التعليق على الموافقات (1427) - 03

 السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد:

قال المؤلف –رحمه الله- في تتمة المسألة الثامنة "فصل: وإذا ثبت هذا انبنى عليه قواعد:

منها: أنه لا يستمر إطلاق القول بأن الأصل في المنافع الإذن، وفي المضار المنع، كما قرره الفخر الرازي؛ إذ لا يكاد يوجد انتفاعٌ حقيقي ولا ضررٌ حقيقي، وإنما عامتها أن تكون إضافية".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

يقول: إذا تقرر هذا، وإذا ثبت ما سبق ذكره في المسألة الثامنة، وهي أن الدنيا إنما أُقيمت من أجل الآخرة، كل ما يُستمتع به ويُستفاد منه من أمور هذه الدنيا إنما هو لإقامة ما خُلق الإنسان من أجله، وهو العبودية، فالهدف الآخرة، مرضاة الله -جلَّ وعلا-.

فإذا تقرر هذا يقول: "انبنى عليه قواعد: منها: أنه لا يستمر إطلاق القول بأن الأصل في المنافع الإذن" يعني كل ما يُنتفع به يُؤذن به، يعني كل ما يُنتفع به فهو مأذونٌ به، يعني: مُباح أو مطلوب على سبيل الاستحباب أو الوجوب.

"وفي المضار المنع" كل ما يضر ممنوع "كما قرره الفخر الرازي" لا شك أن الشريعة جاءت بجلب المصالح ودرء المفاسد، والرسول –عليه الصلاة والسلام- كما جاء عن الله –جلّ وعلا-: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ}[الأعراف:157]، ولا شك أن مزاولة الطيبات مصالح، ومزاولة الخبائث مفاسد ومضار، فما حُرِّمت المُحرمات إلا لأنها ضرر إما في أمور الدنيا، وهو الكثير الغالب، أو في الآخرة، وما أُبيحت هذه الطيبات إلا لنفعها والحاجة إليها، وما أُمِر بها إلا لتمحض مصلحتها، وإن كان قد تقرر فيما تقدَّم أنه لا يُوجد مصلحة محضة في هذه الدنيا، كما أنه لا يُوجد مفسدة محضة.

ولو استعرضت الطيبات كلها لوجدت فيها أن الطّيب إنما هو إضافي، والضرر والخبث إضافي لا محض، فهذا الطِّيب والخبث إضافي بمعنى أنه: نسبي وليس بطِيبٍ من كل وجه، ولا بخبثٍ من كل وجه في الجانب الآخر، وهذا تقرر سابقًا، ولو استعرضنا بعض الطيبات مما أباح الله –جلَّ وعلا- من المأكولات مثلاً: كالتمر واللبن والخبز كلها طيبات ومُجمعٌ على إباحتها، ومن حرَّمها ما حُكمه؟ حرَّم ما أُجمِع على إباحته يكفر، هي طيبة، وهي مُباحة، لكن ألا يُوجد من يتضرر بها؟ يُوجد من يتضرر بها، يُوجد من يتضرر بتناولها، فضلاً عن كون كل مَن يطلبها ويبحث عنها متضرر بوجهٍ ما؛ لأن مجرد الطلب وإضاعة الوقت من أجل كسبها ضرر من هذه الحيثية؛ لأنه أضاع عليه جزءًا من عمره وجزءًا من ماله، فهو متضرر من هذه الحيثية.

 لكن الأصل أن هذه الطيبات طيباتٌ لذاتها دون عوارضها؛ لأنه قد يعرض لها ما تُمنع من أجله، فالتمر لمريض السكر مثلاً يُمنع منه، لا يجوز أن يأكل منه؛ لأنه يتضرر به، فلا يجوز للإنسان أن يتناول ما يتضرر به: الدهون والشحوم لأمراض القلوب الحسية وأمراض ضغط الدم وما يتعلق به يُمنع المريض من تناول هذه الأمور، وإذا تناولها بحيث يغلب على الظن التضرر بها يحرم عليه أن يتناولها؛ لأنه لا يجوز له أن يُلقي بيده إلى التهلكة، ولا يجوز أن يتناول ما يضره، فهي طيبات في الأصل، لكن لها عوارض تجعلها ممنوعة.

وفيها أيضًا مفاسد، لكنها ليست هي أصلها؛ إنما من أجل ما يعرض لها، وقل مثل هذا في الخبائث، الخبائث الخمر خبيث، بل هي أم الخبائث، والله –جلَّ وعلا- في القرآن أثبت أن فيها منافع، فليست ضررًا محضًا، فيها منافع، ومع هذا جاء تحريمها، وإن كان فيها شيء من المنافع.

فالنفع والطِّيب المحض هذا لا يُبحث عنه في الدنيا، وكذلك الخبيث المحض لا يُوجد في الدنيا، وإنما كما قرر المؤلف سابقًا أنه الطيب طيبًا مطلقًا محضًا إنما هو في الجنة، والخبث خبثًا مطلقًا محضًا إنما هو في النار، نسأل الله السلامة والعافية.

وذكر أشياء فيما تقدَّم أن أهل النار متفاوتون في مقدار العذاب، فالذي هو أخف من غيره في عذابه لا شك أنه ضرر، لكن أيضًا خِفة هذا العذاب مصلحة له من وجه، لكن هل يُتصور مصلحة حتى في أخف الناس عذابًا مَن يُوضع بين أصبعيه أو تحت أخمصيه جمرة من النار يغلي منها دماغه، هل هذا يُتصور أن عنده فيه شيء من الخير أو المصلحة مع أن غيره أشد منه عذابًا؟ كما تقدَّم تقريره.

الفخر الرازي يُقرر أصلًا يقول: إنه لا يستمر إطلاق القول بأن "الأصل في المنافع الإذن، وفي المضار المنع كما قرره الفخر الرازي" لا شك أن المُقرر عند أهل العلم قاطبة أن ما هو من قبيل المنافع المحضة هذا مُباح، والمضار المحضة مُحرَّم، والمصالح الراجحة أو المنافع الراجحة مُباحة، والمضار الراجحة أيضًا مُحرَّمة ممنوعة، وما يستوي طرفاها يحتاج إلى مُرجِّح، وبعضهم يختار أنها من قبيل الممنوع احتياطًا؛ لإبراء الذمة.

"إذ لا يكاد يوجد انتفاعٌ حقيقي" يقول: مادام المسألة لا يُوجد انتفاعٌ حقيقي، فكيف نُقرر هذا الأصل أن المنافع الأصل فيها الإذن؟ لا يُوجد انتفاعٌ حقيقي، يعني: إذا كان التمر نافعًا لعموم الناس، فلماذا لا ننظر إلى هؤلاء المرضى الذين يُشكلون الآن نسبة حوالي ثلاثين بالمائة من سكان الأرض ممن يتضرر بالتمر؟ لماذا لا ننظر إلى هذه النسبة؟ نقول: يبقى التمر مُباحًا ومُجمعًا على حِله وإن عرض له ما يعرض مما يُسبب كونه ضارًا لبعض الناس، ولو نظرنا إلى المفردات لما تقرر عندنا حكم، بل الأحكام تأتي على العموم، ثم لكل مُكلَّفٍ منها ما يخصه.

والحُمر لمَّا كانت مباحة، الحُمر الأهلية لمَّا كانت مُباحة، ما وصفها؟ طيبة، هل هي طيبة أم رجس خبيثة بعد أن حُرِّمت، يعني انقلبت عينها أم الحكم، الوصف الشرعي؟ الوصف فقط نقلها من الطِّيب إلى الخبث، وإلا حقيقته وذاته تغيرت أم ما تغيرت؟ يعني من أهل العلم من يرى أن الله –جلَّ وعلا- إذا حرَّم شيئًا سلبه المنافع كما قالوا في الخمر سلبه المنافع، أم لا يستقيم هذا الكلام ولا ينطبق على الحُمر؛ لأن الحُمر إذا شُرِّحت في السابق وفي اللاحق مُركباتها واحدة، هل تغير طعمها؟ هل تغير انتفاع الأجساد بها أو التلذذ بأكلها؟ اللهم إلا النفوس التي تدور مع الشرع حيثما دار لا شك أنها تتقزز من المُحرمات، يعني لو قدِّم لك أرنب أو هر على شكلٍ واحد وهيئةٍ واحدة، هذا على صحن، وهذا على صحن، ما الفرق بينهما؟ الفرق بينهما الحكم الشرعي، وإلا من حيث الشكل والمنظر ما فيه فرق.

فالمسلم الذي يتدين بالشرع والاتباع لا شك أن نفسه قبولاً وردًا إنما يتبع الحكم الشرعي، وإلا فلا يُوجد انتفاعٌ حقيقي من كل وجه، ولا ضررٌ حقيقي من كل وجه إلا على ما تقدَّم في الجنة والنار.

"وإنما عامتها أن تكون إضافية" يعني نفع خالص لبعض الناس، نفع راجح لبعض الناس، ضرر محض لبعض الناس أو ضررٌ راجح لبعض الناس، فهي إضافية.

طالب:.........

أين؟

طالب:.........

لا، هو المؤلف ينتقد الرازي حينما قرر هذا الأصل.

طالب:.........

بلا شك كلام الفخر الرازي وجيه؛ لأن الشرع جاء بتقرير المصالح، ودفع المفاسد بقدر الإمكان، لكن قد يرى الإنسان فيما لم يرد به شرع يرى أن فيه مصلحة له، وفي الحقيقة هو منطوٍ على مفسدةٍ من جهةٍ أخرى؛ لأنه لم يرد...ما ورد فيه الشرع فلا كلام، يعني ما ورد فيه الشرع لا كلام في أن المصلحة الراجحة في حِله إن كان من باب المصالح، أو المفسدة الراجحة إن كان من الممنوعات، إن كان من المباحات، لكن فيه أعيان يُمكن أن يُنتفع بها مما لم يرد فيها حكم الشرع، وهذه يختلفون فيها ما حكمها، يعني ما حكم الأعيان المنتفع بها قبل أو مع عدم ورود الشرع بالتنصيص عليها؟ يعني لا تندرج تحت أصلٍ عام ولا تُقاس على غيرها، مثلاً أنت في نزهة في البرية، فوجدت شجيرة مثلاً وأعجبتك رائحتها وطعمها، وأردت أن تأكل منها، تأكل أم ما تأكل؟ تقول: الأصل الإباحة أم الأصل المنع؟ نعم، تأكل أم ما تأكل؟

طالب:.........

طيب ولو وجدت دويبة تأكل أم ما تأكل؟

طالب:.........

الأصل الإباحة، يعني العطارين يذكرون مثلاً السقنقور تعرفه أم ما تعرفه؟ معروف أم ليس بمعروف؟

طالب: معروف.

نعم.

طالب:.........

نعم.

طالب:.........

أين؟

سُنَّة حياة الحيوان يقول: السقنقور موجود في دمياط والهند، طوله ستة أذرع بقدر الأصبع، هو أقرب ما يكون إلى الوزغ يمشي في الرمال.

طالب: ستة أذرع؟

يقولون في حياة الحيوان، لكنه أقرب أو أقل من الشِّبر، يعني بقدر عشرين سنتيمترًا أو خمسة عشر سنتيمترًا ما يزيد، وهذا يذكره العطارون لبعض الأمراض، فأنت احتجت لهذا، وذكره لك عطار قال: تأكل سقنقورًا مثلاً، تأكل أم ما تأكل؟ أو تقول: العوام يمسكونه يأكلونه، وبعضهم يأكله حي.

طالب:.........

نعم.

طالب:.........

عندك في الأطعمة يقول: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ}[الأنعام:145]، ثم بعد ذلك جاء ما له نابٌ من السِّباع ومُخلب من الطير، وذُكِر بعض الحيوانات باسمها، لكن هذا ما ذُكِر، يدخل في قوله: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ}[الأنعام:145] والأصل الإباحة؟ وعند أبي حنفية: الحلال ما أحله الشرع، وعند الشافعي الحرام ما حرمه الشارع، فيه فرق، أم ما فيه فرق بين الجملتين؟ فيه فرق كبير، فهل تتوقف حتى تجد دليلًا يدلك عل أكله أو لا تتوقف؟

الهدهد مثلاً ما فيه ما يدل على المنع من أكله إلا النهي عن قتله مثلاً، تأكل أم ما تأكل؟ وجدته مقتولًا، أنت تجاوزت مرحلة القتل، وجدته مذبوحًا ومنظفًا ومُعلبًا، تأكل أم ما تأكل بناءً على أن المصلحة راجحة أو المفسدة راجحة؟ أما ما ورد الشرع به فلا شك إذا ورد الشرع بإباحته فالمصلحة راجحةٌ في أكله، وإذا ورد الشرع بمنعه فالمصلحة راجحةٌ في خبثه، بناءً على الاطراد طردًا للآية {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ}[الأعراف:157]، هناك أمور تضر بعض الناس، فمثلاً الحَوار تضر بعض الناس، فهل تمنع أم ما تُمنع؟

نعم في الحديث عن النبي –عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «أردت أن أنهى عن الغيلة، فإذا فارس والروم يُغيلون ولا يتضررون» ما نهى عن الغيلة، ما الغيلة؟

طالب: توالي المواليد.

الرضاع مع الحمل، هذه هي الغيلة، فكثير من الناس يتضرر بالغيلة، يعني أهل هذه البلاد عمومًا والحجاز يتضررون بالغيلة، فالنبي –عليه الصلاة والسلام- أراد أن ينهى عنها؛ لوجود الضرر، لكن لماذا عَدَل؟ لأن سكان هذه البلاد ماذا يُشكلون من النسبة بالنسبة للعالم كله، والرسالة عالمية، للعالمين كلهم؟ ما نهى؛ لأن رسالته –عليه الصلاة والسلام- عالمية، لكن يبقى من يتضرر، كمن يتضرر بالتمر يُمنع، فلابد من ملاحظة هذه الأمور؛ لأنه يأتيك من يقول لك مثلاً: الدخان ضار صحيح، لكن البيبسي ض،ار لماذا لا نُحرمه؟ الدخان ضار، لكن لماذا الحَوار ما نُحرِّمه؟ هذا يضر على العموم، وهذا يضر بعض الناس دون بعض، وفرقٌ بين هذا وهذا، والنظر للغالب.

وكتب من كتب في الصحف أن الدِّين الإسلامي استفاد من الحضارات الأخرى، فهي مصدر من مصادره، ويأتي لنا بمثل هذا الحديث «فإذا فارس والروم يُغيلون ولا يتضررون» ما هو بصحيح، منطلق عموم الرسالة إلى الناس أجمعين، إلى الجن والإنس من منطلق عموم الرسالة نظرًا إلى أن الأعم الأغلب فارس والروم ما يتضررون، وهم الأعم الأغلب، والحكم للغالب؛ لأنه قد يُشكك بعض الناس إذا قرأ مثل هذا الكلام.

طالب:.........

ما المانع؟

طالب:.........

لا لا، الحكم الشرعي أخذناه من الإقرار لا من تشريع الجاهلية، إقرار النبي –عليه الصلام والسلام- تشريع، كونه أُكِل على مائدته رأى من يأكل وما تكلم ولا سكت، وقالوا: إنه تعافه نفسه، هذا ما فيه إشكال، لكن الإقرار تشريع.

"والمصالح والمفاسد إذا كانت راجعةً إلى خطاب الشارع، وقد علمنا من خطابه أنه يتوجه بحسب الأحوال والأشخاص والأوقات، حتى يكون الانتفاع المُعين مأذونًا فيه في وقتٍ أو حالٍ أو بحسب شخص، وغير مأذونٍ فيه إذا كان على غير ذلك، فكيف يسوغ إطلاق هذه العبارة أن الأصل في المنافع الإذن، وفي المضار المنع؟"

يعني الشاطبي يُريد أن يُقرر أن الإذن والمنع في الأمور المُطردة ماشٍ على كلام الرازي، ويتفق فيها معه، لكن الأمور التي لا تطرد مثلاً، الأمور التي تطرد، فمثلاً اللحم جاءت النصوص بإباحته، لكن هناك لحم مُنتِن، ولحم غير مُنتِن، هذا مذبوح كله على الطريقة الإسلامية مُزكى، ومن حيوانٍ مُباح، هذا لحم، وهذا لحم، شروط الذكاة متوافرة والمذكي مقبول التذكية مسلم أو كتابي، لكن هذا ما فيه نتن، وهذا مُنتن في حال دون حال.

يعني ما هي مسألة مُطردة، يعني اللحم اليوم حلال وغدًا حرام؛ لأننا تركناه في جوٍ حار، فالشاطبي يُريد أن يرد على الرازي بمثل هذه الأحكام التي تختلف من حال إلى حال، ومن ظرف إلى ظرف، ومن شخص إلى شخص، لكن المانع ليس لذات العين المباحة، وإنما لأمرٍ عرض لها، فيطرد كلام الرازي؛ لأنه لا يُدخل العوارض كونه أنتن، والنتن في المأكولات متفاوت، وجاء في حديث أبي ثعلبة «فكُله ما لم يُنتن» وجاء أن النبي –عليه الصلاة والسلام- أضافه يهودي على خبز شعيرٍ وإهالةٍ سنخة يعني: متغير ومُنتنة، لكن هذه مبادئ التغير، وذاك في نهايته، بحيث يكون يتضرر من أكله، فهذه الأمر وهذه العوارض التي عرضت لهذه المُباحات تكون مانعًا من الإباحة، فيُوجد السبب وهو الحكم بحِلها وطيبها، وإذا عارض هذا السبب مانع أقوى منه يتخلف الحكم.

هذا يسأل يقول: ما الفرق بين الجربوع والفأر؟

هذا حلالٌ، وهذا حرام، مثل ما قلنا بين الأرنب والهر، وهذا حلال، وهذا حرام، والشكل واحد.

"وأيضًا فإذا كانت المنافع لا تخلو من مضارة وبالعكس، فكيف يجتمع الإذن والنهي على الشيء الواحد، وكيف يقال: إن الأصل في الخمر مثلاً الإذن من حيث منفعة الانتشاء والتشجيع وطرد الهموم، والأصل فيها أيضًا المنع من حيث مضرة سلب العقل والصد عن ذكر الله وعن الصلاة".

كأن الشاطبي فهم أن الرازي، ومن يقول بقوله يطردون بحيث لو وجدت ما فيه منفعة فهو مُباح، وما فيه مضرة فهو ممنوع مُحرَّم، والشيء الذي تجتمع فيه المفسدة والمصلحة مُباحٌ ممنوع، مُباح؛ لأن فيه نفع، وممنوع؛ لأن فيه ضرر، ثم ضرب مثل بالخمر، وهذه منصوص على أن فيها منافع للناس وفيها إثم، لكن الحَكم في مثل هذا {وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}[البقرة:219] صارت المضرة راجحة؛ فاتجه المنع لكون المفسدة راجحة.

يُمكن تصوير المسألة فيما يتساوى فيه المصلحة والمفسدة، تتساوى فيه المصلحة والمفسدة فيكون مطلوبًا ممنوعًا، ممنوع من حيث المفسدة، مطلوب من حيث المصلحة، أما إذا وجدنا مُرجِّح فلا إشكال إن كان المرجِّح للمصلحة ترجحت الإباحة وإلا فالعكس.

إذا وُجِدا على حدٍّ سواء مثاله، مثال ذلك فيه مصلحة وفيه مفسدة؟

طالب: الزواج من ضيقة الحوض.

نعم.

طالب: فيه مصلحة من حيث كف النفس عن الشهوات.

طيب.

طالب: ومفسدة من حيث إنجاب الولد.

ما تُنجب، نعم، لكن هذه مفسدةٌ عدمية نُريد مفسدة وجودية، المفسدة العدمية سهلة ما تُؤثر؛ لأنه يُنظر فيها إلى المصلحة والمفسدة، هذه لا أثر لها، نُريد مصلحة وجودية ومفسدةٌ وجودية كلاهما موجود.

طالب:.........

العلاج الدواء.

طالب:.........

ماذا فيه؟

طالب:.........

لا، إذا وافق ويكون فيه مفسدة؛ لأن له آثارًا جانبية أخرى.

في مرة من المرات وجدت علبة زجاجية فيها ماء أبيض يُعالج البهاق -البياض الذي في الجسم-، وفي الورقة الوصف الذي معه، يقول: يُحذر استعماله بكثرة؛ لأنه يُسبب سرطان الجلد، أيهما أرجح؟ الترك الراجح، إذًا لماذا صُنِّع وبيِع واشتراه الناس بأموالهم، ووجد في الأسواق؟ لأنه قد يستعمله الإنسان مع المفسدة والمصلحة على حدٍّ سواء ، وقد تكون المصلحة راجحة، وقد تكون مفسدته راجحة إذا زاد في الكمية، كثير من الأدوية التي تشتمل على مُركبَات كيميائية وغيرها فيها ضرر راجح، لاسيما مع سوء الاستعمال أو مع الإدمان عليها، ففيها مصلحة، وفيها مفسدة، هي تُعالج نوعًا من الأمراض، وتُحدِث نوعًا أو أنواعًا، فهذه مصالح ومفاسد وجودية هذه التي يتردد فيها النظر؛ لأن بعض الناس يُحاول أن يتخلص من المرض الذي هو فيه، فيه زُكام، فيه أنفلونزا أو فيه شيء يُريد أن يتخلص من هذا المرض، فيتناول من الأدوية ما يضره، هنا يتحقق المنع؛ لأنه مفسدة لاسيما في مثل هذه الأدوية الكيميائية ضررها راجح.

"وهما لا ينفكان أو يُقال: الأصل في شرب الدواء المنع؛ لمضرة شربه؛ لكراهته وفظاعته ومرارته".

هو ما يُمنع لهذا؛ لأن بعض المُر بالنسبة لبعض الناس مطلوب، بعض ما يُؤكل فيه مرارة، لكن بعض الناس يستسيغه ويجعله أفضل من الحلو، بعض الناس فيه حلاوةٌ زائدة، ويجعله هو أفضل بعض الناس، فهو ليس من هذه الحيثية، فلا يترتب عليه حكم من هذه الحيثية، لكونه مُر يحرم؟ يحرم لكونه مُر؟ لا، إنما الذي يجعله مُباحًا أو حلالاً مضرته البدنية الحسية للبدن، مثل هذه يجعله ممنوعًا.

فهذا الدواء ينتابه كونه نافعًا لعلاج بعض الأمراض، كما ينتابه أيضًا كونه ضارًّا في إحداث بعض الأمراض لا لكونه مُرًّا أو لكون الشارب لا يستسيغه؛ لأن ما لا يستسيغه اليوم يستسيغه غدًا.

على سبيل المثال الناس كلهم في أول الأمر يشربون الشاي بالحلى، يكون لذيذًا وطعمًا وكل الناس يبغونه ، لكن إذا خشي الإنسان على نفسه من هذا الحلى، وأخذ يأطر نفسه على تخفيف السكر شيئًا فشيئًا إلى أن ينعدم بالكلية، فيشرب الشاي من غير سكر، يستسيغه أكثر من الذي فيه سكر.

فهذا ما يضر، هذه المسألة مسألة ذوق، بعض الناس يتذوق الحلو، وبعض الناس يتذوق الحامض، وبعض الناس يتذوق المر، هذه لا يترتب عليها حُكم شرعي، الكلام في إيجاد الضرر على البدن هذا الذي يتحقق بالإدمان.

طالب:.........

نعم، لكن هل يُمنع لأنك أكلت مرًّا؟

طالب:.........

نعم، مُر ما يضرك.

طالب:.........

نعم، لكن المسألة حكم شرعي، حلال حرام، هل لأنك شربت شايًا بدون سكر يُحرم عليك؛ لأنه مُر؟ لا، لكن يحرم عليك من جهةٍ أخرى لو أدمنت على هذا الشاي بدون سكر وأكثرت الشاي خطر على الكبد مثلاً؛ لأن الكبد تحتاج إلى حلو، فمن هذه الحيثية يُمنع؛ لا لأنه مُر فالمصلحة والمفسدة المضرة والمنفعة فيما يتعلق بالبدن حسًّا.

"والأصل فيه الإذن لأجل الانتفاع به، وهما غير منفكين؟ فيكون الأصل في ذلك كله الإذن وعدم الإذن معًا، وذلك محال.

فإن قيل: المعتبر عند التعارض الراجح، فهو الذي يُنسب إليه الحكم، وما سواه في حكم المُغفل المُطَّرح.

فالجواب أن هذا مما يشد ما تقدم، إذ هو دليلٌ على أن المنافع ليس أصلها الإباحة بإطلاق، وأن المضار ليس أصلها المنع بإطلاق، بل الأمر في ذلك راجعٌ إلى ما تقدم، وهو ما تقوم به الدنيا للآخرة، وإن كان في الطريق ضررٌ ما متوقع، أو نفعٌ ما مُندفِع".

إذا نظرنا إلى ما أُمِر به من العبادات، دعونا من مسألة الإباحات وما يتعلق بالمطعومات، أُمِرت بأن تُجاهد، ويغلب على ظنك أنك تُقتل؛ لعدم التكافؤ، أنت مأمور، لكن في ذلك تفريط بالنفس، وحفظ النفس من ضرورات الدين، من الضروريات والكليات الخمس، هل معنى هذا أنك تُمنع من الجهاد؟ يعني الجهاد في حقك حرام، أو نقول: كونك تُقتل بعد أن استجبت وجاهدت، كونك تُقتل مصلحة على مصلحة؟ هل نقول: عندنا مفسدة ومصلحة، مصلحة إقامة الدين بالجهاد، ومفسدة قتل النفس، أو نقول: مصلحة على مصلحة، نور على نور، شهادة على جهاد أيهما؟ ماذا نقول؟

طالب:.........

كيف؟

طالب:.........

يعني مصلحةٌ على مصلحة، فلا نقول: إن الجهاد يُمنع من مثل هذه الصورة.

طالب:.........

إذًا مصلحة على مصلحة، اجتمعت مصلحة الدنيا والدين، الدنيا والآخرة.

في الطريق ضررٌ ما متوقع أنت أُمرت بالصلاة مع الجماعة، لكن في طريقك سَبع هل نقول: تذهب تصلي مع الجماعة ولو التهمك هذا السبع مثل ما نقول في الجهاد؟ نقول مثل هذا؟ لا ما نقول بمثل هذا، لماذا؟ لأن مصلحة الجهاد عامةٌ في الأمة، ومصلحة الصلاة خاصة في الشخص، والمصلحة العامة مقدمة.

طالب:.........

كيف النفع قليل؟

طالب:.........

أنت عندك مصلحة وهي إقامة الدين، ما أنت مقيم الدين وحدك تبدأ.

المسألة مسألة الانغماس وما في حكمها، وكون أبي بكرة نزل من بكرة بمفرده من الحصن هذه مسائل، كون الإنسان يرتكب عزيمة هذا شيء، وكونه يُريد الجهاد ويمتثل أمر الله –جلَّ وعلا-، لكن يترخص في المسائل التي يُعذر فيها هذا أيضًا ما يُلام على ذلك.

طالب:.........

على كل حال مسائل الجهاد لها وقتها -إن شاء الله تعالى-.

"ومنها: أن القرافي أورد إشكالاً في المصالح والمفاسد ولم يُجب عنه، وهو عنده لازمٌ لجميع العلماء المعتبرين للمصالح والمفاسد، فقال".

كثير من أهل العلم سواءٌ في مؤلفاتهم أو في دروسهم يُثيرون إشكالات، ويعرضونها على الطلاب؛ ليُفيدوا من أجوبتهم، نعم قد يُعرض الإشكال من أجل امتحان الطلاب واختبارهم، وقد يكون الشيخ ما عنده حل لهذا الإشكال، فيستفيد من الطلاب، وقد لا يستطيع الطلاب حل هذ الإشكال، هل نقول: عرض مثل هذا الإشكال مُفيد ولا تركه؟ عرضه مفيد جدًّا، عرضه مُفيد يُسري الموضوع إذا ما حُل بهذا الدرس حله بدرسٍ ثاني، إذا ما حله الشيخ يتشاور الطلاب عليه، يسألون مشايخ آخرين، فوجود مثل هذه الإشكالات، وهنا يقول: "أورد إشكالاً" يعني: القرافي "في المصالح والمفاسد ولم يُجب عنه"، ولعله بيَّض له علَّه أن يجد حلًّا لهذا الإشكال أو لهذه الإشكالات.

"فقال: المراد بالمصلحة والمفسدة إن كان مسماها كيف كانا، فما من مُباحٍ إلا وفيه في الغالب مصالح ومفاسد، فإن أكل الطيبات ولبس اللينات فيها مصالح الأجساد ولذات النفوس، وآلامٌ ومفاسد في تحصيلها، وكسبها، وتناولها، وطبخها، وإحكامها، وإجادتها بالمضغ، وتلويث الأيدي....إلى غير ذلك مما لو خُيّر العاقل بين وجوده وعدمه لاختار عدمه، فمن يؤثر وقد النيران".

وقيد.

طالب: وقيد عندك؟

نعم.

"وملابسة الدخان وغير ذلك، فيلزم أن لا يبقى مُباحٌ البتة".

لأنه ما من شيء إلا ويعتريه مثل هذه الأمور، فلا يبقى حينئذٍ مُباح.

"وإن أرادوا ما هو أخص من مطلقهما مع أن مراتب الخصوص متعددة، فليس بعضها أولى من بعض؛ ولأن العدول عن أصل المصلحة والمفسدة تأباه قواعد الاعتزال، فإنه سفه".

"تأباه قواعد الاعتزال" لأن الأصل المُقرر عند المعتزلة أن الله –جلَّ وعلا- يجب عليه رعاية الأصلح عندهم، يجب عليه رعاية الأصلح، وهذا قولٌ باطل بلا شك، يُقابله انتفاء التحسين والتقبيح بالكلية، ونفي المصالح والمفاسد، وأن المُعوَّل على النصوص ولو كانت لا يترتب على الأمر والنهي أدنى مصلحة ولا يرتفع أعلى مفسدة، فلا هذا ولا هذا المصالح والمفاسد في الأحكام موجودة، والحِكم موجودة، موجودة ويُدركها العقل، لكن العقل فيها تابعٌ للشرع بحيث لو عجز عن دركها فعليك أن ترضى وتُسلِّم.

كثير من أهل العلم يُبدي حكمة من هذا الحكم من تحريم كذا، من إيجاب كذا، وأحيانًا يقفون ما يجدون، وحينئذ يقولون: تعبد، التعبد يعني امتثال الأمر والنهي من غير وصولٍ إلى تحقق مصلحةٍ أو درء مفسدة. هذا مرده القصور في هذه العقول؛ ولذلك تجد حتى من يتلمس الحِكم، ويُبديها، تجد آخر يُبدي حكمة أوضح منها وأظهر، وثالثًا يُبدي أضعف وهكذا، فدل على أن الحِكم والعلل التي لا يُنَص عليها في نفس الخبر الذي جاء به الحكم، هي مجرد استنباط من أهل العلم؛ ولذا يقولون: لا يدور معها الحكم وجودًا وعدمًا إنما إذا كانت منصوصة من الشارع دار معها، وعلى كل حال لا يخلو تشريعٌ من حكمة؛ لأنها جاءت من عند الحكيم الخبير سواءً أدركناها أو لم نُدركها.

أما قول المعتزلة في وجوب رعاية الأصلح، فهذا قولٌ باطل ومُحادةٌ لله –جلَّ وعلا-، فلا يجب على الله شيء، نعم الله –جلَّ وعلا- حرَّم الظلم على نفسه فضلاً منه وكرمًا، لكن لا يُقال: بأنه يحرم على الله كذا، أو يجب عليه كذا، هذا سوء أدب مع الرب -جلَّ وعلا-.

ويُقابل ذلك من يُلغي دور العقل بالكلية بحيث لا يتفهم شيئًا، ولا يُدرك مصلحةٌ لا محضة ولا راجحة من أمر، ولا العكس بالنسبة للنهي، وأهل السُّنَّة في هذا وسط يُدركون المصالح والمفاسد، ويدورون مع النصوص، ويجعلون الحكم في ذلك النصوص المعتزلة يجعلون النص تابعًا للعقل، والأشاعرة في هذه المسائل يجعلون العقل مُلغى، وأهل السُّنَّة يجعلون العقل موجودًا ويُدرك، لكنه مختومٌ بزمام الشرع.

"ولا يمكنهم أن يقولوا: إن ضابط ذلك أن كل مصلحةٍ توعد الله على تركها، وكل مفسدةٍ توعد الله على فعلها هي المقصودة، وما أهمله الله تعالى غير داخلٍ في مقصدونا، فنحن نريد مطلق المعتبر من غير تخصيص، فيندفع الإشكال؛ لأنَّا نقول: الوعيد عندكم والتكليف تابعٌ للمصلحة والمفسدة، ويجب عندكم بالعقل أن يتوعد الله على ترك المصالح وفعل المفاسد، فلو استفدتم المصالح والمفاسد المعتبرة من الوعيد للزم الدور".

الدور هو: ترتيب شيءٍ على شيءٍ مترتبٍ عليه، يعني مثل ما تقول: الدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة، هذا دور أم تسلسل؟

طالب: هذا دور.

هذا إذا كان ما عندنا إلا بيضة ودجاجة فقط، نقول: هذه من هذه، وهذه من هذه يلزم عليه الدور، لكن إذا قلنا: إن هذه الدجاجة من تلك البيضة، وهذه البيضة من دجاجةٍ أخرى، والبيضة من دجاجةٍ ثالثة وهكذا هذا يُسمى ماذا؟ تسلسل ترتيب شيء على آخر إلى ما لا نهاية هذا التسلسل، أما الدور فهو ترتيب الشيء على شيءٍ مترتبٍ عليه هو بحيث يعود إليه، تذكرون من أمثلته، قول الشاعر:

لولا مشيبي ما جفا

 

لولا جفاه لم أشب

حصل جفاء بينه وبين محبوبه، فهل مشيب هذا بسبب الجفاء أو الجفاء بسبب المشيب؟ دور هذا يلزم عليه الدور؛ لأن كل واحد منهم مُرتب على الثاني.

فهذا الدور الذي معنا توجيهه في كلام الشيخ/ دراز بالتعليق يقول: "تقريره أنهم يقولون: إن العقل يتأتى له الاستقلال بفهم أكثر المصالح والمفاسد، ويأتي الشرع كاشفًا ومُقررًا لِما أدركه العقل، ويقولون: إنه يجب عقلاً أن يتوعد الله على ترك المصلحة، فكأنهم يقولون: إن التوعد على ترك المصلحة يفهمه العقل تبعًا لإدراكه المصلحة، فلو قالوا: إن إدراك المصلحة يُعلم من التوعد الوارد من الشرع، لزم توقف علم المصلحة على التوعد" هم يقولون: أدركنا المصلحة بالعقل، نعم أدركنا المصلحة بالعقل "فلو قالوا إن إدراك المصلحة يُعلم من التوعد الوارد من الشرع لزم توقف علم المصلحة على التوعد، وقد كان علم التوعد موقوفًا على علم المصلحة، وهذا هو الدور بعينه"، يقول: العقل كيف
أدرك الأصل؟ إن العقل يُدرك
مع انفكاكه عن الشرع يُدرك بذاته، وكيف عرفنا أن هذا ممنوع؟ لأن الله توعد عليه، ولماذا توعد عليه؛؟ لأنه مُخالف للعقل، إذاً هذا هو الدور بعينه، نعم.

"ولو صحت الاستفادة في المصالح والمفاسد للزمكم أن تجوزوا أن يرد التكليف بترك المصالح وفعل المفاسد، وتنعكس الحقائق حينئذ، فإن المعتبر هو التكليف، فأي شيءٍ كلف الله به كان مصلحة، وهذا يبطل أصلكم".

يعني كلف الله بفعله صار مصلحة، إذا كلف الله –جلَّ وعلا- بتركه كان مفسدة وهذا يُبطل أصله.

"قال: وأما حظ أصحابنا من هذا الإشكال، فهو أن يتعذر عليهم".

أنه..أنه.

"فهو أنه يتعذر عليهم أن يقولوا: إن الله تعالى راعى مُطلق المصلحة، ومُطلق المفسدة على سبيل التفضيل؛ لأن المباحات فيها ذلك ولم يراع، بل يقولون: إن الله ألغى بعضها في المباحات، واعتبر بعضها، وإذا سُئلوا عن ضابط المعتبر مما ينبغي أن لا يعتبر عسر الجواب، بل سبيلهم استقراء المواقع فقط".

الواقع.

طالب: الواقع؟

نعم.

"وهذا وإن كان يُخل بنمطٍ من الاطلاع على بعض أسرار الفقه، غيرأنهم يقولون: {وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء}[إبراهيم:27]، و{يَحْكُمُ مَا يُرِيد}[المائدة:1] ويعتبر الله ما يشاء، ويترك ما يشاء لا غيره في ذلك".

لا غرو في ذلك.

طالب: لا غرو؟

نعم.

طالب:........

نعم.

طالب:........

لا غرو، لا جرم، وهو صوب في الحاشية أن الذي يظهر لي أن أصل العبارة "لا غير ذلك" يعني هم أنهم يتمسكون بهذا الكلام، ولا يذكرون غيره، المقصود أن هؤلاء الذين اضطربت أقوالهم حينما يجرون المصالح أحيانًا ولا يُجرونها أحيانًا، ويُفرقون بين بعض المتماثلات نهايتهم أن يقولوا: يفعل الله ما يشاء، يعني علينا أن نرضى ونُسلِّم.

و{يَحْكُمُ مَا يُرِيد}[المائدة:1] إنما نحن مربوبون نمتثل أوامر الرب –جلَّ وعلا- هذه نهاية قولهم؛ لأن قولهم لا يطَّرد.

"وأما المعتزلة الذين يوجبون ذلك عقلاً، فيكون هذا الأمر عليهم في غاية الصعوبة؛ لأنهم إذا فتحوا هذا الباب تزلزلت قواعد الاعتزال. هذا ما قاله القرافي.

وأنت إذا راجعت أول المسألة وما تقدم قبلها، لم يبق لهذا الإشكال موقع، أما على مذهب الأشاعرة، فإن استقراء الشريعة دل على ما هو المعتبر مما ليس بمعتبر، لكن على وجهٍ يُحصَّل ضوابط ذلك، والدليل القاطع في ذلك استقراء أحوال الجارين على جادة الشرع من غير إخلالٍ بالخروج في جريانها على الصراط المستقيم، وإعطاء كل ذي حق حقه من غير إخلالٍ بنظام، ولا هدمٍ لقاعدةٍ من قواعد الإسلام، وفي وقوع الخلل فيها بمقدار ما يقع من المخالفة في حدود الشرع، وذلك بحسب كل بابٍ من أبواب الشرع، وكل أصلٍ من أصول التكليف، فإذا حصل ذلك للعلماء الراسخين، حصل لهم به ضوابط في كل بابٍ على ما يليق به، وهو مذكورٌ في كتبهم، ومبسوطٌ في علم أصول الفقه".

لا شك أنه يظهر للعالم الراسخ ما لا يظهر لمن دونه، وكلما توسع العالم في العلم وتحصيله، العلم الموروث من علم الكتاب والسُّنَّة لا شك أنه يتكشَّف له أمور لا تضح لغيره ولا تبين لغيره، فلو نظرنا إلى أجوبة شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- وهو من أهل الإحاطة والاطلاع التام نجد أجوبته مُطردة، قد يُستشكل منها شيئًا، لكنه جارٍ على قواعد عامة منضبطة؛ لأن الإحاطة بالنسبة للعالم الراسخ في جميع أبواب الدين تجعل تصوره عن الدين كاملاً تجعل التصور كاملًا، يعني في مقدور ما أوتي، ولن يخرج أحدٌ من دائرة قول الله –جلَّ وعلا-: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلا}[الإسراء:85]، لكن يُوجد ممن يُمكن أن يُوصف بأنه من بحور العلم، ويُوجد العالم، ويُوجد العلامة، ويُوجد طالب علم، ويُوجد...الناس متفاوتون، لكن إذا تمت النظرة إلى الدين من جميع أبوابه لا شك أن مثل هذا يكون قوله مُطردًا، ما تجد خللًا في كلامه، وإذا كان على اطلاعٍ ومعرفةٍ وفهمٍ بما يُعينه على فهم العلم الشرعي تجد الصورة أوضح؛ ولذلك تجد أهل التخصص مثلاً الذين يتخصصون في فنٍ واحد إذا خرج عن فنه ضاع، وقد يرد عليه في فنه ما لابد له منه من العلوم الأخرى، فلا يُحسن هذه المسألة وإن كانت في فنه، لكن صاحب التفنن، وصاحب الضرب في كل علمٍ من العلوم بقدر ما أعطاه الله– جلَّ وعلا- من فهم وقدرةً على الحفظ مثل هذا ما يقف في وجهه شيء في الغالب؛ ولذا يشترطون لمن يُفسِّر القرآن أو يشرح كلام النبي –عليه الصلاة والسلام- أن يكون متفنًّا، لكن كونه ينطوي على علمٍ من العلوم ويُغرِق في هذا العلم ويترك غيره، ثم يأتي ليُفسر القرآن، القرآن ما أُلِّف لأهل هذا الفن وحدهم.

 ولذا تجدون الخلل في التفاسير المبنية على الفنون، فتجد مثلاً المُحدِّث يستطرد في ذِكر الروايات المرفوعة والموقوفة والآثار وغيرها، لكن أيضًا القرآن له جوانب أخرى، نعم خير ما يُفسَّر به القرآن كلام النبي –عليه الصلاة والسلام- بعد كلام الله –جلَّ وعلا- لكن أيضًا القرآن له جوانب أخرى في أسلوبه في نظمه في إحكام شرائعه من نواحي أخرى مطلوبة، فتجد الخلل يتطرق إلى هذا العالم من هذه الحيثية.

لكن لو رأيت مثلاً تفسير الطبري وهو مُصنَّف على أنه تفسير أثري، لكن فيه من العلوم الأخرى من كل فن فيه من علوم العربية من النحو والصرف والمعاني والبيان وغيرها من العلوم شيء أكثر من الكتب المتخصصة، لكن لمَّا كان الغالب عليه الأثر ما يُلتفت إلى هذه الأمور، وقد أُجري مقارنة بين تفسير الطبري وبين الزمخشري المتخصص في المعاني والبيان، وجِد الطبري أمكن من الزمخشري في هذا العلم، ولو قارنت بين ما جاء في تفسير الطبري من المسائل النحوية لو قارنته في كتاب سيبويه وجدت الرجحان، فالمسألة مسألة تفنن؛ ولذا تجد مثلاً النحوي يُفسر القرآن ما فيه إشكال يُفسر، لكن تطلب أحكامًا فقهية، تطلب آثارًا وأحاديث ما تجد؛ لقصور باعه في هذا الباب، لأن الإنسان وهو يُفسِّر نعم قد يستفيد من المراجع، ويفتح المراجع أمامه، ويستفيد من هذا الكتاب وهذا الكتاب، لكن يبقى أنها علوم متناثرة ما لم تكن مصوغة في الذهن قبل، ومرتبة ومنظمة ويستطيع أن يتعامل مع هذا النص وكيف يخدمه بالنص الآخر.

ولذا وجدت التفاسير على أنحاء، وأثرت فيها التخصصات، فمن العقائد وكثيرٌ من التفاسير محشو بالعقائد الباطلة، فلو رأيت تفسير الزمخشري مبني على قواعد المعتزلة، الرازي مبني على قواعد الأشعرية والجبرية وغيرهم، فمثل هذا لا شك أن هذا يُضعف وإن كان فيه جوانب في غاية القوة في فنه، لكن أيضًا عدم معرفته بالعلوم الأخرى خلل في تفسيره، الرازي لمَّا ذكر في تفسير سورة العصر حديثًا رفعه، حديثًا مرفوعًا وقال: إن امرأةٌ جاءت تسأل عن النبي –عليه الصلاة والسلام- في أسواق المدينة فدُلت عليه، فقالت: إنها شربت الخمر وزنت وولدت وقتلت الولد، فقال: «أما القتل فجزاؤه جهنم، وأما شرب الخمر فالحد، وأما الزنا فلعلكِ لم تصلي صلاة العصر»، هذا ساقه الرازي في تفسير سورة العصر، ثم نقله عنه الألوسي، وقال: "تفرَّد بذكره الإمام" هم يطلقون على الرازي عليه الإمام مطلقًا، قال الإمام، قال الإمام، "تفرَّد بذكره الإمام، ولعمري إنه إمامٌ في معرفة ما لا يعرفه أهل الحديث" هذا مدح أم ذم؟ ذم هذا، كيف لا يعرف الحديث ويُفسِّر القرآن.

أقول: تطرق الخلل على هذه التفاسير من القصور في أهم المهمات؛ ولذا تجدون تفاسير أقل حجمًا وأكثر نفعًا، نعم هي بحاجة إلى أن يتكلم على الآيات من النواحي الأخرى، لكن مجموع هذه التفاسير للرجل الذي يستطيع الاستيعاب، ويستطيع أن يتخلص من هذه المخلفات لا شك أن يُفيد منها.

بعضهم يُصور العلم المتكامل بخارطة كبيرة، هذه الخارطة مُزِقت قطعًا صغيرة، يكون تصوره عن هذه الخارطة بقدر ما تُرجع من هذه القطعة الصغيرة إلى مكانها، واضح أم ليس بواضح؟ يعني لو أرجعت الخارطة كلها كل قطعة في مكانها يكون تصورك تامًّا، لكن لو انخرم عندك شيء، انخرم من تصورك بقدر ما انخرم من هذه الخارطة، أما الذي لا يستطيع إلا أن يجعل أشياء يسيرة جدًّا هذا ما عنده تحصيلٌ كامل.

"وأما على مذهب المعتزلة، فكذلك أيضًا؛ لأنهم إنما يعتبرون المصالح والمفاسد بحسب ما أداهم إليه العقل في زعمهم، وهو الوجه الذي يتم به صلاح العالم على الجملة والتفصيل في المصالح، أو ينخرم به في المفاسد، وقد جعلوا الشرع كاشفًا لمقتضى ما ادعاه العقل عندهم بلا زيادة ولا نقصان".

زيادةٍ.

"بلا زيادةٍ ولا نقصان، فلا فرق بينهم وبين الأشاعرة في محصول المسألة، وإنما اختلفوا في المُدرك".

يعني هل المعتزلي يلتزم بهذا الكلام، بلازم هذا الكلام؟ هل المعتزلي يلتزم بلازم هذا الكلام؟ بمعنى أن الزمخشري يُقرر حكمًا شرعيًّا قبل معرفة دليله بعقله، ثم يجد الدليل مؤيدًا لكلامه، أليس من لازم كلامهم هذا أنهم يعرفون الأحكام والمصالح والمفاسد بالعقل، ثم يأتي بعد ذلك يأتي الشرع كاشفًا لهذا العقل لِما توصل إليه؟ لا يُمكن أن يدعي أحد من المعتزلة مهما بلغ أن يدعي مثل هذا.

"واختلافهم فيه لا يضر في كون المصالح معتبرةً شرعًا ومنضبطةً في أنفسها،

وقد نزع إلى هذا المعنى أيضًا في كلامه على العزيمة والرخصة، حين فسرها الإمام الرازي بأنها: جواز الإقدام مع قيام المانع. قال: هو مُشكل".

لابد أن يقول مع ذلك لمصلحةٍ راجحة، فالأكل من الميتة إقدام على الممنوع مع قيام المانع حُرِّمت عليكم الميتة لمصلحةٍ –لابد أن يُضيف- لمصلحةٍ راجحة.

"هو مُشكل؛ لأنه يلزم أن تكون الصلوات والحدود والتعازير والجهاد والحج رخصة، إذ يجوز الإقدام على ذلك كله، وفيه مانعان: ظواهر النصوص المانعة من إلزامه، كقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78]".

يُريد أن يجعل مثلاً ذهاب الإنسان من بلده إلى مكة ومزاحمة الناس حرجًا، ذهابه إلى المسجد حرجًا، ذهابه إلى الجهاد حرجًا، المانع موجود من ذهابك إلى المسجد؛ لأنه حرج، المانع موجود من ذهابك إلى مكة؛ لأنه حرج، المانع موجود من ذهابك إلى الجاهد؛ لأنه حرج، وقُل هذا في جميع العبادات، وأيضًا الحدود والتعازير كلها حرج، فالمانع موجود، ويجوز الإقدام عليها مع وجود المانع، فعلى هذا تكون كلها رُخص؛ لمعارضتها للأصل؛ لأن الأصل أن الدين ما فيه حرج.

لكن ما معنى الحرج؟ هل الحرج التكليف الذي قال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78] هو الذي كلفنا بهذه العبادات، فدل على أن التكليف بهذه العبادات خارج من الحرج، هذا لا يُسمى حرجًا، وإلا حصل التناقض في كلامه -تعالى الله وعز- فدل على أن التكليف بهذه العبادات ليس من الحرج {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا}[البقرة:286] وإلا في عبادات الأصل في التكليف أنه إلزام كلفة ومشقة على النفوس، وفي بعضها مشقة شديدة لاسيما مع النفوس التي ما تروضت على العبادات وأحبتها وإن جاءت إليها منقادة هذا حرج شديد، لكن مع ذلك هو ما جعل عليكم في الدين من حرج، ولا حُمِّلنا من الآصار والأغلال بالنسبة لمن تقدمنا هناك أمور فُرِضت على من تقدمنا وخُفف عنا، فما جعل علينا من حرج، الحرج الذي وُجِد على من قبلنا.

"وفي الحديث: «لا ضرر ولا ضرار»، وذلك مانعٌ من وجوب هذه الأمور".

وهذا الحديث له طُرق كثيرة، ومروي عن جمع من الصحابة، وهو بمجموعه يصل إلى الصحيح لغيره.

"والآخر أن صورة الإنسان مكرمة؛ لقوله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}[الإسراء:70]".

{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}[الإسراء:70] تكرم بني آدم ومع ذلك تأمر بجلده أو رجمه أو قتله؟ نعم هذا من تكريمه، إقامة الحدود عليه من تكريمه وصيانةً له ولغيره من الإهانة.

"{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم}[التين:4] وذلك يناسب ألا يُهلك بالجهاد، ولا يلزمه المشاق والمضار.

وأيضًا الإجارة رخصةٌ من بيع المعدوم، والسلم كذلك".

كيف صارت "الإجارة رخصةٌ من بيع المعدوم"؟ البيع هنا بيع منفعة، والمنفعة ما حصلت إلى الآن، بيع مستقبل يعني ما بعد تحققت، متى يتحقق هذ المعدوم؟ إذا تمت مدة الإجارة واستوفى المنفعة كاملة تحقق هذا المعدوم، لكن هل العقد يكون قبل التحقق أو بعده؟ قبله، فهذا بيع معدوم، وهذا مُستثنى من بيع المعدوم على حد زعمه.

"والقراض والمساقاة رخصتان لجهالة الأجرة".

نعم القراض والمضاربة يُعطيه المال على أن يكون له نصف الربح، نصف الربح معلوم أم مجهول؟ مجهول المقدار، وإن عُلِمت نسبته.

"والصيد رخصةٌ لأكل الحيوان بدمه، ولم تعد منها، واستقراء الشريعة يقتضي ألا أن لا مصلحة".

كيف يُؤكل الحيوان بدمه؟ "الصيد رخصةٌ لأكل الحيوان بدمه" ما صار رخصة إذا مات قبل أن...

طالب:.........

نعم.

طالب:.........

طيب ما خرج منه دم محل الرمي؟ يعني أنت افترض مثلاً أن الأصل في المذبوح أن يخرج منه الدم المسفوح الذي هو في الأصل ضار مثل ما تُزكى بهيمة الأنعام، فيخرج منها دم كثير، فلو عقر حمارًا وحشيًّا مع فخذه، وسال منه شيءٌ يسير ومات هنا نقول: إنه صيدٌ، ماذا صار عليه؟ يُؤكل بدمه، الدم المسفوح ما خرج كله.

"واستقراء الشريعة يقتضي ألا مصلحة إلا وفيها مفسدةٌ وبالعكس، وإن قَلت على العبد كالكفر والإيمان، فما ظنك بغيرهما؟"

المصلحة في الإيمان يقول: إن فيها مفسدة ينظرون إلى المسألة مجردة، إيمان يُلزمك بلوازم ويحرمك من بعض المتع، وبعض الأمور التي تستمتع بها في هذه الدنيا، فهذه مفسدة، لكن أين مصلحة الإيمان من هذه المفاسد التي ليست مفاسد، يعني لو دققنا وحققنا لوجدناها مصالح، وقُل مثل هذا في الكفر، يعني فيه مصلحة على حد تقديرهم وزعمهم أن المصلحة في الكفر أنك تستمع بجميع ما خلق الله لك، ولا تُمنع ولا تُكف من شيء، لكن هناك أمثلة أوضح من هذا.

أنت جالس في المسجد معك المصحف تقرأ القرآن لمدة ساعة، أنت في هذه الساعة على مصلحةٍ عظيمة، لكن هناك مفاسد: أضعت التكسب في أمور الدنيا، وأضعت عبادات أخرى، يعني بدل ما تقرأ هذه الساعة تُصلي عشرين ركعة مثلاً، وهذه بالنظر إلى الأولى مفسدة، وأضعت أيضًا الإشراف على أولادك وتربيتهم في هذه الساعة، لكن في الشرع تنوع عبادات مقصودة للشارع، وهي من فضل الله –جلَّ وعلا- على عباده، وهذه من الأنواع، لا يعني أنك تجلس في المسجد تقرأ وتترك جميع مصالحك، لا، فأنت تقرأ في وقت، وتُصلي في وقت، وتطلب الكسب في وقت، وتُربي أولادك في وقت، بهذا تتكامل المسألة، فلا تكون مفاسد إذا نظرنا إليه من هذه الحيثية.

 ومع ذلك ينبغي للمكلف أن يُفاضل بين هذه العبادات، وأن يفعل منها ما هو الأفضل في وقته، فمثلاً التسبيح في الركوع والسجود أفضل من قراءة القرآن، وقراءة القرآن جاء النهي عنها في هذا الموضع، بل صرحوا بتحريمها في حال الركوع والسجود، وإن كان الأصل أن القرآن كلام الله، وأفضل الكلام، وأفضل الأذكار.

"وعلى هذا ما في الشريعة حكمٌ إلا وهو مع المانع الشرعي؛ لأنه لا يُمكن أن يراد بالمانع ما سلم عن المعارض الراجح، فإن أكل الميتة وغيره وُجِد فيه معارضٌ راجحٌ على مفسدة الميتة، فحينئذٍ ما المراد إلا المانع المغمور بالراجح، وحينئذ تندرج جميع الشريعة؛ لأن كل حكمٍ فيه مانعٌ مغمورٌ بمعارضه.

ثم ذكر أن الذي استقر عليه حاله في شرحي (التنقيح) و(المحصول) العجز عن ضبط الرخصة.

وما تقدم -إن شاء الله تعالى- يُغني في الموضع، مع ما ذُكر في الرخصة في كتاب الأحكام".

أكل الميتة بالنسبة للمضطر رخصة؛ لأنه جاء على خلاف الدليل الشرعي مع قيام المانع، لكن جاءت الرخصة لوجود المعارض الراجح، وهو حفظ النفس، لكن
ألا يمكن أن يُوصف بالوجوب؟ وهل من الرخص ما يجب؟ نعم مسألةٌ خلافية منهم من يجعل الواجبات والمحرمات من قبيل العزائم ولا تدخلها الرخص؛ لأنه كيف مُسمى الرخصة وهي يسر وسهولة، ومع ذلك نُؤثِّم تارك هذه الرخصة!! وهذا تقدَّم في القسم الأول.

"ومنها: أن هذه المسألة إذا فُهِمت حصل بها فهم كثيرٍ من آيات القرآن وأحكامه، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً}[البقرة:29]".

نعم؛ لأنه يحصل خلط أن بعض الناس يكتب ويقول: كيف نُضيق على أنفسنا بسد الذرائع، والله –جلَّ وعلا- خلق لنا ما في الأرض جميعًا، والمحرمات منصوصة وأشياء يسيرة، وما عدا ذلك خلق لنا ما في الأرض جميعًا، فلابد من اعتبار ما تقدم.

"وقوله: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ}[الجاثية:13].

وقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}[الأعراف:32] الآية". وما كان نحو ذلك

لأن هذه يستدل بها بعض الناس تجد عليه أمورًا مُحرمة، ثم بعد ذلك يُنازع {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ}[الأعراف:32] يدخل في الإسراف ويُغرِق فيه، ثم بعد ذلك يقول: {مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ}[الأعراف:32] ضاربًا بالنصوص الأخرى التي تمنعه عرض الحائط، وإنما يتبع هواه، ويستدل من الشرع بما يُوافق هواه.

"وما كان نحو ذلك من أنها ليست على مقتضى ظاهرها بإطلاق، بل بقيودٍ تقيدت بها، حسبما دلت عليه الشريعة في وضع المصالح ودفع المفاسد، والله أعلم.

ومنها: أن بعض الناس قال: إن مصالح الدار الآخرة ومفاسدها لا تُعرف إلا بالشرع، وأما الدنيوية، فتُعرف بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات.

قال: ومن أراد أن يعرف المناسبات في المصالح والمفاسد، راجحها من مرجوحها، فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشارع لم يُرد به".

لم يَرد.

"لم يَرد به".

يعني إذا أراد أن يفعل مُحرَّمًا، أراد أن يُقدِم على أمرٍ مُحرَّم يعرضه عل عقله، وعنده نص كالخمر مثلاً فيه النصوص القطعية في تحريمه، عنده النصوص، لكن يعرض على عقله هل أستفيد أو لا أستفيد؟ يوازن بين المصالح والمفاسد، هل المصالح راجحة أو مرجوحة؟ وهكذا في كل مُحرَّم، وهكذا في كل واجب قبل أن يرد...يعتبر أن الشارع لم يرد بهذا، ثم يجد أن الشرع راعى المصالح ورجحان المصالح، وراعى أيضًا درء المفاسد.

"ثم يبني عليه الأحكام، فلا يكاد حكمٌ منها يخرج عن ذلك، إلا التعبدات التي لم يُوقف على مصالحها أو مفاسدها. هذا قوله".

نعم التعبدات، يعني ما الحكمة في كون صلاة المغرب ثلاثًا، وصلاة العشاء أربعة؟ هذه أمور تعبدية لا يدخلها عقل؛ ولذا لا يُقاس عليها، فعلينا حينئذٍ أن نُسلِّم.

"وفيه بحسب ما تقدم نظر، أما أن ما يتعلق بالآخرة لا يُعرف إلا بالشرع، فكما قال، وأما ما قال في الدنيوية، فليس كما قال من كل وجه".

لأن ليس لها نظير يُقاس عليها، يعني أمور الآخرة ليس لها نظير يُقاس عليها؛ ولذا جاء في الحديث «أنه ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء».

"بل ذلك من بعض الوجوه دون بعض؛ ولذلك لمَّا جاء الشرع بعد زمان فترة، تبين به ما كان عليه أهل الفترة من انحراف الأحوال عن الاستقامة، وخروجهم عن مقتضى العدل في الأحكام.

ولو كان الأمر على ما قال بإطلاق، لم يُحتج في الشرع إلا إلى بث مصالح الدار الآخرة خاصة، وذلك لم يكن".

لأنه بالنسبة لأمور الدنيا، يقول: تُعرف بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، يعني هذه يُدركها كل إنسان، فالإشكال في أمور الآخرة التي لا يُمكن قياسها ولا مشاهدتها فتُدرك.

"وإنما جاء بما يقيم أمر الدنيا وأمر الآخرة معًا، وإن كان قصده بإقامة الدنيا للآخرة، فليس بخارجٍ عن كونه قاصدًا لإقامة مصالح الدنيا، حتى يتأتى فيها سلوك طريق الآخرة، وقد بث في ذلك من التصرفات، وحسم من أوجه الفساد التي كانت جارية ما لا مزيد عليه، فالعادة تُحيل استقلال العقول في الدنيا بإدراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل، اللهم إلا أن يُريد هذا القائل أن المعرفة بها تُحصَّل بالتجارب وغيرها، بعد وضع الشرع أصولها، فذلك لا نزاع فيه".

اللهم صلِّ على محمد.

على ذِكر الإشكالات التي أوردها القرافي، هذا سائل يقول:

هل مناسب إيراد الإشكالات في العقيدة مع أن العلماء مُقرون على أن الشبهة – يقول-: خطافة والقلوب ضعيفة؟

الشبهة يقول: إن الشبهة تقبلها القلوب بسرعة؛ لأن من يُلقى عليه هذه الشبهة لا شك أنهم يُتفاوتون، فلا تُلقى الشُّبه على عوام؛ لأنهم لا يدركون، ولا يدركون الجواب عنها، ولا تُلقى أيضًا على مبتدئين من المتعلمين؛ لأنهم في أحكام العوام، لكن من تمكن من معرفة عقيدة السلف الصالح، وأراد أن ينظر في العقائد الأخرى الباطلة، وينظر شُبههم، والجواب عنها والرد عليها، هذا نوع من الجهاد، والآن مع الأسف الشديد أنه مع الانفتاح في وسائل الإعلام هذه الشُّبه وصلت إلى قعر البيوت، وصلت إلى عوام المسلمين في بيوتهم، على هذا لابد من كشفها والإجابة عنها.

اللهم صلِّ على محمد.

اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك.

"