شرح العقيدة الطحاوية (61)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

هذا يقول: كتابي أخذه بعض الزملاء بالخطأ بأحد الدروس التي كانت قبل رمضان، وهو العقيدة، واسمي مسجل عليه: فيصل الفهادي، إنسان أخذه خطأً ولا يدري ولا فتحه من ذاك اليوم، يمكن؛ لأن الكتب تتشابه، مادام الاسم موجودًا.

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين برحمتك يا أرحم الراحمين.

قال الإمام الطحاوي -رحمه الله تعالى-: ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة والعرض والحساب، وقراءة الكتاب، والثواب والعقاب والصراط والميزان، قال الشارح رحمه الله تعالى: الإيمان بالمعاد مما دل عليه الكتاب والسنة، والعقل والفطرة السليمة. فأخبر الله سبحانه عنه في كتابه العزيز، وأقام الدليل عليه، وردّ على منكريه في غالب سور القرآن".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، أما بعد،،

فالإيمان بالبعث ركن من أركان الإيمان لا يصح إلا به، فالذي لا يقر بالبعث كافر، كما دلت على ذلك النصوص القطعية من كتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، والأدلة متظاهرة متكاثرة على تقرير المعاد في كتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، ومضى ذكر الإيمان بأركانه الستة، ومنها الإيمان بالبعث، وخصه مع ما يتعلق به من العرض والحساب وقراءة الكتاب والثواب والعقاب والصراط والميزان، كلها يأتي الكلام عليها بشيء من التفصيل مع الأدلة.

"وذلك: أن الأنبياء -عليهم السلام- كلهم متفقون على الإيمان بالآخرة، فإن الإقرار بالرب عام في بني آدم، وهو فطري، كلهم يقر بالرب، إلا من عاند كفرعون، بخلاف الإيمان باليوم الآخر، فإن منكريه كثيرون، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- لما كان خاتم الأنبياء، وكان قد بُعث هو والساعة كهاتين، وكان هو الحاشر المقفي - بيّن تفصيل الآخرة بيانًا لا يوجد في شيء من كتب الأنبياء. ولهذا ظن طائفة من المتفلسفة ونحوهم أنه لم يفصح بمعاد الأبدان إلا محمد- صلى الله عليه وسلم-، وجعلوا هذه حجة لهم في أنه من باب التخييل والخطاب الجمهوري".

الذي لا يؤمن بالبعث ما الذي يحدوه ويسوقه إلى الإيمان ببقية الأركان؟ إنسان لا يؤمن بالبعث ولا جزاء ولا حساب ولا عذاب ولا نعيم، ما الذي يسوقه إلى الإيمان ببقية الأركان؟ هل هناك شيء يحدوه إلى الإيمان ببقية الأركان؟ لا. إذا ما آمن بالبعث يفعل ما شاء، فليصنع ما شاء إذا لم يؤمن بالبعث، نعم.

"والقرآن بيَّن معاد النفس عند الموت، ومعاد البدن عند القيامة الكبرى في غير موضع. وهؤلاء ينكرون القيامة الكبرى، وينكرون معاد الأبدان، ويقول من يقول منهم: إنه لم يخبر به إلا محمد -صلى الله عليه وسلم- على طريق التخييل! وهذا كذب".

لا على طريق الحقيقة، إنما يخبر به محمد، وأن هناك معادًا وبعثًا وجزاءً وعذابًا ونعيمًا، كله من أجل أن يعمل الناس، وإلا فما يوجد شيء حقيقة، كله تخييل وإلجاء واضطرار للناس أن يعملوا، وإلا ففي الحقيقة لا شيء، لا حقيقة، وإنما هو تخييل –نسأل الله السلامة والعافية-.

"وهذا كذب، فإن القيامة الكبرى هي معروفة عند الأنبياء، من آدم إلى نوح، إلى إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم -عليهم السلام-".

الذي ينكر البعث إنما هو يتخذه وسيلة لإنكار الخالق وما يأمر به، وإنكار الرسالات، وما جاءت به عن الله -جل وعلا-، تصور لو أن مدرسة يدرس فيها هؤلاء الشباب والأطفال الذين لا يدركون مصلحة العلم، ولا يعرفون فائدته، وقالوا: المدرسة ليس فيها اختبارات، سيذاكرون؟ ما يدركون مصلحتهم، ولا يعرفون أن للعلم فائدة، أو يدرّسون مواد لا تنفعهم ولا تفيدهم، ويقال: ما فيه اختبار، ما هم بمذاكرين، وهذا شأن من ينكر البعث، الذي ينكر البعث معناه إنكار لجميع ما أُمر به، وجميع ما نُهي عنه؛ لأنه إذا لم يكن هناك حادٍ يحدوه فما الذي يسوقه إلى العمل بالتكاليف، وكف النفس عما تهواه وتشتهيه؟

"وقد أخبر الله بها من حين أهبط آدم، فقال تعالى: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [سورة الأعراف:24، 25].

ولما قال إبليس اللعين: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ  (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ}[سورة الحجر:36-38].

وأما نوح -عليه السلام- فقال: {واللَّهُ أَنْبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا ويُخْرِجُكُمْ إخْرَاجًا} [سورة نوح: 17، 18 ].

وقال إبراهيم -عليه السلام-: {والَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}  [سورة الشعراء: 82 ]. إلى آخر القصة. وقال: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي ولِوَالِدَيَّ ولِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ} [سورة إبراهيم: 41 ]. وقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى} الآية، [سورة البقرة: 260 ].

وأما موسى -عليه السلام-، فقال الله تعالى لما ناجاه: {إنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا واتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [سورة طه: 15، 16 ]".

كثرت الأدلة على البعث؛ لكثرة منكريه، لكن هل هناك أدلة بهذا المقدار تدل على الموت؟ لماذا؟ لا يوجد منكر، إلا ما يقال عن طائفة من الوثنيين القائلين بالتناسخ، أنه ما يموت، لكن روحه تنتقل من مكان إلى آخر.

{إنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى}

{أَكَادُ أُخْفِيهَا} هل مفاد الآية أنه أخفاها أو لم يخفها؟ {أَكَادُ أُخْفِيهَا}.

طالب: أخفاها.

من خلال الآية.

طالب: أخفاها من جانب ولم يخفها من جانب.

{أَكَادُ أُخْفِيهَا}.

طالب:...

من مفاد الآية أنه لم يخفها، النصوص كلها تدل على أنه لا يعلمها إلا الله، وهذا كما قال بعض المفسرين من أساليب المبالغة في إخفائها؛ لأن مفادها {أَكَادُ أُخْفِيهَا} حتى عن نفسي، أما عن غيره -جل وعلا- فلا يعلمها أحد، يعني هذا من أسلوب المبالغة في إخفائها، إخفائها عن الخلق هذا أمر مقطوع به، «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» وهذا أشرف الأنبياء، وهذا أشرف الملائكة إذا لم يعلمها محمد وجبريل، فمن يعلمها؟ لكن قال المفسرون: إن {أَكَادُ} هنا فيه إثبات وإن كان فيه شيء من الخفاء إثبات لعدم إخفائها، لكن عن الخلق لا، الأدلة قطعية في أن الخلق لا يعرفونها، ماذا بقي؟ أكاد أخفيها حتى عن نفسي، يعني من شدة إخفائها قال: {أَكَادُ أُخْفِيهَا}.

طالب:...

ماذا؟

طالب:...

علامات، لكن مهما بلغ من معرفة علامات ودقة هذه العلامات فهل تدل عليها بدقة؟ يعني الذي قال: ألف أربعمائة وسبعة، الذي قال تقوم الساعة ألف وأربعمائة وسبعة، وألف وأربعمائة، وقد قيل بهذا وهذا، يعني التعميم مجاوزة الأمة على الألف هذا أمر سهل، لكن الذي يقول ألف وأربعمائة وسبعة، من قوله -جل وعلا-: {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [سورة الأعراف:187] بغتة بحساب الجُمّل ألف وأربعمائة وسبعة، لكن هل كلامه صحيح؟ قامت القيامة ألف وأربعمائة وسبعة؟ لا. ولذلك حساب الجُمّل لا يعتمد عليه، ولا يعول عليه في تقرير الحقائق، ممكن أنت الآن أن تذكر تاريخ ميلادك الماضي حساب الجُمّل على الطريقة المعروفة، لكن ما تستطيع أن تذكر تاريخ وفاتك على حساب الجُمّل، صح أم لا؟ ما تستطيع؛ لأن هذا الشيء لا تدركه، ولا تملكه، قال: ألف وأربعمائة وسبعة. {بَغْتَةً} في حساب الجُمّل ألف وأربعمائة وسبعة، لما قال اليهود: كيف نتبع نبي مدة بقائه ومدة رسالته سبعون عامًا، جمعوا الحروف المقطعة على حساب الجُمل وبلغت بعد حذف المكرر سبعين، هذا كلام اليهود. فمثل هذا لا يُعول عليه ولا يُلتفت إليه، الذي قال: ألف وأربعمائة ما حجته؟

طالب:...

نعم، إنما مثلكم ومثل من قبلكم كمثل من استأجر أجيرًا إلى نصف النهار بدينار، المستأجر أجيرًا إلى وقت العصر بدينار، ثم استأجر أجيرًا إلى غروب الشمس بدينارين، من دخول وقت العصر إلى غروب الشمس خُمس الوقت، خمس. وبعده؟ قالوا: الدنيا عمرها سبعة آلاف سنة، فإذا قسمنا سبعة آلاف سنة على خمسة يطلع الناتج ألفًا وأربعمائة، مثل هذا تقرر مثل هذه الأمور العظام؟  

"{فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا واتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [سورة طه: 15، 16 ]. بل مؤمن آل فرعون كان يعلم المعاد، وإنما آمن بموسى، قال تعالى حكاية عنه: {ويَا قَوْمِ إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [ سورة غافر: 32 - 33 ] إلى قوله تعالى: {يَا قَوْمِ إنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وإنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ} [سورة غافر: 39 ] إلى قوله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ} [سورة غافر: 46 ]. وقال موسى: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [سورة الأعراف: 156 ].

وقد أخبر الله في قصة البقرة: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتَى ويُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [سورة البقرة: 73 ].

وقد أخبر الله أنه أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، في آيات من القرآن، وأخبر عن أهل النار أنهم إذا قال لهم خزنتها: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ}  [سورة الزمر: 71 ]".

جميع الرسل أخبروا أممهم عن هذا المعاد، وعن هذا اللقاء في ذلك اليوم، أنكروا في الحياة، لكن لما عاينوا ماذا قالوا؟ قالوا: {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ}[سورة الزمر:71]، ما ينفع هذا الإقرار، الكلام في وقت التكليف، أما إذا عاين وصار الأمر عيانًا، وانتهى الإيمان بالغيب فلا ينفع.

"وهذا اعتراف من أصناف الكفار الداخلين جهنم أن الرسل أنذرتهم لقاء يومهم هذا. فجميع الرسل أنذروا بما أنذر به خاتمهم، من عقوبات المذنبين في الدنيا والآخرة. فعامة سور القرآن التي فيها ذكر الوعد والوعيد، يذكر ذلك فيها: في الدنيا والآخرة.

وأمر نبيه أن يقسم به على المعاد، فقال:.."

في ثلاثة مواضع، في يونس، وفي سبأ، وفي التغابن، كلها يأمره الله -جل وعلا- أن يقسم على المعاد، {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي }[سورة يونس:53]، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي }[سورة سبأ:3]، {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي }[سورة التغابن:7] هو ما أُمر أن يحلف على شيء إلا في هذه المواضع الثلاثة -عليه الصلاة والسلام-.

"وأمر نبيه أن يقسم به على المعاد، فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ...}[سورة سبأ:3] الآية. وقال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [ سورة يونس: 53 ]. وقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}  [سورة التغابن: 7].

وأخبر عن اقترابها، فقال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [سورة القمر: 1 ]. وقال: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}  [سورة الأنبياء: 1 ]. وقال تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ واقِعٍ (1) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ}  [ سورة المعارج: 1 - 2 ] إلى أن قال: {إنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) ونَرَاهُ قَرِيبًا} [ سورة المعارج: 6 - 7 ]".

ولتحقُّق وقوعه عُبِّر عنه بالفعل الماضي {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ }[سورة النحل:1]، لماذا؟ لتحقق وقوعه، وإلا فالأصل أن الماضي لما مضى وانقضى، لكن باعتباره كالواقع لتحقق وقوعه، جاء التعبير عنه بالفعل الماضي.

"وذم المكذبين بالمعاد، فقال: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}  [سورة يونس: 45 ]. وقال تعالى: {أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ}  [سورة الشورى: 18 ]. وقال تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ}  [سورة النمل: 66 ]. وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا}  [سورة النحل: 38 ]، إلى أن قال: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ}  [سورة النحل: 39 ]. وقال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ}  [سورة غافر: 59 ]".

 هذه النصوص القطعية الصريحة في إثبات البعث كيف يجرؤ من يزعم أنه ينتسب إلى الملة على تحريفها وتأويلها، ويمشي كلامه على كثير من الناس ممن يتبعه على ضلاله وجهله؟ نسأل الله السلامة والعافية، لكن إذا أخذ العقولَ باريها، وتخلى الله -جل وعلا- عن عبده فحدِّث ولا حرج من الضلال والضياع، سمعنا قول من يقول: سبحان ربي الأسفل، هل يقبل هذا عقل؟ هل يقبله عاقل؟ ومن يقول:

ألا بذكر الله تزداد الذنوب
.

 

وتنطمس البصائر والقلوب
.

ومع ذلك تُدعى لهم الولاية، ويُتبرك بهم، ويُستسقى بهم الغمام على أنهم أولياء، بل أفضل الأمة، بل يوجد من يفضلهم على الأنبياء، نسأل الله العافية؛ لأن مقام الولاية عندهم لها شأن عظيم، وقد وصلوا وبلغوها، هل مثل هذا يمشي على عقل صريح، وفطرة سليمة؟ لا يمشي مثل هذا إلا على من اجتالتهم الشياطين، نسأل الله العافية.

"وقال تعالى: {ونَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى وجُوهِهِمْ عُمْيًا وبُكْمًا وصُمًا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا ورُفَاتًا أَئِـنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ الـسَّمَوَاتِ والأَرْضَ قَادرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إلاَّ كُفُورًا} [ سورة الإسراء: 97 - 99 ].

وقال تعالى: {وقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا ورُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إلَيْكَ رُءُوسَهُمْ ويَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وتَظُنُّونَ إن لَّبِثْتُمْ إلاَّ قَلِيلاً} [سورة  الإسراء: 49 - 52 ].

فتأمل ما أُجيبوا به عن كل سؤال على التفصيل: فإنهم قالوا أولاً:"

السؤال مرة واحدة عندك؟

طالب: لا، مكررة، أقرأها مرتين؟

"فتأمل ما أُجيبوا به عن كل سؤال، سؤال على التفصيل: فإنهم قالوا أولاً: {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} فقيل لهم في جواب هذا السؤال: إن كنتم تزعمون أنه لا خالق لكم ولا رب لكم، فهلّا كنتم خلقًا لا يفنيه الموت، كالحجارة والحديد وما هو أكبر في صدوركم من ذلك؟! فإن قلتم: كنا خلقًا على هذه الصفة التي لا تقبل البقاء.."

على صفتهم المركبة من لحم، وعظم، ودم، وجلد، هذه الصفة تقبل الفناء، {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا}[سورة الإسراء:50] والأمر هنا لماذا؟ أمر تعجيز، أمر تعجيز.

"فإن قلتم: كنا خلقًا على هذه الصفة التي لا تقبل البقاء؛ فما الذي يحول بين خالقكم ومنشئكم وبين إعادتكم خلقًا جديدًا؟!

وللحجة تقدير آخر، وهو: لو كنتم من حجارة أو حديد أو خلق أكبر منهما، فإنه قادر على أن يفنيكم ويحيل ذواتكم، وينقلها من حال إلى حال، ومن يقدر على التصرف في هذه الأجسام، مع شدتها وصلابتها، بالإفناء والإحالة فما الذي يعجزه فيما دونها؟ ثم أخبر أنهم يسألون سؤالاً آخر بقولهم: {مَنْ يُعِيدُنَا} إذا استحالت جسومنا وفنيت؟ فأجابهم بقوله: {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [سورة  الإسراء: 51 ]. فلما أخذتهم الحجة، ولزمهم حكمها، انتقلوا إلى سؤال آخر يتعللون به بعلل المنقطع، وهو قولهم: {مَتَى هُوَ} فأجيبوا بقوله: {عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا}  .

ومن هذا قوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [سورة  يس: 78 ] إلى آخر السورة".

يقول: فلما أخذتهم الحجة، يعني الحجة الدامغة التي لا يستطيعون الجواب عنها، ولزمهم حكمها لا مفر، ولا محيد عن الإقرار انتقلوا إلى سؤال آخر يتعللون به بعلل المنقطع الذي انتهت حججه، ولا يستطيع أن يتكلم، {مَتَى هُوَ}؟ هل هذا استفهام عن حقيقة الأمر والواقع، أو استفهام استبعاد مثل: أن، فأُجيبوا بقوله: {عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} ما هو الذي يهم، المهم وقت وقوعه، لكن المهم هو الإيمان به، والتصديق، والعمل بمقتضى هذا الإيمان، نعم.    

"ومن هذا قوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [سورة  يس: 78 ] إلى آخر السورة.  فلو رام أعلم البشر وأفصحهم وأقدرهم على البيان، أن يأتي بأحسنَ من هذه الحجة، أو بمثلها بألفاظ تشابه هذه الألفاظ في الإيجاز ووضع الأدلة وصحة البرهان لما قدر. فإنه سبحانه افتتح هذه الحجة بسؤال أورده ملحد، اقتضى جوابًا، فكان في قوله: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} ما وفّى بالجواب. وأقام الحجة وأزال الشبهة ولما أراد سبحانه من تأكيد

{وَنَسِيَ خَلْقَهُ} وإلا لو تذكر خلقه من بدايته إلى نهايته ما سأل هذا السؤال، لو تذكر مما خلق؟ وكيف خلق؟ وكيف نشأ وترعرع في الأطوار ما استطاع أن يسأل هذا السؤال؛ لأن فيه الجواب.

"ولما أراد سبحانه من تأكيد الحجة وزيادة تقريرها فقال:.."

ماذا عندك؟ وأزال الشبهة،

طالب: وأزال الشبهة ولما

ماذا عندكم؟ لومًا أو لوما، على كل حال النسخ الثانية فيها مطبوعة مكة لما، نعم.

"وأزال الشبهة لوما أراد سبحانه من تأكيد الحجة وزيادة تقريرها، فقال: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} فاحتج بالإبداء على الإعادة، وبالنشأة الأولى على النشأة الأخرى. إذ كل عاقل يعلم علمًا ضروريًّا أن من قدر على هذه قدر على هذه، وأنه لو كان عاجزًا عن الثانية لكان عن الأولى أعجز وأعجز. ولما كان الخلق يستلزم قدرة الخالق على مخلوقه، وعلمه بتفاصيل خلقه أتبع ذلك بقوله: {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [سورة  يس: 79 ]".

الدول الضعيفة التي لا تستطيع على صنع المخترعات الحديثة، لكن تستطيع الصيانة، تستطيع الصيانة والتجميع، لكن ما يستطيعون الفعل ابتداءً، مما يدل على أن الفعل ابتداءً أشد من الإعادة، فالذي خلقهم ابتداءً وقدر على ذلك هو على إعادتهم أقدر. 

"فهو عليم بتفاصيل الخلق الأول وجزئياته، ومواده وصورته، فكذلك الثاني".

يعني هذا التصوير والتمثيل في قدرة المخلوق الذي تخفى عليه الأمور التي بين يديه، فكيف بالخالق القادر الذي يخلق الشيء بالإرادة، بقوله: كن، ولا يحتاج إلى معين، ولا آلات حتى ولا أدوات، ولا ما يتركب منه هذا المخلوق الذي أمر الله -جل وعلا- بقوله كن فكان، والله المستعان. 

"فإذا كان تام العلم، كامل القدرة، كيف يتعذر عليه أن يحيي العظام وهي رميم؟

ثم أكد الأمر بحجة قاهرة، وبرهان ظاهر، يتضمن جوابًا عن سؤال ملحد آخر يقول: العظام إذا صارت رميمًا عادت طبيعتها باردة يابسة، والحياة لا بد أن تكون مادتها وحاملها طبيعته حارة رطبة بما يدل على أمر البعث، ففيه الدليل والجواب معًا، فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [سورة  يس: 80 ]. فأخبر سبحانه بإخراج هذا العنصر، الذي هو في غاية الحرارة واليبوسة، من الشجر الأخضر الممتلئ بالرطوبة والبرودة، فالذي يخرج الشيء من ضده، وتنقاد له مواد المخلوقات وعناصرها، ولا تستعصي عليه".

 في قدرة البشر الشجر الأخضر يوقد النار أو يطفئ النار؟ يطفئ النار؛ لأنه مشتمل على رطوبة، والرطوبة ضد النار، والله -جل وعلا- يقول: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} قد يقول قائل: أنه في حال كونه أخضر لا يوقد، وإنما يوقد إذا يبس، فما الجواب؟ {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} يعني باعتبار ما سيكون، أو باعتبار ما كان أنه أخضر، ثم يوقد منه إذا يبس، أو هناك أنواع من الأشجار يوقد منها وهي خضراء رطبة، هذا كلام العليم الخبير، يعني ما يستطيع أن يقول أحد إن هذا الكلام {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا} هو في صدد الرد عليهم، قلنا: الجسم إذا مات وبرد واستحال كيف يعاد؟ والأصل أن الحياة فيها حرارة ورطوبة، {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} فأخبر سبحانه بإخراج هذا العنصر الذي هو في غاية الحرارة واليبوسة النار، هذا العنصر الذي هو النار في غاية الحرارة واليبوسة، الحرارة فهي معروفة، واليبوسة بها ييبس الرطب، يعني إذا توضأت في جو بارد أين تذهب؟ بتيبس
أطرافك ما عندك منشفة ولا عندك شيء إنما تيبسها بالنار.

طالب:

يحصل فيه الحرائق بلا شك، لكن لابد أن يوجد هناك أنواع من الشجر الأخضر الذي فيه الرطوبة، ولو كسرته لتسرب منه الماء يوجد منها ما يقبل الاحتراق.

طالب:

واضح؛ لأن الغالب أن الشجر الأخضر يطفئ النار.

طالب:

ما فيها؟

طالب:

من سياق الكلام، ما فيه؟

طالب:

نعم، {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا} لذا قلنا إنه سياق امتنان، هو في مساق الرد عليهم أن هذا الواقع يرد قولكم.

طالب:

إلا قيل أنه سياق امتنان، فلابد أن نقول {مِنَ} هذه بيانية؛ لأن الامتنان يقتضي العموم، {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}[سورة الرحمن:68] نكرة في سياق الإثبات تقتضي العموم أم لا؟

طالب:...

نعم، والغريب أن مما فُضلت به الجنتان الأوليان في سورة الرحمن في الأوليين قال: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ}[سورة الرحمن:52]، وفي الأخريين قال: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}[سورة الرحمن:68]، قال ابن كثير: تفضيل الأوليين باعتبار أن فيهما من كل فاكهة زوجين عموم؛ لأنه يتناول أكثر من واحد، و{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} نكرة في سياق الإثبات فلا تعم، مع أنهم جعلوا هذه الآية مثالًا لعموم النكرة في سياق الامتنان.

"فالذي يخرج الشيء من ضده، وتنقاد له مواد المخلوقات وعناصرها، ولا تستعصي عليه،  هو الذي يفعل ما أنكره الملحد ودفعه، من إحياء العظام وهي رميم.

ثم أكد هذا بأخذ الدلالة من الشيء الأجل الأعظم، على الأيسر الأصغر، فإن كل عاقل يعلم أن من قدر على العظيم الجليل فهو على ما دونه بكثير أقدر وأقدر، فمن قدر على حمل قنطار فهو على حمل أوقية أشد اقتدارًا، فقال: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [سورة  يس: 81 ] فأخبر أن الذي أبدع السماوات والأرض، على جلالتهما، وعظم شأنهما، وكبر أجسامهما، وسعتهما، وعجيب خلقهما، وأقدر".

 أقدر، خبر أقدر. 

طالب: بدون الواو.

نعم.

طالب: عندنا بالواو.

فأخبر أن الذي.

فأخبر أن الذي أبدع السماوات والأرض، على جلالتهما، وعظم شأنهما، وكبر أجسامهما، وسعتهما، وعجيب خلقهما، أقدر على أن يحيي عظامًا قد صارت رميمًا، فيردها إلى حالتها الأولى. كما قال في موضع آخر: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة  غافر: 57 ]. وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}  [سورة  الأحقاف: 33 ]. ثم أكد سبحانه ذلك وبيَّنه ببيان آخر، وهو أنه ليس فعله بمنزلة غيره، الذي يفعل بالآلات.

بالآلات.

طالب: يَفعل ولا يُفعل؟

يَفعل. نجار فتح محل نجارة وجلس ما عنده شيء، يقدر ينجر؟ أو صانع.

"الذي يَفعل بالآلات والكلفة، والتعب والمشقة، ولا يمكنه الاستقلال بالفعل، بل لا بد معه من آلة ومعين، بل يكفي في خلقه لما يريد أن يخلقه ويكونه نفس إرادته، وقوله للمكون: {كُنْ}، فإذا هو كائن كما شاءه وأراده.

ثم ختم هذه الحجة بإخباره أن ملكوت كل شيء بيده، فيتصرف فيه بفعله وقوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [سورة  يس: 83 ].

ومن هذا قوله سبحانه: {أَيَحْسَبُ الإنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأُنثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أن يُحْيِيَ المَوْتَى} [سورة  القيامة: 36 - 40 ]. فاحتج سبحانه على أنه لا يتركه مهملاً عن الأمر والنهي، والثواب والعقاب، وأن حكمته وقدرته تأبى ذلك أشد الإباء، كما قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [سورة  المؤمنون: 115]، إلى آخر السورة. فإن من نقله من النطفة إلى العلقة، ثم إلى المضغة، ثم شق سمعه وبصره، وركب فيه الحواس والقوى، والعظام والمنافع، والأعصاب والرباطات التي هي أشده، وأحكم خلقه غاية الإحكام".

رباطات يعني بذلك ما يربط بين الأعضاء من الأعصاب وغيرها.  

"وأحكم خلقه غاية الإحكام، وأخرجه على هذا الشكل والصورة، التي هي أتم الصور وأحسن الأشكال، كيف يعجز عن إعادته وإنشائه مرة ثانية؟ أم كيف تقتضي حكمته وعنايته به أن يتركه سدى؟ فلا يليق ذلك بحكمته، ولا تعجز عنه قدرته".

لو خلق الخلق على الهيئة الموجودة وتركهم سدى، بدون أمر ولا نهي ولا بعث ولا جزاء ولا ثواب ولا عقاب، فكيف يكون مآل الحياة؟ كان يأكل بعضهم بعضًا، لو تركهم سدى من دون مؤاخذة للظالم، من دون أخذ حق المظلوم، كان خلقهم عبثًا لأكل بعضهم بعضًا، ولكن الله -جل وعلا- خلقهم، وأرسل إليهم الرسل، وأنزل إليهم الكتب؛ لتضبط النظام في الحياة، ويؤخذ الحق من الظالم للمظلوم، والذي لا يتمكن من أخذ حقه في هذه الدنيا يجد حقه في دار الجزاء.  

"فانظر إلى هذا الاحتجاج العجيب، بالقول الوجيز، الذي لا يكون أوجز منه، والبيان الجليل، الذي لا يتوهم أوضح منه، ومأخذه القريب، الذي لا تقع الظنون على أقرب منه.

وكم في القرآن من مثل هذا الاحتجاج".

هذه طريقة القرآن في الرد على المخالفين، بخلاف الطرق الكلامية والفلسفية التي تُبنى على مقدمات، وهذه المقدمات تحتاج إلى إيضاحات، وضربنا مثلًا لبعض كتب الكلام التي هي في نهايتها الحيرة، تُقرأ في السنين، وتُفنى فيها الأعمار، وفي النهاية لا شيء، يتمنى أن يموت على عقيدة العجائز، يعني لو أن شرح المواقف مثلًا، وهي في ثمانية مجلدات كبار، خلاصته تقرير مسائل الاعتقاد على طريقة المتكلمين تطويل وتوعير والنهاية لا شيء، آية واحدة تنسف كل ما قالوه، في الباب كله. 

"وكم في القرآن من مثل هذا الاحتجاج كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [سورة  الحج: 5 ] إلى أن قال: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [سورة  الحج: 7 ]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ}  [سورة  المؤمنون: 12 ] إلى أن قال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ}  [سورة  المؤمنون: 16]. وذكر قصة أصحاب الكهف، وكيف أبقاهم موتى ثلاثمائة سنة شمسية، وهي ثلاثمائة وتسع سنين قمرية، وقال فيها: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} [سورة  الكهف: 21 ]".

لأن الفرق بين السنة الشمسية والقمرية عشرة أيام في كل سنة، وفي كل ثلاثين سنة يكون الفرق سنة، أو ثلاثة وثلاثين، وفي كل مائة سنة ثلاث سنوات، ففي الثلاثمائة تسع سنين.

"{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} [سورة  الكهف: 21] والقائلون بأن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة، لهم في المعاد خبط واضطراب. وهم فيه على قولين: منهم من يقول: تعدم الجواهر ثم تعاد. ومنهم من يقول: تفرق الأجزاء ثم تجتمع. فأورد عليهم الإنسان الذي يأكله حيوان، وذلك الحيوان أكله إنسان، فإن أعيدت تلك الأجزاء من هذا، لم تعد من هذا؟ وأورد عليهم: أن الإنسان يتحلل دائمًا".

من الجواهر المفردة لا تفنى ولا تعدم، وتُعاد كما هي، الإنسان الذي مات على هيئة وهو طفل مقتضى كلامهم أنه يبعث كما هو طفل، والشيخ الكبير الهرم يبعث كما هو، والشاب القوي الفتي يبعث كما هو؛ لأنه يعاد كما كان؛ لأنه لا يفنى عندهم، والله -جل وعلا- يقول: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}[سورة الرحمن:26]، والواقع يشهد بذلك، ائتي إلى هذا المقبور بعد عشر سنوات وشف الواقع، أو بعد مائة سنة لا تجد شيئًا، لا يبقى منه إلا عجب الذنب، وثبت في الأحاديث الصحيحة أن الناس يُبعثون على صفة آدم، الطول ستون ذراعًا، وهذا في الصحيحين، والعرض سبعة أذرع وهو في المسند، والسبعة مناسبة للستين، نعم، جاء في أوصاف من يدخلون الجنة وأوصاف من يدخلون النار، مقتضى كلامهم أنه يُبعث كما كان، هذا مع تأويلهم للبعث، ليس البعث الذي نعتقده وندين الله به، عندهم لما حادوا عن النصوص، عن الكتاب والسنة ضلوا وأضلوا من صدقهم واتبع قولهم، وإلا فقد جاءت في الأحاديث الصحيحة مع أنهم يتنصلون منها، بأنها أحاديث آحاد لا تثبت بها العقائد، من أجل ماذا؟ يأخذون راحتهم في إلقاء ما يريدون من الشبه على غوغاء الناس، أول زمرة تدخل الجنة على صورة قمر ليلة البدر، وجاء ما بين منكب الكافر وعاتقه مسيرة ثلاثة أيام، وضرس الكافر مثل الجبل الكبير، وهكذا –نسأل الله العافية-.   

"وأورد عليهم: أن الإنسان يتحلل دائمًا، فماذا الذي يعاد؟ أهو الذي كان وقت الموت؟ فإن قيل بذلك، لزم أن يُعاد على صورة ضعيفة، وهو خلاف ما جاءت به النصوص، وإن كان غير ذلك".

لماذا صور ضعيفة؟ لأنه عند الموت وهو كبير هرم، لا شك أنه في غاية الضعف، وقل مثل هذا لو مات في أول عمره وهو طفل ضعيف، نعم، فماذا عنه لو كان من أهل الجنة وهو على هذه الصورة الضعيفة، هل يتنعم؟ هل يتلذذ؟ هذا ينافي مقتضى إكرام أهل الجنة وما جاء فيها. 

وإن كان غير ذلك، فليس بعض الأبدان بأولى من بعض! فادعى بعضهم أن في الإنسان أجزاءً أصلية لا تتحلل، ولا يكون فيها شيء من ذلك الحيوان الذي أكله الثاني! والعقلاء يعلمون أن بدن الإنسان نفسه كله يتحلل، ليس فيه شيء باقٍ، فصار ما ذكروه في المعاد مما قوى شبهة المتفلسفة في إنكار معاد الأبدان.

والقول الذي عليه السلف.

نعم كلامهم درجة يرتقي بها من يريد إنكار البعث، يسهل عليه الإنكار إذا قال بقولهم، مع أنه جاء في الحديث الصحيح أنه يبقى من الإنسان عجب الذنب، ولا يفنى، وهو ضمن الثمانية التي تبقى ولا تفنى،

ثمانية حكم البقاء يعمها

 

من الخلق والباقين في حيز العدم

هي العرش، والكرسي، نار وجنة

 

وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم

طالب:...

أجساد الأنبياء؟ «إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» وأيضًا الشهداء.   

"والقول الذي عليه السلف وجمهور العقلاء: أن الأجسام تنقلب من حال إلى حال، فتستحيل ترابًا، ثم ينشئها الله نشأة أخرى، كما استحال في النشأة الأولى: فإنه كان نطفة، ثم صار علقة، ثم صار مضغة، ثم صار عظامًا ولحمًا، ثم أنشأه خلقًا سويًّا. كذلك الإعادة: يعيده الله بعد أن يبلى كله إلا عجب الذنب، كما ثبت في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أنه قال: «كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب، منه خلق ابن آدم، وفيه يركب».

وفي حديث آخر: «إن الأرض تمطر مطرًا كمني الرجال، يَنبتُون في القبور كما يَنبُت النبات».

فالنشأتان نوعان تحت جنس، يتفقان ويتماثلان من وجه، ويفترقان ويتنوعان من وجه. والمُعاد هو الأول بعينه".

والمُعاد: يعني الجسم المُعاد هو الأول.

طالب:...

الثاني عند الطبراني وغيره، له طرق لكن فيه كلام لأهل العلم.

"والمُعاد هو الأول بعينه، وإن كان بين لوازم الإعادة ولوازم البداءة فرق، فعجب الذنب هو الذي يبقى، وأما سائره فيستحيل، فيعاد من المادة التي استحال إليها. ومعلوم أن من رأى شخصًا وهو صغير".

يكون عجب الذنب بمنزلة البذرة، بمنزلة البذرة تُبذر فينبت منها الشجر بأنواعه.

طالب: في الحديث الأول قال: «منه خُلق ابن آدم».

هو البداية.

طالب: الذي هو عجب الذنب؟

عجب الذنب.

"فعجب الذنب هو الذي يبقى، وأما سائره فيستحيل، فيُعاد من المادة التي استحال إليها. ومعلوم أن من رأى شخصًا وهو صغير، ثم رآه وقد صار شيخًا، علم أن هذا هو ذاك، مع أنه دائمًا في تحلل واستحالة".

 الذي يرى شخصًا وطفلًا في المرحلة الابتدائية، ثم يراه بعد عشرين، ثلاثين سنة وقد تَغيَّر تغيُرًا كبيرًا، ثم يراه بعد خمسين سنة قد تغير أكثر، هل يقال إن هذا غير ذاك؟ ما يمكن، هو ذاك. 

"وكذلك سائر الحيوان والنبات، فمن رأى شجرة وهي صغيرة، ثم رآها كبيرة، قال: هذه تلك. وليست صفة تلك النشأة الثانية مماثلة لصفة هذه النشأة، حتى يقال إن الصفات هي المغيَّرة، لاسيما أهل الجنة إذا دخلوها فإنهم يدخلونها على صورة آدم، طوله ستون ذراعًا، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، وروي: أن عرضه سبعة أذرع. وتلك نشأة باقية غير معرضة للآفات، وهذه النشأة فاسدة معرضة للآفات. وقوله: "وجزاء الأعمال" - قال تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}  [سورة  الفاتحة: 3 ]. وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [سورة  النور: 25 ]. والدين: الجزاء، يقال: كما تدين تدان، أي كما تُجازِي تُجازَى، وقال تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة  السجدة: 17 ] وقال تعالى: {جَزَاءً وِفَاقًا}[سورة النبأ:26]".

والجزاء من جنس العمل، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}[سورة الكهف:49].

"وقال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}[سورة الأنعام:160]".

يقول أهل العلم: خاب وخسر من فاقت آحاده عشراته، خاب وخسر من فاقت آحاده، يعني السيئات التي لا تضاعف على عشراته المضاعفة.  

"وقال تعالى: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) ومَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [سورة  النمل: 89 - 90]، وقال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[سورة القصص:84] [سورة  القصص: 84 ]. وأمثال ذلك".

أقل مضاعفة هي العشر، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، وجاء في حديث لكنه مضعّف عند أهل العلم: إن الله لا يضاعف الحسنة لبعض عباده إلى ألفي ألف ضعف، يعني مليوني ضعف، وهل يستكثر أحدٌ من الجواد الكريم أن يضاعف إلى هذا الحد أو أكثر؟ لكن العبرة بثبوت الخبر.

طالب: هذا الحديث رغم ضعفه فقد يكون له شاهد لقول الله -عز وجل-: {يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[سورة الزمر:10].

فضله -جل وعلا- وجوده لا يُحدّ، ولا يقدره أحد.

"وقال -صلى الله عليه وسلم-، فيما يروي عن ربه -عز وجل-، من حديث أبي ذر الغفاري- رضي الله عنه-: «يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه»".

وسيأتي لذلك زيادة بيان عن قريب، إن شاء الله تعالى.

الكلام في بقية الجملة من العرض والحساب إلى آخره كلام طويل أطول مما قرأناه، سنقف عليه، اللهم صلِّ وسلم على نبيك ورسولك.

"