَوْلُ الَّذِي قَبْلَهُ".

ينقضه.

ينقضه الْقَوْلُ الَّذِي قَبْلَهُ".

يعني الطرفين الظهر والعصر.

"وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ الطَّرَفَيْنِ الصُّبْحُ وَالْمَغْرِبُ، وَأَنَّهُ ظَاهِرٌ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمَغْرِبَ لَا تَدْخُلُ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالْعَجَبُ مِنَ الطَّبَرِيِّ الَّذِي يَرَى أَنَّ طَرَفَيِ النَّهَارِ الصُّبْحُ وَالْمَغْرِبُ، وَهُمَا طَرَفَا اللَّيْلِ! فَقَلَبَ الْقَوْسَ رِكْوَةً، وَحَادَ عَنِ الْبُرْجَاسِ غَلْوَةً، قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ إِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الطَّرَفَيْنِ الصُّبْحُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الطَّرَفَ الْآخَرَ الْمَغْرِبُ، وَلَمْ يُجْمِعْ مَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ.

قُلْتُ: هَذَا تَحَامُلٌ مِنَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ فِي الرَّدِّ، وَأَنَّهُ لَمْ يُجْمِعْ مَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ الطَّرَفَ الْأَوَّلَ صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَقَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ -إِلَّا مَنْ شَذَّ- بِأَنَّ مَنْ أَكَلَ أَوْ جَامَعَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مُتَعَمِّدًا أَنَّ يَوْمَهُ ذَلِكَ يَوْمُ فِطْرٍ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا وَمَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنَ النَّهَارِ؛ فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ الطَّبَرِيُّ فِي الصُّبْحِ، وَتَبْقَى عَلَيْهِ الْمَغْرِبُ وَالرَّدُّ عَلَيْهِ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ".

 

في حديث عائشة في القصر وما فرضت الصلاة ركعتين، فأُقرت صلاة السفر وزيد في الحضر، إلا الصبح فإنها تطول فيها القراءة، وإلا المغرب فإنها وتر النهار، والصبح في طرف النهار الأول والمغرب وإن وقعت في الجزء الأول من الليل إلا أنها تعد في الطرف الثاني من النهار، ولذا جاء في الحديث والمغرب فإنها وتر النهار، فأضيفت إلى النهار ولو كانت في الليل باعتبار أنها ملاصقة لآخر جزء من النهار، فلعل ميل الطبري إلى شيء من هذا.

"الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ}[هود: 114] أَيْ فِي زُلَفٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَالزُّلَفُ السَّاعَاتُ الْقَرِيبَةُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ؛ وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْمُزْدَلِفَةُ؛ لِأَنَّهَا مَنْزِلٌ بَعْدَ عرفة بقرب مَكَّةَ. وَقَرَأَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمَا "وَزُلُفًا" بِضَمِّ اللَّامِ جَمْعُ زَلِيفٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَطَقَ بِزَلِيفٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدُهُ "زُلْفَةً" لُغَةً؛ كَبُسْرَةٍ وَبُسُرٍ، فِي لُغَةِ مَنْ ضَمَّ السِّينَ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: "وَزُلْفًا"مِنَ اللَّيْلِ بِإِسْكَانِ اللَّامِ، وَالْوَاحِدَةُ زُلْفَةٌ تُجْمَعُ جَمْعَ الْأَجْنَاسِ الَّتِي هِيَ أَشْخَاصٌ كَدُرَّةٍ وَدُرٍّ وَبُرَّةٍ وَبُرٍّ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ أَيْضًا"زُلْفَى"مِثْلَ قُرْبَى. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ وَزُلَفًا بِفَتْحِ اللَّامِ كَغُرْفَةٍ وَغُرَفٍ.

قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الزُّلَفُ السَّاعَاتُ، وَاحِدُهَا زُلْفَةٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: الزُّلْفَةُ أَوَّلُ سَاعَةٍ مِنَ اللَّيْلِ بَعْدَ مَغِيبِ الشَّمْسِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِزُلَفِ اللَّيْلِ صَلَاةَ الْعَتَمَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ. وَقِيلَ: الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَالصُّبْحُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: يَعْنِي صَلَاةَ اللَّيْلِ وَلَمْ يُعَيِّنْ".

زلفًا من الليل يعني في أي جزء من أجزائه تقع هذه الصلاة، ولذا يرى بعض أهل العلم أن الصلاة بين العشاءين من قيام الليل، بعد أن تصلي المغرب، من صلاة المغرب صلِّ ما شئت ويكون أيضًا من قيام الليل، الأفضل في صلاة القيام الثلث الأخير، لكن من صلى بعد المغرب قام من الليل، من صلى عد العشاء قام من الليل، لأنه صلى في الليل هذا من قيام الليل.

طالب:.........

العصر، الظاهر.

"الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}[هود: 114] ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُتَأَوِّلِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - إِلَى أَنَّ الْحَسَنَاتِ هَاهُنَا هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْحَسَنَاتُ قَوْلُ الرَّجُلِ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا عَلَى جِهَةِ الْمِثَالِ فِي الْحَسَنَاتِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ فِي الْحَسَنَاتِ خَاصٌّ فِي السَّيِّئَاتِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ»" 

الحسنات، ال هذه جنسية، فيشمل جميع الحسنات، أتبع السيئة الحسنة تمحها، فإذا عمل الشخص سيئة، ثم أتبعها بحسنة محتها، والصلوات الخمس ورمضان إلى رمضان والجمعة إلى الجمعة كفارات، ما اجتنبت الكبائر، فدل على أن الذنوب المكفرة هي الصغائر، وأما الكبائر فإنها لا تُكفر إلا بالتوبة، وإن قال بعضهم: إن كان عنده الصغائر قليلة فقد يخفف من الكبائر، وقد يكفر بعضها كما يقول جمع من أهل العلم.

 وقد يقول قائل: إذا كانت الصلوات الخمس كفارات، فماذا بقي للجمعة؟ وماذا بقي لرمضان؟ وماذا بقي لاجتناب الكبائر، اجتنبوا كبائر من تنهون عنه نكفر عنكم؟ ما دامت الصلوات الخمس تكفر فماذا عن الباقي؟

ولكن ما المراد بالصلوات الخمس التي تكفر الذنوب؟ وما المراد بالجمعة التي تكفر الذنوب؟ وما المقصود برمضان الذي يكفر الذنوب؟

طالب:.........

نعم الصلوات المقبولة، الصيام المقبول، الجمعة المقبولة التي ترتبت عليها آثارها، وثبت له أجرها، أما الصلاة التي لا يخرج المصلي منها إلا بعشرها، هذه ماذا تكفر له؟ هذه إن كفرت نفسها فبركة.

 رمضان الذي يُصام على وجه ناقص ما الذي يكفر من الذنوب؟ هذا إذا أجزأ وأسقط الطلب، فنعمة، لا يؤمر الإنسان بإعادته، ولا بإعادة الصلاة ما لم يرتكب شيئًا يخل بالصلاة ويترك بعض الشروط والأركان، ولكن الآثار مما تترتب على عمل كامل، وهذا ما يقرره شيخ الإسلام -رحمه الله- في مواضع كثر، يجيء شخص غافل يقول: خلاص أنا ذنوبي كلها كفرت بالصلاة، أنت صلاتك فيها نظر، إن كفرت نفسها ففيها بركة، نعم هو لا يؤمر بإعادتها ولذا يقول تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة: 27].

هل معنى هذا أن الفاسق إذا سلم من الصلاة يقول له: أعد صلاتك؛ لأن الله لا يتقبل إلا من المتقين؟

لا، مسقطة للطلب صحيحة مجزئة، لكن القبول الذي هو معنى الآثار المترتبة على هذه العبادة لا يوجد إلا لمن اتقى الله في عمله.

"قُلْتُ: سَبَبُ النُّزُولِ يُعَضِّدُ قَوْلَ الْجُمْهُورِ؛ نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، قِيلَ: هُوَ أَبُو الْيُسْرِ بْنُ عَمْرٍو. وَقِيلَ: اسْمُهُ عَبَّادٌ؛ خَلَا بِامْرَأَةٍ فَقَبَّلَهَا وَتَلَذَّذَ بِهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنِّي عَالَجْتُ امْرَأَةً فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَإِنِّي أَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا وَأَنَا هَذَا فَاقْضِ فِيَّ مَا شِئْتَ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَقَدْ سَتَرَكَ اللَّهُ ! لَوْ سَتَرْتَ عَلَى نَفْسِكَ؛ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَأَتْبَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا فَدَعَاهُ، فَتَلَا عَلَيْهِ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ؛ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: هَذَا لَهُ خَاصَّةً ؟ قَالَ: «لَا بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنَ امْرَأَةٍ قُبْلَةَ حَرَامٍ فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُ عَنْ كَفَّارَتِهَا فَنَزَلَت {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ[هود: 114] فَقَالَ الرَّجُلُ: أَلِيَ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ: «لَكَ وَلِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي». قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْيسرِ. قَالَ: أَتَتْنِي امْرَأَةٌ تَبْتَاعُ تَمْرًا فَقُلْتُ: إِنَّ فِي الْبَيْتِ تَمْرًا أَطْيَبُ مِنْ هَذَا، فَدَخَلَتْ مَعِي فِي الْبَيْتِ فَأَهْوَيْتُ إِلَيْهَا فَقَبَّلْتُهَا، فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: اسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ وَتُبْ، وَلَا تُخْبِرْ أَحَدًا فَلَمْ أَصْبِرْ، فَأَتَيْتُ عُمَرَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: اسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ وَتُبْ، وَلَا تُخْبِرْ أَحَدًا فَلَمْ أَصْبِرْ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: «أَخَلَفْتَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي أَهْلِهِ بِمِثْلِ هَذَا »؟ حَتَّى تَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ إِلَّا تِلْكَ السَّاعَةَ، حَتَّى ظَنَّ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ.

قَالَ: وَأَطْرَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}[هود: 114] قَالَ أَبُو الْيُسْرِ: فَأَتَيْتُهُ فَقَرَأَهَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلِهَذَا خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً ؟ فَقَالَ: «بَلْ لِلنَّاسِ عَامَّةً». قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَقَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ ضَعَّفَهُ وَكِيعٌ وَغَيْرُهُ؛ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْرَضَ عَنْهُ، وَأُقِيمَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا نَزَلَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَيْهِ بِالْآيَةِ فَدَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: «أَشَهِدْتَ مَعَنَا الصَّلَاةَ ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: اذْهَبْ فَإِنَّهَا كَفَّارَةٌ لِمَا فَعَلْتَ». وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا تَلَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ لَهُ: قُمْ فَصَلِّ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي"نَوَادِرِ الْأُصُولِ"مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَمْ أَرَ شَيْئًا أَحْسَنَ طَلَبًا وَلَا أَسْرَعَ إِدْرَاكًا مِنْ حَسَنَةٍ حَدِيثَةٍ لِذَنْبٍ قَدِيمٍ»، {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}[هود: 114].

في مثل هذه القصة، قصة هذا الرجل، لما أتى لأبي يكر، فأمره بالستر على نفسه، وعمر كذلك، بالنسبة للستر على العصاة والمجرمين، فرق أن يأتي تائبًا مقدمًا نفسه لينفذ فيه حكم الله، وبين من يرتكب حكم الفجور مرارًا، ويتابع ويلاحق، ثم يؤمر بالستر عليه، لا، الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[النور: 2].

لأنه متى يرعوي العاصي؟ متى ينتبه الغافل المهمل لأهله وزوجه بنين وبنات؟ أمر الناس بالستر المطلق وغير المحدود، لا، لا بد من تنفيذ شرع الله على هؤلاء العصاة، لا بد من أطرهم على الحق، لا بد من إلزامهم بشرائع الإسلام.

وليس كل من مسك يستر عليه، متى تقوم الشرائع، متى تقام الحدود؟ من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، صحيح، لكن مسلم حصلت منه هفوة أو ذلة وجاء تائبًا يستر عليه ولا يفضح، لكن شخص كل يوم يمسك بسيارته يومًا امرأة، ويومًا حدث، ويومًا شاربًا، يومًا مروجًا، مثل هذا يستر عليه؟! يعيث في الأرض فسادًا ويستر عليه؟! مثل هذا يجب أن يكون عبرة لغيره.

ولذا عمر -رضي الله عنه- كان الحد على عهد النبي –صلى الله عليه وسلم- جلد أربعين وأبو بكر جلد أربعين وجاء وقت عمر، زاد الناس في الشر استشار الناس فاقتضى رأيهم أن يكون الحد ثمانين، زيد الحد من أجل ردع الناس.

عمر في مسألة الطلاق كانت الثلاث واحدة، فحسبها ثلاثًا عليهم للتنكيل، جاء الحديث: «إذا شرب الخمر فاجلدوه، ثم إذا شرب في الرابعة -أو قال: في الخامسة- فاقتلوه». إذا كان الحد ما يردع يزاد فيه، وعلى الإمام أن يجتهد في مثل هذه الأمور، أما أن تظهر أصوات تطالب بالستر غير المحدود لمجرمين يزاولون المعاصي ليل نهار إذا أمسك في الشهر الواحد عشر مرات نستر عليه؟ هذا ليس بصحيح.

متى ترتدع المرأة إذا كانت تخرج اليوم وتركب مع ناس، ثم نستر عليها، فبذمة من هذه الجرائم؟ الزوج الغافل متى يستيقظ؟ إذا قيل: يُستر على المرأة وتترك لا أبدًا، هذا دعوة إلى إشاعة الفاحشة، دعوة مغلفة إلى إشاعة الفاحشة، لا بد من حد للناس، لا بد من أطرهم على الحق، والله المستعان.

"الْخَامِسَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ مَعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّ الْقُبْلَةَ الْحَرَامَ وَاللَّمْسَ الْحَرَامَ لَا يَجِبُ فِيهِمَا الْحَدُّ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ".

وأنها أيضًا من الصغائر؛ لأنها لو كانت من الكبائر لاحتاجت إلى التوبة، ما لم يصر عليها، نقول هذا حارس مدرسة والبنات داخلات طالعات قبل، يقول: صغائر، كيف صغائر؟ مع الإصرار ما تصير صغائر، صحيح أم غير صحيح.

طالب: صحيح.

 لكن مرة في العمر صغيرة، تكفرها الصلاة، لكن بالإصرار على هذه الصغائر تصير كبائر بلا شك.

طالب:.........

الإصرار معناه التكرار، مما يدل على عدم الاكتراث، يعني لا يُنظر إلى حجم المعصية لذاتها، يُنظر إلى قدر من عصى وهو الله سبحانه وتعالى.

طالب:.........

تصير كبائر.

طالب:.........

المحقرات هذه هي التي تهلك الناس. يستهينزن بها حتى تقصم ظهورهم.

"عَلَى أَنْ لَا حَدَّ وَلَا أَدَبَ عَلَى الرَّجُل". 

لا حد يعني لا حد زنا، يعني الرجم لا يثبت ما لم يثبت الزنا بالشهادة وبينة معتبرة، ويحصل الاعتراف أو الحبل.

"عَلَى أَنْ لَا حَدَّ وَلَا أَدَبَ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَإِنْ وُجِدَا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ذُكِرَ هَذَا الْحَدِيثُ مُشِيرًا إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا شَيْءٌ".

"وَسَيَأْتِي مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا فِي"النُّورِ"إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى". 
لا يجب عليهما شيء من الحدود المقدرة، لا جلد إذا كانا بكرين، ولا رجم إذا كانا محصنين، وأما الحدود غير المقدرة التي تعزرك فلا بد من التعزير لا سيما إذا كان الشخص إنما عثر عليه، وكان ممن عُرف بهذا الأمر.

السَّادِسَةُ: ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ الصَّلَاةَ بِرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَقِيَامِهَا وَقِرَاءَتِهَا وَأَسْمَائِهَا فَقَالَ: {أَقِمِ الصَّلَاةَ}[الإسراء: 78] الْآيَةَ. وَقَالَ: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]الْآيَةَ. وَقَالَ: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 17].  وَقَالَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [ق: 39]، وَقَالَ: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا }. [الحج: 77] وَقَالَ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}[الحج: 77]، وَقَالَ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110]أَيْ بِقِرَاءَتِكَ، وَهَذَا كُلُّهُ مُجْمَلٌ أَجْمَلَهُ فِي كِتَابِهِ، وَأَحَالَ عَلَى نَبِيِّهِ فِي بَيَانِهِ، فَقَالَ جَلَّ ذِكْرَهُ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فَبَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَوَاقِيتَ الصَّلَاةِ، وَعَدَدَ الرَّكَعَاتِ وَالسَّجَدَاتِ، وَصِفَةَ جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ فَرْضِهَا وَسُنَنِهَا، وَمَا لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إِلَّا بِهِ مِنَ الْفَرَائِضِ وَمَا يُسْتَحَبُّ فِيهَا مِنَ السُّنَنِ وَالْفَضَائِلِ، فَقَالَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي». 

 وَنَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُ الْكَافَّةُ عَنِ الْكَافَّةِ، عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَلَمْ يَمُتِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى بَيَّنَ جَمِيعَ مَا بِالنَّاسِ الْحَاجَةَ إِلَيْهِ؛ فَكَمَّلَ الدِّينَ، وَأَوْضَحَ السَّبِيلَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[المائدة: 3].

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}[هود: 114] أَيِ الْقُرْآنُ مَوْعِظَةٌ وَتَوْبَةٌ لِمَنِ اتَّعَظَ وَتَذَكَّرَ؛ وَخَصَّ الذَّاكِرِينَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِالذِّكْرَى. وَالذِّكْرَى مَصْدَرٌ جَاءَ بِأَلِفِ التَّأْنِيثِ". 

بيان الصلاة وواجباتها وأركانها وسننها وأعدادها، وأعداد ركعاتها نقلت عن النبي r نقلًا قد لا يحصل به التواتر، المتواتر هو الذي يفيد القطع، يعني لو بحثت في دواوين السنة عن عدد ركعات صلاة المغرب أو عدد ركعات صلاة الظهر، نعم هي منقولة بالأسانيد الصحيحة، لكن هي منقولة بالتواتر الذي يصلح به القطع، بمعنى أنه لو قال: نصلي المغرب أربعًا بدل ثلاث أو اثنتين. ما فيها شيء متواتر، وهذه أمور تعم بها البال، ولا بد أن تنقل نقلًا متواترًا، نقول: هي متواترة، وهناك ما يسمى بتواتر العمل والتوارث، وهذا نقله الكافة عن الكافة، بهذه الكيفية، تواتر عملي، فلا يحتج محتج وقد وجد قبل كم سنة من يقول: إن عدد ركعات الصلوات ما فيها متواتر. نعم من أخبار الآحاد ما تفيد إلا الظن، والأوامر في الكتاب والسنة مطلقة، ما فيه أعدد بينة، نقول: لا، التواتر مفيد للعلم الضروري الذي يجد الإنسان نفسه مضطرًا إلى التصديق به، فمن زاد أو نقص معتقدًا جواز ذلك لا عن خطأ ولا نسيان فإنه يكفر، لو قال: صلاة المغرب أربع أو ثنتان يكفر.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاصْبِرْ أَيْ عَلَى الصَّلَاةِ، كَقَوْلِهِ: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]، وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَاصْبِرْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى مَا تَلْقَى مِنَ الْأَذَى. {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120] يَعْنِي الْمُصَلِّينَ. 

قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَوْلَا كَانَ} [هود: 116] أَيْ فَهَلَّا كَانَ {مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ} [هود: 116] أَيْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي قَبْلَكُمْ {أُولُو بَقِيَّةٍ}[هود: 116] أَيْ أَصْحَابُ طَاعَةٍ وَدِينٍ وَعَقْلٍ وَبَصَرٍ يَنْهَوْنَ قَوْمَهُمْ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ لِمَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْعُقُولِ وَأَرَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ، وَهَذَا تَوْبِيخٌ لِلْكُفَّارِ. وَقِيلَ: لَوْلَا هَاهُنَا لِلنَّفْيِ، أَيْ مَا كَانَ مِنْ قَبْلِكُمْ، كَقَوْلِهِ: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ} أَيْ مَا كَانَتْ. إِلَّا قَلِيلًا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنْ قَلِيلًا. {مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} نَهَوْا عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. قِيلَ: هُمْ قَوْمُ يُونُسَ؛ لِقَوْلِهِ: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} [يونس: 98] وَقِيلَ: هُمْ أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَهْلُ الْحَقِّ. { وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [هود: 116] أَيْ أَشْرَكُوا وَعَصَوْا" .

السنة الإلهية أن من عصى الله حقت عليه كلمة العذاب، ولا ينفع الإيمان إذا رؤي العذاب، ولم يستثن من ذلك إلا قوم يونس، لما رأوا العذاب آمنوا فصرف عنهم، {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}[هود: 83]، ما تطبق الأمة على مزاولة هذه المعاصي وهذه المنكرات، وتعلنها على الملأ من غير نكير، ويقولون: ما زلنا بخير.

لا، السنة الإلهية ماضية، وفي كل يوم وكل شهر وكل سنة، نسوا الكوارث والمصائب التي تحل بالمسلمين، والله يقول: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}[هود: 83]، لكن أين من يعتبر؟ أين من يتعظ؟ ما تغني الآيات والنذر؟ في مثل هذه الحالة الله إذا أراد شيئًا يسر له أسبابه، المسلمون على خوف وعلى وجل شديد من أن تحل بهم كارثة تعيدهم إلى شرعهم؛ وإلا فقد جربوا في حال الثراء وفي حال الغنى، طُلب منهم شكر النعم، وفيه إعراض وإدبار.

بل منهم من ابتلي وامتحن وعاد من بعد الامتحان أسوأ مما كان عليه قبل أن يمتحن، هذا دليل على موت القلوب، على مسخ القلوب الذي هو أشد من مسخ الأبدان، وإذا كان مرض القلوب وموتها ومسخها غير مؤثر، في مثل هذه الأوقات وهو موجود وحاصل، فجاءت الأدلة والأخبار أنه سوف يكون في آخر الزمان مسخ للأبدان، وليس الخبر هكذا، ومع ذلكم ذكر أهل العلم أن الرجلان يخرجان إلى المعصية فيمسخ أحدهما قردًا أو خنزيرًا، ويستمر الآخر إلى المعصية.

الكوارث التي حلت من حولنا {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}[هود: 83]، ماذا استفدنا منها؟

"