شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (289)

المُقَدِّم: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين، أيُّها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا بكم إلى حلقة جديدة في برنامجكم "شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح". مع بداية هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلًا بكم فضيلة الشيخ.

حياكم الله، وبارك فيكم، وفي الإخوة المستمعين.

المُقَدِّم: حديثنا متواصل في الكلام عن ألفاظ حديث أبي أيوب الأنصاري- رضي الله عنه-، وهو مائة وأربعة وأربعين في الأصل، مائة وثمانية عشر في المختصر؛ لمتابعة الإخوة والأخوات نستكمل، أحسن الله إليكم، يا شيخ.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد،،،

فقد مضى في آخر الحلقة السابقة النقل عن الإسماعيلي- رحمه الله- قوله: ليس في حديث الباب- حديث أبي أيوب-: «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْغَائِطَ فَلا يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلا يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ، شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا»، والترجمة- ترجمة الإمام البخاري- على الحديث بابٌ لا تستقبلُ القبلةُ بغائط أو بول إلا عند البناء، جدار أو نحوه، الإسماعيلي يقول: ليس في حديث الباب دلالة على الاستثناء المذكور، يقول ابن حجر: وأجيب بثلاثة أجوبة، الجواب الأول: أنَّه تمسك بحقيقة الغائط؛ لأنَّه المكان المطمئن من الأرض في الفضاء، وهذه حقيقته اللغوية، وإن كان قد صار يُطلق على كل مكان أعد لذلك مجازًا، فيختص النهي به، إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة، وهذا الجواب للإسماعيلي وهو أقواها.

تقدم النقل عن العيني أنَّه رد على الحافظ ابن حجر في هذا، والحافظ ابن حجر رد عليه في كلام طويل لا نحتاج إلى إعادته. هذا هو الجواب الأول.

 الجواب الثاني: أنَّ استقبال القبلة إنَّما يتحقق في الفضاء، وأمَّا الجدار والأبنية فإنَّها إذا استقبلت صار الاستقبال إليها عرفًا، قاله ابن المنيِّر، يعني من استقبل في فضاء استقبل القبلة، لكن من استقبل إلى جدار يكون استقبل القبلة أم استقبل الجدار؟

المُقَدِّم: الجدار.

استقبل الجدار، قال هذا ابن المنير، يعني أنَّ الجواب أنَّ الكلام، أنَّ النص فيمن استقبل القبلة، والذي يستقبل جدارًا أو نحو الجدار هذا لا يكون مستقبلًا للقبلة أصلًا؛ لأنَّ المستقبل لهذا الشاخص أمامه، الحائل بينه وبين القبلة، لكن لو كان هذا الجواب مرادًا لما احتجنا إلى الاستثناء في كلام البخاري، ما احتجنا إلى استثناء.

المُقَدِّم: جدار أو نحوه.

البناء من جدار أو نحوه، وهو لا يدخل أصلاً في الحديث.

المُقَدِّم: نعم.

قال العيني: قلت: كل من توجه إلى نحو الكعبة يطلق عليه أنَّه مستقبل الكعبة سواء كان في الصحراء، أو في الأبنية، فإن كان في الأبنية فالحائل بينه وبين القبلة هو الأبنية، وإن كان في الصحراء فهو الجبال والتلال. والجبال والتلال التي تحول بينه وبين القبلة ولو كانت بعيدة عنه، أقول: المدن التي بينه وبين هذه القبلة والأبنية، فيه أبنية ولو لم يكن إلا الأبنية في مكة مثلًا، يعني لو قلنا بالجواب الثاني هو أنَّ مستقبل الجدار ليس بمستقبل القبلة لقلنا إنَّه لا يتصور أحد أن يستقبل القبلة إلا في صحن المسجد؛ لأنَّ ما وراء صحن المسجد تحول دونه الأبنية والجدران، وهذا مقتضى كلام العيني، يقول: والصواب أن يقال: إنَّ الحديث عنده عام مخصوص، وعليه توجه الاستثناء، عام مخصوص، كيف عام مخصوص؟ حديث أبي أيوب: «لا يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلا يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ» عام للبناء والفضاء، للقريب والبعيد، للاستقبال والاستدبار هذا عام، لكن هل هو باقٍ على عمومه؟ محفوظ على هذا العموم؟ وقد قال جمع من أهل العلم إنَّه محفوظ، ولا يجوز استقبال القبلة على أي حال ولا استدبارها، أو أنَّه مخصوص دخله التخصيص؟

يقول: والصواب أن يقال: الحديث عنده عام مخصوص، وعليه توجه الاستثناء، لا سيما وأنَّه أردف هذا الحديث..

المُقَدِّم: بحديث ابن عمر.

بحديث ابن عمر، وحديث ابن عمر في البنيان قطعًا، يقول ابن حجر: ويتقوَّى- يعني كلام ابن المنير- بأنَّ الأمكنة المعدة ليست صالحة لأن يصلى فيها، فلا يكون فيها قبلة بحال، ويتقوى بأنَّ الأمكنة المعدة ليست صالحة لأن يصلى فيها، فلا يكون فيها قبلة، يعني هل القبلة خاصة بالصلاة ليربط استقبال القبلة في الأمكنة المعدة لقضاء الحاجة بالصلاة؟ إذا قلنا: إنَّها مربوطة بالصلاة، قلنا هذه الأماكن ليس فيها قبلة؛ لأنَّه ليس فيها صلاة، الكلام يحتاج إلى تأمل، يتقوى بأنَّ الأمكنة المعدة ليست صالحة لأن يصلى فيها، فلا يكون فيها قبلة، لكن هل نقول: إنَّ القبلة أمر منتقل؟ يعني منتقل مع الصلاة، يوجد مع الصلاة ولا يوجد مع غيرها، أو نقول: إنَّها جهة ثابتة للصلاة وغيرها؟

المُقَدِّم: هي جهة.

هي جهة، لكن هل تُسمَّى قبلة في غير الصلاة؟

المُقَدِّم: طبعًا.

لأنَّه يقول: يتقوى بأنَّ الأمكنة المعدة ليست صالحة لأن يصلى فيها، فلا يكون فيها قبلة بحال.

المُقَدِّم: هو ربطها بالصلاة.

نعم.

المُقَدِّم: المكان لا يُصلى فيه فقط.

إذًا ليس فيه قبلة؛ لأنَّ القبلة مرتبطة بالصلاة؛ فإذا انتفت الصلاة انتفت القبلة، وانتفت الصلاة من هذه الأماكن المعدة، إذًا لا قبلة فيها، لكن هذا الكلام وجيه أم ليس بوجيه؟ وهو أنَّ القبلة جهة ثابتة محترمة شرعًا في الصلاة وخارج الصلاة.

تُعقب- يقول ابن حجر-: تُعقب بأنَّه يلزم منه أن لا تصح صلاة من بينه وبين الكعبة مكان لا يصلح للصلاة وهو باطل. كيف؟

المُقَدِّم: يعني شخص يصلي في مسجد.

نعم.

المُقَدِّم: وأمامه بعد عشرين كيلو- أجلكم الله- دورات مياه مثلًا.

نعم.

المُقَدِّم: هذه تفصل بينه وبين الكعبة.

تحول بينه وبين القبلة.

المُقَدِّم: نعم.

يحول بينه؛ إذًا انتفت القبلة؛ لوجود..

المُقَدِّم: ما يحول.

ما يحول بينهم مما لا يصلح أن يكون قبلة.

المُقَدِّم: نعم.

لكن هذا الكلام بعيد، تُعقِّب بأنَّه يلزم منه أن لا تصح صلاة من بينه وبين الكعبة مكان لا يصلح للصلاة، وهو باطل.

ثالثها:- ثالث الأجوبة عن كلام الإسماعيلي أنَّه ليس هناك دلالة على الاستثناء- يقول: الاستثناء مستفاد من حديث ابن عمر المذكور في الباب الذي بعده؛ لأن حديث النبي- صلى الله عليه وسلم- كله كأنَّه شيء واحد، قاله ابن بطال، الاستثناء مستفاد من حديث ابن عمر المذكور في الباب الذي بعده؛ لأن حديث النبي- صلى الله عليه وسلم- كله كأنَّه شيء واحد، هذا قاله ابن بطال، وارتضاه ابن التين وغيره.

يقول ابن حجر: لكن مقتضاه أن لا يبقى لتفصيل التراجم معنى، يعني هذا الاستثناء لا ينبغي أن يكون في هذا الباب، ينبغي أن يكون الاستثناء في الباب الذي بعده؛ لأنَّه هو الذي فيه الحديث الذي يدل على الاستثناء؛ ولذلك قال: لكن مقتضاه أن لا يبقى لتفصيل التراجم معنى.

وقال الكرماني: يحتمل أن يكون الاستثناء مأخوذًا من هذا الحديث؛ إذ لفظ الغائط مشعر بأنَّ الحديث ورد في شأن الصحراء؛ إذ الاطمئنان أي الانخفاض أو الارتفاع إنَّما يكون في الصحراء لا في الأبنية، يعني هذا يختلف عن الجواب الأول الذي نقلناه عن الإسماعيلي، الإسماعيلي قال: إنَّ مقتضى حقيقة الغائط اللغوية المكان المنخفض، والمكان المنخفض فيه ساتر، وهذا يقول: لا، إنَّ لفظ الحديث، أو لفظ الغائط مشعرٌ بأنَّ الحديث ورد في شأن الصحراء؛ إذ الاطمئنان أي الانخفاض أو الارتفاع إنَّما يكون في الصحراء لا في الأبنية. يعني أنَّ عدم الاستقبال والاستدبار..

المُقَدِّم: يكون في الصحراء.

إنما هو في الصحراء؛ لأنَّ السياق يدل على أنَّه في الغائط، والغائط..

المُقَدِّم: يكون في الصحراء.

المكان في الصحراء.

المُقَدِّم: حتى لو كان منخفضًا انخفاضًا شديدًا.

لو كان منخفضًا أو مرتفعًا، إنَّما هو مقصود للغائط.

قال ابن حجر: فإن قيل: لما حملتم الغائط على حقيقته، ولم تحملوه على ما هو أعم من ذلك ليتناول الفضاء والبنيان لا سيما والصحابي راوي الحديث قد حمله على العموم فيهما؟

أبو أيوب راوي الحديث حمل الحديث على عمومه في الصحراء والبنيان، يقول ابن حجر: فإن قيل: لما حملتم الغائط على حقيقته، ولم تحملوه على ما هو أعم من ذلك ليتناول الفضاء والبنيان لا سيما والصحابي راوي الحديث قد حمله على العموم فيهما؟ لأنَّه قال كما سيأتي عند المصنف في باب قبلة أهل المدينة في أوائل الصلاة: فقدمنا الشام- يقول أبو أيوب- «فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض بُنيت قبل القبلة، فننحرف ونستغفر الله».

 الآن هذه المراحيض التي بُنيت أبنية فيها سواتر، ومع ذلك أبو أيوب لما وجدها في الشام أعمل الحديث على عمومه: «لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها»، «فلا يستقبل أحدكم القبلة، ولا يولها ظهره»، أعمله على عمومه؛ ولذلك وهو في البنيان يقول: «فننحرف، ونستغفر الله» يعني ننحرف عن جهة القبلة، ونستغفر الله عن هذا التفريط الذي حصل في بنيانها، أو في عدم انحرافنا انحرافًا كما ينبغي؛ لأنَّ الأبنية هي التي تتحكم في المسألة.

يقول: فالجواب أنَّ أبا أيوب أعمل لفظ الغائط في حقيقته ومجازه، وهو المعتمد، يعني أعمله فيما تقتضيه الحقيقة اللغوية من وجود الحائل، وفي حقيقته الشرعية التي لا تقتضي وجود الحائل، وتقدم النقاش بين العيني وابن حجر في هذا، لكن يقول: إنَّ أبا أيوب أعمل لفظ الغائط في حقيقته ومجازه، وهو المعتمد، يعني أعمل اللفظ فيما وضع له، وفيما لم يوضع له أصلًا، فاستعمله في الفضاء وفي البنيان، لكن استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه يجوز أم لا يجوز؟ الجمهور: لا يجوز، والشافعية يقولون به، وابن حجر..

المُقَدِّم: شافعي.

معروف أنَّه شافعي؛ ولذلك حمل عمل أبي أيوب، حمل عمل أبي أيوب على استعمال اللفظ فيما هو أعم من الحقيقة والمجاز.

المُقَدِّم: واعتراض الجمهور، لماذا يا شيخ؟

كيف؟

المُقَدِّم: مخافة التوسع؟

لا؛ لأنَّ المتكلم حينما يتكلم بشيء يقصد شيئًا أو أكثر من شيء؟

المُقَدِّم: لا، لا شك أنَّه يقصد شيئًا.

يقصد شيئًا واحدًا، لا يقصد شيئين، أنت إذا صوّت مثلًا، أمامك مجموعة من الناس فقلت: يا محمد.

المُقَدِّم: ما تقصد إلا محمدًا.

تقصد محمدًا واحدًا بعينه، لكن لو التفت عشرة اسمهم محمد، أنت تقصدهم جميعًا؟

المُقَدِّم: لا.

لا؛ ولذلك لو كنت تقصدهم قلت: يا محمدون، ناديت الجمع، ما ناديت واحدًا، هو يقول: لا، مادام كلهم يشملهم هذا المسمى فهم مقصودون.

المُقَدِّم: يصح.

لا، هذا الكلام ليس بصحيح.

المُقَدِّم: وإذا انتقل هذا العرف؟

كيف انتقل.

المُقَدِّم: انتقل ليصبح حقيقة على هذا وذاك، ما الذي يمنع؟

محمد حقيقة على الجميع، لكن الكلام على مقصود المتكلم، هل يقصد الحقيقة التي يريدها، أو يقصد حقيقة ثانية حقيقة عرفية، أو حقيقة لغوية، أو ما أشبه ذلك؟

المُقَدِّم: وما الذي جعلنا نؤكد على أنَّ الحقيقة التي يقصدها النبي-  صلى الله عليه وسلم- الغائط أنَّها...

الحقيقة اللغوية المعروفة في لغة العرب المكان المطمئن.

المُقَدِّم: ولم يكن يُعرف عندهم أنَّ الغائط..

ما يعرف، المكان المطمئن هو الحقيقة اللغوية، حقيقة عرفية أُطلقت على الخارج.

المُقَدِّم: والتي في المنازل كانوا يسمونها كنيفًا؟

سيأتي الكلام عنها.

المُقَدِّم: ما كانوا يسمونها غائطًا أبدًا.

الكنف.

المُقَدِّم: نعم.

يسمونها الكنف، يأتي الكلام عنها.

المُقَدِّم: نعم.

لكن الإجابة عن أبي أيوب وهو لا يعرف المجاز؛ لكونه أراد الحقيقة والمجاز؛ لأنَّ المجاز عند من لا يقول به وهو المنصور عند شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والشنقيطي وجمع من أهل العلم، مثل هذا كيف يُحمل كلام صحابي على أمر لا يُعرف عنده على أساس أنَّ الاصطلاح الحادث، عُرف في الاصطلاح الحادث، فكيف نُحمِّل كلام السلف، أو نَحمل كلام السلف على اصطلاح حدث بعدهم بقرون؟

لكن الجواب الصحيح عن صنيع أبي أيوب كلامه الآتي، كلام ابن حجر الذي يلي بعد هذا مباشرة، يقول: وكأنَّه لم يبلغه حديث التخصيص، ولولا أنَّ حديث ابن عمر دل على تخصيص ذلك بالأبنية لقلنا بالتعميم، لكن العمل بالدليلين أولى من إلغاء أحدهما، لم يبلغه التخصيص وارد أنَّ أبا أيوب لم يبلغه حديث ابن عمر.

المُقَدِّم: صحيح.

فعمل بالحديث على عمومه.

المُقَدِّم: وهذا أظهر، يظهر.

هو المتعين، هو الجواب المتعين.

المُقَدِّم: صحيح.

لكن بعض الناس يرد عنده نهي، ويرد عنده ما يدل على الجواز، ويستمر على النهي من باب الاحتياط، افترض مثلًا في مسألة الشرب قائمًا، النهي عن الشرب قائمًا، « ومن شرب قائمًا فليقئ» هذا نهي ثابت، ما فيه إشكال.

المُقَدِّم: نعم.

ومع ذلك «شرب النبي- صلى الله عليه وسلم- من شن معلق قائمًا»، وشرب من زمزم قائمًا، هذه صوارف، مثل مسألتنا صوارف، لكن يُلام الذي شرب جالسًا إذا أراد أن يشرب؟ ما يُلام، عملًا بالعموم، وهو الأحوط؛ لأنَّ الفعل؛ لبيان الجواز، لا يعني إلغاء النهي بالكلية، بل يخفف هذا النهي بحيث لا يُنكر على من شرب جالسًا، لكن يبقى النهي قائمًا.

المُقَدِّم: ما يُنكر على من شرب واقفًا.

قائمًا، نعم، كيف؟

المُقَدِّم: تقول: يخفف هذا النهي بحيث لا يُنكر على من شرب قائمًا يعني.

ما يلزم.

المُقَدِّم: ممكن ألا يُنكر على من شرب جالسًا؟

لا يُنكر عليه، لا يُنكر عليه لماذا؟ لا يُنكر على من شرب جالسًا فلا يُقال: إنَّ النبي- عليه الصلاة والسلام- شرب قائمًا فقم، كما أنَّه لا يُنكر على من شرب قائمًا.

المُقَدِّم: لورود النهي.

لأنَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- شرب قائمًا، فمن عمل بهذا وهذا لا يُنكر عليه؛ فعلى هذا عمل أبي أيوب كمن شرب جالسًا مع علمه بأنَّ النبي-  عليه الصلاة والسلام- شرب قائمًا استصحابًا للنهي الأول، فيكون هذا من باب الاحتياط.

لكن العمل بالدليلين أولى من إلغاء أحدهما، وقد جاء عن جابر فيما رواه أحمد وأبو داود وابن خزيمة وغيرهم تأييدُ ذلك، ولفظه عند أحمد: «كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ينهانا أن نستدبر القبلة أو نستقبلها بفروجنا إذا أهرقنا الماء»، ثم قال: « رأيته قبل موته بعام يبول مستقبل القبلة» هذا مقتضاه أنَّه نسخ، هل هو نسخ أم تخصيص؟

المُقَدِّم: مادام قال: « رأيته قبل موته بعام».

«كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ينهانا أن نستدبر القبلة أو نستقبلها بفروجنا إذا أهرقنا الماء»، ثم قال: «رأيته قبل موته بعام يبول مستقبل القبلة».

المُقَدِّم: هذا ناسخ.

هذا ناسخ، مقتضاه أنَّه..

المُقَدِّم: ناسخ.

ناسخ، لكن الاحتمال أنَّه رآه مثلما رآه ابن عمر في البناء، فيكون...

المُقَدِّم: مخصصًا.

مخصصًا، والتخصيص نسخ جزئي.

المُقَدِّم: نعم.

لا، كلي، قال ابن حجر: والحق أنَّه ليس بناسخ لحديث النهي خلافًا لمن زعمه، بل هو محمول على أنه رآه في بناء أو نحوه؛ لأنَّ ذلك هو المعهود من حاله- صلى الله عليه وسلم-؛ لمبالغته في التستر، ورؤية ابن عمر له كانت عن غير قصد كما سيأتي، فكذا رواية جابر. ودعوى خصوصية ذلك بالنبي- صلى الله عليه وسلم- بعضهم يقول: إنَّ النبي- عليه الصلاة والسلام- له أن يستقبل القبلة أو يستدبرها، وهذا من خصوصياته، دعوى خصوصية ذلك بالنبي- صلى الله عليه وسلم- لا دليل عليها. هكذا يقول ابن حجر، إذ الخصائص لا تثبت بالاحتمال.

أقول: استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة كمال أم نقص؟ يعني تعظيم الكعبة كمال أم نقص؟

المُقَدِّم: التعظيم كمال.

واستقبالها واستدبارها.

المُقَدِّم: لا شك أنَّ فيه نقصًا.

أقول: كل كمال يُطلب من المسلمين من آحاد الناس، فالنبي- عليه الصلاة والسلام- أولى به، كل كمال مطلوب فالنبي- عليه الصلاة والسلام- أولى به من غيره، وتعظيم القبلة كمال، فهو أولى به، فالقول بالتخصيص ضعيف. إضافة إلى أنَّه لا يوجد ما يدل على التخصيص.

المُقَدِّم: يضعفون التخصيص، ويؤيدون النسخ.

كيف؟

المُقَدِّم: أو يقولون..

لا، لا، التخصيص بالنبي- عليه الصلاة والسلام- لا التخصيص بالبنيان.

المُقَدِّم: نعم.

المضعف كونه من الخصائص، من خصائص النبي- عليه الصلاة والسلام-.

يقول العيني: وجه المناسبة بين البابين هذا كلام طويل كله متعلق بالاستثناء الذي ذكره البخاري- رحمه الله تعالى- وأطالوا فيه الكلام، لكن نقتصر منه على هذا.

 يقول العيني: وجه المناسبة بين البابين، باب ماذا؟ وضع الماء عند الخلاء.

المُقَدِّم: نعم.

والثاني.

المُقَدِّم: باب لا تستقبل القبلة بغائط أو بول إلا عند البناء.

نعم، وجه المطابقة ظاهرة، ما المناسبة بين البابين؟ ما وجه المناسبة بين البابين؟ يقول العيني: وجه المناسبة بين البابين ظاهر، في كل منهما قضاء حاجة، ومطابقة الحديث للترجمة..

المُقَدِّم: الجزء الأول يُطابق.

ما فيه إشكال.

المُقَدِّم: لا تستقبل القبلة بغائط أو بول.

نعم، ظاهرة. يقول: وليس له مطابقة للمستثنى على ما ذكرنا وما يطابقه هو حديث عبد الله بن عمر- يقول العيني- رضي الله عنهم على الوجه الذي نقلناه عن ابن بطال، فمن أجل هذا قال صاحب التلويح: في هذا الحديث ما يدل على عكس ما قاله البخاري، كيف؟ يعني إطلاق الحديث، عموم الحديث ما فيه استثناء، فهو يدل على عكس ما قاله البخاري، وأيضًا الراوي أبو أيوب فهم منه غير ما فهمه البخاري؛ لأنَّه وجد مراحيض في الشام، فانحرف عنها واستغفر الله، انحرف عن القبلة واستغفر الله- جلَّ وعلا-.

أيضًا مسألة الانحراف عن القبلة سواء كانت في الفضاء كما هو على سبيل الإلزام، أو في البنيان كما هو على سبيل الورع مثلًا انحرافًا بيِّنًا مؤثر في الاستقبال بالصلاة، ما معنى هذا؟ نقول: الاستقبال في الصلاة...

المُقَدِّم: إلى جهة.

بين المشرق والمغرب.

المُقَدِّم: نعم، لو انحرفت.

لو انحرفت يسيرًا فما يؤثر، نريد الانحراف في هذا الباب ما يؤثر.

المُقَدِّم: إذا انحرف عن القبلة انحرافًا يؤثر.

نعم، كفى.

المُقَدِّم: يكفي.

أمَّا انحراف لا يكفي في استقبالها في الصلاة هذا لا يكفي، وذلك أنَّ أبا أيوب راوي الحديث فهم منه غير ما ذكره البخاري، وهو تعميم النهي، والتسوية في ذلك بين الصحاري والصحارى، الصحاري أو الصحارى؟

المُقَدِّم: الصحارى.

"وبالفعالي والفعالى جمعًا ما كصحراء"

يعني يجوز.

المُقَدِّم: يجوز صحارى وصحاري.

نعم، فتاوي وفتاوى يجوز، في ذلك بين الصحاري والأبنية بين ذلك بقوله: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض.. إلى آخره، في انتقاض الاعتراض صرح- يعني العيني- بأنَّه لا مناسبة بين هذا الحديث وما دل عليه الاستثناء قال: وهذا بسبب الظاهر، وإلا فالتقريب يكفي في ثبوت المناسبة، فانظر وتعجب.

هناك كتاب صغير في بيان مناسبة أبواب البخاري اسمه النور الساري، النور الساري على صحيح البخاري، النور الساري هذا شرح مختصر للبخاري في عشرة أجزاء للعدوي، هذا مطبوع في عشرة أجزاء، طبع حجر قديم.

المُقَدِّم: العدوي.

نعم.

المُقَدِّم: شيخ معاصر.

شيخ معاصر! مطبوع قبل مائة وخمسين سنة.

المُقَدِّم: نعم، إذًا ليس المعاصر.

لا لا، هذا النور الساري الذي أنقل عنه الآن هو لشيخ الهند محمود الحسن، ذاك مصري.

المُقَدِّم: نعم.

وهذا الشيخ شيخ الهند محمود الحسن، إذا قيل: لمَ استثنى البناء في الترجمة ووافق الشافعية، وليس الاستثناء في الحديث؟ أقول: لعل غرضه دفع مقدّر بأن يُقال: إنَّ هذا الحديث حجة يقول: لعل غرضه دفع دخل مقدر بأن يُقال: إنَّ هذا الحديث حجة على الشوافع للأحناف في أنَّ الشوافع يجوزون الاستقبال والاستدبار بالكنيف، ويخصون الحديث بالبنيان، والحال أنَّ الحديث عامٌّ.

 فأجاب المؤلف أنَّ هذا الحديث ليس بمخالف لنا، بل جاء في أحاديث أخرى جواز الاستقبال والاستدبار للكنيف والأبنية.

 لكن أقول- يقول محمود الحسن- لكن أقول: من جانب الأحناف إنَّ الأحاديث الأخرى كيف تكون حجة لهم في دعواهم، والحال أنَّ تلك الأحاديث واقعات عين، أقول: من جانب الأحناف يعني مما يؤيد قول الحنفية وأنَّ النهي شامل للصحاري والبنيان، إنَّ الأحاديث الأخرى كيف تكون حجة لهم؟ حديث ابن عمر، وحديث جابر، كيف تكون حجة لهم في دعواهم والحال أنَّ تلك الأحاديث واقعات عين، تحتمل احتمالات كثيرة كما ذكرت ذلك في تعليق الترمذي، فارجع إليه لعلك تفهم ما تجده هناك، والله أعلم.

المقصود أنَّ هذا يؤيد رأي الحنفية القول بالإطلاق.

المُقَدِّم: أحسن الله إليكم، ونفع بعلمكم، إن شاء الله، نستكمل ما تبقى بإذن الله في حلقة قادمة؛ لانتهاء وقت هذه الحلقة.

أيُّها الإخوة والأخوات، بهذا نصل إلى ختام حلقتنا في شرح" التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح"، نستكمل بإذن الله في حلقة قادمة، وأنتم على خير، شكرًا لطيب متابعتكم.

 

 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.