عمدة الأحكام - كتاب الجهاد (1)

قال -رحمه الله تعالى-:

كتاب: الجهاد

عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال: ((يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)) ثم قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم)).

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

كتاب: الجهاد

والجهاد: مصدر جاهد يجاهد جهاداً ومجاهدة، والمراد به بذل الجهد، واستفراغ الوسع في قتال الأعداء، في قتال الكفار، بذل الجهد، والمادة كلها تدل على أن هناك مشقة، فلا جهاد إلا بمشقة، ولا مجاهدة للنفس إلا مع مشقة، ولا اجتهاد في عبادة إلا مع مشقة، ولا اجتهاد في علم إلا مع بذل مشقة، فالعلم لا ينال براحة الجسد، والاجتهاد عند أهل العلم: بذل الجهد، واستفراغ الوسع، متى يقال: اجتهد فلان؟ يقال: اجتهد في حمل الرحى، صح وإلا لا؟ الرحى ثقيل يعني عندك كيس فيه مائة كيلو تجتهد في حمله، لكن عندك نواة أو تمرة مثلاً، يقال: اجتهد في حمل التمرة أو في حمل النواة؟ لا؛ لأنها ما تحتاج إلى بذل جهد ولا استفراغ وسع، بينما الحمل الثقيل يحتاج إلى بذل الوسع، يحتاج إلى بذل الجهد واستفراغ الوسع، وكل المادة تدل على هذا، والجهاد سواءً كان جهاد عدو، جهاد نفس كل هذا يحتاج إلى مجاهدة، والجهاد ذروة سنام الإسلام، ومصدر عز الأمة، وما ذلت الأمة إلا بترك الجهاد، وجاء في الحديث: ((إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله ضرب الله عليكم ذلاً لا يرفعه)) يعني إلا أن تعاودوا الدين، فهذا هو سبب ما تعيشه الأمة من ذل، تركهم لهذه الشعيرة العظيمة من شعائر الإسلام، وهو فرض كفاية، والنصوص القطعية من الكتاب والسنة تدل على وجوبه {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [(73) سورة التوبة] {قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ} [(123) سورة التوبة].. إلى آخره، المقصود أن الجهاد فرض على الأمة، فرض كفاية، نعم في وقت الضعف ضعف الأمة يعني يكتفى منها بجهاد الدفع، وأما جهاد الطلب ففي وقت القوة، وفي وقت العز والنصر للإسلام والمسلمين، نسأل الله -جل وعلا- أن ينصر الإسلام ويعز المسلمين، وأن يقيم علم الجهاد.

وهو فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين وإلا لو تعين وهو يتعين عند أهل العلم في صور منها: إذا حضر الصف، حضرت لا يجوز لك أن تفر، ومنها: إذا استنفرك الإمام، لا يجوز لك أن تعتذر، ومنها: إذا دهم العدو بلد من بلدان المسلمين، لا سيما أهل البلد، هنا يتعين الجهاد، لا يجوز لأحد أن يفر من البلد الذي يدهمه الكفار.

"عن عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس" العادة أنه -عليه الصلاة والسلام- يغزو في أول النهار، في وقت البركة، لكن إذا تأخر واشتد الحر، واشتدت الشمس انتظر حتى تميل الشمس، حتى تزول، وتهب الأرواح، الريح تقف، والحرارة تقل، "حتى مالت الشمس قام فيهم، فقال: ((يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو))" وهذا جزء عن النهي عن تمني الموت؛ لأن العدو لقاؤه في الجملة يعرض الإنسان للموت، ويعرض النساء للسبي، يعرض الأموال، ويعرض الأعراض، ويعرض لقاء العدو أنت ما تضمن النتيجة، هل تضمن النتيجة أنك إذا لقيت العدو ضفرت به وقتلته؟ لا، فلا تتمنى لقاء العدو، كما أنك لا تتمنى الموت لضر نزل بك، مع هذا لا تتمنى لقاء العدو ((واسألوا الله العافية)) الله -جل وعلا- يعافيكم، طيب هل في هذا معارضة مع تمني الشهادة، وقد تمناها النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ وفي هذا معارضة عن عدم تحديث النفس بالجهاد؟ أو نقول: إنه إذا سنحت فرصة الجهاد.. هو يحدث نفسه بالجهاد إذا سنحت الفرصة له، أما أن يتمنى عدواً يدهم بلده أو يواجهه ليقاتله فلا؛ لأن لقاء العدو ما تدري ما يصيبك، يمكن يقتلك، يمكن يسبي..، يمكن ينتهك عرضك، يمكن يسبي أموالك، يمكن..، فلا تتمنى لقاء العدو.

((واسألوا الله العافية)) نعم على الإنسان أن يلهج وأن يكون من ديدنه سؤال العافية في الدين والدنيا، في الدنيا والآخرة ((اسألوا الله العافية)) ما رزق إنسان خير من العافية، والعافية لا يعدلها شيء.

((فإذا لقيتموهم فاصبروا)) لا تتمنى، لكن إذا لقيت فاصبر، بعض الناس يقول: أنا أبحث عن الأجر، أبحث عن امرأة فيها عيب أكفلها وأضمها، واحتمال أن تكون لا تجد من يتزوجها فاحتسب فيها، ثم بعد ذلك إذا تزوج بها صارت على خلاف ما يريد، فأخذ يتذرع بالأعذار، وأخذ يتململ، وأخذ يتشكى، ثم بعد ذلك، أنا أقول: يا أخي لا تتمنى لقاء العدو، لكن لو قدر أنك أخذتها سليمة، ثم أصابها ما أصابها عندك، اصبر واحتسب، أما أن تذهب تبحث عن معيبة ثم بعد ذلك لا تصبر عليها، نعم هذا فيه ما فيه، أما إذا أصيبت عندك نعم، كنت أنت في وقت السعة تقول: والله أنا أبحث عن مريضة لأعالجها وأقوم عليها وكذا، ثم بعد ذلك لا تصبر على هذا، أنت الذي بحثت لنفسك عن هذا الأمر، لكن إذا أصيبت عندك اصبر واحتسب وعالج، وعلى كل حال ((إذا لقيتموهم فاصبروا)) {اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ} [(200) سورة آل عمران] كل هذا مأمور به، ولا يجوز للإنسان أن يفر، والفرار من الزحف من الموبقات، -نسأل الله السلامة والعافية- فلا بد من الصبر على العدو.

((واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)) يعني التحام المسلمين بالكفار بحيث إذا ارتفعت سيوف الجميع مع الالتصاق يكون لها ظل من كثرتها، فاقتحم، الجنة هنا يا أخي، ((الجنة تحت ظلال السيوف)) ثم قال النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو على صلة دائمة بربه: ((اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم)).

ليس للإنسان غنى من اللجوء إلى الله -جل وعلا-، فعليه أن يلجأ إلى ربه في كل شيء، في كل ما يريد، في كل صغير وفي كل كبير؛ لأنه إذا لم ييسر الله -جل وعلا- ما تيسر شيء، ولو كان من أيسر الأمور، ((اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً)) فعلى الإنسان أن يكون على صلة بربه دائمة.

((اللهم منزل الكتاب)) الدعاء بهذا الدعاء، الله -جل وعلا- أنزل الكتاب على نبيه، وتضمن نصره، وتضمن حفظه، وتضمن بقاءه، تكفل بهذا كله، لكن الإنسان يدعو بهذا الدعاء، مع أن الله -جل وعلا- تكفل بحفظه، الدين منصور، الكتاب منصور، الدين محفوظ، الكتاب محفوظ، الدين باقٍ إلى قيام الساعة، لكن ماذا عن أهل الدين؟ يعني ليس عندنا شك أن الدين باقٍ إلى قيام الساعة، وأنه لا تزال طائفة منصورة، لكن عنا، ماذا عنا حينما فرطنا، وحينما ضيعنا، وحينما تولينا عن الدين، وإلا لا خوف على الدين، الخوف المشكلة فيمن يفرط بهذا الدين.

((اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب)) يعني امتنيت علينا يا ربنا بهذا الكتاب العظيم الذي هو خير نعمة أنزلتها علينا، وأنزلت علينا نعمة الدنيا بإنزال المطر الذي ينشأ عنه الزرع والضرع، امتننت علينا بنعم الدنيا والآخرة، وهزمت أعداءنا، وطردتهم عنا، وتوليت وتكفلت بحفظنا، وكبت عدونا ((اهزمهم وانصرنا عليهم)) فإذا أراد الإنسان أن يدعو بشيء يقدم بمقدمات مناسبة، فإذا دعا يدعو يأتي بمقدمات، يصف الله -جل وعلا-، يمجد الله، يحمد الله، يعظم الله، ثم بعد ذلك يدعو بما شاء، نعم.

عن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها)).

نعم يقول المؤلف -رحمة الله عليه-:

"عن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((رباط يوم))" الرباط لزوم الثغور، هي الحدود التي بين المسلمين والأعداء، التي يخشى على المسلمين من مرور الأعداء من خلالها، الثغور، فالمرابطة في هذه الثغور من أفضل الأعمال، ومن خير ما يتقرب به إلى الله -جل وعلا-، فرباط يوم في سبيل الله، خير من الدنيا وما عليها، وابن المبارك الإمام المجاهد يقول: إذا أشكل على أحد أمر –يعني وإن كان من أهل العلم- فليسأل أهل الثغور، طيب أنت أشكل عليك مسألة علمية تسأل أهل الثغور؟ قد يكون أهل الثغور ما عندهم شيء من العلم مثلما عندك، يقول: لأن الله -جل وعلا- يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [(69) سورة العنكبوت] يقول: اسألوهم، تجدون الخير كله عندهم.

((رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها)) يوم واحد، وركعتا الصبح خير من الدنيا وما فيها، تكبيرة الإحرام خير من الدنيا وما فيها، طيب إذا كانت هذه الأمور اليسيرة خير من الدنيا ليش عامة المسلمين عموم المسلمين خاصتهم وعامتهم تعلقوا بالدنيا؟ هذه غفلة.

الناس في غفلة عما يراد بهم

 

 

كأنهم غنم في أيدي جزارِ

غفلة، ركعتين بدقيقتين خير من الدنيا وما فيها، من يعرف حقيقة الدنيا؟ يعرفها أهل الآخرة، يعرفها العباد، يعرفها الزهاد، يعرفها سعيد بن المسيب، لما خطبت ابنته لابن الخليفة للوليد بن عبد الملك، السفير الخطيب، الخطيب هذا الواسطة بينهما السفير بينهما يقول: يا سعيد جاءتك الدنيا بحذافيرها، ابن الخليفة يتزوج ابنتك، جاءتك الدنيا بحذافيرها، يقول: إيش الدنيا؟ إذا كانت الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة فماذا يقسم لي الخليفة من هذا الجناح؟ ويزوجها طالب لا يملك شيئاً البتة، لكنه يملك رأس المال الدين، هؤلاء الذين عرفوا حقيقة الدنيا، وعرفوا ما أعد الله لخلقه في الآخرة.

((رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها)) الشيء اليسير جداً من الجنة خير من الدنيا وما عليها ((والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة)) المسير في أول النهار أو في آخره ((خير من الدنيا وما عليها)) فعلينا أن ندرك حقيقة هذه الدنيا، وحقارة هذه الدنيا، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) وراوي الحديث ابن عمر يقول: "إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح" لأنك إذا تصورت الدنيا على حقيقتها عرفت كيف تتعامل مع نفسك، مع أهلك، مع جيرانك، مع ربك، مع الخلق، مع كل أحد، ومع ذلك يقول الله -جل وعلا-: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [(77) سورة القصص] نعم الإنسان الذي ينهمك فيما خلق له، قد يأتي وقت ينسى نصيبه من الدنيا الذي يعينه على تحقيق هدفه العبودية، قد ينسى لا يشعر بنفسه إلا..، قد يقول قائل: كيف الدنيا تنسى؟ الأكل والشرب؟ نعم ينسى الأكل والشرب، نعم؛ لأن هناك لذة ونعيم في الدنيا يعيشها أهل الفضل، العباد يعيشون عيشة ما يعيشها أحد ولا الملوك، يعني تصورون واحد ليلة الزواج دخل على الزوجة وبنى بها، تلك الليلة، دخل على زوجته فتذكر آية أشكلت عليه فنزل في المكتبة ومن تفسير إلى تفسير إلى أن أذن الفجر، هذا يحتاج أن نقول له: ولا تنس نصيبك من الدنيا، لكن عامة المسلمين اليوم حتى -نسأل الله المسامحة- من ينتسب إلى العلم بحاجة إلى أن يقال له: ولا تنس نصيبك من الآخرة، هذا الواقع، هذا واقعنا -نسأل الله السلامة والعافية- نسأل الله -جل وعلا- أن يلطف بنا.

((والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها)) ولنعلم جميعاً أن أبواب الجهاد كثيرة، يعني إذا لم يتح في وقت من الأوقات قتال العدو لضعف المسلمين، فجهاد النفس جهاد، السلف جاهدوا أنفسهم على قيام الليل، وعلى صيام الهواجر، وعلى اكتساب العلوم، وعلى اكتساب ما يقرب إلى الله -جل وعلا-، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم أبواب الجهاد، طلب العلم باب عظيم من أبواب الجهاد، فعلى الإنسان أن يسعى في هذه الأبواب عله أن يلحق بدرجات المجاهدين، ومع ذلك يتمنى الشهادة، وجاء في الحديث: ((من تمنى الشهادة بصدق بلغها ولو مات على فراشه)) والله أعلم.

 

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.