التعليق على الموافقات (1427) - 01

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

"الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ:

لَمَّا كَانَتِ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: دُنْيَوِيَّةٍ، وَأُخْرَوِيَّةٍ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الدُّنْيَوِيَّةِ، اقْتَضَى الْحَالُ الْكَلَامَ فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ الأخروية، فنقول: إنها على ضربين:

أحدهما: أن تكون خالصةً لا امتزاج لأحد القبيلين بالآخر، كنعيم أهل الجنان، وعذاب أهل الخلود في النيران، أعاذنا الله من النار، وأدخلنا الجنة برحمته.

والثاني: أن تكون ممتزجة، وليس ذلك إلا بالنسبة إلى من يدخل النار من الموحدين، في حال كونه في النار خاصة، فإذا أُدخل الجنة برحمة الله رجع إلى القسم الأول، وهذا كله حسبما جاء في الشريعة، إذ ليس للعقل في الأمور الأخروية مجال، وإنما تتلقى أحكامها من السمع".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تقدم كلام المؤلف –رحمه الله تعالى- في المصالح والمفاسد فيما يخص أمور الدنيا، وأما ما يختص بأمور الآخرة فهذا محل بحثها، وقسَّمها المؤلف إلى قسمين أو إلى ضربين، وعند أهل العلم القسم والضرب والصنف والجنس كلمات متقاربة، فلو قال: على قسمين أو على ضربين أو على صنفين فلا فرق في ذلك -إن شاء الله- أو على نوعين الفروق بين هذه وإن كانت موجودة لكنها دقيقة بحيث لا تظهر لكل الناس.

الضرب الأول الخالص الذي لا يمتزج بالقبيل الآخر، المصلحة الخالصة التي لا تمتزج بالمفسدة، أو المفسدة الخالصة التي لا يُمازجها مصلحة، ومثَّل للمصلحة الخالصة نعيم أهل الجنة الذي لا يعتريه نقص بحالٍ من الأحوال، ولا بوجهٍ من الوجوه، ولا يُنغصه شيء، ولا يُكدره شيء، بينما النعيم في الدنيا مهما بلغ بصاحبه فلابد أن يعتريه ما يُنغصه وما يُكدره، وقُل مثل هذا في العذاب والشقاء في الآخرة خالص لا يُخالطه ولا يشوبه شيءٌ من المصالح أو المنافع بخلاف شقاء الدنيا فإنه قد يُمازجه شيءٌ من النعيم.

نعيم أهل الجنة خالص، وعذاب أهل الخلود في النيران، عذاب أهل الخلود ما هو بعذاب الموحدين، من استحق منهم العذاب من ارتكب مخالفة يُعذب بقدرها ثم يُخرج كما هو مذهب أهل السُّنَّة والجماعة، هذا ممزوج، وسيأتي في الضرب الثاني.

أما عذاب أهل الخلود فهو خالص ولو كان أخف الناس عذابًا، فهو عذابٌ خالص لا يعتريه نعيم بوجهٍ من الوجوه، ماذا عمن كان أو سيكون في ضحضاحٍ من نار أو بين أخمصيه شيءٌ من النار يغلي منهما دماغه؟ وهذا أخف الناس عذابًا، يعني لو تتصور جمرة تحت رجلك فأي نعيمٍ تتلذذ به وهذه الجمرة موجودة ؟!! فكيف إذا كان هذا العذاب أبد الآباد، أبديًّا سرمديًّا لا ينقطع { ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ} [الحِجر:48]، فهذا لا يعتريه مصلحة بحالٍ من الأحوال وإن كان أخف من غيره، لكنه مفسدةٌ ظاهرة دائمة.

الضرب الثاني: وهو الممتزج الممزوج مصلحة ممزوجة بشيءٍ من المفسدة أو مفسدة ممزوجة بشيءٍ من المصلحة.

قال: "وليس ذلك إلا بالنسبة إلى من يدخل النار من الموحدين" هذا مصلحته كون مآله إلى الجنة، وأما المفسدة فكونه في الحال يدخل النار مع أن دخوله النار ليس مثل دخول الكفار المحكوم عليهم بالتأبيد، حتى مع دخولهم النار؛ لأنه يبقى شيء من أجسادهم لا تمسه النار فتمتزج هذه المصلحة بتلك المفسدة.

"في حال كونه في النار خاصة، فإذا أُدخل الجنة برحمة الله رجع إلى القسم الأول" صارت مصلحته خالصة لا يُمازجها شيءٌ من الكدر.

يقول: "وهذا كله حسبما جاء في الشريعة" صحيح حسبما الاعتقاد الذي نعتقده في مثل هذه المسائل حسبما وردنا من الشارع؛ إذا لا وسيلة إلى معرفة هذه الأمور إلا بطريق السمع.

يقول: "إذ ليس للعقل في الأمور الأخروية مجال، وإنما تتلقى أحكامها من السمع" نعم هي سمعيةٌ محضة، وليس للعقل فيها مجال، ولا يمكن أن يتخيل العقل، ولا يتصور ماذا يحدث في الآخرة؛ لأنه ليس في الدنيا مما يُمكن أن يُقاس عليه من أمور الآخرة إلا الأسماء ليس في الدنيا إلا الأسماء مما جاء مما يُوافق في تسميته أمور الآخرة، ليس هناك إلا التسمية فقط، ففي الجنة: «ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر»، لا يُمكن أن يُتخيل، ولا يُتصور؛ ولذا نعرف أن من تصور شيئًا من أمور الآخرة في ذهنه، ثم صوره للناس بقصد ترغيبهم أو ترهيبهم فإنه مقصر، مهما بلغت به الأوهام، مقصر لا يُمكن أن يُدرك حقيقة ما في الآخرة من نعيمٍ أو عذاب؛ ولذا لا يجوز أن تُصوَّر أمور الآخرة لا في الأذهان ولا في الأعيان؛ لأن الأذهان تقصر عن إدراكها، نعم ما جاء الشرع بتفصيله يتصوره الذهن إذا جاء في الشرع مثلاً ضرس الكافر مثل جبل أُحد، وما بين منكبيه كذا يُمكن أن يُتصوَّر؛ لأنه جاء تحديده من قبل الشارع، لكن أحجام ومستوى النعيم أو مستوى العذاب سواءً كان في الجنة أو في النار هذا لا يُمكن أن يُدركه أحد.

"وأما كون هذا القسم الثاني ممتزجًا فظاهر؛ لأن النار لا تنال منهم مواضع السجود، ولا محل الإيمان، وتلك مصلحةٌ ظاهرة".

أما كون النار لا تأكل مواضع السجود فهذا جاء به الخبر الصحيح، "ولا محل الإيمان" محله القلب محل الإيمان القلب، لكن هل ثبت أن القلب لا تأكله النار؟ لم يأتِ ما يدل على ذلك إن أردنا بالإيمان الصلاة، وجاء ما يدل على ذلك مثل قوله –جلَّ وعلا-: { ﮓ ﮔﮕ } [البقرة:143] يعني صلاتكم إلى بيت المقدس، فإذا كان المراد بالإيمان هنا الصلاة، والمراد بالصلاة الجزء الذي ورد به الخبر، وهو مواضع السجود جزؤها مواضع السجود فقط، فهذا له وجه، لكن يُغني عنه ما تقدَّم.

وعلى كل حال محل الإيمان محل انتقاد، اللهم إلا أن يكون وقف على خبر لا نعرفه.

طالب:........

ماذا يقول؟

طالب:........

نعم.

طالب:........

مأخوذة من كشف العلوم....على كل حال لم يثبت به خبر، فذكره لا محل له من النظر، ولا يُلتفت إليه.

"وأيضًا فإنما تأخذهم على قدر أعمالهم، وأعمالهم لم تتمخض للشر خاصة".

تتمحض بالحاء.

"وأعمالهم لم تتمحض للشر خاصة".

يعني ليست أعمالهم شرٌّ محض بل فيها الخير؛ ولذا تأخذهم النار على قدر أعمالهم، ومعلومٌ أن منهم من هو إلى كعبيه، ومنهم من هو إلى حُجزته...إلى آخره، المقصود أنهم يتفاوتون.

"فلا تأخذهم النار أخذ من لا خير في عمله على حال".

ومع ذلك من دخل النار ولو خف عذابه فيها فالنعيم الذي يناله إن وُجِد فكأنه لا شيء، يعني كون جزء من البدن يُعذب لا شك أن بقية الجسد يتأثر.

"وهذا كافٍ في حصول المصلحة الناشئة من الإيمان والأعمال الصالحة، ثم الرجاء المعلق بقلب المؤمن راحةٌ ما، حاصلةٌ له مع التعذيب، فهي تُنفس عنه من كُرب النار، إلى غير ذلك من الأمور الجزئية الآتية في الشريعة، من استقراها ألفاها".

يعني من استقرأها وتتبعها في النصوص وجدها، وهذا ظاهر يعني كون عذاب الموحِّد الذي استحق العذاب بالمخالفة يختلف عن عذاب من حُكِم عليه بالخلود في النار –نسأل الله السلامة والعافية-.

"وأما كون الأول محضًا، فيدل عليه من الشريعة أدلةٌ كثيرة، كقوله تعالى: { ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ} [الزخرف:75].

وقوله: { ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ} [الحج:19].

وقوله: { ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ } [طه:74]".

دلالة الآية الأولى والثالثة ظاهرة على المراد، لكن دلالة الآية الثانية { ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ} [الحج:19] معلومٌ أن الإنسان يُلازمه لباسه، فإذا كان هذا اللباس من النار –نسأل الله السلامة والعافية- فهو ملازمٌ لهم.

"وهو أشد ما هنالك، إلى سائر ما يدل على الإبعاد من الرحمة.

وفي الجنة آيات أُخر وأحاديث تدل على أن لا عذاب ولا مشقة ولا مفسدة، كقوله: { ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ * ﯛ ﯜ ﯝ} [الحجر:45-46] إلى قوله: { ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ} [الحجر:48].

وقوله: { ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ} [الزمر:73].

إلى غير ذلك مما هو معلوم، وقد بيَّن ذلك ربنا بقوله في الجنة: «أنت رحمتي»، وفي النار: «أنت عذابي»".

نعم جاء في الحديث الصحيح «أنتِ رحمتي أرحم بك من أشاء»، وجاء في الأخرى «أنتِ عذابي أُعذب بك من أشاء» نسأل الله السلامة والعافية.

"فسمى هذه بالرحمة مُبالغة، وهذه بالعذاب مُبالغة.

فإن قيل: كيف يستقيم هذا؟".

لأن هذه محل الرحمة، وهذه محل العذاب.

"وقد ثبت أن في النار دركاتٍ بعضها أشد من بعض، كما أنه جاء في الجنة أن فيها درجاتٍ بعضها فوق بعض، وجاء في بعض أهل النار أنه في ضحضاحٍ مع أنه من المُخلدين، وجاء أن في الجنة من يُحرم بعض نعيمها".

هذا بالنسبة لأبي أبي طالب شفع له النبي –عليه الصلاة والسلام- فخُفف عنه العذاب، فصار في ضحضاح -نسأل الله السلامة والعافية- مع أنه مُخلَّد، ولولا النبي –عليه الصلاة والسلام- لكان في الدرك الأسفل من النار كما جاء في الحديث الصحيح، في الدرك الأسفل من النار. معلومٌ أن الدرك الأسفل إنما هو لمن؟ للمنافقين، وأبو طالب كافر، وليس بمنافق، فكيف يقول النبي –عليه الصلاة والسلام- عن عمه: «ولولا شفاعتي أو لولاي أو لولا أنا» كما جاء في بعض الروايات «لكان في الدرك الأسفل من النار»، يعني كون المنافقين في الدرك الأسفل من النار، كما جاء بذلك الدليل القطعي من الكتاب، هل هذا يعني أنه لا يكون في الدرك الأسفل غيرهم؟

طالب:........

يعني هل هو حصر؟ ليس بحصر، بل قد يكون من الكفار من هو في الدرك الأسفل من النار لاسيما إذا عُرف بظلمه وعدوانه وطغيانه لا شك أن الكفار يتفاوتون في عذابهم، وإن كان حُكم على الجميع بالخلود.

لكن أبو طالب، الشفاعة التي شفعها النبي –عليه الصلاة والسلام- له بها ألا يقول قائل: إن مجرد نُصرته للنبي –عليه الصلاة والسلام- ووقوفه معه، ونصرة الدعوة كفيلةٌ بهذا التخفيف من غير شفاعة؟ كيف يقول: «لولا هذه الشفاعة» مع أنه نصر النبي –عليه الصلاة والسلام- وآواه، ونصر الدعوة، ودافع عنه كيف يكون في الدرك الأسفل من النار لولا هذه الشفاعة؟ نعم عرف الحق، وقامت عليه الحجة، وليس له أدنى مستمسك، يعني بعض الكفار قد يخفى عليه شيء، قد يعرف الحجة، لكن لا يعرفها مثل ما يعرفها أبو طالب، فهذا قامت عليه الحجة بأجلي صورها، وليس له أدنى عذر.

"وجاء أن في الجنة من يحرم بعض نعيمها كالذي يموت مدمن خمرٍ ولم يتب منها".

أو يسمع الأغاني والقينات لا شك أنه يُحرم من غناء الحور العين.

"وإذا كانت دركات الجحيم -أعاذنا الله منها- بعضها أشد، فالذي دون الأشد أخف من الأشد، والخفة مما يقتضيه وصف الرحمة التي تُحصِّل مصلحةً ما".

أي مصلحة في عذابٍ دائم لا يفتر ولو كان أخف من غيره؟! قد يتلذذ الإنسان المُعذب إذا كان يرى أن غيره، أو يرى بين يديه شخصًا يُعذب أكثر منه، قد يجد في نفسه خفة لهذا العذاب مع أنه –نسأل الله السلامة والعافية- كل إنسان يُحس بما فيه، بعض الناس يحس بأنه أشد الناس عذابًا ولو رأى من هو أشد منه؛ لأن غيره لا يهتم بشأنه الذي لا تحس به لا يخطر لك على بال، ولو كان أمامك، بينما الذي يهمك ويعنيك ما يختص بك وتحس به أنت مما يعتريك؛ ولذا جاء التذكير في أمور الدنيا أن ينظر الإنسان إلى من هو دونه.

بعض الناس إذا أصابته شوكة ظن أنه لا يُوجد على وجه الأرض شخصٌ أتعس منه، وإذا افتقر كذلك، وإذا مرض بأدنى مرض قال: هذا أشد الأمراض، لكن أُمرنا أن ننظر في مثل هذه الأحوال إلى من هو دوننا يعني في أمور الدنيا؛ لأن هذا أحرى ألا نزدري نعمة الله علينا؛ لأن من الناس من يشعر ويحس، بل يتكلم ويشتكي ويتذمر بأنه أتعس الناس؛ لأنه ما أصاب من أمور الدنيا شيئًا، أو لأنه أُصيب بمرض، مع أنه لو تأمل وجد أن عنده من النِّعم ما لا ينوء بشكرها ولو أُصيب بما أُصيب به، هذا بالنسبة لأمور الدنيا.

لكن أمور الآخرة إذا كان عذابًا أبديًّا سرمديًّا { ﯯ ﯰ } [الليل:14] ولو كان في دركةٍ أقل من غيره، فهل يهتم بشأن غيره ويُقارن، يقول: أنا في الدركة العشرين وغيري بالثلاثين، السبعين المائة، المقارنة ما هي بواردة، والله المستعان، نسأل الله السلامة والعافية.

"وأيضًا، فالقدر الذي وصل إليه العذاب بالنسبة إلى ما يُتوهم فوقه خفيف، كما أنه شديدٌ بالنسبة إلى ما هو دونه، وإذا تصورت الخفة ولو بنسبةٍ ما، فهي مصلحةٌ في ضمن مفسدة العذاب، كما أن درجات الجنة كذلك في الطرف الآخر، فإن الجزاء على حسب العمل، وإذا كان عمل الطاعة قليلاً بسبب كثرة المخالفة، كان الجزاء على تلك بالنسبة".

"بسبب كثرة المخالفة" يعني: بسبب كثرة التفريط بالطاعات لا سيما الواجبات أو ارتكاب المخالفات المحرمات عند المقاصة.

"ومعلومٌ أن رتبة آخر من يدخل الجنة ليست كرتبة من لم يعص الله قط ودأب على الطاعات عمره، وإنما ذلك لأجل عمل الأول السببي، فكان جزاؤه على الطاعة في الآخرة نعيمًا كدَّره عليه كثرة المخالفة، وهذا معنى ممازجة المفسدة، فإذا كان كذلك، فالقسمان معًا قسمٌ واحد".

هو في كلامه هذا كأنه استُدرك عليه بأن من دخل النار قد يتلبس بشيءٍ من المصلحة، ومن دخل الجنة قد يتلبس بشيءٍ من المفسدة، فيعود القسم الأول إلى الثاني، وأنه لا مصلحة محضة ولا مفسدة محضة، بل كلٌّ منهما ممتزج، ثم بعد ذلك أجاب عن هذا.

"فالجواب أنه لا يصح في المنقول ألبتة أن تكون الجنة ممتزجة النعيم بالعذاب، ولا أن فيها مفسدةً ما بوجهٍ من الوجوه، هذا مقتضى نقل الشريعة، نعم، العقل لا يُحيل ذلك، فإن أحوال الآخرة ليست جاريةً على مقتضيات العقول، كما أنه لا يصح أن يُقال في النار: إن فيها للمخلدين رحمةً تقتضي مصلحةً ما؛ ولذلك قال تعالى: { ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ } [الزخرف:75] فلا حالة، هنالك ليستريحوا إليها وإن قَلت، كيف وهي دار العذاب؟! عياذًا بالله منها.

وما جاء في حرمان الخمر، فذلك راجعٌ إلى معنى المراتب، فلا يجد من يُحرمها ألمًا بفقدها، كما لا يجد الجميع ألمًا بفقد شهوة الولد".

نعم؛ لأن مثل هذا منزوع منهم، مثل هذا منوع من قلوب أهل الجنة، فما حرموا منه لا يجدون ألمًا بفقده، مع أن من أُعطيه تلذذ به { ﯡ ﯢ} [النبأ:26]، والجزاء من جنس العمل.

"أما المُخرَج إلى الضحضاح، فأمرٌ خاص، كشهادة خزيمة، وعناق أبي بردة".

لكن من وُضِع في ضحضاحٍ من نار أو أُلبِس نعلين من نار يغلي منهما دماغه، هل يُتصور له نعيم بوجهٍ من الوجوه؟ هل مثل هذا يتقلب في شيءٍ ولو يسير من النعيم، وإن خُفف عنه العذاب؟ لو كان هذا العذاب ينقطع يعني أيامًا وأيامًا، قلنا: يتلذذ في بعض الأيام دون بعض، لكنه أبديٌ سرمدي دائم هذا العذاب لا يُفارقه، فكيف يُتصوَّر مع هذا نعيم؟!

"ولا نقض بمثل ذلك على الأصول الاستقرائية القطعية".

يعني أمرٌ خاص يُستثنى من النصوص، لكن لا وجه لاستثنائه هذا كتفاوت عذاب أهل النار فيها وكالدركات، وأما شهادة خزيمة التي جعل النبي –عليه الصلاة والسلام- شهادته تعدل شهادة اثنين نعم هذا خاص ومُدرك، مُدرك الخصوصية؛ لأنه شهد للنبي -عليه الصلاة والسلام- في صفقةٍ لم يشهدها، وكذلك عناق أبي بردة التي ضحى بها، وقال: «إنها تُجزئ عنه دون غيره» والتخصيص ظاهر.

طالب: ........

هل هناك شيء؟

طالب:........

{ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ} [الأعراف:43] الغبطة موجودة، لكن التألم والتحسر ما هو موجود.

"غير أنه يجب النظر هنا في وجه تفاوت الدرجات والدركات؛ لما ينبني على ذلك من الفوائد الفقهية لا من جهةٍ أخرى.

وذلك أن المراتب- وإن تفاوتت- لا يلزم من تفاوتها نقيضٌ ولا ضد، ومعنى هذا أنك إذا قلت: فلانٌ عالم، فقد وصفته بالعلم، وأطلقت ذلك عليه إطلاقًا بحيث لا يُستراب في حصول ذلك الوصف له على كماله، فإذا قلت: وفلانٌ فوقه في العلم، فهذا الكلام يقتضي أن الثاني حاز رتبةً في العلم فوق رتبة الأول، ولا يقتضي أن الأول متصفٌ بالجهل ولو على وجهٍ ما، فكذلك إذا قلت: مرتبة الأنبياء في الجنة فوق مرتبة العلماء، فلا يقتضي ذلك للعلماء نقصًا من النعيم ولا غضًّا من المرتبة بحيث يداخله ضده، بل العلماء معمون نعيمًا".

منعمون.

طالب: منعمون من التعميم؟

لا، "منعمون نعيمًا لا نقص فيه".

لا شك أن النقيض والضد مرتفع بالنسبة لأهل الجنة مطلقًا، وبالنسبة لأهل النار المخلدين فيها، النقيض مرتفع وكذلك الضد، فلا عذاب لأهل الجنة، ولا نعيم لأهل النار، فالضد والنقيض كلاهما مرتفع.

"بل العلماء منعمون نعيمًا لا نقص فيه، والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فوق ذلك في النعيم الذي لا نقص فيه، وكذلك القول في العذاب بالنسبة إلى المنافقين وغيرهم".

وكل إنسانٍ نعيمه بحسب ما كُتب له من الدرجات التي سببها الأعمال الصالحة والانقياد للأوامر والنواهي، وقل مثل هذا فيمن يدخل النار، وقد يكون نعيم بعض من ارتفعت درجاته تبعًا، ولا يعني أنه أفضل ممن هو دونه في المنزلة، فقد يثبت الشي تبعًا، ولا يعني أنه أفضل ممن هو دونه في هذه المنزلة استقلالاً وأصالةً.

ما معنى هذا الكلام؟ يُوضحه المثال: زوجات النبي –عليه الصلاة والسلام- معه في المنزلة في منزلته؛ لأنه لا يُتصور أنه -عليه الصلاة والسلام- بمنزلة وزوجاته دونه، بل هن معه في الجنة، كذلك { ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ} [الطور:21]، قد يكون ولد عند شخصٍ من الصالحين يُلحق بوالده، وزوجته كذلك، والمثال الظاهر في زوجات النبي– عليه الصلاة والسلام-، لكن هل يستطيع أن يقول أحد: إن زوجات النبي –عليه الصلاة والسلام- أفضل من أبي بكرٍ وعمر؟ لا، ومنزلة أبي بكر وعمر دون منزلة النبي –عليه الصلاة والسلام- قطعًا.

كون الشيء يثبت تبعًا لا يعني أنه أفضل من غيره إذا جاء على سبيل الاستقلال، وبالنسبة لأمور الدنيا فهذا مُشاهد ومُلاحظ، الشخص الغني ظاهر الثراء المتنعم بغناه والآخر المتوسط قد يكون بعض الخدم عند هذا الذي من الدرجة الأولى أفضل حالاً من هذا الغني الغناء المتوسط، يعني تصور شخصًا عند أمير أو وزير، كيف تتصور سيارة هذا الشخص، والذي يقودها سائق تجده متنعمًا بهذه السيارة وما تحتويه من وسائل الراحة، والذي دونه في الثراء دون هذا الأمير أو دون هذا الوزير أو دون هذا الكبير حاله أقل، فتجد هذا الشخص المستقل بنفسه دون ذلك الخادم عند ذلك الأثير الكبير، فكون أمهات المؤمنين معه في منزلته لا يعني أنهن أفضل من أبي بكر أو عمر، خلافًا لما يدعيه ابن حزم بأنهن أفضل أمهات المؤمنين عنده أفضل من أبي بكرٍ وعمر، تفريعٌ على هذا.

طالب:........

نعم يتزاورون.

طالب:........

وما الذي يمنع أن يكون هذا وذاك؟

طالب:........

ما فيه مانع؛ لأنه ما جاء تفصيل.

"وكذلك القول في العذاب بالنسبة إلى المنافقين وغيرهم كلٌّ في العذاب لا يداخله راحة، ولكن بعضهم أشد عذابًا من بعض.

ولأجل ذلك لما سُئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن خير دور الأنصار، أجاب بما عليه الأمر في ترتيبهم في الخيرية بقوله: «خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحرث بن الخزرج»".

الحارث..الحارث.

"«ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة»".

والمراد بذلك القبائل، والأمر ببناء المساجد في الدور، والأمر بتنظيفها كما جاء في الحديث الصحيح المراد به: الأمر ببناء المساجد في القبائل لا في الدور، يعني ليس كل شخص يبني مسجدًا في داره، ويُصلي فيه، ويترك الجماعة، لا، إنما أُمِر ببناء المساجد في الدور، يعني في القبائل، وأن تُنظَّف وتُزين؛ ولذا قال: «خير دور الأنصار» يعني القبائل «خير دور الأنصار بنو النجار» يعني قبيلة بني النجار إلى آخره.

"ثم قال: «وفي كل دور الأنصار خير» رفعًا لتوهم الضد، من حيث كانت أفعل التفضيل قد تستعمل على ذلك الوجه، كقوله تعالى: { ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ * ﭖ ﭗ ﭘ } [الأعلى:16-17] ونحو ذلك".

يعني أفعل التفضيل أحيانًا تكون على بابها، أحيانًا وهذا هو الغالب تكون على بابها، فتُستعمل في شيئين اتحدا أو اتفقا في وصف فاق أحدهما الآخر في ذلك الوصف، فعندنا هذه القبائل تشترك في الخيرية، كلهم خير اشتركوا في الوصف، لكن فاق بعضهم البعض الآخر في ذلك الوصف؛ وذلكم بسبب تقدم إسلام بعضهم على بعض.

هم اشتركوا، فهي على وجهها، وقد تأتي أفعل التفضيل لا على وجهها {ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ} [الفرقان:24] هذه ليست على بابها؛ لأن أهل النار لا خير لهم ولا عندهم ولا فيهم ألبتة.

طالب:........

عندهم نقص، لكن هذا النقص لا يُوصلهم إلى حدٍّ يتألمون به، هم مُنعمون على كل حال، لكن هذا المنعم يوجد من هو أكثر منه نعيمًا؛ لأنه أفضل منه، والنقص لا يُوصلهم إلى الحد الذي يُخرجهم من الوصف.

طالب:........

نعم، لابد من هذا القيد، وإلا كل الأمور نسبية، الأمور النسبية موجودة.

"فلم يكن تفضيله -عليه الصلاة والسلام- بعض دور الأنصار على بعض تنقيصًا بالمفضول، ولو قصد ذلك، لكان أقرب إلى الذم منه إلى المدح، وقد بيَّن الحديث هذا المعنى المقرر، فإن في آخره: فلحقنا سعد بن عبادة، فقال: ألم تر أن نبي الله خيَّر الأنصار، فجعلنا خيرًا؟".

الذي في الحديث "آخرًا".

طالب: فقال فيه: "فإن في آخره".

ومن الخزرج، سعد بن عبادة من الخزرج، متى وضعهم؟ بعد، بعد بني النجار وبعد بني عبد الأشهل، فجعلهم آخرًا، نعم "فجعلنا آخرًا" يعني آخر الأنصار.

طالب: يعني الوارد "ألم تر أن نبي الله خيَّر الأنصار، فجعلنا آخرًا؟"

هذا الذي يظهر نعم.

لأنه يشتكي هو يشتكي؛ ولذلك جاء الجواب ألا يكفي أن تكونوا من الأخيار، أن تكونوا خيرًا في كل دور الأنصار خير، واشتركوا في الوصف الذي يؤخذ من أفعل التفضيل.

"فقال: «أوليس بحسبكم أن تكونوا من الأخيار؟» لكن التقديم في الترتيب يقتضي رفع المزية، ولا يقتضي اتصاف المؤخر بالضد، لا قليلاً ولا كثيرًا".

يتفاوتون في الخيرية من غير نظرٍ إلى الضد الذي هو الشر، فهم في الخيرية يعني فوق النسبة المطلوبة من الخيرية، فهم مشتركون في هذه الخيرية وإن تفاوتوا فيها.

طالب:........

ما هو من أصل الحديث؟

طالب:........

ماذا يقول؟

طالب:........

نعم.

"وكذلك يجري حكم التفضيل بين الأشخاص، وبين الأنواع، وبين الصفات، وقد قال الله تعالى: { ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ } [البقرة:253].

{ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ } [الإسراء:55]

وفي الحديث: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ»".

نعم، الرسل ثبت بالكتاب والسُّنَّة أن بعضهم مُفضَّل على بعض، وجاء في الحديث الصحيح النهي عن تفضيل بعض الأنبياء على بعض، قال: «لا تُفضلوني على يونس بن متى، ولا تخيروا بين الأنبياء» لماذا؟ لأنه في حال التفضيل والتخيير قد ينقدح في ذهن السامع أن المفضل عليه يعتريه نقص بوجهٍ من الوجوه، فأراد النبي –عليه الصلاة والسلام- أن ينزع هذا من القلوب، فنهى عن التفضيل، وإلا فالتفضيل حاصل بالقرآن، «ولا تُفضلوني على يونس» التنصيص على يونس –عليه السلام-؛ لما حصل منه؛ لأن عادي الناس الإنسان الذي ما يفهم، ولا يعرف أقدار الأنبياء إذا سمع قصته قد يقع في نفسه شيء مما يقتضي تنقيص مرتبة هذا النبي، فنهى النبي –عليه الصلاة والسلام- من تفضيله عليه؛ وذلكم لأنه لا يعتري من وصل إلى هذه المرتبة نقصٌ بوجهٍ من الوجوه.

"وحاصل هذا أن ترتيب أشخاص النوع الواحد بالنسبة إلى حقيقة النوع لا يمكن، وإنما يكون بالنسبة إلى ما يمتاز به بعض الأشخاص من الخواص والأوصاف الخارجة عن حقيقة ذلك النوع، وهذا معنىً حسنٌ جدًّا، مَن تحققه هانت عليه معضلاتٌ ومشكلاتٌ في فهم الشريعة، كالتفضيل بين الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-".

نعم يُنظر في مثل هذه الأمور إلى الفضائل الإجمالية، فالتفضيل المطلق لا يمكن أن يرد بالنسبة للنوع، يعني لا يمكن أن يوجد شخص أكمل من غيره من كل وجه، إذا نظرنا إلى أن أفضل البشر وأكملهم النبي –عليه الصلاة والسلام- إذا نظرنا إلى قوله-عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح: «أن أول من يُكسى إبراهيم -عليه السلام-»، والنبي –عليه الصلاة والسلام- أو من تنشق عنه الأرض، فإذا موسى آخذٌ بقائمة العرش، يعني كون إبراهيم يُكسى قبل مُحمد أليست هذه مزية لإبراهيم -عليه الصلاة والسلام-؟ وكون الرسول– عليه الصلاة والسلام- إذا بُعث يرى موسى آخذٌ بقائمة العرش، أليست هذه مزية لموسى عليه السلام؟ ولك نبيٍّ مزية، لكن إذا نظرنا إلى المجموع وجدنا أن النبي –عليه الصلاة والسلام- أكملهم في كل باب -اللهم صلِّ على محمد- نعم.

"وزيادة الإيمان ونقصانه، وغير ذلك من الفروع الفقهية والمعاني الشرعية، التي زلت بسبب الجهل بها أقدام كثيرٍ من الناس، وبالله التوفيق".

 

اللهم صلِّ على محمد.