التعليق على تفسير القرطبي - سورة سبأ (01)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

نعم.

بسم الله الرحيم الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلَّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

 قال الإمام القرطبي –رحمه الله تعالى-: "سُورَةُ سَبَأٍ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، إِلَّا آيَةً وَاحِدَةً اخْتُلِفَ فِيهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} الْآيَةَ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هِيَ مَكِّيَّةٌ، وَالْمُرَادُ الْمُؤْمِنُونَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاس،ٍ وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ، وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ مَنْ أَسْلَمَ بِالْمَدِينَةِ  كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَغَيْرِهِ، قَالَهُ مقَاتِلٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمُؤْمِنُونَ بِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ. وَهِيَ أَرْبَعٌ وَخَمْسُونَ آيَةً.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} {الَّذِي} فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلَى النَّعْتِ أَوِ الْبَدَلِ".

يعني من لفظ الجلالة المجرور باللام {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي} بدل، أو بيان من لفظ الجلالة.

"وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، وَأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِمَعْنَى أَعْنِي. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} أَهْلُ الْحَمْدِ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْخَفْضِ، وَالْحَمْدُ الْكَامِلُ".

بالرفع على إضمار مبتدأ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} الذي هو والنصب إضمار يعني كما تقدم، والخفض بدل، وهو أوضحها.

 "وَالْحَمْدُ الْكَامِلُ وَالثَّنَاءُ الشَّامِلُ كُلُّهُ لِلَّهِ، إِذِ النِّعَمُ".

لأن "أل" هذه للاستغراق {الْحَمْدُ} هذه للجنس والاستغراق، فجميع أنواع المحامد لله –جل وعلا-.

"إِذِ النِّعَمُ كُلُّهَا مِنْهُ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ. {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ} قِيلَ: هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ}[الزمر:74]".

يعني في آخر الزمر لما استقروا في الجنة قالوا: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ}.

وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُهُ: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}".

ولا اختلاف بينهما.

 "فَهُوَ الْمَحْمُودُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا أَنَّهُ الْمَحْمُودُ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ الْمَالِكُ لِلْآخِرَةِ كَمَا أَنَّهُ الْمَالِكُ لِلْأُولَى. وَهُوَ الْحَكِيمُ فِي فِعْلِهِ. الْخَبِيرُ بِأَمْرِ خَلْقِهِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} أَيْ مَا يَدْخُلُ فِيهَا مِنْ قَطْرٍ وَغَيْرِهِ، كَمَا قَالَ: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} [الزمر:21] مِنَ الْكُنُوزِ وَالدَّفَائِنِ وَالْأَمْوَاتِ وَمَا هِيَ لَهُ كِفَاتٌ. {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} مِنْ نَبَاتٍ وَغَيْرِهِ، {وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} مِنَ الْأَمْطَارِ وَالثُّلُوجِ وَالْبَرَدِ وَالصَّوَاعِقِ وَالْأَرْزَاقِ وَالْمَقَادِيرِ وَالْبَرَكَاتِ.

وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: (وَمَا نُنَزِّلُ) بِالنُّونِ وَالتَّشْدِيدِ. {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَأَعْمَالِ الْعِبَادِ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ}".  

لا تخفى عليه خافية، {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}[طه:7]، فهذه الأمور من باب أولى.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} قِيلَ: الْمُرَادُ أَهْلُ مَكَّةَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِكُفَّارِ مَكَّةَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ أَبَدًا وَلَا نُبْعَثُ. فَقَالَ اللَّهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ {بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ}، وَرَوَى هَارُونُ عَنْ طَلْقٍ الْمُعَلِّمِ قَالَ: سَمِعْتُ أَشْيَاخَنَا يَقْرَءُونَ (قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَيَأْتِيَنَّكُمْ) بِيَاءٍ، حَمَلُوهُ عَلَى الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ قَالَ: لَيَأْتِيَنَّكُمُ الْبَعْثُ أَوْ أَمْرُهُ. كَمَا قَالَ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ}.  فَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ".

 لكن {لَتَأْتِيَنَّكُمْ} لا شك أنها هي الصواب، هي الصواب، لماذا؟ لأن فاعل الفعل ضمير يعود إلى مؤنث، ولو لم يكن تأنيثه حقيقيًّا؛ لأنه في مثل هذه الصورة يجب تأنيث الفعل، وقوله: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} هذا الموضع الثاني من المواضع الثلاثة التي أمر الله –جل وعلا- نبيه أن يُقسم على البعث، في سورة يونس {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي} [يونس:53]، وهنا: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي}، وفي التغابن: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا}[التغابن:7]، ثلاث مواضع أمر الله نبيه أن يقسم فيها على البعث ولا رابعة لها، نعم.

" فَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ مُقِرُّونَ بِالِابْتِدَاءِ، مُنْكِرُونَ الْإِعَادَةَ، وَهُوَ نَقْضٌ لِمَا اعْتَرَفُوا بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْبَعْثِ، وَقَالُوا: وَإِنْ قَدَرَ لَا يَفْعَلُ. فَهَذَا تَحَكُّمٌ بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ أَنَّهُ يَبْعَثُ الْخَلْقَ، وَإِذَا وَرَدَ الْخَبَرُ بِشَيْءٍ، وَهُوَ مُمْكِنٌ فِي الْفِعْلِ مَقْدُورٌ، فَتَكْذِيبُ مَنْ وَجَبَ صِدْقُهُ مُحَالٌ. {عَالِمُ الْغَيْبِ} بِالرَّفْعِ".

وتكذيب من وجب صدقه محال، الذي يجب صدقه هو الله –جل وعلا- ورسوله، ورسله المبلغون عنه، وأما من عداهم، وإن كانوا من الديانة، والحفظ، والضبط، والإتقان إلا أنه لا يجب صدقهم، هم صادقون، والأصل في أخبارهم الصدق، لكن احتمال الكذب وارد، المراد بالكذب مخالفة الكلام للواقع، عدم مطابقة الكلام للواقع، فتكذيب الصادق مهما بلغ من المرتبة، والمنزلة في الصدق، والتثبت، والتيقظ إلا أنه وارد ليس بمحال؛ لأن خبره يحتمل الصدق، والكذب، والإصابة غالبة، أما من وجب صدقه، وهو ما جاء في كتاب الله والمصحّح عن النبي –عليه الصلاة والسلام- فهذا تكذيبه محال؛ لأنه تناقض، كيف يجب صدقه ثم بعد ذلك يقال: إنه ليس بصحيح؟ والخبر في الأصل هو الذي يحتمل الصدق والكذب، ويقولون: لذاته؛ لتخرج أخبار الله –جل وعلا- وأخبار رسوله –عليه الصلاة والسلام-؛ لأنها لا تحتمل الكذب، وتخرج أخبار الكذابين؛ لأنها لا تحتمل الصدق من المتنبئين وغيرهم، إلا أن إخراج أخبار الكذابين ليس على إطلاقه، فقد يصدق الكذوب كما قال النبي –عليه الصلاة والسلام-: «إن الشيطان صدقك وهو كذوب»، أما بالنسبة للشق الأول، وهو أخبار الله –جل وعلا- وما يصح عن النبي -عليه الصلاة والسلام- فهذا صدق لا محالة، ولا تحتمل بوجه من الوجوه.

أخبار مسيلمة الكذاب هذا كذب لا شك، والذي نُقل منها عنه كلها كذب، افتراء، يكذب على الله –جل وعلا-، ويدعي أنه مرسل من قِبله، ومع ذلك مثل هذا، مثل الشيطان قد يصدق في كلامه العادي مع الناس، وإن كان في دعواه للنبوة كاذبًا، أما ما وجب صدقه فإن هذا لا يحتمل النقيض بحال، ولا يجوز تكذيبه.

"{عَالِمُ الْغَيْبِ} بِالرَّفْعِ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنِ كَثِيرٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ} وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو {عَالِمِ} بِالْخَفْضِ  أَيِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ عَالِمِ}، فَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَا يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: {لَتَأْتِيَنَّكُمْ}".

فيكون نعتًا للفظ الجلالة الذي صُدرت به السورة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وهو مجرور باللام و{عَالِمِ} نعت له وهو مجرور مثله.

"وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (عَلَّامِ الْغَيْبِ) عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَالنَّعْتِ. {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ}  أَيْ لَا يَغِيبُ عَنْهُ، {وَيَعْزِبُ} أَيْضًا. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالْكَسْرُ أَحَبُّ إِلَيَّ. وقال النَّحَّاسُ: وَهِيَ قِرَاءَةُ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، وَهِيَ لُغَةٌ مَعْرُوفَةٌ. يُقَالُ: عَزَبَ يَعْزُبُ وَيَعْزِبُ إِذَا بَعُدَ وَغَابَ. {مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} أَيْ قَدْرُ نَمْلَةٍ صَغِيرَةٍ".

وهنا لا يختلف المعنى على الضبطين عَزَبَ يَعْزُبُ، وعَزَبَ يَعْزِبُ معناه على الضبطين بعُد وغاب. لكن ماذا عن عزَّ يعِزُّ ويَعَزُّ ويَعُزُّ جعلوا لكل ضبط معناه، عزَّ يعِزُّ فهو عزيز لقلته وندرته، ويَعُزُّ لقوته؛ لأنه تعزز بأمر آخر، ويَعَزُّ نسيت والله الأمر الثالث.

"{مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} أَيْ قَدْرُ نَمْلَةٍ صَغِيرَةٍ {فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ}،  وَفِي قِرَاءَةِ الْأَعْمَشِ {وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ} بِالْفَتْحِ فِيهِمَا عَطْفًا عَلَى {ذَرَّةٍ}. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى {مِثْقَالُ}. {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}  فَهُوَ الْعَالِمُ بِمَا خَلَقَ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ. {لِيَجْزِيَ} مَنْصُوبٌ بِلَامٍ كَيْ، وَالتَّقْدِيرُ: لَتَأْتِيَنَّكُمْ لِيَجْزِيَ".

واللام في {لَتَأْتِيَنَّكُمْ} هي اللام الواقعة في جواب القسم، {لَتَأْتِيَنَّكُمْ}، واللام لام التعليل في {لِيَجْزِيَ} معبر عنها بلام كي، يعني هي مرتبة على مجيء الساعة؛ لأن الجزاء بعد قيام الساعة، وبعد بعث الناس من قبورهم.

 "{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بِالثَّوَابِ، وَالْكَافِرِينَ بِالْعِقَابِ. {أُولَئِكَ} يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ. لَهُمْ {مَغْفِرَةٌ} لِذُنُوبِهِمْ. {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} وَهُوَ الْجَنَّةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا} أَيْ فِي إِبْطَالِ أَدِلَّتِنَا وَالتَّكْذِيبِ بِآيَاتِنَا. {مُعَاجِزِينَ} مُسَابِقِينَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يَفُوتُونَنَا، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ عَلَى بَعْثِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَظَنُّوا أَنَّا نُهْمِلُهُمْ، فَهَؤُلَاءِ {لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ}".

معاجز مفاعل من المفاعلة مثل مُضارب من المضاربة، ومعاجز من المعاجزة، ومكاتب من المكاتبة، والأصل في المفاعلة أنها تكون بين طرفين، فهم إنما فعلوا ذلك، سعوا في الآيات على حد زعمهم أنهم يغالبون ويعاجزون الرب –جل وعلا- ولذا جاء الوعيد الشديد {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ}.

 "فَهَؤُلَاءِ {لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} وَيُقَالُ: عَاجَزَهُ وَأَعْجَزَهُ إِذَا غَالَبَهُ وَسَبَقَهُ. وَ"أَلِيمٍ" قِرَاءَةُ نَافِعٍ بِالْكَسْرِ نَعْتًا لِلرِّجْزِ، فَإِنَّ الرِّجْزَ هُوَ الْعَذَابُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ}. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ {عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} بِرَفْعِ الْمِيمِ هُنَا وَفِي (الْجَاثِيَةِ) نَعْتًا لِلْعَذَابِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ".

ويصلح أن يكون نعتًا للعذاب وهو مجرور من باب الجر بالمجاورة "لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٍ" من باب الجر بالمجاورة، وإلا في الأصل {أَلِيمٌ} وهو نعتٌ لعذاب، وإذا جُر على أساس أنه نعت للرجز كما ذكر المؤلف بناءً على الجادة، والقاعدة مضطردة في نعت المجرور، ونعت المرفوع مرفوع، وهذا هو الأصل إلا أن الجر بالمجاورة وارد في لغة العرب، وفي بعض النصوص.

"وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو عَمْرٍو {مُعَجِّزِينَ}  مُثَبِّطِينَ، أَيْ ثَبَّطُوا النَّاسَ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْمُعْجِزَاتِ وَآيَاتِ الْقُرْآنِ.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}  لَمَّا ذَكَرَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي إِبْطَالِ النُّبُوَّةِ بَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ يَرَوْنَ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ. قَالَ مُقَاتِلٌ: {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} هُمْ مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ".

يعني كعبد الله بن سلامة الذي أشير إليه في أول ومفتتح السورة.

"وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقِيلَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ أَصَحُّ لِعُمُومِهِ. وَالرُّؤْيَةُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى لِيَجْزِيَ أَيْ لِيَجْزِيَ".

والعلم، العلم الذي لا يحتمل النقيض الذي يفيد اليقين والعلم القطعي هذا بمنزلة الرؤية؛ لأنه يفيد القطع مثلها مثل الرؤية، كالمرئي في القطعية، ولذا جاء التعبير عن الأخبار القطعية ب"أَرَأَيْتَ" والنبي –عليه الصلاة والسلام- لم يرها، لكنها بلغته بطرق قطعية {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} [الماعون:1]، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [الفجر:6]، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}[الفيل:1]، فعُبر عن الأخبار القطعية وهو لم يرها بالرؤية؛ لأنها بمنزلتها تفيد القطع، وهنا {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}؛ لأنه قد يقال هنا يرى أنه من الرأي لا من الرؤية؛ لأن الفعل رأى له مصادر مختلفة تختلف معانيه باختلاف مصادره؛ فرأى رؤيةً يعني بعينه، ورأى رأيًا يعني بعقله، الرأي غير الرؤية، ورأى رؤيا يعني في المنام، والفعل واحد لا يتغير، لكن معانيه تختلف باختلاف مصادره.

"وَالرُّؤْيَةُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى لِيَجْزِيَ أَيْ لِيَجْزِيَ وَلِيَرَى، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ .وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {لِيَجْزِيَ} مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: {لَتَأْتِيَنَّكُمُ السَّاعَةُ}، وَلَا يُقَالُ: لَتَأْتِيَنَّكُمُ السَّاعَةُ لِيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ، فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ الْقُرْآنَ حَقًّا وَإِنْ لَمْ تَأْتِهِمُ السَّاعَةُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ رُفِعَ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ. 

قُلْتُ: وَإِذَا كَانَ {لِيَجْزِيَ} مُتَعَلِّقًا بِمَعْنَى أَثْبَتَ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، فَيَحْسُنُ عَطْفُ {وَيَرَى} عَلَيْهِ، أَيْ وأَثْبَتَ أَيْضًا لِيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا. {الَّذِي} فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ أَوَّلُ لِ{يَرَى}، {هُوَ الْحَقُّ} مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَ{هُوَ} فَاصِلَةٌ. وَالْكُوفِيُّونَ يَقُولُونَ: {هُوَ} عِمَادٌ".

فاصلة إن لم يكن لها محل في الإعراب، وإنما يؤتى بها للفصل، وتقوية الكلام كما في قوله– جل وعلا-: {كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}[المائدة:117]، الرقيب خبر كان، واسمها التاء، وهو ضمير فصل لا محل له من الإعراب، (الذي هو الحق)، ولو كان لـ (هو) هذه محل من الإعراب لوجب رفع الحق.

" وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ. وَالْحَقُّ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَالنَّصْبُ أَكْثَرُ فِيمَا كَانَتْ فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ عِنْدَ جَمِيعِ النَّحْوِيِّينَ، وَكَذَا مَا كَانَ نَكِرَةً لَا يَدْخُلُهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فَيُشْبِهُ الْمَعْرِفَةَ. فَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ اسْمًا مَعْرُوفًا نَحْوَ قَوْلِكَ: كَانَ أَخُوكَ هُوَ زَيْدٌ، فَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ الِاخْتِيَارَ فِيهِ الرَّفْعُ. وَكَذَا كَانَ مُحَمَّدٌ هُوَ عَمْرٌو. وَعِلَّتُهُ فِي اخْتِيَارِهِ الرَّفْعَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَكُنْ فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ أَشْبَهَ النَّكِرَةَ فِي قَوْلِكَ: كَانَ زَيْدٌ هُوَ جَالِسٌ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا الرَّفْعُ".

لا يقال: كان زيدٌ هو جالسًا، كان زيدٌ هو جالسًا، ولو كانت معرفة كان زيدٌ هو الجالسَ، هو الجالسَ خبر كان.

"{وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} أَيْ يَهْدِي الْقُرْآنُ إِلَى طَرِيقِ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ دِينُ اللَّهِ. وَدَلَّ بِقَوْلِهِ: {الْعَزِيزُ} عَلَى أَنَّهُ لَا يُغَالَبُ. وَبِقَوْلِهِ: {الْحَمِيدُ} عَلَى أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ صِفَةُ الْعَجْزِ. 

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ} وَإِنْ شِئْتَ أَدْغَمْتَ اللَّامَ فِي النُّونِ؛ لِقُرْبِهَا مِنْهَا".

كيف تدغم اللام في النون؟ هل..

طالب: .......

نعم.

طالب: .......

اللام ساكنة نعم، يقول: وَإِنْ شِئْتَ أَدْغَمْتَ اللَّامَ فِي النُّونِ، {هَلْ نَدُلُّكُمْ}.

"{يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ}  هَذَا إِخْبَارٌ عَمَّنْ قَالَ: {لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} أَيْ هَلْ نُرْشِدُكُمْ إِلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ، أَيْ يَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ تُبْعَثُونَ بَعْدَ الْبِلَى فِي الْقُبُورِ. وَهَذَا صَادِرٌ عَنْ فَرْطِ إِنْكَارِهِمُ. قال  الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَشْهُورًا عَلَمًا فِي قُرَيْشٍ، وَكَانَ إِنْبَاؤُهُ بِالْبَعْثِ شَائِعًا عِنْدَهُمْ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ} فَنَكَّرُوهُ لَهُمْ، وَعَرَضُوا عَلَيْهِمُ الدِّلَالَةَ عَلَيْهِ، كَمَا يُدَلُّ عَلَى مَجْهُولٍ فِي أَمْرٍ مَجْهُولٍ. قُلْتُ: كَانُوا يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ الطَّنْزَ وَالْهُزُؤَ وَالسُّخْرِيَةَ، فَأَخْرَجُوهُ مَخْرَجَ التَّحَكِّي بِبَعْضِ الْأَحَاجِي الَّتِي يُتَحَاجَى بِهَا لِلضَّحِكِ وَالتَّلَهِّي، مُتَجَاهِلِينَ بِهِ وَبِأَمْرِهِ.

وَ{إِذَا} فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَالْعَامِلُ فِيهَا {مُزِّقْتُمْ} قَالَهُ النَّحَّاسُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهَا {يُنَبِّئُكُمْ}؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُخْبِرُهُمْ ذَلِكَ الْوَقْتَ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهَا مَا بَعْدَ {إِنَّ}؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهُ، وَأَلَّا يَتَقَدَّمَ عَلَيْهَا مَا بَعْدَهَا وَلا مَعْمُولُهَا. وَأَجَازَ الزَّجَّاجُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهَا مَحْذُوفًا، التَّقْدِيرُ: إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ بعثتم، أو ينبئكم بأنكم تبعثون إذا مزقتم. قال الْمَهْدَوِيُّ: وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ مُزِّقْتُمْ؛ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَيْهِ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ لَا يَعْمَلُ فِي الْمُضَافِ. وَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ".

يعني لو قُدر ما يدل عليه الكلام اللاحق يعني هل ندلكم على رجلٍ ينبئكم أنكم تُخلقون خلقًا جديدًا إذا مُزقتم؟ هل ندلكم على رجلٍ ينبئكم أنكم تُبعثون في خلقٍ جديد، أو خلقًا جديدًا إذا مُزقتم كل ممزق؟ أو يكون من الكلام الذي فيه التقديم، والتأخير، وأسلوب التقديم، والتأخير مألوف، وفي القرآن منه مواضع، ويكون السياق {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ} قائلًا: إنكم لفي خلقٍ جديد إذا مُزقتم كل ممزق، لكن إنكم لا يصير تعلقها ب{يُنَبِّئُكُمْ} لأنها إذا ينبئكم أنكم، فالتقدير الذي ذكرناه سابقًا مما يدل عليه الكلام أولى من تقدير غيره، نعم.

"وَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ {إِذَا} لِلْمُجَازَاةِ، فَيَعْمَلُ فِيهَا حِينَئِذٍ مَا بَعْدَهَا؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُضَافَةٍ إِلَيْهِ".

يعني إذا كانت شرطية يعمل.

 "وَأَكْثَرُ مَا تَقَعُ {إِذَا} لِلْمُجَازَاةِ فِي الشِّعْرِ. وَمَعْنَى {مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ}  فُرِّقْتُمْ كُلَّ تَفْرِيقٍ. وَالْمَزْقُ خَرْقُ الْأَشْيَاءِ، يُقَالُ: ثَوْبٌ مَزِيقٌ وَمَمْزُوقٌ وَمُتَمَزِّقٌ وَمُمَزَّقٌ.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}  لَمَّا دَخَلَتْ أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ اسْتَغْنَيْتُ عَنْ أَلِفِ الْوَصْلِ فَحَذَفْتُهَا، وَكَانَ فَتْحُ أَلِفِ الِاسْتِفْهَامِ فَرْقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَلِفِ الْوَصْلِ. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي سُورَةِ (مَرْيَمَ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ}[مريم:78] مُسْتَوْفًى".

والأصل أن يكون بألفين ألف الاستفهام وألف الوصل، لكن لما كانت ألف الاستفهام أقوى، وحذفها يوقع في لبس أثبتت، وحذفت ألف الوصل؛ لأن حذفها لا يوقع في لبس، وهذه الآية {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ}، هذه يستدل بها المعتزلة على أنه يوجد كلام ليس بصدق ولا كذب، أهل السنة عندهم الكلام إما صدق وإما كذب ولا واسطة بينهما، المعتزلة يقولون: لا، فيه واسطة كلام ليس بصدق ولا كذب، بدليل أن الله –جل وعلا- قابل الكذب بمن به جِنة، الكذب قابله بكلام من به جنة، ولم يقابله بالصدق، مع أن مقابلته بالصدق معروفة هي الأصل، فدل على أنه يمكن أن يقابل الكذب بالصدق، ويمكن أن يقابل بغير الصدق فدل على أن الأقسام أكثر من اثنين. فعندنا كلام الصادق، وكلام الكاذب، وكلام الهاذي المجنون الذي ليس بصدق ولا كذب، كلام.

طالب:................

كيف؟

طالب:................

هو بعد الهمز لا بد من الإتيان بأم، ولا يؤتى ببل.

وَأمْ بِهَا اعْطِفْ إثْرَ هَمْزِ التَّسْوِيَهْ
 

أوْ هَمْزَةٍ عَنْ لَفْظِ أيٍّ مُغْنِيَهْ
  

لكن يُعطف بها بعد الهمز.

 أقول المعتزلة لما أرادوا إثبات كلام ليس بصدق ولا كذب استدلوا بهذه الآية. وأهل السنة يقولون: ليس فيه كلام إلا صدق ولا لكذب، أهل السنة جوابهم عن كلام الهاذي وكلام المجنون أنه لا يدخل في مسمى الكلام، لا يدخل في مسمى الكلام، كلام المجنون، وكلام النائم، وكلام غير المقصود، لا يسمى كلامًا. لأن الكلام هو اللفظ المركب المفيد بالوضع. قالوا: الوضع المراد به القصد، فلا يدخل فيه كلام غير مقصود، كلام نائم، ولا كلام هاذٍ، ولا مجنون، ولا سكران، ولا طيور، ولا غيرها ما تدخل في هذا؛ لأنه لا يتسمى كلامًا. ومنهم من يقول: إن المراد بالوضع الوضع اللغوي العربي، الوضع العربي فيدخل فيه هذا الكلام غير المقصود كلام النائم، كلام الهاذي، كلام السكران، والطيور تدخل فيه، لكن لا يدخل فيه كلام غير العرب كلام الأعاجم، إذا قلنا: إن المراد بالوضع: الوضع العربي؛ لأنه ليس من الوضع العربي كلام الفرس، والروم وغيرهم، في وضعهم هم، لكن أيهما أولى؟

يعني الشراح شراح الأجرومية وغيرها يوردون القولين في المراد بقوله: بالوضع، بالوضع: بالقصد، أو بالوضع المراد به الوضع العربي، وإذا قلنا: بالقصد أخرج الكلام غير المقصود، وإذا قلنا: بالوضع العربي في لغتهم أخرج الكلام غير العربي، الأعاجم، وأدخل الكلام غير المقصود، ولا شك أن التأثير إنما هو للكلام المقصود، بمعنى أنه لو أن إنسانًا تكلم بما يتكلم به، وهو في نومه ما يؤاخذ عليه، وفي سكره، »لما جاء ماعز اعترف عند النبي –عليه الصلاة والسلام- بما اعترف به من الزنا وكرر ذلك، قال النبي –عليه الصلاة والسلام-: أَبِهِ جُنُونٌ؟« يسأل، »قالوا: ما علمناه إلا وفي العقل من صالحينا«، وفي رواية: »قال: استنكهوه»  يعني هل شرب مُسكرًا أو شيئًا؟ فدل على أن مثل هذا لا يؤاخذ، وبينما الأعاجم يؤاخذون بكلامهم تترتب عليها الأحكام، فهم مؤاخذون به، فكلام الهاذي ليس بمقصود فلا يرد على تقسيم أهل السنة وحصرهم القسمة في الصدق، والكذب.

 "أَمْ بِهِ جِنَّةٌ هَذَا مَرْدُودٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ، وَالْمَعْنَى، قَالَ الْمُشْرِكُونَ: { أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا }  وَالِافْتِرَاءُ الِاخْتِلَاقُ. { أَمْ بِهِ جِنَّةٌ}  أَيْ جُنُونٌ، فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَدْرِي. ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: { بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوا، بَلْ هُوَ أَصْدَقُ الصَّادِقِينَ، وَمَنْ يُنْكِرُ الْبَعْثَ فَهُوَ غَدًا فِي الْعَذَابِ، وَالْيَوْمَ فِي الضَّلَالِ عَنِ الصَّوَابِ، إِذْ صَارُوا إِلَى تَعْجِيزِ الْإِلَهِ وَنِسْبَةِ الِافْتِرَاءِ إِلَى مَنْ أَيَّدَهُ اللَّهُ بِالْمُعْجِزَاتِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِ عَبْدٍ مُنِيبٍ}. أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الَّذِي قَدَرَ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ قَادِرٌ عَلَى الْبَعْثِ وَعَلَى تَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ لَهُمْ، فَاسْتَدَلَّ بِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مُلْكُهُ، وَأَنَّهُمَا مُحِيطَتَانِ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَكَيْفَ يَأْمَنُونَ الْخَسْفَ وَالْكَسْفَ".

الكِسَف.

 "فَكَيْفَ يَأْمَنُونَ الْخَسْفَ وَالْكِسَفَ كَمَا فُعِلَ بِقَارُونَ وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: { إِنْ يَشَأْ يَخْسِفُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يُسْقِطْ} بِالْيَاءِ فِي الثَّلَاثِ، أَيْ إِنْ يَشَأِ اللَّهُ أَمَرَ الْأَرْضَ فَتَنْخَسِفَ بِهِمْ، أَوِ السَّمَاءَ فَتُسْقِطَ عَلَيْهِمْ كِسَفًا. الْبَاقُونَ بِالنُّونِ عَلَى التَّعْظِيمِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَحَفْصٌ :{كِسَفًا} بِفَتْحِ السِّينِ. الْبَاقُونَ بِالْإِسْكَانِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي (سُبْحَانَ) وَغَيْرِهَا.

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} أَيْ فِي هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ قُدْرَتِنَا {لَآيَةً} أَيْ دَلَالَةً ظَاهِرَةً. { لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} أَيْ تَائِبٍ رَجَّاعٍ إِلَى اللَّهِ بِقَلْبِهِ. وَخُصَّ الْمُنِيبُ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ الْمُنْتَفِعُ بِالْفِكْرَةِ فِي حُجَجِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ".

يعني بخلاف أهل الغفلة فإنهم يرون هذه الآيات، ولا يستفيدون منها بخلاف العبد أواه منيب الرجَّاء إلى الله –جل وعلا- المحاسب نفسه الحريص على نجاته، هذا يستفيد من الآيات الشرعية والكونية، وأما الغافل فلا يستفيد من الآيات الكونية، وأما قراءته للآيات الشرعية التي أُلزم بقراءتها فتمر على لسانه دون أن تلج إلى قلبه فلا يستفيد منه.

"قَوْلُهُ تَعَالَى:  {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا}  بَيَّنَ لِمُنْكِرِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ لَيْسَ أَمْرًا بِدْعًا، بَلْ أَرْسَلْنَا الرُّسُلَ وَأَيَّدْنَاهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَأَحْلَلْنَا بِمَنْ خَالَفَهُمُ الْعِقَابَ. {آتَيْنَا}  أَعْطَيْنَا. {فَضْلًا} أَيْ أَمْرًا فَضَّلْنَاهُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الْفَضْلِ عَلَى تِسْعَةِ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: النُّبُوَّةُ. الثَّانِي: الزَّبُورُ. الثَّالِثُ: الْعِلْمُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} الرَّابِعُ: الْقُوَّةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ}. الْخَامِسُ: تَسْخِيرُ الْجِبَالِ وَالنَّاسِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ}. السَّادِسُ: التَّوْبَةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ}. السَّابِعُ: الْحُكْمُ بِالْعَدْلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} الْآيَةَ. الثَّامِنُ: إِلَانَةُ الْحَدِيدِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ}. التَّاسِعُ: حُسْنُ الصَّوْتِ".

وقد أُوتي جميع هذه الأشياء، أوتي جميع هذه الأشياء فالفضل يشمل جميع هذه الأمور، لكن الفضل يقتضي تفضيلًا ومفضلًا، ومفضلًا عليه، فهو مفضل بهذه الأشياء، وهل يقتضي أن يكون أفضل من غيره مطلقًا في جميع هذه الأشياء؟ لا يلزم إنما فُضل بها، وإن شاركهم بعضهم في بعضها، أو في جميعها.

"وَكَان دَاوُدُعَلَيْهِ السَّلَامُ- ذَا صَوْتٍ حَسَنٍ وَوَجْهٍ حَسَنٍ. وَحُسْنُ الصَّوْتِ هِبَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَتَفَضُّلٌ مِنْهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} عَلَى مَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَقَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَبِي مُوسَى: »لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ«".

ويدخل فيهما داود دخولًا أوليًّا، الرجل يدخل في آله دخولًا أوليًّا {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}[غافر:46]، يدخلون الآل دونه؟ لا، هو مقدم، نسأل الله العافية.

قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْمِزْمَارُ وَالْمَزْمُورُ الصَّوْتُ الْحَسَنُ، وَبِهِ سُمِّيَتْ آلَةُ الزَّمْرِ مِزْمَارًا. وَقَدِ اسْتَحْسَنَ كَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ الْقِرَاءَةُ بِالتَّزْيِينِ وَالتَّرْجِيعِ. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ". 

وقد جاء الأمر بتزيين القرآن بالصوت، وتحسينه، والتغني به، لكن ليس معنى هذا التمطيط الذي يُخرجه عن وضعه، ويزيد فيه من الحروف ما يزيد، والقراءة بالتطريب، والتلحين هذه ممنوعة عند أهل العلم، أما تزيين القراءة بتزيين الصوت، والترجيع، وتحسين الصوت هذا مطلوب؛ لأنه بها يُحرك، أو تُحرك القلوب وقد جاء الأمر بذلك.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ}  أَيْ وَقُلْنَا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ، أَيْ سَبِّحِي مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ}.  قَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ: هُوَ التَّسْبِيحُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ، وَمَعْنَى تَسْبِيحِ الْجِبَالِ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِيهَا تَسْبِيحًا كَمَا خَلَقَ الْكَلَامَ فِي الشَّجَرَةِ، فَيُسْمَعُ مِنْهَا مَا يُسْمَعُ مِنَ الْمُسَبِّحِ مُعْجِزَةً لِدَاوُدَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-".

وهذا قول زائد على ما جاء في قوله –جل وعلا-: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44]، هذا قدر زائد.

"وَقِيلَ: الْمَعْنَى سِيرِي مَعَهُ حَيْثُ شَاءَ، مِنَ التَّأْوِيبِ".

نعم.

طالب:............

هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِيهَا تَسْبِيحًا كَمَا خَلَقَ الْكَلَامَ فِي الشَّجَرَةِ، هذا كلام المعتزلة، هذا كلام المعتزلة، الله -جل وعلا- هو المتكلم وليست الشجرة. الله –جل وعلا- هو الذي نادى موسى وقال: {أَنَا رَبُّكَ}[طه:12]، ولو كانت الشجرة هي التي قالت: {أَنَا رَبُّكَ } بعدما خلق الله –جل وعلا- الكلام فيها لما كان هناك فرق بين هذا القول، وبين قول فرعون {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى}[النازعات:24] الشجرة تقول: {أَنَا رَبُّكَ}؛ لأن الله خلق فيها هذا الكلام، وكل هذا فرار من إثبات صفة الكلام لله –جل وعلا-، وأنه يتكلم بحرف وصوت يُسمع متى شاء إذا شاء، وأنه تكلم في الأزل فكلامه قديم النوع، وآحاده متجددة، أما القول بأن الله -جل وعلا- خلق الكلام في الشجرة فهذا كلام المعتزلة. وعرفنا أن المفسر عنده مخالفات عقدية، يعني يجري على طريقة الأشعرية.

 "وَقِيلَ: الْمَعْنَى سِيرِي مَعَهُ حَيْثُ شَاءَ، مِنَ التَّأْوِيبِ الَّذِي هُوَ سَيْرُ النَّهَارِ أَجْمَعَ وَمَنْزِلُ اللَّيْلِ. قَال َابْنُ مُقْبِلٍ: 

لَحِقْنَا بِحَيٍّ أَوَّبُوا السَّيْرَ بَعْدَمَا
 

دَفَعْنَا شُعَاعَ الشَّمْسِ وَالطَّرْفُ يَجْنَحُ
  

وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: {أَوِّبِي مَعَهُ} أَيْ رَجِّعِي مَعَهُ، مِنْ آبَ يَئُوبُ إِذَا رَجَعَ، أَوْبًا وَأَوْبَةً وَإِيَابًا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى تَصَرَّفِي مَعَهُ عَلَى مَا يَتَصَرَّفُ عَلَيْهِ دَاوُدُ بِالنَّهَارِ، فَكَانَ إِذَا قَرَأَ الزَّبُورَ صَوَّتَتِ الْجِبَالُ مَعَهُ، وَأَصْغَتْ إِلَيْهِ الطَّيْرُ، فَكَأَنَّهَا فَعَلَتْ مَا فَعَلَ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: الْمَعْنَى نُوحِي مَعَهُ وَالطَّيْرُ تُسَاعِدُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَ إِذَا نَادَى بِالنِّيَاحَةِ أَجَابَتْهُ الْجِبَالُ بِصَدَاهَا، وَعَكَفَتِ الطَّيْرُ عَلَيْهِ مِنْ فَوْقِهِ. فَصَدَى الْجِبَالُ".

النياحة هذه التي أشار إليها ليس المراد بها النياحة المحرمة التي فيها تعداد لمحاسن الأموات، وما أشبه ذلك إنما المراد بها تحسين الصوت بالذكر والتلاوة، والله المستعان.

 "فَصَدَى الْجِبَالُ الَّذِي يَسْمَعُهُ النَّاسُ إِنَّمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى هَذِهِ السَّاعَةِ، فَأُيِّدَ بِمُسَاعَدَةِ الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ؛ لِئَلَّا يَجِدَ فَتْرَةً".

لأن الإنسان إذا انفرد بالعمل فتر، وضعف، لكن إذا وجد من يساعده، ويقويه عليه فلا شك أنه يستمر.

" فَإِذَا دَخَلَتِ الْفَتْرَةُ اهْتَاجَ، أَيْ ثَارَ وَتَحَرَّكَ، وَقَوِيَ بِمُسَاعَدَةِ الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ. وَكَانَ قَدْ أُعْطِيَ مِنَ الصَّوْتِ مَا يَتَزَاحَمُ الْوُحُوشُ مِنَ الْجِبَالِ عَلَى حُسْنِ صَوْتِهِ، وَكَانَ الْمَاءُ الْجَارِي يَنْقَطِعُ عَنِ الْجَرْيِ وُقُوفًا لِصَوْتِهِ".

الله المستعان، هذه عادة الإسرائيليات التي نحتاج في إثباتها أسانيد صحيحة، ولا يمكن أن يوجد لها أسانيد؛ لانقطاعهم عن أخبار أنبيائهم. ما عندهم الأسانيد، الأسانيد من خصائص هذه الأمة، فلا يثبت من أخبار بني إسرائيل إلا ما جاء في كتاب الله أو سنة نبيه –عليه الصلاة والسلام- على لسان نبيه بالأسانيد الصحيحة، وما عدا يبقى من الكلام الذي لا يصدق ولا يُكذب، إلا أن يشهد لصدقه أو كذبه.

"{وَالطَّيْرُ} بِالرَّفْعِ قِرَاءَةُ ابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ وَنَصْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَابْنِ هُرْمُزَ وَمَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِك، عَطْفًا عَلَى لَفْظِ الْجِبَالِ، أَوْ عَلَى الْمُضْمَرِ فِي {أَوِّبِي}، وَحَسَّنَهُ الْفَصْلُ بِمَعَ. والْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ {يَا جِبَالُ} أَيْ نَادَيْنَا الْجِبَالَ وَالطَّيْرَ، قَالَهُ سِيبَوَيْهِ. وَعِنْدَ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ عَلَى مَعْنَى وَسَخَّرْنَا لَهُ الطَّيْرَ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ مَعْطُوفٌ، أَيْ وَآتَيْنَاهُ الطَّيْرَ، حَمْلًا عَلَى  {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا }. قال  النَّحَّاسُ:  وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مَعَهُ، كَمَا تَقُولُ: اسْتَوَى الْمَاءُ وَالْخَشَبَةَ".

الواو هذه واو المعية، وفي مثل هذا يُنصب ما بعد الواو إذا ضَعف عطف النسق، ويعرب بإعراب ما قبله إذا قوي العطف، النسق، وقد يستوي الأمران، استوى الماء والخشبة، سرت والطريق، واضح المعية. لكن تضارب زيد وعمرو.

طالب: ...........

الرفع متعين هنا.

طالب: ...........

أين؟

طالب:...........

لا، لا، لا هذه مفاعلة، مفاعلة بينهما، كل واحد منهما حصل منه الضرب، فهو فاعل في الحقيقة.

 "وَسَمِعْتُ الزَّجَّاجَ يُجِيزُ: قُمْتُ وَزَيْدًا، فَالْمَعْنَى أَوِّبِي مَعَهُ وَمَعَ الطَّيْر. {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيد} قَالَ ابْنُ عَبَّاس: صَارَ عِنْدَهُ كَالشَّمْعِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَالْعَجِينِ، فَكَانَ يَعْمَلُهُ مِنْ غَيْرِ نَارٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ الْحَدِيدُ فِي يَدِهِ كَالطِّينِ الْمَبْلُولِ وَالْعَجِينِ وَالشَّمْعِ، يَصْرِفُهُ كَيْفَ شَاءَ، مِنْ غَيْرِ إِدْخَالِ نَارٍ وَلَا ضَرْبٍ بِمِطْرَقَةٍ. وَقَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَكَانَ يَفْرُغُ مِنَ الدِّرْعِ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ أَوْ بَعْضِ اللَّيْلِ، ثَمَنُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ. وَقِيلَ: أُعْطِيَ قُوَّةً يَثْنِي بِهَا الْحَدِيدَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، لَمَّا مَلَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَقِيَ مَلَكًا وَدَاوُدُ يَظُنُّهُ إِنْسَانًا، وَدَاوُدُ مُتَنَكِّرٌ خَرَجَ يَسْأَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَسِيرَتِهِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي خَفَاءٍ، فَقَالَ دَاوُدُ لِذَلِكَ الشَّخْصِ الَّذِي تَمَثَّلَ لَهُ: (مَا قَوْلُكَ فِي هَذَا الْمَلِكِ دَاوُدَ؟) فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: (نِعْمَ الْعَبْدُ لَوْلَا خَلَّةٌ فِيهِ)، قَالَ دَاوُدُ: (وَمَا هِيَ)؟ قَالَ: (يَرْتَزِقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَلَوْ أَكَلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ لَتَمَّتْ فَضَائِلُهُ). فَرَجَعَ فَدَعَا اللَّهَ فِي أَنْ يُعَلِّمَهُ صَنْعَةً وَيُسَهِّلَهَا عَلَيْهِ، فَعَلَّمَهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَزَّ- فِي سُورَةِ (الْأَنْبِيَاءٍ)، فَأَلَانَ لَهُ الْحَدِيدَ فَصَنَعَ الدُّرُوعَ، فَكَانَ يَصْنَعُ الدِّرْعَ فِيمَا بَيْنَ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، حَتَّى ادَّخَرَ مِنْهَا كَثِيرًا، وَتَوَسَّعَتْ مَعِيشَةُ مَنْزِلِهِ، ويَتَصَدَّقَ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَكَانَ يُنْفِقُ ثُلُثَ الْمَالِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ الدُّرُوعَ وَصَنَعَهَا، وَكَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ صَفَائِحَ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَبِيعُ كُلَّ دِرْعٍ مِنْهَا بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ. وَالدِّرْعُ مُؤَنَّثَةٌ إِذَا كَانَتْ لِلْحَرْب، وَدِرْعُ الْمَرْأَةِ مُذَكَّرٌ". 

في الخبر الذي ساقه وأن داود خرج يسأل متنكرًا، ومثل داوود -عليه السلام- لا شك أنه سوف يسمع ما يسره؛ لأنه عادل، والعادل كما أنه من واجبات الشرع هو أيضًا محبوب عند الناس، فالعادل محبوب، فتجد ألسنة الناس بالثناء على هذا العادل إلي يوم القيامة، ولا يمكن أن يمر ذكر عمر بن عبد العزيز على لسان إلا ويقال: رحمه الله؛ لأنه عادل، فكيف بداود الذي هو خليفة مع الملك؟ سوف يسمع ما يسره بخلاف أهل الجور، والظلم قد يتنكرون، ويسألوا الناس فيسمعون ما يسوؤهم، وقد حصل للحجاج مواقف من هذا النوع.

وعلى كل حال ما أبداه له من ملاحظة عليه مما يخرم فضائله من وجهة نظرة أنه يرتزق من بيت المال، ورزق الخليفة ومن ولّاه الله الأمر هو من بيت المال؛ لئلا ينشغل بالتكسب عن المصالح العامة، لكن هو من بيت المال، ولا يجوز له أن يأخذ أكثر من حاجته من بيت المال. وكان رزق أبي بكر من بيت المال في كل يوم قالوا: نصف شاه يأكلها، وأهله؛ لأنه كان تاجرًا، فلما تولى الخلافة انقطع انقطاعًا كليًّا فيحتاج إلى ما يأكله هو، وأولاده فكان هذا رزقه، والله المستعان. 

طالب..........

لا لا، خاصة به، {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيد} ما يحتاج عرضه على نار ولا شيء. والحديد أُلين لداود- عليه السلام- ويقول أهل العلم: إن الحديث أُلين لأبي داود، كما أُلين لداود الحديد، داود صاحب السنن. ويقول بعضهم مما يستطرف: إن الحديد أُلين لبعض الناس، والحصى ما ألينت لأحد، الجبال ما أُلينت لأحد، نعم ضرب موسى الحصى والحجر بعصاه فخرج منه الماء، وهذا القرآن لو أنزل على جبل لرأيته {خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا} [الحشر:21]، والمسلم الذي يؤمن بالله وبجميع ما جاء من عند الله -جل وعلا- تجده ينزل عليه القرآن، ويسمع القرآن، ويقرأ القرآن، ولا يتأثر، فقلبه أشد قسوة من الحجارة، وهو مسلم، فكيف بغيرة؟! والقرآن مؤثر حتى في غير المسلمين مؤثر، وإذا سمعوا نعم {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ }[المائدة:83]، جبير بن مطعم لما سمع النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو كافر يقرأ بسورة الطور قال: كاد يطير قلبي أو كاد قلبي أن يطير، والمسلم نشكو إلى الله قسوة القلوب، وأبعد القلوب من الله القلب القاسي، يقرأ القرآن، ويسمع القرآن بالأصوات المؤثرة ومع ذلك لا شيء، كأن شيئًا لم يكن.

طالب.................

ماذا؟

طالب.................

 كيف؟

طالب.................

نعم الثلاثة؟

طالب: نعم.

 ما بهم؟

طالب: ...........

يتوسلون إلى الله بأعمالهم الصالحة.

طالب: ...............

ما لان الجبل، ما ذاب الجبل، لكن انزاحت الصخرة عن مكانها. ما هذه بإلانة، الحديث يقول مثل العجين الطين الصلصال يفعل ما يريد، هذا ما صار لأحد، هذا مقتضي الإلانة نعم أن يكون لينًا.       

"مَسْأَلَةٌ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَعَلُّمِ أَهْلِ الْفَضْلِ الصَّنَائِعَ، وَأَنَّ التَّحَرُّفَ بِهَا لَا يُنْقِصُ مِنْ مَنَاصِبِهِمْ".

ويُشاع بين الناس أنه في مقام، أو في مجال الافتخار بالأنساب، والأحساب هذا صانع، وبعض المهن والحرف في بعض البلدان لا يزاولها إلا من نسبه دون، يمنعون ممن يعتز بنسبه، أو حسبه أن يزاول بعض المهن، والله المستعان.

 "بَلْ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي فَضْلِهِمْ وَفَضَائِلِهِمْ؛ إِذْ يَحْصُلُ لَهُمُ التَّوَاضُعُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَالِاسْتِغْنَاءُ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَكَسْبُ الْحَلَالِ الْخَلِيِّ عَنِ الِامْتِنَانِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:» إِنَّ خَيْرَ مَا أَكَلَ الْمَرْءُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ«. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي (الْأَنْبِيَاءِ) مُجَوَّدًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} أَيْ دُرُوعًا سَابِغَاتٍ، أَيْ كَوَامِلَ تَامَّاتٍ وَاسِعَاتٍ".

يكون هذا من باب حذف الموصوف وإبقاء الصفة، حذف الموصوف وإبقاء الصفة {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} ، يعني دروعًا سابغات، وهناك ما يقابله حذف الصفة، وإبقاء الموصوف يأخذ كل سفينة صالحة مقابل لهذا.

"يُقَالُ: سَبَغَ الدِّرْعَ وَالثَّوْبَ وَغَيْرَهُمَا إِذَا غَطَّى كُلَّ مَا هُوَ عَلَيْهِ وَفَضَلَ مِنْهُ".

ومنه إسباغ الضوء، منه إسباغ الوضوء إذا عم وشمل العضو المغسول صار سابغًا، ومنه الدرع السابغة.

طالب:................

لماذا؟

طالب:...............

يعني لو زيد عليه، لو زيد على المطلوب نعم.

طالب:..............

من الإسباغ نعم ما لم يتعدَّ المشروع.

 "{وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتِ الدُّرُوعُ قَبْلَهُ صَفَائِحَ فَكَانَتْ ثِقَالًا، فَلِذَلِكَ أُمِرَ هُوَ بِالتَّقْدِيرِ فِيمَا يَجْمَعُ مِنَ الْخِفَّةِ وَالْحَصَانَةِ. أَيْ قَدِّرْ مَا تَأْخُذُ مِنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ بِقِسْطِهِ، أَيْ لَا تَقْصِدِ الْحَصَانَةَ فَتَثْقُلَ، وَلَا  الْخِفَّةَ فَتُزِيلَ الْمَنَعَةَ".

ليكون بين بين ليس بمتين قوي يثقل على حامله، وليس بالخفيف الذي لا يرد عنه السهام، نعم.

"وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: التَّقْدِيرُ الَّذِي أُمِرَ بِهِ هُوَ فِي قَدْرِ الْحَلْقَةِ، أَيْ لَا تَعْمَلْهَا صَغِيرَةً فَتَضْعُفُ فَلَا تَقْوَى الدُّرُوعُ عَلَى الدِّفَاعِ، وَلَا تَعْمَلْهَا كَبِيرَةً فَيُنَالُ لَابِسُهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: التَّقْدِيرُ الَّذِي أُمِرَ بِهِ هُوَ فِي الْمِسْمَارِ، أَيْ لَا تَجْعَلْ مِسْمَارَ الدِّرْعِ رَقِيقًا فَيَقْلَقُ".

يعني يتحرك، المسمار إذا كان صغيرًا عن موضع الثقب الذي يوضع فيه يقلق يتحرك، وإن كان أكبر من الثقب الذي يوضع فيه فصمه، وقصمه، فيكون بقدر الحاجة.

"أَيْ لَا تَجْعَلْ مِسْمَارَ الدِّرْعِ رَقِيقًا فَيَقْلَقُ، وَلَا غَلِيظًا فَيَفْصِمُ الْحَلَقَ. ورُوِيَ (يَقْصِمُ) بِالْقَافِ، وَالْفَاءُ أَيْضًا رِوَايَةٌ. {فِي السَّرْدِ} السَّرْدُ نَسْجُ حِلَقِ الدُّرُوعِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِصَانِعِ حِلَقِ الدُّرُوعِ: السَّرَّادُ وَالزَّرَّادُ، تُبْدَلُ مِنَ السِّينِ الزَّايُ، كَمَا قِيلَ: سَرَّاطٌ وَزَرَّاطٌ. وَالسَّرْدُ: الْخَرْزُ، يُقَالُ: سَرَدَ يَسْرُدُ إِذَا خَرَزَ. وَالْمِسْرَدُ: الْإِشْفَى، وَيُقَالُ سَرَّادٌ، قَالَ الشَّمَّاخُ: 

فَظَلَّتْ تِبَاعًا خَيْلُنَا فِي بُيُوتِكُمْ
 

كَمَا تَابَعَتْ سَرْدَ الْعِنَانِ الْخَوَارِزُ
  

والسِّرَادُ: السَّيْرُ الَّذِي يُخْرَزُ بِهِ، قَالَ لَبِيَدٌ:  

يُشَكُّ صِفَاحُهَا بِالزَّوْقِ شَزْرًا
 

  كَمَا خَرَجَ السِّرَادُ مِنَ النِّفَالِ
  

وَيُقَالُ: قَدْ سَرَدَ الْحَدِيثَ".

عندك الزوق أم الروق؟ الروق، نعم بالروق، بالروقِ.

طالب: ما فيها زاي؟

 لا.

"يُشَكُّ صِفَاحُهَا بِالرَّوْقِ شَزْرًا
 

  كَمَا خَرَجَ السِّرَادُ مِنَ النِّفَالِ"
  

من إيش؟ من النقالِ، جمع نقل بالتحريك.

 "وَيُقَالُ: قَدْ سَرَدَ الْحَدِيثَ وَالصَّوْمَ، فَالسَّرْدُ فِيهِمَا أَنْ يَجِيءَ بِهِمَا وِلَاءً فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ، وَمِنْهُ سَرْدُ الْكَلَامِ. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: »لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ، وَكَانَ يُحَدِّثُ الْحَدِيثَ لَوْ أَرَادَ الْعَادُّ أَنْ يَعُدَّهُ لَأَحْصَاهُ» . قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَمِنْهُ رَجُلٌ سَرَنْدَى أَيْ جَرِيءٌ، قَالَ: لِأَنَّهُ يَمْضِي قُدُمًا. وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي سَرْدِ الدِّرْعِ، وَهُوَ أَنْ يُحْكِمَهَا، وَيَجْعَلَ نِظَامَ حِلَقِهَا وِلَاءً غَيْرَ مُخْتَلِفٍ. قَالَ لَبِيَدٌ: 

صَنَعَ الْحَدِيدَ مُضَاعِفًا أَسْرَادَهُ
 

لِيَنَالَ طُولَ الْعَيْشِ غَيْرَ مَرُومِ
  

وَقَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ:

وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا
 

دَاوُدُ أَوْ صَنَعُ السَّوَابِغِ تُبَّعُ
  

{وَاعْمَلُوا صَالِحًا} أَيْ عَمَلًا صَالِحًا. وَهَذَا خِطَابٌ لِدَاوُدَ وَأَهْلِهِ، كَمَا قَالَ".

يعني يقال للرجل: صنع، زيدٌ صنع، يعني صانع على صيغة فعل، صانع مبالغة.

 "وَهَذَا خِطَابٌ لِدَاوُدَ وَأَهْلِهِ، كَمَا قَالَ: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا}. {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ}  قَالَ الزَّجَّاجُ: التَّقْدِيرُ وَسَخَّرْنَا لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ عَنْهُ: الرِّيحُ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْمَعْنَى لَهُ تَسْخِيرُ الرِّيحِ، أَوْ بِالِاسْتِقْرَارِ، أَيْ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحُ ثَابِتَةً، وَفِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إِذَا قُلْتَ أَعْطَيْتَ زَيْدًا دِرْهَمًا وَلِعَمْرٍو دِينَارٌ، فَرَفَعْتُهُ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعْنَى الْأَوَّلِ".

يعني ما تكون أعطيت عمرًا دينارًا كما أعطيت زيدًا درهًا. أنت أعطيت زيدًا درهمًا، لكنك تخبر أن لعمرو يملك دينارًا، يعني أنه يملك دينارًا، فلا يدخل في حكم الأول، ولو قلت: ولعمرو دينارًا دخل في الأول أعطيت زيدًا درهمًا، وأعطيت لعمرو دينارًا.

  "فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعْنَى الْأَوَّلِ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ لَمْ تُعْطِهِ الدِّينَارَ. وَقِيلَ: الْأَمْرُ كَذَا، وَلَكِنَّ الْآيَةَ عَلَى خِلَافِ هَذَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُسَخِّرْهَا أَحَدٌ إِلَّا اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ-".

وإن كان من حيث المعنى لا يقتضيه إلا أن السياق لا يوقع في لبس، لا يوقع في لبس، لا يشك أحد أن الله هو المسخر لسليمان هذه الريح.

"{غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} أَيْ مَسِيرَةُ شَهْر:ٍ قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ يَغْدُو مِنْ دِمَشْقَ فَيُقِيلُ بِإِصْطَخْرَ، وَبَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ شَهْرٍ لِلْمُسْرِعِ، ثُمَّ يَرُوحُ مِنْ إِصْطَخْرَ وَيَبِيتُ بِكَابُلَ، وَبَيْنَهُمَا شَهْرٌ لِلْمُسْرِعِ. قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَتْ تَسِيرُ بِهِ فِي الْيَوْمِ مَسِيرَةَ شَهْرَيْنِ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَن ِابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ إِذَا جَلَسَ نُصِبَتْ حَوَالَيْهِ أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفِ كُرْسِيٍّ، ثُمَّ جَلَسَ رُؤَسَاءُ الْإِنْسِ مِمَّا يَلِيهِ، وَجَلَسَ سِفْلَةُ الْإِنْسِ مِمَّا يَلِيِهِمْ، وَجَلَسَ رُؤَسَاءُ الْإِنْسِ مِمَّا يَلِي سِفْلَةَ الْإِنْسِ، وَجَلَسَ سِفْلَةُ الْجِنِّ مِمَّا يَلِيهِمْ، وَمُوَكَّلٌ بِكُلِّ كُرْسِيٍّ طَائِرٌ لِعَمَلٍ قَدْ عَرَفَهُ، ثُمَّ تُقِلُّهُمُ الرِّيحُ، وَالطَّيْرُ تُظِلُّهُمْ مِنَ الشَّمْسِ، فَيَغْدُو مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى إِصْطَخْرَ، فَيَبِيتُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: ذُكِرَ لِي أَنَّ مَنْزِلًا بِنَاحِيَةِ دِجْلَةَ مَكْتُوبًا فِيهِ كَتَبَهُ بَعْضُ صَحَابَةِ سُلَيْمَانَ، إِمَّا مِنَ الْجِنِّ وَإِمَّا مِنَ الْإِنْسِ: نَحْنُ نَزَلْنَا وَمَا بَنَيْنَاهُ، وَمَبْنِيًّا وَجَدْنَاهُ، غُدُوُّنَا مِنْ إِصْطَخْرَ فَقِلْنَاهُ".

 يعني بتنا به في القيلولة، وهو منتصف النهار.

"وَنَحْنُ رَائِحُونَ مِنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَبَائِتُونَ فِي الشَّامِ وَقَالَ الْحَسَنُ: شَغَلَتْ سُلَيْمَانَ الْخَيْلُ حَتَّى فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ، فَعَقَرَ الْخَيْلَ فَأَبْدَلَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا وَأَسْرَعَ، أَبْدَلَهُ الرِّيحُ تَجْرِي بِأَمْرِهِ حَيْثُ شَاءَ، {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}".

الغدو هو السير في أول النهار، الغداة إلى منتصفه، ومن منتصفه يبدأ الرواح.

طالب:.........

ناحية المشرق.

طالب:........

الآن يمكن- والله أعلم- ما بين حدود العراق وإيران قريبة منه.

وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ مُسْتَقَرُّ سُلَيْمَانَ بِمَدِينَةِ تَدْمُرَ، وَكَانَ أَمَرَ الشَّيَاطِينَ قَبْلَ شُخُوصِهِ مِنَ الشَّامِ إِلَى الْعِرَاقِ، فَبَنَوْهَا لَهُ بِالصُّفَّاحِ وَالْعَمَدِ وَالرُّخَامِ الْأَبْيَضِ وَالْأَصْفَرِ. وَفِيهِ يَقُولُ النَّابِغَةُ:

إِلَّا سُلَيْمَانَ إِذْ قَالَ الْإِلَهُ لَهُ
 

قُمْ فِي الْبَرِيَّةِ فَاحْدُدْهَا عَنِ الْفَنَدِ
  

وَخَيِّسِ الْجِنَّ إِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَهُمْ
 

يَبْنُونَ تَدْمُرَ بِالصُّفَّاحِ وَالْعَمَدِ
  

فَمَنْ أَطَاعَكَ فَانْفَعْهُ بِطَاعَتِهِ
 

كَمَا أَطَاعَكَ وَادْلُلْهُ عَلَى الرَّشَدِ
  

وَمَنْ عَصَاكَ فَعَاقِبْهُ مُعَاقَبَةً
 

تَنْهَى الظَّلُومَ وَلَا تَقْعُدْ عَلَى ضَمَدِ
  

وَوُجِدَتْ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ مَنْقُورَةً فِي صَخْرَةٍ بِأَرْضِ يَشْكُرَ، أَنْشَأَهُنَّ بَعْضُ أَصْحَابِ سُلَيْمَانَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-:

نَحْنُ وَلَا حَوْلٌ سِوَى حَوْلِ رَبِّنَا
 

نَرُوحُ إِلَى الْأَوْطَانِ مِنْ أَرْضِ تَدْمُرَ
  

إِذَا نَحْنُ رُحْنَا كَانَ رَيْثُ رَوَاحِنَا
 

مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَالْغُدُوُّ لِآخَرِ
  

أُنَاسٌ شَرَوْا لِلَّهِ طَوْعًا نُفُوسَهُمْ
 

بِنَصْرِ ابْنِ دَاوُدَ النَّبِيِّ الْمُطَهَّرِ
  

لَهُمْ فِي مَعَالِي الدِّينِ فَضْلٌ وَرِفْعَةٌ
 

وَإِنْ نُسِبُوا يَوْمًا فَمِنْ خَيْرِ مَعْشَرِ
  

مَتَى يَرْكَبُوا الرِّيحَ الْمُطِيعَةَ أَسْرَعَتْ
 

مُبَادِرَةً عَنْ شَهْرِهَا لَمْ تُقَصِّرِ
  

تُظِلُّهُمُ طَيْرٌ صُفُوفٌ عَلَيْهِمُ
 

مَتَى رَفْرَفَتْ مِنْ فَوْقِهِمْ لَمْ تُنَفَّرِ
  

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ}  الْقِطْرُ: النُّحَاسُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. أُسِيلَتْ لَهُ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَمَا يَسِيلُ الْمَاءُ، وَكَانَتْ بِأَرْضِ الْيَمَن، وَلَمْ يَذُبِ النُّحَاسُ فِيمَا رُوِيَ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ، وَكَانَ لَا يَذُوبُ، وَمِنْ وَقْتِهِ ذَابَ، وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ النَّاسُ الْيَوْمَ بِمَا أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى لِسُلَيْمَانَ. قَالَ قَتَادَةُ: أَسَالَ اللَّهُ عَيْنًا يَسْتَعْمِلُهَا فِيمَا يُرِيدُ. وَقِيلَ لِعِكْرِمَةَ: إِلَى أَيْنَ سَالَتْ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي! وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: أُجْرِيَتْ لَهُ عَيْنُ الصُّفْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهِنَّ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَتَخْصِيصُ الْإِسَالَةِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يُدْرَى مَا حَدُّهُ، وَلَعَلَّهُ وَهْمٌ مِنَ النَّاقِلِ؛ إِذْ فِي رِوَايَةٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهَا سَالَتْ مِنْ صَنْعَاءَ ثَلَاثَ لَيَالٍ مِمَّا يَلِيهَا، وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى بَيَانِ الْمَوْضِعِ لَا إِلَى بَيَانِ الْمُدَّةِ".

يعني بيان المدة المتعلقة بهذا الموضع لا بيان المدة الطلقة.

"وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جُعِلَ النُّحَاسُ لِسُلَيْمَانَ فِي مَعْدِنِهِ عَيْنًا تَسِيلُ كَعُيُونِ الْمِيَاهِ، دَلَالَةً عَلَى نُبُوَّتِهِ وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْقِطْرُ: النُّحَاسُ الْمُذَابُ.

 قُلْتُ: دَلِيلُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: (مِنْ قِطْرٍ آنٍ) { وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّه} أَيْ بِأَمْرِه { وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} الَّذِي أَمَرْنَاهُ بِهِ".

(مِنْ قِطْرٍ آنٍ) في قوله –جل وعلا-: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ}[إبراهيم:50].

 "{ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} الَّذِي أَمَرْنَاهُ بِهِ مِنْ طَاعَةِ سُلَيْمَانَ، { نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} أَيْ فِي الْآخِرَةِ، قَالَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقِيلَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَكَّلَ بِهِمْ فِيمَا رَوَى السُّدِّيُّ مَلَكًا بِيَدِهِ سَوْطٌ مِنْ نَارٍ، فَمَنْ زَاغَ عَنْ أَمْرِ سُلَيْمَانَ ضَرَبَهُ بِذَلِكَ السَّوْطِ ضَرْبَةً مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهُ فَأَحْرَقَتْهُ. وَ{مَنْ} فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِمَعْنَى وَسَخَّرْنَا لَهُ مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الرِّيحِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}.  

فِيهِ ثَمَانِي مَسَائِلَ:

 الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ}  الْمِحْرَابُ فِي اللُّغَةِ: كُلُّ مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ. وَقِيلَ لِلَّذِي يُصَلَّى فِيهِ: مِحْرَابٌ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُرْفَعَ وَيُعَظَّمَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ :مِنْ مَحَارِيبَ أَيْ مِنْ مَسَاجِدَ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {الْمَحَارِيبُ} دُونَ الْقُصُورِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمِحْرَابُ أَشْرَفُ بُيُوتِ الدَّارِ. قَالَ: 

وَمَاذَا عَلَيْهِ أَنْ ذَكَرْتُ أَوَانِسًا
 

كَغِزْلَانِ رَمْلٍ فِي مَحَارِيبَ أَقْيَالِ""
  

الأماكن المرتفعة في بيوت الكبراء من الأمراء والملوك، والأقيال جمع قيل، وهو الملك بلغة أهل اليمن.

"وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْد: 

كَدُمَى الْعَاجِ فِي الْمَحَارِيبِ أَوْ كَالْ
 

بَيْضِ فِي الرَّوْضِ زَهْرُهُ مُسْتَنِيرُ
  

وَقِيلَ: هُوَ مَا يُرْقَى إِلَيْهِ بِالدَّرَجِ كَالْغُرْفَةِ الْحَسَنَةِ، كَمَا قَالَ: {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ}[ص:21]".

  {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ}، التسور: التسلق يدل على أنه مرتفع.

 "وَقَوْلُهُ: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ}  أَيْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ. وَفِي الْخَبَرِ أَنَّهُ أَمَرَ أَنْ يُعْمَلَ حَوْلَ كُرْسِيِّهِ أَلْفُ مِحْرَابٍ فِيهَا أَلْفُ رَجُلٍ عَلَيْهِمُ الْمُسُوحُ يَصْرُخُونَ إِلَى اللَّهِ دَائِبًا، وَهُوَ عَلَى الْكُرْسِيِّ فِي مَوْكِبِهِ وَالْمَحَارِيبِ حَوْلَهُ، وَيَقُولُ لِجُنُودِهِ إِذَا رَكِبَ: سَبِّحُوا اللَّهَ إِلَى ذَلِكَ الْعَلَمِ، فَإِذَا بَلَغُوهُ قَالَ: هَلِّلُوهُ إِلَى ذَلِكَ الْعَلَمِ فَإِذَا بَلَغُوهُ قَالَ: كَبِّرُوهُ إِلَى ذَلِكَ الْعَلَمِ الْآخَرِ، فَتَلِجُّ الْجُنُودُ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ لَجَّةً وَاحِدَةً.

الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَمَاثِيلَ}  جَمْعُ تِمْثَالٍ. وَهُوَ كُلُّ مَا صُوِّرَ عَلَى مِثْلِ صُورَةٍ مِنْ حَيَوَانٍ أَوْ غَيْرِ حَيَوَانٍ. وَقِيلَ: كَانَتْ مِنْ زُجَاجٍ وَنُحَاسٍ وَرُخَامٍ تَمَاثِيلَ أَشْيَاءَ لَيْسَتْ بِحَيَوَانٍ. وَذُكِرَ أَنَّهَا صُوَرُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ، وَكَانَتْ تُصَوَّرَ فِي الْمَسَاجِدِ لِيَرَاهَا النَّاسُ فَيَزْدَادُوا عِبَادَةً وَاجْتِهَادًا، قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ".

هذا هو سبب الشرك، هذا هو السبب الأول من أسباب الشرك، فكيف يظن أنهم يعملونها لسليمان –عليه السلام-؟

 "قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: »إِنَّ أُولَئِكَ كَانَ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ«".

هذا سياق ذم، فكيف يُنزل عليه ما جاء في حق سليمان –عليه السلام-؟

أَيْ لِيَتَذَكَّرُوا عِبَادَتَهُمْ فَيَجْتَهِدُوا فِي الْعِبَادَةِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّصْوِيرَ كَانَ مُبَاحًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَنُسِخَ ذَلِكَ بِشَرْعِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدُ بَيَانٍ فِي سُورَةِ (نُوحٍ) -عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَقِيلَ: التَّمَاثِيلُ طِلَّسْمَاتٌ كَانَ يَعْمَلُهَا، وَيُحَرِّمُ عَلَى كُلِّ مُصَوِّرٍ أَنْ يَتَجَاوَزَهَا فَلَا يَتَجَاوَزُهَا، فَيَعْمَلُ تِمْثَالًا لِلذُّبَابِ أَوْ لِلْبَعُوضِ أَوْ لِلتَّمَاسِيحِ فِي مَكَانٍ، وَيَأْمُرُهُمْ أَلَّا يَتَجَاوَزُوهُ فَلَا يَتَجَاوَزُهُ وَاحِدٌ أَبَدًا مَا دَامَ ذَلِكَ التِّمْثَالُ قَائِمًا. وَوَاحِدُ التَّمَاثِيلِ تِمْثَالٌ بِكَسْرِ التَّاءِ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: 

وَيَا رُبَّ يَوْمٍ قَدْ لَهَوْتُ وَلَيْلَةٍ
 

بِآنِسَةٍ كَأَنَّهَا خَطُّ تِمْثَالِ
  

وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ التَّمَاثِيلَ رِجَالٌ اتَّخَذَهُمْ مِنْ نُحَاسٍ وَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ؛ لِيُقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَحِيكَ فِيهِمُ السِّلَاحُ. وَيُقَالُ: إِنَّ إسْفِنْدِيَارَ كَانَ مِنْهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ عَمِلُوا لَهُ أَسَدَيْنِ فِي أَسْفَلِ كُرْسِيِّهِ وآخرين فَوْقَهُ".

وَنَسْرَيْنِ، وَنَسْرَيْنِ.

"وَرُوِيَ أَنَّهُمْ عَمِلُوا لَهُ أَسَدَيْنِ فِي أَسْفَلِ كُرْسِيِّهِ وَنَسْرَيْنِ فَوْقَهُ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَصْعَدَ بَسَطَ الْأَسَدَانِ لَهُ ذِرَاعَيْهِمَا، وَإِذَا قَعَدَ أَطْلَقَ النَّسْرَانِ أَجْنِحَتَهُمَا".

كل هذه من الأخبار الإسرائيلية التي اشترط المؤلف على نفسه ألا يذكرها، ومع ذلك ذكرها، ذكر كثيرًا من الإسرائيليات وإن كان ذكرها، وكثرتها نسبية، لكن بعض التفاسير كل مبناها على الإسرائيليات، ولا شك أن التفسير، تفسير القرطبي من أقل كتب التفسير ذكرًا للإسرائيليات، وهي موجودة، وقد اشترط على نفسه في أول الكتاب ألا يذكرها.

"الثَّالِثَةُ: حَكَى مَكِّيٌّ فِي الْهِدَايَةِ لَهُ: أَنَّ فِرْقَةً تُجَوِّزُ التَّصْوِيرَ، وَتَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ خَطَأٌ، وَمَا أَحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ مَنْ يُجَوِّزُهُ" .

وذكر سابقًا القرطبي –رحمه الله- ذكر الخلاف في مسألة التصوير تصوير غير ذوات الأرواح، وأما تصوير ذوات الأرواح فالأمر محل اتفاق بين أهل العلم، غير ذوات الأرواح كالشجر وغيرها من مخلوقات الله فيها الخلاف المعروف، والذي رجَّحه القرطبي أنه لا يجوز تصويره، ولو كانت ليست بذوات أرواح، والجمهور خصوا المنع بذوات الأرواح؛ لأنه يُكلف أن ينفخ فيه الروح وليس بنافخ، والشجر لا يكلف أن ينفخ فيها روحًا، جاء في القول من أظلم ممن ذهب يخلق خلقي، وهذا شامل لمخلوقات الله ما فيه روح، وما لا روح فيه.

"قُلْتُ: مَا حَكَاهُ مَكِّيٌّ ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ قَبْلَهُ، قَالَ النَّحَّاسُ: قَالَ قَوْمٌ عَمَلُ الصُّوَرِ جَائِزٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنِ الْمَسِيحِ .وَقَالَ قَوْمٌ: قَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْهَا، وَالتَّوَعُّدُ لِمَنْ عَمِلَهَا أَوِ اتَّخَذَهَا، فَنَسَخَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِهَذَا مَا كَانَ مُبَاحًا قَبْلَهُ، وَكَانَتِ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ بُعِثَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَالصُّوَرُ تُعْبَدُ، فَكَانَ الْأَصْلَحُ إِزَالَتُهَا.

 الرَّابْعَةُ: التِّمْثَالُ عَلَى قِسْمَيْنِ: حَيَوَانٌ وَمَوَاتٌ. وَالْمَوَاتُ عَلَى قِسْمَيْنِ: جَمَادٌ وَنَامٍ، وَقَدْ كَانَتِ الْجِنُّ تَصْنَعُ لِسُلَيْمَانَ جَمِيعَهُ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: {وَتَمَاثِيلَ}. وَفِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ: أَنَّ التَّمَاثِيلَ مِنَ الطَّيْرِ كَانَتْ عَلَى كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ. فَإِنْ قِيلَ: لَا عُمُومَ لِقَوْلِهِ: {وَتَمَاثِيلَ} فَإِنَّهُ إِثْبَاتٌ فِي نَكِرَةٍ، وَالْإِثْبَاتُ فِي النَّكِرَةِ لَا عُمُومَ لَهُ، إِنَّمَا الْعُمُومُ فِي النَّفْيِ فِي النَّكِرَةِ.

 قُلْنَا: كَذَلِكَ هُوَ، بَيْدَ أَنَّهُ قَدِ اقْتَرَنَ بِهَذَا الْإِثْبَاتِ فِي النَّكِرَةِ مَا يَقْتَضِي حَمْلَهُ عَلَى الْعُمُوم، وَهُوَ قَوْلُهُ: {مَا يَشَاءُ} فَاقْتِرَانُ الْمِشْيَئةِ بِهِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ لَهُ.

 فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ اسْتَجَازَ الصُّوَرَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا؟

قُلْنَا: كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي شَرْعِهِ وَنُسِخَ ذَلِكَ بِشَرْعِنَا كَمَا بَيَّنَّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: لَمْ يَكُنِ اتِّخَاذُ الصُّوَرِ".

هذا إذا ثبت، إذا ثبت أنه تصوير لذوات الأرواح، هذه التماثيل فهو محمول على أنه بشرعه- عليه السلام-، وأما في شرعنا فالأدلة الصحيحة الصريحة كلها تدل على أن التصوير حرام، بل هو من عظائم الأمور، وجاء فيه الوعيد الشديد في المصورين، وأنهم أشد الناس عذابًا يوم القيامة.

 "وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: لَمْ يَكُنِ اتِّخَاذُ الصُّوَرِ إِذْ ذَاكَ مُحَرَّمًا.

الْخَامِسَةُ: مُقْتَضَى الْأَحَادِيثِ يَدُلُّ أَنَّ الصُّوَرَ مَمْنُوعَةٌ، ثُمَّ جَاءَ (إِلَّا مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ) فَخُصَّ مِنْ جُمْلَةِ الصُّوَرِ، ثُمَّ ثَبَتَتِ الْكَرَاهِيَةُ فِيهِ بِقَوْلِهِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِعَائِشَةَ فِي الثَّوْبِ: »أَخِّرِيهِ عَنِّي فَإِنِّي كُلَّمَا رَأَيْتُهُ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا« ثُمَّ بِهَتْكِهِ الثَّوْبَ الْمُصَوَّرَ عَلَى عَائِشَةَ مَنَعَ مِنْهُ، ثُمَّ بِقَطْعِهَا لَهُ وِسَادَتَيْنِ تَغَيَّرَتِ الصُّورَةُ وَخَرَجَتْ عَنْ هَيْئَتِهَا، فَإِنَّ جَوَازَ ذَلِكَ إِذَا لَمْ تَكُنِ الصُّورَةُ فِيهِ مُتَّصِلَةَ الْهَيْئَةِ، وَلَوْ كَانَتْ مُتَّصِلَةَ الْهَيْئَةِ لَمْ يَجُزْ؛ لِقَوْلِهَا فِي النُّمْرُقَةِ الْمُصَوَّرَةِ: اشْتَرَيْتُهَا لَكَ لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا، فَمَنَعَ مِنْهُ وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ. وَتَبَيَّنَ بِحَدِيثِ الصَّلَاةِ إِلَى الصُّوَرِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي الرَّقْمِ فِي الثَّوْبِ، ثُمَّ نَسَخَهُ الْمَنْعُ مِنْهُ. فَهَكَذَا اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ.

السَّادِسَةُ: رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:» كَانَ لَنَا سِتْرٌ فِيهِ تِمْثَالٌ طَائِرٌ، وَكَانَ الدَّاخِلُ إِذَا دَخَلَ اسْتَقْبَلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: حَوِّلِي هَذَا، فَإِنِّي كُلَّمَا دَخَلْتُ فَرَأَيْتُهُ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا. قَالَتْ: وَكَانَتْ لَنَا قَطِيفَةٌ كُنَّا نَقُولُ: عَلَمُهَا حَرِيرٌ، فَكُنَّا نَلْبَسُهَا»  وَعَنْهَا قَالَتْ: »دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا مُسْتَتِرَةٌ بِقِرَامٍ فِيهِ صُورَةٌ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ، ثُمَّ تَنَاوَلَ السِّتْرُ فَهَتَكَهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مِنْ أَشَدِ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-«.

وَعَنْهَا: أَنَّهُ كَانَ لَهَا ثَوْبٌ فِيهِ تَصَاوِيرُ مَمْدُودٌ إِلَى سَهْوَةٍ، فَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي إِلَيْهِ فَقَالَ: أَخِّرِيهِ عَنِّي قَالَتْ: فَأَخَّرْتُهُ فَجَعَلْتُهُ وِسَادَتَيْنِ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَهْتِيكُهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- الثَّوْبَ وَأَمْرُهُ بِتَأْخِيرِهِ وَرَعًا؛ لِأَنَّ مَحَلَّ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ الْكَمَالُ. فَتَأَمَّلْهُ".

الأصل أنه –عليه الصلاة والسلام- مُشرع، وأنه هو القدوة، وأنه بأفعاله هذه من هتكه لهذا الستر، وإهداره لماليته، وقد نُهي عن إضاعة المال، كل هذا يدل على أن هذا التصوير محرم، ولو لم يكن محرمًا لما أُتلف هذا المال الذي فيه هذا التصوير، والمحقق أن التصوير بجميع صوره، وأشكاله لذوات الأرواح حرام بجميع آلاته، بعضهم يقول: إن الصورة إذا كانت بآلة فإن المكلف لم يباشر التصوير، وإنما التي باشرت هي الآلة، نقول إذا كان المباشر غير مكلف انتقل الحكم فيه إلى المتسبب، كما أن القاتل بالآلة بالمسدس، لا يقال: إن المسدس قتله إنما صاحبه هو الذي ضغط الزر مثل صاحب الكاميرا هو الذي ضغط الزر فأحدثت هذه الصورة، والقاتل بمسدس هو الذي ضغط الزر فقتل هذا المقتول، فإذا كان المباشر للعمل غير مكلف انتقل التكليف إلى المتسبب كما هو معلوم.

السَّابِعَةُ: قَالَ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ: إِنْ دُعِيَ رَجُلٌ إِلَى عُرْسٍ فَرَأَى صُورَةً ذَاتَ رُوحٍ أَوْ صُوَرًا ذَاتَ أَرْوَاحٍ، لَمْ يَدْخُلْ إِنْ كَانَتْ مَنْصُوبَةً. وَإِنْ كَانَتْ تُوطَأُ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ كَانَتْ صُوَرَ الشَّجَرِ. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ التَّصَاوِيرَ".

وإن كانت صور الشجر هذا الذي يرجحه المؤلف، أن صور الشجر مثل الصور ذوات أرواح لأنها من خلق الله.

 "وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ التَّصَاوِيرَ فِي السُّتُورِ".

طالب:............

إذا كانت تُداس.

طالب:.............

على كل حال جلود السباع منهيٌ عنها.

طالب:............

على كل حال إذا لم يكن بالفعل جلد السبوع فما فيه إشكال، لكن تصوير النمر، النمر ذو روح.

طالب:...........

ووجهه موجود لا لا ما يجوز.

"وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ التَّصَاوِيرَ فِي السُّتُورِ الْمُعَلَّقَةِ مَكْرُوهَةٌ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ".

 يعني تصاوير غير ذوات الأرواح، أما تصاوير ذوات الأرواح فلا شك أنها محرمة.

"وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمْ مَا كَانَ خَرْطًا أَوْ نَقْشًا فِي الْبِنَاءِ. وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ؛ لِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قُلْتُ".

هذا كلامه هذا. 

"لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمُصَوِّرِينَ وَلَمْ يَسْتَثْنِ. وَقَوْلُهُ: » إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ وَلَمْ يَسْتَثْنِ«. وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: » يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ تُبْصِرَانِ وَأُذُنَانِ تَسْمَعَانِ وَلِسَانٌ يَنْطِقُ يَقُولُ: إِنِّي وُكِّلْتُ بِثَلَاثٍ: بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَبِكُلِ مَنْ دَعَا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ« وَبِالْمُصَوِّرِينَ، قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ. وَفِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ« يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ تَصْوِيرِ شَيْءٍ، أَيِّ شَيْءٍ كَانَ. وَقَدْ قَالَ -جَلَّ وَعَزَّ-: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا}[النمل:60] عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَاعْلَمْهُ.

الثَّامِنَةُ".

طالب: ...........

نعم.

طالب:.........

كيف؟

طالب:..........

محرم مثل غيره، داخل في الحديث.

طالب:.........

بلى تصوير لماذا ليس بتصوير؟ يدخلون في الوعيد الشديد، دخولهم أشد؟ دخولهم أشد من الذي صور بيده؛ لأن تصويرهم أدق، ومضاهاة خلق الله أقرب في هذه الآلات.

طالب: أحسن الله إليك، سألني أحد الإخوة من المغرب، يقول: ألزمونا في المساجد بين المغرب والعشاء هناك عادة .... وكان هناك درس أو محاضرة أو قراءة قرآن، فبعد الأحداث الأخيرة ألزموهم بضبط شاشات ينقل عن شيخ بالدار البيضاء، وتعمم على جميع المساجد، وهو يسأل عن صحة الصلاة في مسجد فيه شاشة، والتي تغلق عن الأذان.

على كل حال هذا أمر يعني شاشة تصور تصويرًا أم هذا بث؟

طالب: بث.

بث مباشر وإذا قام الشيخ انتهى، هذا ليس بتصوير، هذا ليس بتصوير، التصوير الذي يثبت، الذي يثبت في الآلة، أما مجرد نقل من مكان إلى مكان دون إثبات للصورة فهذا ما هو بتصوير.

طالب: يعني التصوير ....

 لا، يثبت، تعيده وقتما بغيت؟

طالب: يعني القنوات الفضائية ليست بتصوير؟

ماذا؟

طالب: القنوات الفضائية؟

تصوير؛ لأنه يعيدونه متى شاءوا، لكن أجهزة المراقبة في المحلات فيها شاشات تشاهد نفسك وتشاهد غيرك، لكن هل تثبت هذه الصورة، إذا طلعت طلعت معك، هذا ليس بتصوير.

طالب: مسجلة.

 لا، إذا سُجِّلت صار تصويرًا، إذا سُجلت صار تصويرًا.

طالب:..........

على كلٍّ، ويتوسعون زيادة.

طالب:..........

حفلات التحفيظ تُصوَّر، تُصوَّر حفلات التحفيظ تُصور، تحفيظ القرآن، العبادة المحضة تُصور.

طالب:..........

الواحد لا يلزم الناس برأيه.

طالب: ...........

 الإنسان لا يلزم أحًدا برأيه، هذا الذي نراه ونعتقده والناس بكيفهم، من رأى جوازه يتحمل.

طالب:............

تصوير، تصوير.

طالب:...........

لا لا لا عند من يقول مباح ما عنده مشكلة، يقول: إن هذا تصوير ليس بداخل في النصوص، وليس بتصوير، والمكلف ما صوَّر، الذي صور الآلة، نعم، خلونا نكمل يا إخوان.

طالب: إذا كان للمصلحة يا شيخ؟

لا لا مصلحة، المصلحة تُرجى من الله أولا، ما عند الله لا ينال بسخطه، ما فيه مصالح مثل هذا.

طالب:............

ماذا تفعل؟ اذهب وأقنعهم، كبار يفتون في نور على الدرب أن هذا ما هو بتصوير، نلزمهم برأينا؟! ما هو بصحيح يا أخي، ما نستطيع أن نلزمهم.

 "الثَّامِنَةُ: وَقَدِ اسْتُثْنِيَ مِنْ هَذَا الْبَابِ لُعَبُ الْبَنَاتِ، لِمَا ثَبَتَ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- »أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَزَوَّجَهَا وَهِيَ بِنْتُ سَبْعِ سِنِينَ، وَزُفَّتْ إِلَيْهِ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعٍ وَلُعَبُهَا مَعَهَا، وَمَاتَ عَنْهَا وَهِيَ بِنْتُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً  «وَعَنْهَا أَيْضًا قَالَتْ: » كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَ لِي صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِي، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا دَخَلَ يَنْقَمِعْنَ مِنْهُ، فَيُسَرِّبُهُنَّ إِلَيَّ فَيَلْعَبْنَ مَعِي «  خَرَّجَهُمَا مُسْلِمٌ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ إِلَى ذَلِكَ وَحَاجَةِ الْبَنَاتِ حَتَّى يَتَدَرَّبْنَ عَلَى تَرْبِيَةِ أَوْلَادِهِنَّ. ثُمَّ إِنَّهُ لَا بَقَاءَ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ مَا يُصْنَعُ مِنَ الْحَلَاوَةِ أَوْ مِنَ الْعَجِينِ لَا بَقَاءَ لَهُ، فَرُخِّصَ فِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ".

لعب البنات التي استثناها أهل العلم، وهي التي كانت عند عائشة، والحصان ذو الأجنحة كلها ليست من الصور التي جاء الوعيد عليها؛ لأنها هي مجرد أشياء على هيئة الصور، وليست بصور، لعب البنات قالوا: هي عبارة عن وساد كبير في رأسه وساد صغير، يعني وساد مخيط من قماش، وفي جوفه قطن أو شعر، وفي رأسه وساد صغير بمنزلة الرأس، لكن ليس به تصوير للعيون، والفم، والأنف وما أشبه ذلك، لا، هذه لعب البنات التي استثناها أهل العلم، وأما تطبيق هذا الاستثناء، ولعب عائشة والحصان ذو الأجنحة، وما أشبه ذلك على اللعب الموجودة في الأسواق الآن مصورة بأبدع تصوير دقيق، وتتصرف تصرف العقلاء قد إذا ضُرب لها على شيء رقصت، وإذا أُضجعت أغمضت عينيها، وتأخذ من إناء معها وتنفخ فيطير، صنيع العقلاء، هل نقول: إن هذه لعب البنات الموجودة على عهد عائشة؟! لا والله ليست هي، صور في أجمل شكل يجعلونها، ومنها الكبير، ومنها الصغير، وتدرج الأمر إلى أن أوجد من هذه الصور ما يكتفي به بعض الفساق، صور يسمونها لعب بنات، وهي بحجم الإنسان، أو قريبة من حجمه، ويعاشرها من يعاشرها من الفساق، وهذا سببه كله التساهل في مثل هذه الأمور، هل يستطيع أن يقول قائل: إن لعبة من التي موجودة الآن في الأسواق التي إذا صفقت لها رقصت، نقول: هذه لعب عائشة، أو المصور على أبدع صورة وأجمل شكل، ممكن أن نقول: هذه صور البنات؟ صورة موجودة في الأسواق يغترف من إناء، ثم ينفخ فيه فيطير، هذه لعب عائشة هذه؟!! تصدر منها الأغاني، وتصدر منها ما يصدر من العقلاء، وإذا أضجعت أغمضت عينيها، وإذا أجلست فتحت عينيها، هذه صور البنات، هذه لعب البنات الموجودة في عهد عائشة؟ أظن كبار السن من الحاضرين أدركوا لعب البنات المطابقة للعب عائشة، كما وصفها أهل العلم، وساد كبير في رأسها، وساد صغير لا أكثر ولا أقل، هذه لعب البنات، تمرنَّ عليها، وتدربن عليها بالنسبة لتربية الأولاد عليها، والله المستعان، لكنه الهوى، البذران يريدون مثل هذا فالفتوى تجيء على مشتهاهم، نعم.

طالب:.........

يرقص، نعم، فيها الفضائح، يعني من هذه الصور التي تورد على أساس أنها لعب بنات فيُكتفى بها، يكتفى بها، ويوجد من يعاشرها، على أحجام تحتمل مثل هذه الأمور. نسأل الله العافية، بعض من رجال الحسبة عندهم أشياء منه. وقفوا في محلات عروض الأزياء من الباعة، وغيرهم من يجلس وراء المانيكان، وما أدري إيش يسمونه، ما اسمه؟ الذي في المحلات الذي يلبسونه الثوب، ما يقف وراءها أحد ويقضي حاجته؟

وجد هذا بكثرة يا أخي، ومالها رأس، فكيف إذا وجد لها الرأس، والشعر، والوجه، والفم وغير ذلك؟ كوارث كوارث، وفتاوى لا يُحسب لها حساب، ولا يُدرى ما أبعادها، والله المستعان. طالب: ................

نعم.

طالب: ................

ما فيه تصوير، ركبت لها رأسًا صحيح، لكن ما لها وجه، ولا عيون ولا، هذا اللائق بفعل المتقدمين ما عندهم مثل هذه الدقة.

طالب:...............

لكن بقية الجسم يفتن أم ما يفتن؟

طالب:..............

التصوير ما يدخل فيه، ليس بتصوير، لكن يبقى إن كان مثار فتنة في تفاصيلها الداخلية وكذا.. سهل إن شاء الله.

 "قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الْجَوَابِيُّ جَمْعُ الْجَابِيَةِ، وَهِيَ حَفِيرَةٌ كَالْحَوْضِ. وَقَالَ: كَحِيَاضِ الْإِبِلِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِم ِعَنْ مَالِكٍ: كَالْجَوْبَةِ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب. وَكَانَ يَقْعُدُ عَلَى الْجَفْنَةِ الْوَاحِدَةِ أَلْفُ رَجُلٍ. قال النَّحَّاسُ: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} الْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ بِالْيَاءِ، وَمَنْ حَذَفَ الْيَاءَ قَالَ: سَبِيلُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى النَّكِرَةِ، فَلَا يُغَيِّرُهَا عَنْ حَالِهَا، فَلَمَّا كَانَ يُقَالُ: (جَوَابٍ) وَدَخَلَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ أُقِرَّ عَلَى حَالِهِ، فَحُذِفَ الْيَاءُ".

لأن الجواب جمع الجابية، وهو منقوص، نعم في آخره الياء، الجوابي، ومعروف أن المنقوص إذا تجرَّد من ال تُحذف ياءه في حالتي الرفع والجر، وإذا اقترن بال ثبتت ياؤه فيقال: كالجوابي، وعمرو بن العاصي، هذا الأصل لكنهم قد يستثقلون الياء فيحذفونها؛ لكثرة دورانها.

"وَوَاحِدُ الْجَوَابِي جَابِيَةٌ، وَهِيَ الْقِدْرُ الْعَظِيمَةُ، وَالْحَوْضُ الْعَظِيمُ الْكَبِيرُ الَّذِي يُجْبَى فِيهِ الشَّيْءُ أَيْ يُجْمَعُ، وَمِنْهُ جَبَيْتُ الْخَرَاجَ، وَجَبَيْتُ الْجَرَادَ، أَيْ جَعَلْتُ الْكِسَاءَ فَجَمَعْتُهُ فِيهِ. إِلَّا أَنَّ لَيْثًا رَوَى عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْجَوَابِيُّ جَمْعُ جَوْبَةٍ، وَالْجَوْبَةُ الْحُفْرَةُ الْكَبِيرَةُ تَكُونُ فِي الْجَبَلِ فِيهَا مَاءُ الْمَطَرِ".

يعني يجبى فيها الماء، ماء المطر.

 "وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: جَبَوْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ وَجَبَيْتُهُ أي جمعتَه".

أي جمعتُه.

" أَيْ جَمَعْتُهُ".

لو قال: إذا تكون إذا جبيتَه (تفتح).

"وَالْجَابِيَةُ: الْحَوْضُ الَّذِي يجيء".

يُجبى.

"الذي يُجْبَى فِيهِ الْمَاءُ لِلْإِبِلِ".

طالب:.............

ماذا؟

طالب:............

نعم، جمعت.

"والجابية الْحَوْضُ الَّذِي يُجْبَى فِيهِ الْمَاءُ لِلْإِبِلِ، قَالَ: 

تَرُوحُ عَلَى آلِ الْمُحَلَّقِ جَفْنَةٌ
 

كَجَابِيَةِ الشَّيْخِ الْعِرَاقِيِّ تَفْهَقُ
  

وَيُرْوَى أَيْضًا: 

نَفى الذَّمَّ عَنْ آلِ الْمُحَلَّقِ جَفْنَةٌ
 

كَجَابِيَةِ السَّيْحِ  
  

ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ قُدُورُ النُّحَاسِ تَكُونُ بِفَارِسَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ قُدُورٌ تُعْمَلُ مِنَ الْجِبَالِ. غَيْرُهُ: قَدْ نُحِتَتْ مِنَ الْجِبَالِ الصُّمِّ مِمَّا عَمِلَتْ لَهُ الشَّيَاطِينُ، أَثَافِيُّهَا مِنْهَا مَنْحُوتَةٌ هَكَذَا مِنَ الْجِبَالِ. وَمَعْنَى {رَاسِيَاتٍ} ثَوَابِتُ، لَا تُحْمَلُ وَلَا تُحَرَّكُ لِعِظَمِهَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ :وَكَذَلِكَ كَانَتْ قُدُورُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ، يُصْعَدُ إِلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِسُلَّمٍ. وَعَنْهَا عَبَّرَ طَرَفَةُ بْنُ الْعَبْدِ بِقَوْلِهِ:

كَالْجَوَابِي لَا تَنِي مُتْرَعَةً
 

لِقِرَى الْأَضْيَافِ أَوْ لِلْمُحْتَضِرِ
  

 قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَرَأَيْتُ بِرِبَاطِ أَبِي سَعِيدٍ قُدُورَ الصُّوفِيَّةِ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ يَطْبُخُونَ جَمِيعًا، وَيَأْكُلُونَ جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْثَارِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ.

 قَوْلُهُ تَعَالَى".

نعم، هذه القدور الكبيرة، والجوابي، القدور الراسيات الكبيرة إذا دعت إليها الحاجة صارت محل مدح، قدور عبد الله بن جدعان رجل محسن في الجاهلية، كذلك القدور التي تُصنع لسليمان –عليه الصلاة والسلام-، هذه لا شك أنها يُستفاد منها، لكن ما يوضع، أو يصنع على طريق الهزل لا على طريق الجد في الصيفيات التي يكثر فيها الهزل، وتضييع الأوقات يوجد أكبر وجبة ما أدري يسمونها إيش، ويأتون بقدر كبير، أو إناء كبير، وتُجعل فيه الأطعمة، وتُلقى فيه الأكياس من الأطعمة، والرؤوس من الغنم، وغيرها، ثم في النهاية يقال: هذه أكبر مائدة، لهذه الغاية، هذه حقيقة مُرة يعني.

 أناس يتضرعون جوعًا في بيوتهم لا يجدون من ينفق عليهم، وأناس يعبثون بهذه الأموال، ليس هذا محل المدح أبدًا، ليس هذا هو محل المدح، لو قُدر أن الإنسان الذي صنع هذا القدر نيته وقصده أن يستفاد من هذا الطعام فإعلانه بهذه الطريقة ليست شرعية، إذا أراد أن يحسن إلى الناس يطبخ الطعام في بيته، ويوزعه على الناس، لكن كل هذا من باب العبث، واللعب بأموال الله التي أتاهم الله إياها، والله المستعان.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} قَدْ مَضَى مَعْنَى الشُّكْرِ فِي (الْبَقَرَةِ) وَغَيْرِهَا.

وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: »ثَلَاثٌ مَنْ أُوتِيَهُنَّ فَقَدْ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ آلُ دَاوُدَ، قَالَ فَقُلْنَا: مَا هُنَّ؟ فَقَالَ: الْعَدْلُ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ. وَالْقَصْدُ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى. وَخَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ» خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة".  

مخرج عندكم أم؟

طالب: ................

يعني تفرد به الحكيم فهذا مظنة الضعف، ذكر شيئًا بالتخريج؟

طالب:..........

نعم؟

طالب: تقدم

كلكم يقول تقدم؟

طالب: نعم.

النوادر ضعيف، ما فيه إشكال، نعم.

طالب:...........

نعم، نقلًا عن النوادر، الجامع الكبير ينقل عن النوادر، ما هو بأصل، الجامع الكبير فرع، نعم.

 "وَرُوِيَ أَنَّ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أُطِيقُ شُكْرَكَ عَلَى نِعمتكَ، وَإِلْهَامِي وَقُدْرَتِي عَلَى شُكْرِكَ نِعْمَةٌ لَكَ؟ فَقَالَ: يَا دَاوُدُ الْآنَ عَرَفْتَنِي. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ (إِبْرَاهِيمَ). وَأَنَّ الشُّكْرَ حَقِيقَتُهُ الِاعْتِرَافُ بِالنِّعْمَةِ لِلْمُنْعِمِ، وَاسْتِعْمَالُهَا فِي طَاعَتِهِ، وَالْكُفْرَانُ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْمَعْصِيَةِ. وَقَلِيلٌ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخَيْرَ أَقَلُّ مِنَ الشَّرِّ، وَالطَّاعَةُ أَقَلُّ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، بِحَسَبِ سَابِقِ التَّقْدِيرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} قَالَ دَاوُدُ لِسُلَيْمَانَ: إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ ذَكَرَ الشُّكْرَ فَاكْفِنِي صَلَاةَ النَّهَارِ أَكْفِكَ صَلَاةَ اللَّيْلِ، قَالَ: لَا أَقْدِرُ، قَالَ: فَاكْفِنِي، قَالَ الْفَارَيَابِيُّ، أُرَاهُ قَالَ إِلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ قَالَ: نَعَمْ، فَكَفَاهُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} أَيْ قُولُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ. وَ(شُكْرًا) نُصِبَ عَلَى جِهَةِ الْمَفْعُولِ".

لا شك أن الصلاة، الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات البدنية شكر، شكر عملي، إضافة إلى الشكر القولي.

 "أَيِ اعْمَلُوا عَمَلًا هُوَ الشُّكْرُ. وَكَأَنَّ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْعِبَادَاتِ كُلَّهَا هِيَ فِي نَفْسِهَا الشُّكْرُ إِذْ سَدَّتْ مَسَدَّهُ، وَيُبَيِّنُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:  {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}  وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:  {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}". 

لأن حقيقة الشكر استعمال هذه النعم فيما خُلِقت من أجله فيما يرضي الله -جل وعلا-، نعم.

"وَقَدْ قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنِ اشْكُرْ لِي}  أَنَّ الْمُرَادَ بِالشُّكْرِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ. وَفِي صَحِيح ِمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا- »أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: أَتَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا «انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ. فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ الشُّكْرَ بِعَمَلِ الْأَبْدَانِ دُونَ الِاقْتِصَارِ عَلَى عَمَلِ اللِّسَانِ، فَالشُّكْرُ بِالْأَفْعَالِ عَمَلٌ الْأَرْكَانِ، وَالشُّكْرُ بِالْأَقْوَالِ عَمَلُ اللِّسَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. 

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُخَاطَبَةً لِآلِ دَاوُدَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُخَاطَبَةً لِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ :وَعَلَى كُلِّ وَجْهٍ فَفِيهِ تَنْبِيهٌ وَتَحْرِيضٌ. وَسَمِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى- عَنْهُ رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الْقَلِيلِ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا هَذَا الدُّعَاءُ؟ فَقَالَ الرَّجُل: أَرَدْتُ قَوْلَهُ تَعَالَى: { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}.  فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: كُلُّ النَّاسِ أَعْلَمُ مِنْكَ يَا عُمَرُ! وَرُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ يَأْكُلُ الشَّعِيرَ وَيُطْعِمُ أَهْلَهُ الْخُشْكَارَ، وَيُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ الدَّرْمَكَ".

يعني يأكل الأقل، ويطعم أهله الفضل مما يأكل، ويطعم المساكين الفضل، الأجود.

"وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ الرَّمَادَ وَيَتَوَسَّدُهُ".

هذا ليس بصحيح، الرماد لا يؤكل.

" وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، إِذِ الرَّمَادُ لَيْسَ بِقُوتٍ. وَرُوِيَ أَنَّهُ مَا شَبِعَ قَطُّ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَخَافُ إِنْ شَبِعْتُ أَنْ أَنْسَى الْجِيَاعَ. وَهَذَا مِنَ الشُّكْرِ وَمِنَ الْقَلِيلِ، فَتَأَمَّلْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ".

وهذه أيضًا من حِكَم الصيام أن يجوع الإنسان فيذكر الجياع، ويتصدق عليهم، هذه من حكم الصيام التي ذكرها أهل العلم أن يجوع الصائم فيذكر إخوانه من الفقراء، والمساكين الذين يجوعون في رمضان، وغير رمضان فيتصدق عليهم، ويحسن إليهم.

أظن السبل ما له وقت الآن؟ إذًا ما فيه وقت للسبل، التفسير .... إذا مشينا على مثل هذا خمسة دروس.... على كل حال السبل لو وقفنا على النفقات جيد.