التعليق على تفسير القرطبي - سورة النور (08)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:

"قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [(35) سورة النــور].

 قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية، النُّورُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْأَضْوَاءُ الْمُدْرَكَةُ بِالْبَصَرِ. وَاسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِيمَا صَحَّ مِنَ الْمَعَانِي وَلَاحَ، فَيُقَالُ مِنْهُ: كَلَامٌ لَهُ نُورٌ. وَمِنْهُ: الْكِتَابُ الْمُنِيرُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

نَسَبٌ كَأَنَّ عَلَيْهِ مِنْ شَمْسِ الضُّحَا .. نُورًا وَمِنْ فَلَقِ الصَّبَاحِ عَمُودَا

وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: فُلَانٌ نُورُ الْبَلَدِ، وَشَمْسُ العصر وقمره. وقال:

فإنك شمس والملوك كواكب

وَقَالَ آخَرُ:

هَلَّا خَصَصْتَ مِنَ الْبِلَادِ بِمَقْصِدٍ .. قَمَرَ الْقَبَائِلِ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ

وَقَالَ آخَرُ:

إِذَا سَارَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ مَرْوَ لَيْلَةً .. فَقَدْ سَارَ مِنْهَا نُورُهَا وَجَمَالُهَا

فَيَجُوزُ أَنْ يُقَال لِلَّهِ تَعَالَى نُورٌ مِنْ جِهَةِ الْمَدْحِ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَدَ الْأَشْيَاءَ، وَنُورُ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ مِنْهُ ابْتِدَاؤُهَا، وَعَنْهُ صُدُورُهَا، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَيْسَ مِنَ الْأَضْوَاءِ الْمُدْرَكَةِ جَلَّ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَقَدْ قَالَ هِشَامٌ الْجُوَالِيقِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْمُجَسِّمَةِ: هُوَ نُورٌ لَا كَالْأَنْوَارِ، وَجِسْمٌ لَا كَالْأَجْسَامِ. وَهَذَا كُلُّهُ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عَقْلًا وَنَقْلًا عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ. ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُمْ مُتَنَاقِضٌ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ: جِسْمٌ أَوْ نُورٌ حُكْمٌ عَلَيْهِ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُمْ لَا كَالْأَنْوَارِ وَلَا كَالْأَجْسَامِ نَفْيٌ لِمَا أَثْبَتُوهُ مِنَ الْجِسْمِيَّةِ وَالنُّورِ، وَذَلِكَ مُتَنَاقِضٌ، وَتَحْقِيقُهُ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. وَالَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي ذَلِكَ ظَوَاهِرُ اتَّبَعُوهَا مِنْهَا هَذِهِ الآية، وقوله -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ: «اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض» وقال -عليه السلام- وقد سئل: هل رأيت ربك؟ فقال: «رأيت نورًا» إلى غير ذلك من الأحاديث."

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فقد ابتدأ المؤلف تفسير هذه الآية بالنور المثبت للبشر، وتصور أنه لا نور إلا هذا النور، فلما هجم على قلبه وعلى رأيه هذا الأمر، والله -جل وعلا- ليس كمثله شيء، ومنزه عن مشابهة المخلوقين، كما هو دأبهم وشأنهم في جميع الصفات، يهجم على قلوبهم ما يخص البشر منها، ثم يستصحبون تنزيه الله -جل وعلا- عن مشابهة المخلوقين، ليس كمثله شيء، ثم ينفون ما أثبته الله لنفسه، وأثبته له رسوله -عليه الصلاة والسلام- ظنًّا منهم أنه مثل ما يليق بالبشر، ومثلما ما يعرفون، فشبهوا أولًا ثم عطلوا، هذه عادتهم، والله -جل وعلا- أثبت لنفسه أنه نور، وأثبت أنه له نفسًا {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [(116) سورة المائدة]، لكن هل هذه النفس هل هي مثل نفوس المخلوقين؟

 أثبت له بصرًا، أثبت له سمعًا، هل يلزم من هذا الإثبات أن يكون سمعه وبصره مثل سمع المخلوقين وبصرهم؟ وكذلك النور، لا يلزم منه أن يكون مثل نور المخلوقين، وقوله هنا: إن هذا تناقض، هذا ليس بتناقض، هم يقولون أنهم يثبتون أنه نور لا كالأنوار، فإذا أثبتوا أنه نور لا بد أن يكون كالأنوار –على رأيه– فإذا أثبتوا أنه نور ثم نفوا أنه نور هذا تناقض، أثبتوا أن له جسمًا ثم نفوا أن له جسمًا، أثبتوا أن له نورًا، كما جاء في هذه الآية وغيرها، ثم قالوا: لا كالأنوار فنفوا؛ لأنه لا يعرف من النور إلا الأنوار المشاهدة، ومن هنا دخل على هؤلاء المبتدعة الدخل، لا يتصورون مما جاء في النصوص مما يتعلق بالرب -جل وعلا- إلا ما يتصورون عن المخلوق، لا يتصورون إلا هذا.

فإذا أثبتوا له سمعًا، قالوا ما نعرف سمعًا إلا كسمع المخلوق الذي يطرقه الكلام بواسطة الأذن، ثم بعد ذلك تنقله الأذن إلى كذا، ما نتصور إلا هذا، وكذلك السمع والبصر، ما نتصور إلا هذا، والله -جل وعلا- منزَّه عن مشابهة المخلوقين، وما علموا أن للخالق ما يخصه من هذه الأمور، من هذه المثبتات، في كتاب الله -جل وعلا- وعلى لسانه نبيه -عليه الصلاة والسلام- وللمخلوق ما يخصه، إذا كان المخلوق يتفاوت، تتفاوت هذه الصفات فيه وهو مخلوق يشبه غيره.

 زيد وعمرو، زيد له وجه، وعمرو له وجه، هل نقول: أن وجه زيد مثل وجه عمرو؟ وهذا مخلوق وهذا مخلوق، كلٌّ له ما يخصه، هل سمع زيد مثل سمع عمرو؟ لا، هذا له ما يخصه، وهذا له ما يخصه، فضلًا عن أن ننتقل إلى المخلوقات الأخرى، فالإنسان له وجه، والحمار له وجه، والكلب له وجه، والقرد له وجه، والنملة لها وجه، وهي مخلوقات، تشترك، قاسمها المشترك أنها كلها مخلوقة ومرئية ومتصورة، ومع ذلك هذا التفاوت الكبير بين هذه المخلوقات، فكيف بالتفاوت بين الخالق والمخلوق؟.

طالب: هم أثبتوا أن الله تعالى نور لا كالأنوار، ما يكون بناءً على فهم لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [(11) سورة الشورى]؟

هذا الإثبات صحيح، نور لا كالأنوار صحيح، سمع لا كالأسماع، بصر لا كالأبصار، يعني لله -جل وعلا- ما يليق به.

طالب: يعني ليس هناك محذور في هذا؟

ما فيه إشكال، مسألة الجسم هذا الذي فيه كلام.

طالب: لأنه قال يا شيخ: "وهذا كله محال على الله تعالى عقلًا ونقلًا".

هذا عندهم، عندهم لما تصوروا فيما ورد عن الله في كتابه ولسان النبي -عليه الصلاة والسلام- تصوروا أنه لا بد أن يكون مثلما يعرف عن المخلوق، فهذا محال، إذا قلنا إنه نور مثل نور المخلوق، مثل نور الشمس، ومثل نور القمر، ومثل نور الكهرباء، هذا محال؛ لأن الله -جل وعلا- ليس كمثله شيء، فهم ما تصوروا في النور غير هذا، وقل مثل هذا في السمع، قالوا: سمعه مثل سمع البشر، إذا أثبتنا له سمعًا صار مثل سمع المخلوق، فلا بد أن ننفيه، والله -جل وعلا- ليس كمثله شيء، فالدخل عليهم دخل عليهم من هذه الناحية، فهم شبهوا أولًا، تصوروا المشابهة، ثم انتقلوا منها إلى التعطيل الذي هو على حد زعمهم التنزيه.

طالب: الآن المؤلف ينتقد كلام هشام الجواليقي الذي يقول: هو نور لا كالأنوار وجسم لا كالأجسام، يقول: وهذا كله محال على الله أليست هذه...؟

لا؛ لأنه يرى أن هذا تناقض، ما دام أثبت أنه نور، لا بد أن يكون كالأنوار –عندهم-، أثبت أنه كالأنوار.

طالب: هذا كلام من؟

أين؟

طالب: "هذا كله مخالف.." تابع لكلام من؟

هذا كلام القرطبي، هشام الجواليقي ومجموعة مجسمة معروف أنهم مشبهة، لكن كلامه هنا حق، نور ليس كالأنوار، سمع لا كالأسماع، بصر لا كالأبصار، لا يشبه المخلوقين.

طالب: لا كالأنوار -يا شيخ- لا يوجد فيه نفي هنا.

هو نور، أثبت كما أثبت الله لنفسه، لا كالأنوار نفى المشابهة، ما فيه إشكال «نور أنى أراه»، والله -جل وعلا- كما جاء في الحديث الصحيح «حجابه النور» وفي رواية: «النار».

طالب: هل يفهم من كلام القرطبي النفي؟

نعم ينفي قطعًا، هذه جادة عندهم، هو أشعري.

طالب: يفهم من قوله لله تعالى نور من جهة المدح أنه...

نور معنوي فقط؛ لأنه منور الكون.

"وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقِيلَ: الْمَعْنَى أَيْ بِهِ وَبِقُدْرَتِهِ أَنَارَتْ أَضْوَاؤُهَا، وَاسْتَقَامَتْ أُمُورُهَا، وَقَامَتْ مَصْنُوعَاتُهَا. فَالْكَلَامُ عَلَى التَّقْرِيبِ لِلذِّهْنِ، كَمَا يُقَالُ: الْمَلِكُ نُورُ أَهْلِ الْبَلَدِ، أَيْ بِهِ قِوَامُ أَمْرِهَا وَصَلَاحُ جُمْلَتِهَا؛ لِجَرَيَانِ أُمُورِهِ عَلَى سَنَنِ السَّدَادِ. فَهُوَ في الملك مَجَازٌ، وَهُوَ فِي صِفَةِ اللَّهِ حَقِيقَةٌ مَحْضَةٌ؛ إِذْ هُوَ الَّذِي أَبْدَعَ الْمَوْجُودَاتِ وَخَلَقَ الْعَقْلَ نُورًا هَادِيًا؛ لِأَنَّ ظُهُورَ الْمَوْجُودِ بِهِ حَصَلَ كَمَا حَصَلَ بِالضَّوْءِ ظُهُورُ الْمُبْصَرَاتِ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا رَبَّ غَيْرُهُ. قَالَ مَعْنَاهُ مُجَاهِدٌ وَالزُّهْرِيُّ وغيرهما. قال ابن عرفة: أي منور السموات وَالْأَرْضِ. وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وَالْقرَظِيُّ. كَمَا يَقُولُونَ: فُلَانٌ غِيَاثُنَا، أَيْ مُغِيثُنَا. وَفُلَانٌ زَادِي، أَيْ مُزَوِّدِي. قَالَ جَرِيرٌ:

وَأَنْتَ لَنَا نُورٌ وَغَيْثٌ وَعِصْمَةٌ ... وَنَبْتٌ لِمَنْ يَرْجُو نَدَاكَ وَرِيقُ

أَيْ ذو ورق. وقال مجاهد: مدبر الأمور في السموات وَالْأَرْضِ. وقال أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: مزين السموات بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ، وَمُزَيِّنُ الْأَرْضِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ: الْمَعْنَى اللَّهُ هادي أهل السموات وَالْأَرْضِ. وَالْأَوَّلُ أَعَمُّ لِلْمَعَانِي وَأَصَحُّ مَعَ التَّأْوِيلِ.

قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ} [(35) سورة النــور] أي صفة دلائله التي يقذفها في قلب المؤمن، والدلائل تسمى نورًا، وقد سمى الله تعالى كتابه نورًا، فقال: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} [(174) سورة النساء]، وسمى نبيه نورًا، فقال: {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} [(15) سورة المائدة]؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْكِتَابَ يَهْدِي وَيُبَيِّنُ، وَكَذَلِكَ الرَّسُولُ. وَوَجْهُ الْإِضَافَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ مُثْبِتُ الدَّلَالَةِ وَمُبَيِّنُهَا وَوَاضِعُهَا.

وَتَحْتَمِلُ الْآيَةُ مَعْنًى آخَرَ لَيْسَ فِيهِ مُقَابَلَةُ جُزْءٍ مِنَ الْمِثَالِ بِجُزْءٍ مِنَ الْمُمَثَّلِ بِهِ، بَلْ وَقَعَ التَّشْبِيهُ فِيهِ جُمْلَةً بِجُمْلَةٍ، وَذَلِكَ أَنْ يُرِيدَ مَثَلَ نُورِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ هُدَاهُ وَإِتْقَانُهُ صَنْعَةَ كُلِّ مَخْلُوقٍ وَبَرَاهِينُهُ السَّاطِعَةُ عَلَى الْجُمْلَةِ، كَهَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ النُّورِ الَّذِي تَتَّخِذُونَهُ أَنْتُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، الَّتِي هِيَ أَبْلَغُ صِفَاتِ النُّورِ الَّذِي بَيْنَ أَيْدِي النَّاسِ، فَمَثَلُ نُورِ اللَّهِ فِي الْوُضُوحِ كَهَذَا الَّذِي هُوَ مُنْتَهَاكُمْ أَيُّهَا الْبَشَرُ.

والمشكاة: الكوة في الحائط غير النافذة، قال ابْنُ جُبَيْرٍ وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، وَهِيَ أَجْمَعُ لِلضَّوْءِ، وَالْمِصْبَاحُ فِيهَا أَكْثَرُ إِنَارَةً مِنْهُ فِي غَيْرِهَا، وَأَصْلُهَا الْوِعَاءُ يُجْعَلُ فِيهِ الشَّيْءُ. وَالْمِشْكَاةُ وِعَاءٌ مِنْ أَدَمٍ كَالدَّلْوِ يُبَرَّدُ فِيهَا الْمَاءُ، وَهُوَ عَلَى وَزْنِ مِفْعَلَةٍ كَالْمِقْرَاةِ وَالْمِصْفَاةِ. قَالَ الشَّاعِرُ:

كَأَنَّ عَيْنَيْهِ مِشْكَاتَانِ من حَجَرٍ ... قِيضَا اقْتِيَاضًا بأطراف الْمَنَاقِيرِ

وَقِيلَ: الْمِشْكَاةُ عَمُودُ الْقِنْدِيلِ الَّذِي فِيهِ الْفَتِيلَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الْقِنْدِيلُ.

وقال: {فِي زُجَاجَةٍ} [(35) سورة النــور] لأنه جسم شفاف، والمصباح فيه أنور منه في غير الزجاج والمصباح: الفتيل بناره.

{كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [(35) سورة النــور] أَيْ فِي الْإِنَارَةِ وَالضَّوْءِ. وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهَا بِالْمِصْبَاحِ كَذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهَا فِي نَفْسِهَا لِصَفَائِهَا وَجَوْدَةِ جَوْهَرِهَا كَذَلِكَ. وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَبْلَغُ فِي التَّعَاوُنِ عَلَى النُّورِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: الْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ هُوَ الزهرة.

قوله تعالى: {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ} أي من زيت شجرة، فحذف المضاف. والمباركة الْمُنَمَّاةُ، وَالزَّيْتُونُ مِنْ أَعْظَمِ الثِّمَارِ نَمَاءً، وَالرُّمَّانُ كذلك. والعيان يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَقَوْلُ أَبِي طَالِبٍ يَرْثِي مُسَافِرَ بْنَ أَبِي عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شمس:

ليت شعري مسافر بن أبى عم ... رو وَلَيْتٌ يَقُولُهَا الْمَحْزُونُ

بُورِكَ الْمَيْتُ الْغَرِيبُ كَمَا بُو ... رِكَ نَبْعُ الرُّمَّانِ وَالزَّيْتُونُ"

ماذا؟

طالب: هذه اللفظة -يا شيخ- (والمعسان) قال في الحاشية: هكذا وردتها هذه الكلمة في بعض نسخ الأصل وفي بعضها والمعنيان يقتضي، ولعلها: والمعنى يقتضي.

والعيان يقتضي ذلك، يعني المشاهدة، الواقع يشهد بذلك.

"وَقِيلَ: مِنْ بَرَكَتِهِمَا أَنَّ أَغْصَانَهُمَا تُورِقُ مِنْ أَسْفَلِهَا إِلَى أَعْلَاهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي الزَّيْتُونَةِ مَنَافِعُ، يُسْرَجُ بِالزَّيْتِ، وَهُوَ إِدَامٌ وَدِهَانٌ وَدِبَاغٌ، وَوَقُودٌ يوقد بحطبه وتفله، وليس فيه شي إِلَّا وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ، حَتَّى الرَّمَادُ يُغْسَلُ بِهِ الْإِبْرِيسَمُ. وَهِيَ أَوَّلُ شَجَرَةٍ نَبَتَتْ فِي الدُّنْيَا، وَأَوَّلُ شَجَرَةٍ نَبَتَتْ بَعْدَ الطُّوفَانِ، وَتَنْبُتُ فِي مَنَازِلِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَدَعَا لَهَا سَبْعُونَ نَبِيًّا بِالْبَرَكَةِ، مِنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ، وَمِنْهُمْ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنَّهُ قَالَ: «اللهم بارك في الزيت والزيتون» قاله مرتين.

مخرج؟

طالب: قال: لم أجده بهذا اللفظ، وتقدم في الزيتون والزيت أحاديث كثيرة في ... سورة النور.

قوله: في تفسير قول الله -جل وعلا-: {مَثَلُ نُورِهِ} مثل نوره: النور نور الرب -جل وعلا-، ولكن هل المقصود به في مثل هذه الإضافة المنفصل عنه أو المتصل به؟ لأن ابن القيم أيضًا يفسر مثل هذا التفسير، مثل تفسير القرطبي، يقول: مثل نوره في قلب عبده المؤمن، يعني نور الله الذي يقذفه في قلب عبده المؤمن، ويكون هذا بالدلائل من الكتاب والسنة، وبالاتباع والإخلاص يكون النور في قلب العبد، وهذا يرجِّحه التشبيه بالمشكاة، فالمشكاة وعاء فيها هذا النور، والقلب وعاء فيه هذا النور الذي يقذفه الله -جل وعلا-، فالتأويل على هذا مستقيم، وخُصّ الزيتون لا شك أنه مبارك، {يوقد من شجرةٍ مباركة}.

وقد رأى كما ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تاريخه رجل مريض رأى رجلًا في المنام يقول له: شفاؤك في لا ولا، فذهب إلى عابر فقال: الزيتون {لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} شفاؤك في لا ولا، فوصف له الزيتون؛ لأن الله -جل وعلا- يقول: {لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ}، يعني هل هذا التأويل الذي ذكره المؤلف وابن القيم كذلك يكون معارضًا لما تقدم مما يليق بالله -جل وعلا-؟ يعني الذي يضاف إلى الله -جل وعلا- نوره مثلًا، بيته، دابة الله، الدابة، البيت، فإذا كان معنًى من المعاني فله حكم، وإن كان جسمًا من الأجسام فله حكم، والنور يحتمل أن يكون معنى، وأن يكون جسمًا، فمثل نوره مثل بيته، النور المنفصل مثل بيت المخلوق المبدَع المنشئ، هذا النور الذي يقذفه الله -جل وعلا- في قلب عبده المؤمن؛ لأنه اقترن بالتشبيه الذي فيه: {مَثَلُ نُورِهِ}، والله -جل وعلا- قال عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [(11) سورة الشورى] وما يقال في ذاته يقال في صفاته، ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته، وما دام ثبت هذا التمثيل فلا بد أن يكون غير المتصف به -جل وعلا-؛ لأن الله -جل وعلا- ليس كمثله شيء.

"قوله تعالى: {لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} اختلف العلماء في قوله تعالى: {لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ: الشَّرْقِيَّةُ الَّتِي تُصِيبُهَا الشَّمْسُ إِذَا شَرَقَتْ وَلَا تُصِيبُهَا إِذَا غَرَبَتْ لِأَنَّ لَهَا سِتْرًا. والغربية عكسها، أي أَنَّهَا شَجَرَةٌ فِي صَحْرَاءَ وَمُنْكَشَفٍ مِنَ الْأَرْضِ لا يواريها عن الشمس شي وَهُوَ أَجْوَدُ لِزَيْتِهَا."

يعني تصيبها الشمس من الشرق والغرب، ومن جميع الجهات، أما إذا كانت بحذاء الجدار الغربي فإنها شرقية تصيبها الشمس من جهة الشرق فقط، وإذا كانت بحذاء الجدار الشرقي صارت غربية، تصيبها الشمس إذا غربت، وهكذا، وأما هذه التي أشير إليها فإنها تصيبها الشمس في طلوعها ومغربها.

طالب: يا شيخ الجدار الشرقي؟

جدار شرقي؟ الآن لو جئنا بزيتون وافترضنا أن هذا مكشوف، تضربه الشمس، وزرعناها هنا، تضربها الشمس إذا طلعت؟

طالب: لا.

إذًا هي غربية وليست شرقية؛ لأنها تضربها الشمس إذا غربت، وقل مثل هذا لو زرعناها هناك عندك الجدار الثاني، أي جدارٍ كان.

"فَلَيْسَتْ خَالِصَةً لِلشَّرْقِ فَتُسَمَّى شَرْقِيَّةً وَلَا لِلْغَرْبِ فَتُسَمَّى غَرْبِيَّةً، بَلْ هِيَ شرقية غَرْبِيَّةٌ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهَا شَجَرَةٌ فِي دَوْحَةٍ قَدْ أَحَاطَتْ بِهَا، فَهِيَ غَيْرُ مُنْكَشِفَةٍ مِنْ جِهَةِ الشَّرْقِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْغَرْبِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلٌ لَا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ الَّتِي بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَفْسُدُ جَنَاهَا وَذَلِكَ مُشَاهَدٌ فِي الوجود، وَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَتْ هَذِهِ الشَّجَرَةُ مِنْ شَجَرِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِنُورِهِ، وَلَوْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا لَكَانَتْ إِمَّا شَرْقِيَّةً وَإِمَّا غَرْبِيَّةً.

قال الثَّعْلَبِيُّ: وَقَدْ أَفْصَحَ الْقُرْآنُ بِأَنَّهَا مِنْ شَجَرِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهَا بَدَلٌ مِنَ الشَّجَرَةِ، فقال: {زَيْتُونِةٍ}. وقال ابن زيد: إنها من شجر الشام، فإن شجر الشام لا شرقي ولا غربي، وشجر الشام هو أفضل الشجر، وهي الأرض المباركة، وشرقية نعت لـ {زَيْتُونِةٍ}، و{لا} ليست تحول بين النعت والمنعوت، و{وَلَا غَرْبِيَّةٍ} عطف عليه."

يعني: إذا قلنا: إنها من شجر الشام، فالشام في وسط الأرض ليس في شرقها ولا في غربها، ليست من شجر المغرب، وليست من شجر المشرق كالهند والصين وباكستان، وما أشبه ذلك، فهي في وسط الأرض، وهي الأرض المباركة على هذا التقدير، وأما على القول الأول أنها في أي بلدٍ كان مباركة، وعلى القول الثاني لا بركة إلا في زيتون الشام؛ لأنها في الوسط لا شرقية ولا غربية، وعلى القول الأول أنها الغربية التي تصيبها الشمس إذا غربت، والشرقية تصيبها الشمس إذا شرقت، والشجرة المباركة ليست كذلك، فتكون في أي أرضٍ زرعت مباركة.

قد يقول قائل: لماذا لا نقول في قوله -جل وعلا-: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ}؟ وهذا التشبيه إنما هو لمجرد التقريب ولبيان الحقيقة، يعني مثلما جاء في الحديث: كان الله سمعيًا بصيرًا، وضع إصبعه على عينه، والأخرى على سمعه، وهذا لا يقتضي التشبيه، وإنما ليدل أن الكلام على حقيقته، كما أن بصر المخلوق وسمع المخلوق حقيقة، ولا يقتضي هذا المشابهة، وإنما الاشتراك في أصل الحقيقة.

"قوله تعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} مبالغةً في حسنه وصفائه وجودته.

{نُّورٌ عَلَى نُورٍ} أَيِ اجْتَمَعَ فِي الْمِشْكَاةِ ضَوْءُ الْمِصْبَاحِ إِلَى ضَوْءِ الزُّجَاجَةِ وَإِلَى ضَوْءِ الزَّيْتِ، فَصَارَ لِذَلِكَ نُورٌ عَلَى نُورٍ. وَاعْتُقِلَتْ هَذِهِ الْأَنْوَارُ فِي الْمِشْكَاةِ فَصَارَتْ كَأَنْوَرِ مَا يَكُونُ، فَكَذَلِكَ بَرَاهِينُ اللَّهِ تَعَالَى وَاضِحَةٌ، وَهِيَ بُرْهَانٌ بَعْدَ بُرْهَانٍ، وَتَنْبِيهٌ بَعْدَ تَنْبِيهٍ، كَإِرْسَالِهِ الرُّسُلَ وَإِنْزَالِهِ الْكُتُبَ، وَمَوَاعِظُ تَتَكَرَّرُ فِيهَا لِمَنْ لَهُ عَقْلٌ مُعْتَبِرٌ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى هُدَاهُ لِنُورِهِ مَنْ شَاءَ وَأَسْعَدَ مِنْ عِبَادِهِ، وَذَكَرَ تَفَضُّلَهُ لِلْعِبَادِ فِي ضَرْبِ الْأَمْثَالِ؛ لِتَقَعَ لَهُمُ الْعِبْرَةُ وَالنَّظَرُ الْمُؤَدِّي إِلَى الْإِيمَانِ.

وقرأ عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة وأبو عبد الرحمن السلمي: {الله نَوَّر} بفتح النور والواو المشددة، واختلف المتأولون في عود الضمير في {نُورِهِ} عَلَى مَنْ يَعُودُ، فَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ وَابْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ عَائِدٌ على محمد -صلى الله عليه وسلم- أي مثل نور محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال ابن الأنباري: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وقف حسن ثم تبتدئ {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} على معنى نور محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقال أبي بن كعب وابن جبير أيْضًا وَالضَّحَّاكُ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ:" مَثَلُ نُورِ الْمُؤْمِنِينَ". وَرُوِيَ أَنَّ فِي قِرَاءَتِهِ"{ مَثَلُ نُورِ الْمُؤْمِنِ}". وَرُوِيَ أَنَّ فِيهَا" مَثَلُ نُورِ مَنْ آمَنَ بِهِ". وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ. قَالَ مكي: وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ يُوقَفُ عَلَى قَوْلِ: {وَالْأَرْضِ}، قال ابن عطية: وهذه الأقوال فيها عود الضمير على من لم يجر له ذكر، وفيها مقابلة جزء من المثال."

ولا مانع أن يعود الضمير على ما لم يجر له ذكر إذا لم يحصل لبس، إذا كان معلومًا لدى المخاطب.

" فِيهَا مُقَابَلَةُ جُزْءٍ مِنَ الْمِثَالِ بِجُزْءٍ مِنَ الْمُمَثَّلِ، فَعَلَى مَنْ قَالَ الْمُمَثَّلُ بِهِ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهُوَ قَوْلُ كَعْبٍ الْحبْرِ، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم-."

نعم، أهل اللغة يكسرون الحاء، قول أكثر اللغويين يقولون: حِبر، واحد الأحبار، والمحدثون يفتحونها فيقولونها: حَبر، واحد الأحبار حَبر.

هو المشكاة أو صدره، والمصباح هو النبوة وما يتصل بها من عمله هُدَاهُ، وَالزُّجَاجَةُ قَلْبُهُ، وَالشَّجَرَةُ الْمُبَارَكَةُ هِيَ الْوَحْيُ، وَالْمَلَائِكَةُ رُسُلُ اللَّهِ إِلَيْهِ وَسَبَبُهُ الْمُتَّصِلُ بِهِ، وَالزَّيْتُ هُوَ الْحُجَجُ وَالْبَرَاهِينُ وَالْآيَاتُ الَّتِي تَضَمَّنَهَا الْوَحْيُ. وَمَنْ قَالَ: الْمُمَثَّلُ بِهِ الْمُؤْمِنُ، وَهُوَ قَوْلُ أُبَيٍّ، فَالْمِشْكَاةُ صَدْرُهُ، وَالْمِصْبَاحُ الْإِيمَانُ وَالْعِلْمُ، وَالزُّجَاجَةُ قَلْبُهُ، وَزَيْتُهَا هُوَ الْحُجَجُ وَالْحِكْمَةُ الَّتِي تَضَمَّنَهَا. قَالَ أُبَيٌّ: فَهُوَ عَلَى أَحْسَنِ الْحَالِ يَمْشِي فِي النَّاسِ كَالرَّجُلِ الْحَيِّ يَمْشِي فِي قُبُورِ الْأَمْوَاتِ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُمَثَّلَ بِهِ هُوَ الْقُرْآنُ وَالْإِيمَانُ، فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: مَثَلُ نُورِهِ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ فِي صَدْرِ الْمُؤْمِنِ فِي قَلْبِهِ كَمِشْكَاةٍ، أَيْ كَهَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ فِي مُقَابَلَةِ التَّشْبِيهِ كَالْأَوَّلَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمِشْكَاةَ لَيْسَتْ تُقَابِلُ الْإِيمَانَ.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الضَّمِيرُ{نُورِهِ} عائد على الله تعالى، وهذا قول ابن عباس فيما ذكر الثعلبي والماوردي والمهدوي، وقد تقدم معناه، ولا يوقف على هذا القول على {الْأَرْضِ}، قال المهدوي: الهاء لله -عز وجل- والتقدير: الله هادي أهل السموات والأرض مَثَلُ هُدَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ كَمِشْكَاةٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَكَذَلِكَ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَالْحَسَنُ: إِنَّ الْهَاءَ لِلَّهِ -عز وجل-. وكان أبى وابن مسعود يقرآنها" مَثَلُ نُورِهِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ كَمِشْكَاةٍ". قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيُّ:"

الحكيم، صاحب نوادر الأصول.

فَأَمَّا غَيْرُهُمَا فَلَمْ يَقْرَأْهَا فِي التَّنْزِيلِ هَكَذَا، وَقَدْ وَافَقَهُمَا فِي التأويل أن ذلك نوره قَلْبِ الْمُؤْمِنِ، وَتَصْدِيقُهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى يقول: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} [(22) سورة الزمر]، واعْتَلَّ الْأَوَّلُونَ بِأَنْ قَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْهَاءُ لِلَّهِ -عز وجل-؛ لأن الله -عز وجل- لا حدَّ لنوره، وأمال الكسائي فيما روى عنه أبو عمرو الدوري الألف من {َمِشْكَاةٍ} وكسر الكاف التي قبلها.

وقرأ نصر وعاصم: {زَجاجة} بفتح الزاي، و{الزَجاجة} كَذَلِكَ، وَهِيَ لُغَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ:" دُرِّيٌّ" بِضَمِّ الدَّالِ وَشَدِّ الْيَاءِ، وَلِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَجْهَانِ: إِمَّا أَنْ يُنْسَبَ الْكَوْكَبُ إِلَى الدُّرِّ؛ لِبَيَاضِهِ وَصَفَائِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أصله درئ مَهْمُوزٌ، فُعِّيلٌ مِنَ الدَّرْءِ وَهُوَ الدَّفْعُ، وَخُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ. وَيُقَالُ لِلنُّجُومِ الْعِظَامِ الَّتِي لَا تُعْرَفُ أَسْمَاؤُهَا: الدَّرَارِيُّ، بِغَيْرِ هَمْزٍ، فَلَعَلَّهُمْ خَفَّفُوا الْهَمْزَةَ، وَالْأَصْلُ مِنَ الدَّرْءِ الَّذِي هُوَ الدَّفْعُ. وَقَرَأَ حمزة وأبو بكر عن عاصم:" دريء" بِالْهَمْزِ وَالْمَدِّ، وَهُوَ فُعِّيلٌ مِنَ الدَّرْءِ، بِمَعْنَى أَنَّهَا يَدْفَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَأَبُو عمرو:" دريء" بِكَسْرِ الدَّالِ وَالْهَمْزِ مِنَ الدَّرْءِ وَالدَّفْعِ، مِثْلُ السِّكِّيرِ وَالْفِسِّيقِ."

يكون للمبالغة، التضعيف هذا للمبالغة.

" قَالَ سِيبَوَيْهِ: أَيْ يَدْفَعُ بَعْضُ ضَوْئِهِ بَعْضًا مِنْ لَمَعَانِهِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَضَعَّفَ أَبُو عُبَيْدٍ قِرَاءَةَ أَبِي عَمْرٍو وَالْكِسَائِيِّ تَضْعِيفًا شَدِيدًا؛ لِأَنَّهُ تَأَوَّلَهَا مِنْ دَرَأْتُ أَيْ دَفَعْتُ، أَيْ كَوْكَبٌ يَجْرِي مِنَ الْأُفُقِ إِلَى الْأُفُقِ. وَإِذَا كَانَ التَّأْوِيلُ عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ فَائِدَةٌ، وَلَا كَانَ لِهَذَا الْكَوْكَبِ مَزِيَّةٌ عَلَى أَكْثَرِ الْكَوَاكِبِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ: جَاءَنِي إِنْسَانٌ مِنْ بَنِي آدَمَ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَأَوَّلَ لِمِثْلِ أَبِي عَمْرٍو وَالْكِسَائِيِّ مَعَ عِلْمِهِمَا وَجَلَالَتِهِمَا هَذَا التَّأْوِيلُ الْبَعِيدُ، وَلَكِنَّ التَّأْوِيلَ لَهُمَا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ مَعْنَاهُمَا فِي ذَلِكَ: كَوْكَبٌ مُنْدَفِعٌ بِالنُّورِ، كَمَا يُقَالُ: انْدَرَأَ الْحَرِيقُ أي إِنِ انْدَفَعَ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ صَحِيحٌ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ. وَحَكَى سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ أَنَّهُ يُقَالُ."

الأول محمد بن يزيد المعروف بالمبرد، والثاني سعيد بن مسعدة المجاشعي، الأخفش الأوسط.

وَحَكَى سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ أَنَّهُ يُقَالُ: دَرَأَ الْكَوْكَبُ بِضَوْئِهِ إِذَا امْتَدَّ ضَوْءُهُ وَعَلَا. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ: وَدَرَأَ عَلَيْنَا فُلَانٌ يَدْرَأُ دُرُوءًا أَيْ طَلَعَ مُفَاجَأَةً. وَمِنْهُ كَوْكَبٌ دريء، عَلَى فِعِّيلٍ، مِثْلُ سِكِّيرٍ وَخِمِّيرٍ؛ لِشِدَّةِ تَوَقُّدِهِ وتلألئه. وقد درأ الكوكب دروءا. وقال أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ سَأَلْتُ رَجُلًا مِنْ سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ مِنْ أَهْلِ ذَاتِ عِرْقٍ فَقُلْتُ: هَذَا الْكَوْكَبُ الضَّخْمُ مَا تُسَمُّونَهُ؟ قَالَ: الدريء، وَكَانَ مِنْ أَفْصَحِ النَّاسِ.

قَالَ النَّحَّاسُ: فَأَمَّا قِرَاءَةُ حَمْزَةَ فَأَهْلُ اللُّغَةِ جَمِيعًا قَالُوا: هِيَ لَحْنٌ لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ اسْمٌ عَلَى فِعِّيلٍ. وَقَدِ اعْتَرَضَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي هَذَا فَاحْتَجَّ لِحَمْزَةَ فَقَالَ: لَيْسَ هُوَ فُعِّيلٌ، وَإِنَّمَا هُوَ فُعُّولٌ، مِثْلُ سُبُّوحٍ، أُبْدِلَ مِنَ الْوَاوِ يَاء، كَمَا قَالُوا: عُتِيٌّ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ وَالِاحْتِجَاجُ مِنْ أَعْظَمِ الْغَلَطِ وَأَشَدِّهِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ الْبَتَّةَ، وَلَوْ جَازَ مَا قَالَ لَقِيلَ فِي سُبُّوحٍ  سُبِّيحٌ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ، وَلَيْسَ عُتِيٌّ مِنْ هَذَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ بَيِّنٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَخْلُو عُتِيٌّ مِنْ إِحْدَى جِهَتَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَمْعَ عَاتٍ فَيَكُونَ الْبَدَلُ فِيهِ لَازِمًا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَابُ تَغْيِيرٍ، وَالْوَاوُ لَا تَكُونُ طَرَفًا فِي الْأَسْمَاءِ وَقَبْلَهَا ضَمَّةٌ، فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ هَذِهِ سَاكِنٌ وَقَبْلَ السَّاكِنِ ضَمَّةٌ، وَالسَّاكِنُ لَيْسَ بِحَاجِزٍ حَصِينٍ أُبْدِلَ مِنَ الضَّمَّةِ كَسْرَةٌ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً. وَإِنْ كَانَ عُتِيٌّ وَاحِدًا كَانَ بِالْوَاوِ أَوْلَى، وَجَازَ قَلْبُهَا لِأَنَّهَا طَرَفٌ، وَالْوَاوُ فِي فُعُّولٍ لَيْسَتْ طَرَفًا فَلَا يَجُوزُ قَلْبُهَا.

 قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِنْ ضَمَمْتَ الدَّالَ قُلْتَ دُرِّيٌّ، يَكُونُ مَنْسُوبًا إِلَى الدُّرِّ، عَلَى فُعْلِيٍّ وَلَمْ تَهْمِزْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فُعِّيلٌ. وَمَنْ هَمَزَهُ مِنَ الْقُرَّاءِ فَإِنَّمَا أَرَادَ فُعُّولًا مِثْلَ سُبُّوحٍ فَاسْتُثْقِلَ لكثرة الضمات فَرُدَّ بَعْضُهُ إِلَى الْكَسْرِ. وَحَكَى الْأَخْفَشُ عَنْ بعضهم:" دريء" مِنْ دَرَأْتُهُ، وَهَمَزَهَا وَجَعَلَهَا عَلَى فَعِّيلٍ مَفْتُوحَةَ الْأَوَّلِ. قَالَ: وَذَلِكَ مِنْ تَلَأْلُئِهِ.

قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وقرا سعيد بن المسيب وأبو رجاء:" دريء" بِفَتْحِ الدَّالِ مَهْمُوزًا. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ فَعِّيلٌ، فَإِنْ صَحَّ عَنْهُمَا فَهُمَا حُجَّةٌ. "

إن صح عنهما فهما حجة، يكون موجودًا في كلام العرب، ونفي أبي حاتم؛ لأنه لم يطلع على هذا.

"{يُوقَدُ} قَرَأَ شَيْبَةُ وَنَافِعٌ وَأَيُّوبُ وَسَلَّامٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَهْلُ الشَّامِ وَحَفْصٌ:" يُوقَدُ" بِيَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ وَضَمِّ الدَّالِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالسُّلَمِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ الْبَصْرِيُّ:" تَوَقَّدَ" مَفْتُوحَةَ الْحُرُوفِ كُلِّهَا مُشَدَّدَةَ الْقَافِ، وَاخْتَارَهَا أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ مُتَقَارِبَتَانِ، لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا لِلْمِصْبَاحِ."

وإذا أوقد المصباح توقّد، فلا اختلاف بينهما.

"وَهُوَ أَشْبَهُ بِهَذَا الْوَصْفِ، لِأَنَّهُ الَّذِي يُنِيرُ وَيُضِيءُ، وَإِنَّمَا الزُّجَاجَةُ وِعَاءٌ لَهُ، و{توقد} فعل ماضٍ من توقد يتوقد، ويوقد فعل مستقبل من أوقد يوقد، وقرأ نصر بن عاصم: {توقد} وَالْأَصْلُ عَلَى قِرَاءَتِهِ تَتَوَقَّدُ حَذْفُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأُخْرَى تَدُلُّ عَلَيْهَا. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ {توقد} بالتاء يعنون الزجاجة، فهاتان القراءتان على تأنيث الزجاجة. {مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} تقدم القول فيه."

{يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ} عَلَى تَأْنِيثِ النَّارِ. وَزَعَمَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ إِلَّا هَذِهِ الْقِرَاءَةَ. وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ أَنَّ السُّدِّيَّ رَوَى عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ:{وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ} بِالْيَاءِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: التَّذْكِيرُ عَلَى أَنَّهُ تَأْنِيثٌ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَكَذَا سَبِيلُ المؤنث عنده."

إذا كان غير حقيقي، يجوز تذكيره وتأنيثه، تقول: طلعت الشمس، وطلع الشمس.

طالب: الضابط في التذكير والتأنيث ما هو؟

يقول: ما له فرج حقيقي، وما لا فرج له ليس بحقيقي، مجاز يسمونه.

"وقال ابن عمر: المشكاة جوف محمد -صلى الله عليه وسلم-، وَالزُّجَاجَةُ قَلْبُهُ، وَالْمِصْبَاحُ النُّورُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِهِ يُوقَدُ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ، أَيْ أَنَّ أَصْلَهُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ شَجَرَتُهُ، فَأَوْقَدَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- النور كما جعله في قلب إبراهيم -عليه السلام-، وقال محمد بن كعب: المشكاة إبراهيم، والزجاجة إسماعيل، والمصباح محمد -صلوات الله عليهم أجمعين-، سماه الله تعالى مصباحًا كما سماه سراجًا، فقال: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} [(46) سورة الأحزاب] يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ وَهِيَ آدَمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، بُورِكَ فِي نَسْلِهِ وَكَثُرَ مِنْهُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ. وَقِيلَ: هِيَ إِبْرَاهِيمُ-عليه السلام- سماه الله تعالى مباركًا؛ لأن أكثر الأنبياء كانوا من صلبه."

{لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} أَيْ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَإِنَّمَا كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْيَهُودَ تصلى قبل المغرب والنصارى تصلى فبل المشرق

{يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} أي يكاد محاسن محمد -صلى الله عليه وسلم- تظهر للناس قبل أن أوحى الله تعالى إليه.

{نُّورٌ عَلَى نُورٍ} نَبِيٌّ مِنْ نَسْلِ نَبِيٍّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: شَبَّهَ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بِالْمِشْكَاةِ وَعَبْدَ اللَّهِ بِالزُّجَاجَةِ وَالنَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمِصْبَاحِ كَانَ فِي قَلْبِهِمَا، فَوَرِثَ النُّبُوَّةَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ."

هذا الكلام لا أصل له، سواءً هذا والذي قبله عن محمد بن كعب، يعني هذه أمور معاني شبهت معاني، والمشبه بها أجساد.

"{مِن شَجَرَةٍ} يْ شَجَرَةِ التُّقَى وَالرِّضْوَانِ وَعَشِيرَةِ الْهُدَى وَالْإِيمَانِ شَجَرَةٌ أَصْلُهَا نُبُوَّةٌ، وَفَرْعُهَا مُرُوءَةٌ، وَأَغْصَانُهَا تَنْزِيلٌ، وَوَرَقُهَا تَأْوِيلٌ، وَخَدَمُهَا جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ ابن الْعَرَبِيِّ: وَمِنْ غَرِيبِ الْأَمْرِ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ قَالَ إِنَّ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ وَلِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، فَالْمِشْكَاةُ هِيَ الْكُوَّةُ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ، فَشُبِّهَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بِالْمِشْكَاةِ فِيهَا الْقِنْدِيلُ وَهُوَ الزُّجَاجَةُ، وَشُبِّهَ عَبْدُ اللَّهِ بِالْقِنْدِيلِ وَهُوَ الزُّجَاجَةُ، وَمُحَمَّدٌ كَالْمِصْبَاحِ يَعْنِي مِنْ أَصْلَابِهِمَا، وَكَأَنَّهُ كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ وَهُوَ الْمُشْتَرِي."

{يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ} يعني إرث النبوة من إبراهيم -عليه السلام- هو الشجرة المباركة يعني حنيفية لا شرقية ولا غربية، لا يهودية ولا نصرانية.

{يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} يقول يَكَادُ إِبْرَاهِيمُ يَتَكَلَّمُ بِالْوَحْيِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ

{نُّورٌ عَلَى نُورٍ} إبراهيم ثم محمد -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا كُلُّهُ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ فِي التَّمْثِيلِ أن يتوسع المرء فيه."

يعني يكون من باب التقريب، لا من باب التطبيق، يعني تقريب لأذهان السامعين في هذا التمثيل يمكن أن يتوسع به، أما تطبيق المثال على ما ذكر فلا.

" قُلْتُ: وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَقْوَالِ لِعَدَمِ ارْتِبَاطِهِ بِالْآيَةِ مَا عَدَا الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، وَأَنَّ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِنُورِهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُضْرَبَ لِنُورِهِ الْمُعَظَّمِ مَثَلًا تَنْبِيهًا لِخَلْقِهِ إِلَّا بِبَعْضِ خَلْقِهِ؛ لِأَنَّ الْخَلْقَ لِقُصُورِهِمْ لَا يَفْهَمُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا عَرَفَ اللَّهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا مَثَلُ نُورِ اللَّهِ وَهُدَاهُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ كَمَا يكاد الزيت الصافي يضيء قَبْلَ أَنْ تَمَسَّهُ النَّارُ، فَإِنْ مَسَّتْهُ النَّارُ، زَادَ ضَوْءُهُ، كَذَلِكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ يَكَادُ يَعْمَلُ بِالْهُدَى قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ الْعِلْمُ، فَإِذَا جَاءَهُ الْعِلْمُ زَادَهُ هُدًى عَلَى هُدًى وَنُورًا عَلَى نُورٍ".

تشاهدون في بعض المحلات الثريات هذه اللي ذات الأقيام المرتفعة جدًّا، تجدها مثلما قال الله -عز وجل-: {تكاد تضيء ولو لم يمسسها نار}، يعني إن جئتها من جهة ظهر لها ألوان وأشكال وأنوار، ومن جهة أخرى كذلك، ومن جهة ثالثة كذلك، ثم إذا أشعلت فيها الأنوار زادت أنوارها، وهذا أيضًا مثال تقريبي.

كقول إبراهيم من قبل أن تجيئه المعرفة: {هَذَا رَبِّي} [(76) سورة الأنعام] من قبل أن يخبره أحد أن له ربًّا، فلما أخبره الله أنه ربه زاد هدى، فقال له ربه: {أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [(131) سورة البقرة] وَمَنْ قَالَ إِنَّ هَذَا مَثَلٌ لِلْقُرْآنِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ قَالَ: كَمَا أَنَّ هَذَا الْمِصْبَاحَ يُسْتَضَاءُ بِهِ وَلَا يَنْقُصُ فَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ يهتدى بِهِ وَلَا يَنْقُصُ، فَالْمِصْبَاحُ الْقُرْآنُ، وَالزُّجَاجَةُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ، وَالْمِشْكَاةُ لِسَانُهُ وَفَهْمُهُ، وَالشَّجَرَةُ الْمُبَارَكَةُ شَجَرَةُ الوحي.

{يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} تكاد حجج القرآن تتضح ولو لم يقرأ {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} يَعْنِي أَنَّ الْقُرْآنَ نُورٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِخَلْقِهِ، مَعَ مَا أَقَامَ لَهُمْ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْإِعْلَامِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، فَازْدَادُوا بِذَلِكَ نُورًا على نور. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا النُّورَ الْمَذْكُورَ عَزِيزٌ، وَأَنَّهُ لَا يَنَالُهُ إِلَّا مَنْ أَرَادَ اللَّهُ هُدَاهُ فَقَال: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} أي يبيّن الأشباه تقريبًا إلى الأفهام. {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي بالمهدي والضال، وروي عن ابن عباس أن اليهود قالوا: يا محمد، كيف يخلص نور الله تعالى من دون السماء؟ فضرب الله تعالى ذلك مثلًا لنوره.

قوله تعالى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ} [(36-37) سورة النــور]

فيه تسع عشرة مسألة:

الأولى: قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} الْبَاءُ فِي" بُيُوتٍ" تُضَمُّ وَتُكْسَرُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَاخْتُلِفَ فِي الْفَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: {في} فقيل: هي متعلقة بـ{مصباح}، وقيل: بـ {يُسَبِّحُ لَهُ} فعلى هذا التأويل يوقف على {عليم} قال ابن الأنباري: سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ يَقُولُ: هُوَ حَالٌ لِلْمِصْبَاحِ وَالزُّجَاجَةِ وَالْكَوْكَبِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَهِيَ فِي بُيُوتٍ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ: {فِي بُيُوتٍ} منفصل كأنه يقول: الله في بيوت أذن الله أن ترفع، وبذلك جاءت الأخبار أنه من جلس في المسجد فإنه يجالس ربه."

ماذا قال؟

طالب: قال: مراده حديث: «أنا جليس من ذكرني» ونحوه.

لا، هذا غير هذا، يعني لو ذكره في بيته صار جليسًا له، لكن هذا في المسجد.

" وَكَذَا مَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ فِيمَا يُحْكَى عَنِ التَّوْرَاةِ (أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا مَشَى إِلَى الْمَسْجِدِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ اسْمُهُ: عَبْدِي زَارَنِي وَعَلَيَّ قِرَاهُ، وَلَنْ أَرْضَى لَهُ قِرًى دُونَ الْجَنَّةِ). قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنْ جُعِلَتْ" فِي" مُتَعَلِّقَةً بِـ" يُسَبِّحُ" أَوْ رَافِعَةً لِلرِّجَالِ حَسُنَ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِ" يُوقَدُ" وَعَلَيْهِ فَلَا يُوقَفُ عَلَى" عَلِيمٌ". فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْوَجْهُ إِذَا كَانَ الْبُيُوتُ مُتَعَلِّقَةً بِ" يُوقَدُ" فِي تَوْحِيدِ الْمِصْبَاحِ وَالْمِشْكَاةِ وَجَمْعِ الْبُيُوتِوَلَا يَكُونُ مِشْكَاةً وَاحِدَةً إِلَّا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ؟ قِيلَ: هَذَا مِنَ الْخِطَابِ الْمُتَلَوِّنِ الَّذِي يُفْتَحُ: بِالتَّوْحِيدِ وَيُخْتَمُ بِالْجَمْعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء} [(1) سورة الطلاق] ونحوه وقيل: رجع إلى كل واحد من البيوت، وقيل: هو كقوله تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [(16) سورة نوح] وإنما هو في واحدة منها.

وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْبُيُوتِ هُنَا عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهَا الْمَسَاجِدُ الْمَخْصُوصَةُ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ، وَأَنَّهَا تُضِيءُ لِأَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا تُضِيءُ النُّجُومُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ."

وهي المأمور برفعها يعني ببنائها.

"الثَّانِي: هِيَ بُيُوتُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا.

الثَّالِثُ: بُيُوتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا.

الرَّابِعُ: هِيَ الْبُيُوتُ كُلُّهَا، قَالَهُ عِكْرِمَةُ. وَقَوْلُهُ:{يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [(36) سورة النــور] يقوي أنها المساجد."

نعم، وأما البيوت كلها فلا فضل لها ولا مزية على البراري والقفار، إنما المراد بها المساجد التي أمر الله ببنائها، وتسبيح الله -جل وعلا- بالصلوات والأذكار في الغدو والآصال.

"وقول خامس: أنها المساجد الأربعة التي لمْ يَبْنِهَا إِلَّا نَبِيٌّ: الْكَعْبَةُ وَبَيْتُ أَرِيحَا وَمَسْجِدُ الْمَدِينَةِ وَمَسْجِدُ قُبَاءَ، قَالَهُ ابْنُ بُرَيْدَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي" بَرَاءَةٌ". قلت: الأظهر القول الأول؛ لما رواه أنس بن مالك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من أحب الله -عز وجل- فليحبني، ومن أحبني فليحب أصحابي، ومن أحب أصحابي فليحب القرآن، ومن أحب القرآن فليحب المساجد، فإنها أفنية الله أبنيته، أذن الله في رفعها، وبارك فيها، ميمونة ميمون أهلها، محفوظة محفوظ أهلها، هم في صلاتهم والله -عز وجل- في حوائجهم، هم في مساجدهم، والله من ورائهم»."

ماذا قال عنه؟

طالب: قال: باطل، أخرجه ابن عدي في الكامل من حديث ابن عباس، وأعله بموسى بن عبد الرحمن الثقفي وذكر له أحاديث أخر وقال: هذه بواطيل، ووافقه الذهبي في الميزان وفي اللسان قال ابن حبان: هو دجال وضعيف ذكره في التفسير.

لكن حديث أنس؟ وعزاه لأنس.

طالب: هو هذا حديث أنس.

أنت قلت: من حديث ابن عباس، عند ابن عدي من حديث ابن عباس؟

طالب: أخرجه ابن عدي في الكامل من حديث ابن عباس.

على كل حال لو روي من طريقٍ آخر مثله ما يستفيد، ما دام باطلًا ما يستفيد، ما يرتقي.

"الثانية: قوله تعالى: {أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} [(36) سورة النــور] {أَذِنَ مَعْنَاهُ أَمَرَ وَقَضَى. وَحَقِيقَةُ الْإِذْنِ الْعِلْمُ وَالتَّمْكِينُ دُونَ حَظْرٍ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بذلك أمر وإنقاذ كَانَ أَقْوَى و{تُرْفَعَ} قيل: معناه تبنى وتعلى، قاله مجاهد وعكرمة، ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [(127) سورة البقرة] وقال -صلى الله عليه وسلم-: «من بنى مسجدًا من ماله بنى الله له بيتًا في الجنة»، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ تَحُضُّ عَلَى بُنْيَانِ الْمَسَاجِدِ."

حتى عدّ من المتواتر، عدّوه من المتواتر.

مما تواتر حديث من كذب

 

ومن بنى لله بيتًا واحتسب

طالب: الذي يبني مسجدًا ويكتب عليه اسمه؟

يقول ابن الجوزي ما له من الأجر إلا هذا الاسم، يقول: ليس له إلا هذا الاسم، يكفيه.

طالب: بعضهم يكتب اسمه يقول حتى إذا شاهده الناس يدعو لي ويستغفر لي.

يدعو لمن بناه، لا يسمي نفسه، يقول: بني على نفقة من يرجو ثواب الله، ويكفي ويدعى له -إن شاء الله-.

طالب: إن كان من مال الورثة؟

باسم من؟ ورثة فلان؟ المقصود أن الإنسان بذاته لا يظهر عمله، إن أظهره الناس فهذا شيء لا يملكه.

"وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ: مَعْنَى" تُرْفَعَ" تُعَظَّمَ، وَيُرْفَعَ شَأْنُهَا، وَتُطَهَّرَ مِنَ الْأَنْجَاسِ وَالْأَقْذَارِ، فَفِي الْحَدِيثِ: «إن المسجد لينزوي من النجاسة كما ينزوي الجلد من النار»، وروى ابن ماجة في سننه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من أخرج أذىً من المسجد بنى الله له بيتًا في الجنة»، وروى عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نتخذ المساجد في الدور، وأن تُطهَّر وتُطيَّب."

الأمر باتخاذ المساجد في الدور هذا ثابت في الصحيح وغيره، وتطهر وتطيب، والمراد بالدور القبائل، خير دور الأنصار بني عبد الأشهل، وآل فلان وآل فلان، يعني قبائلهم، وليس المراد بذلك أن تتخذ المساجد في الدور، وتعطل المساجد التي في الأسواق وفي الأحياء، اللهم إلا إن كان المراد بذلك للنساء، فالنساء لهن أن يتخذن من دورهم أماكن للصلاة، وينظفنها ويطيبنها.

الحديث الذي قبله؟

طالب: ((من أخرج أذىً من المسجد))؟

(إن المسجد لينزوي.)

طالب: قال: لا أصل له في المرفوع، ذكره العجلوني في كشف الخفاء، وقال: قال القاري: لم يوجد. انتهى كلامه، وذكره السيوطي في الدور فقال: أخرجه ابن أبي شيبه بسنده عن أبي هريرة....

والثاني؟ حديث ابن ماجه؟

طالب: قال: ضعيف أخرجه ابن ماجه من حديث أبي سعيد، قال البوصيري في الزوائد: إسناده منقطع، ومسلم بن يسار لم يسمع من أبي سعيد، ومحمد بن صالح لين، وضعفه الألباني.

وجاء في تنظيف المساجد وأنها مهور الحور العين.

"الثَّالِثَةُ: إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ بُنْيَانُهَا فَهَلْ تُزَيَّنُ وَتُنْقَشُ؟ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَكَرِهَهُ قَوْمٌ، وَأَبَاحَهُ آخَرُونَ. فَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ، وَقَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد» أخرجه أبو داود، وفي البخاري وقال أنس: يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلًا."

يعمرونها بالصلاة، يعني يشيدونها ولا يعمرونها بالصلاة، يعني تحصل العمارة الحسية دون العمارة المعنوية {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ} [(18) سورة التوبة] يعني بالصلاة، وأما عمارته الحسية فيعمرها كل أحد.

"وقال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى."

وهكذا وقع، في مسجد في تركيا يقول واحد من الإخوان: دخل هذا المسجد فإذا به متحف، يقول: دخل المسجد فإذا به غاية في الزخرفة والتشييد، فإذا به يوجد شيخ على كرسي على هيأة حسنة وحوله طلاب، فقال: أجلس لأستفيد، فلما جلست فإذا الشيخ لا يشرح، والطلاب لا يستمعون كلامه، إنما يصورون مشهدًا فقط، ولا وجدوا مكانًا يصور به هذا المشهد أشد جمالًا من هذا المسجد، والله المستعان.

يعني كون المساجد تعمر على أيدي أناس من العامة، ويحصل شيء من المخالفات فهذا أمر عادي وطبيعي، لكن كون المساجد يتولاها من طلاب العلم ثم بعد ذلك يزخرفونها ويعرفون ما جاء في هذا الباب هذه مشكلة، ولا يعني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن هذا يقع من باب التقدير الكوني أنه لا بد أن يقع، وأن المسلم عليه أن يساهم في إيقاعه؟ أبدًا، المسلم يتجه إليه الأوامر الشرعية، وأما ما أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه يقع كونًا فهذا لا بد من وقوعه، لكن لا يكون على يديك.

طالب: الذين يأخذون أموال الوقف ويسرفون في الزخرفة؟

لا يجوز، لا يجوز استخدام أكثر من الحاجة، لا يجوز هذا إسراف، وداخل في المنهي عنه.

طالب: ما يختلف الحكم باختلاف المكان خاصة في الدول غير الإسلامية؟

مذهب الحنفية عندهم إذا زخرفت البيوت فبيوت الله أولى، لكن لا كلام لأحد، المسألة شرعية ولو كان في الخارج.

طالب: طيب إذا كان هناك مصلحة أعظم وهي قضية تعظيم هذا الدين؟

تعظيم الدين بالاتباع، وقد يقر في قلوبهم من التعظيم بسبب الاتباع أعظم بكثير من المظاهر، الناس ملوا المظاهر، ما تدل على شيء، إذا لم يكن هناك مخبر فالمظهر لا قيمة له.

" وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدبار عليكم»، احتج من أباح ذلك بأن فيه تعظيم المساجد، والله تعالى أمر بتعظيمها في قوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} يعني تعظم.

وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ بَنَى مَسْجِدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالسَّاجِ وَحَسَّنَهُ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا بَأْسَ بِنَقْشِ الْمَسَاجِدِ بِمَاءِ الذَّهَبِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ نَقَشَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَبَالَغَ فِي عِمَارَتِهِ وَتَزْيِينِهِ، وَذَلِكَ فِي زَمَنِ وِلَايَتِهِ قَبْلَ خِلَافَتِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ ذَلِكَ. وَذُكِرَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنْفَقَ فِي عِمَارَةِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ وَفِي تَزْيِينِهِ مِثْلَ خَرَاجِ الشَّأْمِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وروي أن سليمان بن داود -عليهما الصلاة السلام- بنى مسجد بيت المقدس، وبالغ في تزيينه."

يعني هكذا جرت عادة الملوك والأمراء أنهم يستمرئون مثل هذه الأمور؛ لأن عيشهم قريب من هذا، بيوتهم مزخرفة، فيريدون ألا ينظروا إلى الأماكن التي دونها.

طالب: بعض المساجد الآن لا تزخرف، لكن توضع كل الزخرفة في السجاد؟

كذلك، الحكم واحد.

طالب: والسجاد إشكاليته أكثر في قضية الخشوع في الصلاة.

المسألة واحدة، الزخرفة سواء كانت فوق أو تحت أو يمين أو شمال داخلة، الآن لو لاحظت أن أكثر السجاد يقصد فيها الحمرة مع الصفرة، هذا اللون كثير في المساجد، تجد اللون أحمر والخط أصفر، وعمر قال: لما قال: لا تصفروا ولا تحمروا، فالمسألة مسألة المشي على ما أراده الله -جل وعلا- وقضاؤه لا بد منه، لا بد أن يقع، كما جاء في الحديث: «لتتبعن سنن من كان قبلكم، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتموه» والله المستعان، وحصل ما أخبر عنه النبي -عليه الصلاة والسلام-.

طالب: يحمل النهي على الكراهة يا شيخ؟

أي نهي؟

طالب: نهي الزخرفة؟

لا لا، تحريم، تحريم.

طالب: وعدم الإنكار يا شيخ؟

عدم الإنكار تقصير.

"الرابعة: ومما تصان عنه المساجد وتنزه عنه الروائح الكريهة، والأقوال السيئة، وغير ذلك على ما نبينه وذلك من تعظيمها، وقد صح من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في غزوة تبوك: «من أكل من هذه الشجرة -يعني الثوم- فلا يأتين المساجد»، وفي حديث جابر بن عبد الله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من أكل من هذه البقلة الثوم» وقال مرة: «من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم».

وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فِي خُطْبَتِهِ: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تَأْكُلُونَ شَجَرَتَيْنِ وَلَا أَرَاهُمَا إِلَّا خَبِيثَتَيْنِ، هَذَا الْبَصَلُ وَالثُّومُ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إذا وَجَدَ رِيحَهُمَا مِنْ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى الْبَقِيعِ، فَمَنْ أَكَلَهُمَا فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخًا. خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ.

قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَإِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ فِي إِخْرَاجِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ أَنَّهُ يُتَأَذَّى بِهِ فَفِي الْقِيَاسِ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَأَذَّى بِهِ جِيرَانُهُ فِي الْمَسْجِدِ بِأَنْ يَكُونَ ذَرِبَ اللِّسَانِ سَفِيهًا عَلَيْهِمْ، أَوْ كَانَ ذَا رَائِحَةٍ قَبِيحَةٍ لَا تَرِيمُهُ لِسُوءِ صِنَاعَتِهِ، أو عاهة مؤذية كالجذام وَشِبْهِهِ. وَكُلُّ مَا يَتَأَذَّى بِهِ النَّاسُ كَانَ لهم إخراجه ما كانت العلة موجودة فيه حَتَّى تَزُولَ. وَكَذَلِكَ يَجْتَنِبُ مُجْتَمَعَ النَّاسِ حَيْثُ كَانَ لِصَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا كَمَجَالِسِ الْعِلْمِ وَالْوَلَائِمِ وَمَا أَشْبَهَهَا."

العلة مركّبة، من كونه في المسجد، وكونه يؤذي؛ لأن الأحاديث جاءت بهذا، من كونه في المسجد، ومن كونه يؤذي؛ لأنه لو قلنا: إنه يحرم في غير المسجد، لماذا يخرجه النبي -عليه الصلاة والسلام- من المسجد؟ «فلا يقربن مسجدنا» فالاختصاص بالمسجد ظاهر، فإذا صلى في بيته أو في برية أو في غيرها فله أن يأكل من هذه الشجرة، لكن لا يصلي في المسجد، وإذا صلى في مسجدٍ ليس فيه من يتأذى به فلا مانع من ذلك؛ لأنه لا يتأذى به أحد، فالعلة مركبة من الأمرين، من كونه مسجدًا، وكونه يتأذى به، والعلة المركبة لا يترتب عليها الحكم إلا إذا اجتمعت مركباتها، وعلى هذا لو أن إنسانًا في المسجد بمفرده، واحتاج إلى إرسال الريح، وليس عنده من يتأذى به، أهل العلم يقولون: ولا بأس بإرساله للحاجة، لكن لا بد أن لا يوجد من يتأذى به، نعم المسجد ينبغي أن يصان ويعظم، لكن إذا احتاج لذلك، شخص معتكف ونائم مثلًا أو جالس، نقول: لا بد أن تخرج من المسجد، أو يديم الجلوس في المسجد؟ العلماء يقولون: لا بأس به للحاجة، إذا لم يوجد من يتأذى به، فالعلة حينئذٍ مركبة.

طالب: البصل بالطبخ تزول الرائحة منه؟

ينتهي ينتهي، يمات طبخًا، ما فيه شيء، ومع ذلك حتى لو أكل لا يقال: إن هذه الشجرة حرام؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- لما قيل له -في صحيح مسلم–: أحرام هي؟ قال: «لا أحرم ما أحل الله» لكن من أكل لحاجة فلا يصلي في المسجد مع الناس، يصلي في بيته أو ينظر في مكان ليس فيه أحد.

طالب: أحيانًا رائحة الدخان أشد من رائحة البصل؟

مثله، الحكم واحد.

طالب: هل يجوز قطع الصلاة؟

قطع من؟

طالب: الذي بجانبه؟

إذا كان لا يطيق بحيث لا يستطيع أن يصلي بجانبه أو لا يدرك من صلاته شيئًا يقطع الصلاة.

طالب: إن كان يغثى يا شيخ؟

غثيان وشبهه؟ إذا خشي ذلك وغلب على ظنه يقطع الصلاة.

طالب: في هذه الحال يجوز له أن يضع لثامًا؟

اللثام مكروه عند أهل العلم، وعندهم الكراهة تزول بأدنى حاجة.

طالب: لو كان جماعة في مسجد وأكلوا كلهم بصلًا فهل لهم أن يصلوا في المسجد؟

لأنهم لا يتأذون؟

طالب: نعم.

ارتفع جزء العلة، لكن لا شك أن هذا يبقى فيه امتهان المسجد.

طالب: الحديث يقول: فإن الملائكة تتأذى..؟

الملائكة في كل مكان «إن الملائكة تتأذى مما يتأذى به بنو آدم» فإذا وجد من يتأذى من بني آدم تأذت الملائكة، وإلا فلا.

"وَكَذَلِكَ يَجْتَنِبُ مُجْتَمَعَ النَّاسِ حَيْثُ كَانَ لِصَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا كَمَجَالِسِ الْعِلْمِ وَالْوَلَائِمِ وَمَا أَشْبَهَهَا، مِنْ أَكْلِ الثُّومِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، مِمَّا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ تُؤْذِي النَّاسَ. وَلِذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَ الْبَصَلِ وَالثُّومِ وَالْكُرَّاثِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُتَأَذَّى بِهِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَدْ شَاهَدْتُ شَيْخَنَا أَبَا عُمَرَ أَحْمَدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ هِشَامٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ- أَفْتَى فِي رَجُلٍ شَكَاهُ جِيرَانُهُ وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ يُؤْذِيهِمْ فِي الْمَسْجِدِ بِلِسَانِهِ وَيَدِهِ فَشُووِرَ فِيهِ، فَأَفْتَى بِإِخْرَاجِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ وَإِبْعَادِهِ عَنْهُ."

وليس هذا ترخيصًا له في ترك المسجد وترك الجماعة، إنما هو تعزير، بعض الناس قد يفرح بمثل هذا، أكل شيئًا، أجعلهم يطردوني من المسجد، وفرصة أني ما أقصد المسجد، فيؤذي الناس؛ لكي يقال له: لا تقرب المسجد، أو يأكل من ذوات الروائح ليقال له: لا تقرب المسجد، هذه كانت تعد لما كانت الفطر سليمة هذا تعزير، لو أن إنسانًا في وليمة فأقيم وطرد من المجلس، ماذا يكون وضعه؟ يتأذى بذلك أذىً كبيرًا، ولا يمكن أن يحتمل، يمكن أن يترك البلد، يهاجر من هذا البلد، فكيف بمسجد –بيت الله– في ضيافة الله -جل وعلا-؟ لكن لهوان العبادات على الناس وأماكن العبادات صاروا يفرحون بمثل هذا.

واطلعت في كتابات بعض القضاة ممن تقدم أن فيه معاملة لنقل شخص من مسجد إلى مسجد، يعني طرد من هذا المسجد إلى مسجدٍ آخر، وأُخذ عليه التعهد أنه لا يصلي في هذا المسجد؛ لأن فيه من يتأذى به، أن يُنقل إمام أو ينقل مؤذن مقبولة؛ لأنهم يتبعون مصالحهم، لكن يُنقل مأموم؟! هذه لا تكاد توجد.

" فَأَفْتَى بِإِخْرَاجِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ وَإِبْعَادِهِ عَنْهُ، وَأَلَّا يُشَاهِدَ مَعَهُمُ الصَّلَاةَ؛ إِذْ لَا سَبِيلَ مَعَ جُنُونِهِ وَاسْتِطَالَتِهِ إِلَى السَّلَامَةِ مِنْهُ، فَذَاكَرْتُهُ يَوْمًا أَمْرَهُ وَطَالَبْتُهُ بِالدَّلِيلِ فِيمَا أَفْتَى بِهِ مِنْ ذَلِكَ وَرَاجَعْتُهُ فِيهِ الْقَوْلَ، فَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ الثُّومِ، وَقَالَ: هُوَ عِنْدِي أَكْثَرُ أَذًى مِنْ أَكْلِ الثُّومِ، وَصَاحِبُهُ يُمْنَعُ مِنْ شُهُودِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ.

قُلْتُ: وَفِي الْآثَارِ الْمُرْسَلَةِ" «أن الرجل ليكذب الكذبة فيتباعد الملك من نتن ريحه»، فعلى هذا يخرج من عرف منه الكذب والتقوّل بالباطل، فإن ذلك يؤذي".

مخرجة الآثار؟

طالب: (يأتي يوم القيامة)؟ أو (أن الرجل ليكذب الكذبة)؟

«إن الرجل ليكذب الكذبة».

طالب: قال: أخرجه الطبراني في الصغير، والديلمي من حديث ابن عمر، وفيه عبد الرحيم بن هارون متروك كما في الميزان، والحديث أخرجه الترمذي، وقال فيه: هذا حديث حسن جيد غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، تفرد به عبد الرحيم بن هارون، وفي الضعيفة، قال عنه: منكر، قال في ضعيف الترغيب: ضعيف جدًّا، وعبد الرحيم كذبه الدارقطني، وقال الحافظ في التقريب: ضعيف، وكذبه الدارقطني.

واضح واضح ضعفه.

" الْخَامِسَةُ: أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَسَاجِدَ كُلَّهَا سَوَاءٌ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا خَرَجَ النَّهْيُ عَلَى مَسْجِدِ -صلى الله عليه وسلم- من أجل جبريل -عليه السلام- ونزوله فيه، ولقوله في حديث جابر: «فلا يقربن مسجدنا»، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ الصِّفَةَ فِي الْحُكْمِ وَهِيَ الْمَسْجِدِيَّةُ، وَذِكْرُ الصِّفَةِ فِي الْحُكْمِ تَعْلِيلٌ. وَقَدْ رَوَى الثَّعْلَبِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يأتي الله يوم القيامة بمساجد الدنيا كأنها نجائب بيض، قوائمها من العنبر، وأعناقها من الزعفران ورؤوسها من المسك، وأزمِّتها من الزبرجد الأخضر، وقوامها المؤذنون فيها يقودونها، وأئمتها يسوقونها، وعمارها متعلقون بها، فتجوز عرصات القيامة كالبرق الخاطف، فيقول أهل الموقف: هؤلاء ملائكة مقربون وأنبياء مرسلون، فينادى: ما هؤلاء بملائكة ولا أنبياء، ولكنهم أهل المساجد والمحافظون على الصلوات من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-»".

طالب: قال: عزاه المصنف للثعلبي ولم أقف عليه، وأمارة الوضع لائحة عليه، والثعلبي يرى الموضوعات.

واضح واضح.

"وفي التنزيل: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ} [(18) سورة التوبة] وهذا عام في كل مسجد، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان إن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}» [(18) سورة التوبة] وقد تقدم."

الحديث مضعف؛ لأن المنافقين يعتادون المسجد في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام-.

" السَّادِسَةُ: وَتُصَانُ الْمَسَاجِدُ أَيْضًا عَنِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَجَمِيعِ الِاشْتِغَالِ؛ لِقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلرَّجُلِ الَّذِي دَعَا إِلَى الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ: «لا وجدت، إنما بنيت المساجد لما بنيت له» أخرجه مسلم من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما صلى، قام رجل فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا وجدت، إنما بُنِيت المساجد لما بنيت له»، وهذا يدل على أن الأصل ألا يعمل في المسجد غير الصلوات والأذكار وقراءة القرآن."

هذا بالنسبة لمن يطلب ضالته، أما من ينشد ضالة غيره إذا وجدها، الحكم يختلف أو واحد؟ من يطلب لنفسه هذا واضح، الذي ينشد ضالته يقال له: لا وجدت، لكن الذي وجد ضالة في المسجد ثم قال: من أضل كذا؟

طالب: يدخل في الحكم.

ما يظهر، يظهر أن هناك فرقًا كبيرًا؛ لأن الذي يطلب لنفسه ليس كالذي يطلب لغيره، هذا محسن، ما يظهر أن الحكم واحد.

طالب: الآن من يسأل عن ضالته وهي له يقرَّع، طيب من يسأل أموال الناس؟

الذي يسأل أموال الناس وهو مستحق لها، لكن من يتعرض بغير سؤال، بأن جلس مجلس السائل ولم يسأل، ولم يؤذِ الناس، ولم يقطع عليهم أذكارهم فهذا لا بأس -إن شاء الله-.

طالب: الآن الذين يقومون بعد الصلاة ويتكلمون!

يشوشون على الناس، ويقطعون عليهم أذكارهم، يسكتون، هؤلاء بأسلوب مناسب من غير نهرٍ لهم يُفهَّمون أن هذا ليس موضعًا لذلك.

طالب: ما هي علة النهي؟

في ماذا؟

طالب: أن المساجد بنيت للعبادة!

هي بنيت للعبادة، لكن من العبادة الإحسان إلى الآخرين.

طالب: يعني مثل هؤلاء يوقفون ما يجعلون يتمون كلامهم؟

والله لو أشير إليهم أن ينصرفوا إلى مكانٍ مناسب لهم، ولا يقطعون على الناس أذكارهم من غير نهر، يعني لا نخرج من مخالفة ونقع في مخالفة.

طالب: بعضهم يقول: {وأما السائل فلا تنهر} إطلاقًا يعني، ما دام أنه يسأل لن أقول له؟

هو إذا وجد من يتكلم غيرك فالسلامة لا يعدلها شيء؛ لئلا تقع في النهي.

" كَذَا جَاءَ مُفَسَّرًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: مهٍ مه، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «لا تزرموه، دعوه» فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعاه فقال له: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن» أو كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فأمر رجلًا من القوم فجاء بدلوٍ من ماء فشنَّه عليه، خرجه مسلم، ومما يدل على هذا من الكتاب قوله الحق: {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [(36) سورة النــور]، وقوله -صلى الله عليه وسلم- لمعاوية بن الحكم السلمي: «إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن»".

طالب: حديث معاوية إن هذه الصلاة، وهنا يقول: إن هذه المساجد.

لا، غلط غلط، هذا غلط من المؤلف نفسه؛ لأن الكلام في المساجد فأدرج هذا الحديث وهمًا، والحديث في الصلاة.

"أو كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحديث بطوله خرجه مسلم في صحيحه وحسبك!

وسمع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- صَوْتَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: مَا هَذَا الصَّوْتُ؟ أَتَدْرِي أَيْنَ أَنْتَ! وَكَانَ خَلَفُ بْنُ أَيُّوبَ جَالِسًا فِي مسجده فأتاه غلامه يسأله عن شيء فَقَامَ وَخَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ وَأَجَابَهُ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: مَا تَكَلَّمْتُ فِي الْمَسْجِدِ بِكَلَامِ الدُّنْيَا مُنْذُ كَذَا وَكَذَا، فَكَرِهْتُ أَنْ أتكلم اليوم".

يكفي.

اللهم صلّ على محمد وعلى آله وأصحابه.

"