شرح كتاب الإيمان من صحيح مسلم (19)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد،
فيقول الإمام مسلم- رحمه الله تعالى- فيما ترجم عليه النووي بقوله: "باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من حمل علينا السلاح فليس منا»" يقول الإمام مسلم- رحمه الله تعالى-: "حدثنا زهير بن حرب ومحمد بن المثنى قالا: حدثنا يحيى وهو القطان ح وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو أسامة وابن نمير كلهم عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ح وحدثنا يحيى بن يحيى واللفظ له قال: قرأت على مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من حمل علينا السلاح فليس منا»"
هذا الحديث يرويه الإمام مسلم من طرق متعددة؛ فيرويه عن زهير بن حرب ومحمد بن المثنى يقول: قالا: حدثنا يحيى وهو القطان، ومر بنا مرارًا مثل هذا الأسلوب في قول:ه يحيى وهو القطان، ولم يقل: يحيى القطان، أو يعني القطان أولاً من زيادة تحريهم وتثبتهم في الرواية وورعهم فيها أنهم لا يزيدون في أنساب الشيوخ غير ما ذكره لهم شيوخهم، فشيخاه زهير بن حرب ومحمد بن المثنى قالا لمسلم: حدثنا يحيى ما قالا: القطان، فلم يقل: القطان؛ لأنه ما قيل له: يحيى القطان، وأراد أن ينسب هذا الشيخ لمن يقرأ في كتابه؛ لئلا يلتبس بيحيى بن سعيد أو غيره فقال: يحيى هو القطان أو وهو القطان، فهذا من ورعه وتحريه، وهذا كثير جدًّا في كتابه.
"ح وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة" والحاء هذه مرت بنا مرارًا، وهي كثيرة جدًّا في صحيح مسلم، والمراد بها والمقصود منها التحويل من إسناد إلى آخر.
"ح وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو أسامة" وهو حماد بن أسامة، "وابن نمير" محمد بن عبد الله بن نمير، كلهم كل هؤلاء الرواة الذين تقدموا "كلهم" يروون الحديث "عن عبيد الله" عن عبيد الله بن عمر بن عاصم بن عمر "عن نافع عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ح وحدثنا يحيى بن يحيى" ليست من عادة مسلم -رحمه الله- أن يأتي بالحاء بعد ذكر النبي -عليه الصلاة والسلام- لماذا؟ لأنها لا تفيد اختصارًا في الإسناد، وإنما وجودها في صحيح البخاري بكثرة، ولذلك يقول بعضهم: إنها ليست حاءً؛ لأنها لا فائدة فيها، وإنما هي خاء بالنسبة للبخاري، فيكون الإسناد رجع إلى البخاري الذي رمزه خ، وعلى كل حال الأمر سهل يعني ما فيه أثر يترتب على زيادة فائدة في الإسناد أو في المتن في مثل هذه الحاء.
"ح وحدثنا يحيى بن يحيى" وهو التميمي الثقة المعروف. وراوي الموطأ يحيى بن يحيى الليثي، ليس من رواة الكتب الستة، يحيى بن يحيى راوي الموطأ ليس من رواة الكتب الستة فيميَّز بينه وبين الذي معنا. "واللفظ له" إذا كان اللفظ له، فمن تقدم من هؤلاء لهم ماذا؟ المعنى إذا كان اللفظ لواحد من الرواة، فبقية الرواة لهم المعنى، ولو شاركه أحدهم اللفظ لما خصه بقوله واللفظ له.
"قال: قرأت على مالك" نعم مالك يُقرأ عليه ولا يَقرأ على أحد، مالك يُقرأ عليه ولا يَقرأ على أحد، ولذلك لا يُروى عنه بصيغة التحديث إلا نادرًا جدًّا؛ لأنه لا يقرأ على أحد، والمناسب في صيغة الأداء بالنسبة لمن روى بالعرض الذي هو القراءة كما عندنا قال: قرأت على مالك عن نافع، الأصل أن يقول: أخبرنا لو لم يقل: قرأت على مالك فيقول: أخبرنا مالك؛ لأن هذه الصيغة المناسبة للعرض.
"قال: قرأت على مالك عن نافع عن ابن عمر" مالك عن نافع عن ابن عمر هذا الإسناد موصوف بأنه أصح الأسانيد عند الإمام البخاري "عن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم-" نافع هو مولى ابن عمر، وابن عمر عبد الله بن عمر العابد الناسك الصحابي الجليل، "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من حمل علينا السلاح فليس منا، من حمل علينا السلاح فليس منا»" يحمل السلاح يريد به القتال وهو واضح من قوله: علينا، قد يحمل السلاح ولا يريد قتالاً، ولكن ما يقال: حمله علينا، فليس منا. العلماء يختلفون في مثل هذا؛ لأن ظاهر اللفظ يقتضي خروجه من ملة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولكن هذا اللفظ بالنسبة لمن لم يستحل قتال المسلمين غير مراد بالإجماع، بإجماع أهل السنة، فإذا حمله مستحلًّا لقتال المسلمين هذا يكفر بالاتفاق، وأما من حمله باغيًا أو متأولاً غير مستبيح لدماء المسلمين أو لشهوة أو دنيا فإن هذا لا يكفر.
«فليس منا» منهم من يقول: هذا من نصوص الوعيد التي تُترَك من غير تأويل ولا تفسير؛ لأنها أوقع في النفوس وأزجر، ومنهم من يقول: «ليس منا» ليس على هدينا وسنتنا هذا بالنسبة لغير المستحل، والقرطبي في شرحه لمختصره على صحيح مسلم يقول: من حمل علينا يعني على النبي -صلى الله عليه وسلم-، يعني من حمل السلاح على النبي -عليه الصلاة والسلام- على كلامه يكفر، وهذا ما رأيته لغير القرطبي ولا شك أن حمل السلاح على النبي -عليه الصلاة والسلام- من عظائم الأمور، ومن الذي يتوجه يعني القول بأنه يكفر؛ لأنه لا يقاتله لشحناء ولا لدنيا ولا لشيء إنما يقاتله مخالفًا لدينه، وما فيه شك أن ما يتعلق به -عليه الصلاة والسلام- أمره أعظم وأشد مما يتعلق بغيره، ولذا قيل: وهو قول الجويني والد إمام الحرمين إن من كذب على النبي -عليه الصلاة والسلام- متعمدًا يكفر بخلاف من كذب على غيره، والجمهور على أنه لا يكفر ولو كذب على النبي -عليه الصلاة والسلام- متعمدًا، لكن لا شك أنه ارتكب موبقة من الموبقات، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: «من كذب علَيَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار».
ثم قال -رحمه الله-: يعني من حمل علينا السلاح، هذا المقصود به عند أهل العلم من حمله بغير حق، يعني من أراد قتل مسلم بغير حق، أما من أراد قتله وحمل السلاح عليه لقصاص أو شبهه فإنه حتى دفاعًا عن نفسه لا يستحق هذا الوعيد.
قال: "حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير قالا: حدثنا مصعب وهو ابن المقدام قال: حدثنا عكرمة بن عمار عن.. قال حدثنا عكرمة بن عمار عن إياس بن سلمة عن أبيه" ابن الأكوع "عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من سَلَّ علينا السيف فليس منا»"، وهو بمعنا ما تقدم حمله مريدًا به القتال، ولا يتأتى القتال إلا بعد سَلّه وإخراجه من غمده، أما مجرد حمله وهو باقٍ في غمده لا يخرجه فلا يدخل في الوعيد، وإن كان فيه إخافة وإراعة للمسلمين، وله وعيده الخاص، وحمل السلاح في مواطن اجتماع الناس في المساجد ونحوها بحيث يتسبب منه الضرر، ولو كان غير مقصود هذا أيضًا جاء النهي عنه.
ثم قال: "حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعبد الله بن براد الأشعري وأبو كريب قالوا: حدثنا أبو أسامة عن بريد عن أبي بردة" بريد بن أبي بردة "عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري، عبد الله بن قيس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من حمل علينا السلاح فليس منا»" أبو كريب اسمه محمد بن العلاء، وأبو أسامة تقدم في الحديث السابق حماد بن أسامة، وأبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري الصحابي الشهير، وأبو بردة اسمه عامر قال: «من حمل علينا السلاح فليس منا» وهذا تقدم.
ثم قال فيما ترجم عليه النووي: "باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من غشنا فليس منا»" ومراد الإمام مسلم من إيراد هذه النصوص المشتملة على الوعيد الشديد أن هذه النصوص مؤوَّلة بما يوافق النصوص الأخرى، وأن من ارتكب مثل هذه الكبائر أنه لا يخرج من الملة إلا إذا استحل ذلك عند عامة من يعتد بقوله من أهل السنة والجماعة.
"حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا يعقوب وهو ابن عبد الرحمن القاري" هو مثل ما قيل في السابق في الحديث السابق قال هنا: "ح وحدثنا أبو الأحوص محمد بن حيان قال: حدثنا ابن أبي حازم" قال حدثنا ابن أبي حازم، هو عبد العزيز بن أبي حازم، وأبو حازم اسمه سلمة بن دينار الذي يروي هنا عن أبي هريرة.
و.. عندنا في الحديث يرويه أبو حازم "عن سهيل... قال حدثنا ابن أبي حازم كلاهما عن سهيل وأبي صالح عن أبيه" أبو صالح السمان اسمه ذكوان "عن أبي هريرة" وابن أبي حازم عبد العزيز بن سلمة بن دينار؛ لأن عندنا أبا حازم اثنان الذي يروي عن أبي هريرة سلمة بن دينار، والذي يروي عن أبي موسى سلمان الأغر مولى عزة، قال عن أبيه "عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من حمل علينا السلاح فليس منا»" هذا تقدم الكلام فيه «ومن غشنا فليس منا من غشنا فليس منا» وسيأتي في سبب ورود هذا الحديث في الرواية اللاحقة من حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر على صبرة طعام، فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً، رطوبة، فقال: «ما هذا يا صاحب الطعام؟!» قال: أصابته السماء، يعني المطر يا رسول الله، قال: «أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟! من غش فليس مني».
"قال: وحدثني يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد وابن حجر جميعًا عن إسماعيل بن جعفر قال: قال ابن أيوب: حدثنا إسماعيل قال: أخبرني العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر على صبرة" صبرة طعام، مر يعني في السوق محل البيع والشراء، فلا ضير ولا مانع من أن يغشى الأسواق علية القوم وسيدهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل السوق ومر على هذه الصبرة، ومروره إما أن يكون متفقدًا لأحوال الناس ومعاملاتهم، أو ليقضي حاجة من حاجاته، ولا ضير في ذلك كله أن يتولى الإنسان أعماله بنفسه، لكن إن كانت تعوقه عما هو أهم فكونه يوكل عليها أحسن تحصيلاً للأهم، والنبي -عليه الصلاة والسلام- وهو أشرف الخلق سيدهم وإمامهم مقدمهم وأتقاهم وأعلمهم بالله مر على هذه الصبرة وهي في السوق.
الصبرة: الكومة من الطعام، طعام مركوم بعضه على بعض، الغالب أنه إما تمر وإما قمح أو ما أشبهه، ولا شك أن التمر يؤثر فيه البلل والرطوبة، وكذلك القمح والحبوب عمومًا إذا أصابها البلل وما نشرت وجففت من هذا البلل أنها تعفن وتفسد.
"مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها" اختبار، يختبر، أو شك، أو ظهر لديه قرائن أو علامات فأراد أن يختبر هذا "فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً" يعني رطوبة "فقال: «ما هذا يا صاحب الطعام؟! ما هذا يا صاحب الطعام؟!» قال: أصابته السماء" يعني المطر.
إذا نزل السماء بأرض قوم |
|
رعيناه وإن كانوا غضابًا |
إذا نزل السماء يعني المطر، فهذا التمر أو الطعام نزل عليه شيء من المطر وأصابه هذا البلل قال: "أصابته السماء يا رسول الله، قال: «أفلا جعلته فوق الطعام؟!»" من أجل ماذا؟ أن يراه المشتري ويقدم على شرائه على بيِّنة، أما إذا كان في الأسفل فقد يقدم على الشراء باعتبار أنه لا بلل فيه، ثم بعد ذلك يتبين أنه معيب، وهذا غش بلا شك، ومن المؤسف جدًّا أن أسواق المسلمين تعج بمثل هذا وما هو أشد منه، تجد مثلاً الفواكه والخضروات يؤتى بها في الصناديق تجد الطبقة الأولى من أحسن ما يكون، ثم إذا نزلت وجدت الرديء، والنَّص «من غشنا فليس منا» أو "«من غش فليس مني»"، لكن الطمع غطى على قلوب الناس وعلى عقولهم، الدنيا كلها ما.. يعني أين هذا مما بايع عليه الصحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من النصح لكل مسلم؟ وهذا يغطي الرديء ويظهر الجيِّد، وجرير بن عبد الله البجلي عندما أراد أن يشتري يشتري فرسًا رآه مع صاحبه فقال: تبيع الفرس؟ قال: نعم، قال: بكم؟ قال: بثلاثمائة، قال: اشتريت، لكن فرسك يسوى أكثر، قال: بأربعمائة، قال: اشتريت، لكن الفرس يسوى أكثر، إلى أن أوصله إلى ثمانمائة، يعني بُعد المسلمين عن هذا الواقع الذي عاشه الصحابة وبايعوا عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- لو يحصل من واحد اليوم ماذا يقال عنه؟ قال: خبل، مغفَّل، كل هذا سببه البُعد عن دين الله، وعن تعلمه، والعمل به، وتطبيقه.
أصابته السماء يا رسول الله، قال: "«أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟! من غش فليس مني»" هذا البلل أحيانًا يكون يسيرًا لا يؤثر في الطعام، وأحيانًا يكون كثيرًا، لا شك أنه إذا كان مؤثرًا يكون عيبًا فإنه يرد به، وإذا كان يسيرًا لا يؤثر، وتعارف الناس على تجاوزه سواء كان بللًا أو غير بلل مما يحصل في البيوعات من الغرر اليسير الذي يمكن أن يتجاوز وإذا رآه الإنسان ما أثر فيه ولا منعه من استعماله فإن الغرر اليسير معفو عنه، لكن مع ذلك النصح يقتضي أن يبيَّن كل شيء بدقة وبوضوح.
قال: "«من غش فليس مني»" تستعمل هذه العبارة كثيرًا في الامتحانات إذا نظر أو شخص ساعد زميله في الإجابة قالوا: غش، أو نظر في ورقة زميله فقال: غش، هل هذا غش أو خيانة بالمعنى الأعم؟ وكون هذا الشخص الذي أعطى زميله هذه المعلومات التي لا يعرفها ونجح بسببها هذا غش للأمة عموًما، لكن بالنسبة لهذا الشخص لا شك أنها خيانة، هذا الشخص هو المتضرر الأول وإن نجح في الامتحان. على كل حال هم يستعملونها وسواء كانت غشًّا أو خيانة كلاهما مما جاء الشرع بتحريمه إذا وُجِد مثل هذه المعاملات في الأسواق وجد هذا الغش وكثر في الناس، ماذا يصنع مع هذا الغاش وفي سلعته؟ منهم من يقول: هذه السلعة تُتْلَف، تُتْلَف، من العلماء من يقول: تُتْلَف السلعة، ومنهم من يقول: يتصدق بها تفوت على صاحبها الغاش، وأكثر أهل العلم على أنها تبقى لصاحبها وعليه الوعيد الشديد وإن رأى الإمام تعزيره بما يناسب جريمته فعل.
ثم قال -رحمه الله تعالى- فيما ترجم عليه النووي بقوله: "باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية"
قال -رحمه الله-: "حدثنا يحيى بن يحيى قال: أخبرنا أبو معاوية" وهو الضرير "محمد بن خازم ح وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو معاوية" يحيى بن يحيى قال: أخبرنا أبو معاوية. ابن أبي شيبة قال: حدثنا أبو معاوية، ومسلم ممن يفرِّق بين صيغ الأداء فلا يقول أخبرنا إلا فيما كان طريقه.. طريق التحمل فيه العرض وصيغة التحديث حين يقول: حدثنا فيما يكون طريقه السماع من لفظ الشيخ.
"قال: حدثنا أبو معاوية ووكيع ح وحدثنا ابن نمير قال: حدثنا أَبِيْ" محمد بن عبد الله بن نمير قال: حدثنا أَبِيْ عبد الله بن نمير، "جميعًا عن الأعمش" سليمان بن مهران، "عن عبد الله بن مرة عن مسروق" التابعي الجليل ابن الأجدع، "عن عبد الله" بن مسعود ابن أم عبد "قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ليس منا من ضرب الخدود»" يعني عند المصائب "«ضرب الخدود أو شق الجيوب أو دعا بدعوى الجاهلية»".
«ليس منا» وهذا هو الشاهد من الحديث «ليس منا» ويقال فيه ما قيل في الأحاديث السابقة من أنه إن فعل ذلك مستحلاًّ له فإنه ليس من ملتنا، ويخرج بذلك من الملة، وإن فعل ذلك غير مستحل له فالتأويل الذي تقدم «ليس منا من ضرب الخدود أو شق الجيوب» إذا وجدت المصيبة وغُلب الإنسان على عقله تجده يتصرف تصرفات من هذا النوع، إما أن يلطم نفسه، أو يقطع شعره، أو يشق جيبه وثوبه، أو دعا بدعوى الجاهلية، بعض الناس إذا غضب أو أصيب بشيء لا يحتمله ولم يوطن نفسه عليه ولم يخطم نفسه بخطام الشرع، تجده يغلب على عقله.
والأصل أن المسلم ينقاد للأوامر والنواهي، ما يضيع نفسه، حتى إذا جاءت المواقف الصعبة قال: أنا ما قدرت، لا، مرن نفسك واعمل بما جاءك عن الله وعن رسوله -عليه الصلاة والسلام-، ثم بعد ذلك ما يحصل منك المخالفات في هذه المضايق، وتعرف على الله في الرخاء، مرن نفسك؛ العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، أما الإنسان في وقته وعمره سبهللاً وضياع ثم يريد أن يحفظ في أوقات الشدائد ما يصير هذا، الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: «تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة»؛ لئلا يقول قائل: إن مثل هؤلاء الرسول يقول: «ليس منا» يقول: كثير منهم شبه مجنون إذا حلت به المصيبة، فكيف يكلف وهو بمثل هذه الحالة؟ هو من الأصل ما وطن نفسه، ولا ربى نفسه تربية شرعية.
وكثير من الناس إذا تكلم تجد طالب علم ويتكلم في المناسبات وكذا وكذا ويصبر الناس، لكن إذا أصيب بنفسه أو بولده نسي كل هذا. فاليقين في مثل هذه المواطن يضعف، وقد ينتهي، أنا أعرف طالب علم توفي -رحمة الله عليه- طالب علم أصيب بالسرطان فعولج وشفي، ثم أصيب مرة ثانية وعولج وشفي، قال له الأطباء: إن جاءتك ثالثة فما فيه أمل وهو يكلمني يقول: لما أصبت بالمرة الثالثة ما أدري هل أنا فوق الأرض أو تحت الأرض، شقيت ثوبي، ونزلت شعري، وضربت وجهي، كل شيء حصل لماذا؟ لأنه في أوقات الرخاء ما مرن نفسه على مثل هذه الأمور والله المستعان، ولذلك مثل هؤلاء تجد حياتهم نكدًا إذا أصيب بأدنى إصابة استحضر أسوأ الاحتمالات، لو يصاب بصداع قال: يمكن ورم، هذا موجود بين الناس وسببه الهلع والجزع.
«ليس منا من ضرب الخدود أو شق الجيوب» الجيب في القميص الذي يخرج منه الرأس. «أو دعا بدعوى الجاهلية» دعاوي الجاهلية من النياحة والصياح ورفع الأصوات والنعي وما أشبه ذلك، كل هذا محرَّم.
قال -رحمه الله-: "هذا حديث يحيى" يحيى بن يحيى، "وأما ابن نمير وأبو بكر فقالا: وشق ودعا" في رواية يحيى: «ليس منا من ضرب الخدود أو شق الجيوب أو دعا بدعوى الجاهلية» أو في الموضعين، ورواية غير يحيى بن يحيى "بغير ألف" بالواو يعني وليست (أو) مع أن (أو) تأتي بمعنى (و) إذا لم يحصل اللبس كما قال ابن مالك في الألفية، وعلى كل حال هذا من دقتهم، يعني لو ضرب الخد من غير أن يشق الجيب أو يدعو بدعوى الجاهلية يحصل عليه الوعيد ليس منا أم ما يحصل؟ يقول: (أو) وفي الرواية الثانية: (و) ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا لا بد أن تجتمع الثلاثة؟
طالب: ............
نعم، لكن الحروف ينوب بعضها عن بعض، وربما عاقبت الواو كما يقول ابن مالك يعني أو.
خير أبح قسم بأو وأبهم |
|
...... وإضراب بها أيضًا نمى |
وربما عاقبت الواو |
|
........................................ |
يعني جاءت بمعنى الواو، على كل حال المعنى لا يختلف، لكن هذا من دقة الرواة وتحريهم. قال -رحمه الله-: "وحدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا جرير" قال: حدثنا جرير "ح وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وعلي بن خشرم قالا: حدثنا عيسى بن يونس جميعًا عن الأعمش بهذا الإسناد وقالا: «وشق ودعا»" يعني كرواية الجماعة ثم قال: "حدثنا الحكم بن موسى القنطري قال: حدثنا يحيى بن حمزة عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر أن القاسم بن مخيمرة حدثه قال: حدثني أبو بردة بن أبي موسى" أبو بردة بنُ أبي موسى.
"قال: وجع أبو موسى وجعًا فغشي عليه" وجع أبو موسى وجعًا يعني شديدًا، فغشي عليه يعني أغمي عليه، "ورأسه في حَجر امرأة" حَجر بفتح الحاء وكسرها حَجر وحِجر، "ورأسه في حجر امرأة" في حجر امرأة "من أهله، فصاحت امرأة من أهله" في حجر امرأةٍ فصاحت امرأةٌ النكرة إذا أعيد نكرة فهي غيرها بخلاف ما إذا أعيدت معرفة لو قال: في حجر امرأة من أهله فصاحت المرأة، صارت هي نفسها، لكن فصاحت امرأة يعني غيرها من أهله.
"فلم يستطع أن يرد عليها شيئًا" المغمى عليه لا يستطيع أن يرد ولا يتكلم ولا كذا، لكنه يسمع في بعض الحالات يسمع، ولذا في أكثر من واقعة تقرر الوفاة الدماغية، ثم يصحو هذا الذي حكم عليه بهذه الوفاة ويذكر شيئًا مما حصل له أثناء الإغماء، يذكر شيئًا من ذلك، ولذلك ما يحكم بوفاته بمجرد وفاة الدماغ حتى يفارق أو تفارق روحه جسده، حينئذٍ يحكم بوفاته.
"فلم يستطع أن يرد عليها شيئًا، فلما أفاق قال: أنا بريء" دل على أنه سمع ما قيل، سمع الصياح، "فلما أفاق قال: أنا بريء مما برئ منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برئ من الصالقة" التي ترفع صوتها عند حلول المصيبة، وقد تقال بالسين فيقال: صلق رفع صوته كما يقال: سلق، والسين والصاد ينوب بعضها عن بعض كما قيل في الصراط وغيره. "من الصالقة والحالقة" وهي التي تحلق شعرها عند المصيبة، "والشاقة" التي تشق ثوبها.
ثم قال: "حدثنا عبد بن حميد وإسحاق بن منصور قالا: أخبرنا جعفر بن عون قال: أخبرنا أبو عميس" عتبة بن عبد الله بن عتبة بن مسعود "قال: سمعت أبا صخرة" واسمه جامع بن شداد "يذكر عن عبد الرحمن بن يزيد وأبي بردة بن أبي موسى قالا: أغمي على أبي موسى وأقبلت امرأته أم عبد الله" أبو موسى اسمه عبد الله بن قيس الأشعري، أقبلت امرأته أم عبد الله "تصيح"، وعبد الله ابنها هذا يحتمل أن يكون منه أو من غيره، ولا إشكال أن يسمى عبد الله على أبيه، أو يكون من غيره من زوج سابق.
"وأقبلت امرأته أم عبد الله تصيح برنَّةٍ" صوت مع بكاء حزن برنة، قالا: "ثم أفاق قال :ألم تعلمي وكان يحدثها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" يعني قال لها ذلك قبل "ألم تعلمي وكان يحدثها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «أنا بريء ممن حلق وسلق وخرق»" حلق الشعر، سلق يعني رفع صوته، وخرق الثوب.
قال: "حدثنا عبد الله بن مطيع قال: حدثنا هشيم بن بشير الواسطي عن حصين عن عياض الأشعري عن امرأة أبي موسى" عن امرأة أبي موسى "عن أبي موسى هي تروي عنه "عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ح وحدثنيه حجاج بن الشاعر قال: حدثنا عبد الصمد" وحدثنيه حجاج بن الشاعر قالك حدثنا عبد الصمد "قال: حدثني أبي حدثنا داود" يعني ابن أبي هند "قال: حدثنا عاصم عن صفوان بن مُحرز عن أبي موسى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ح وحدثني الحسن بن علي الحلواني قال: حدثنا عبد الصمد قال: أخبرنا شعبة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش" بالحاء المهملة، هذا اسمه في جميع كتب الطبقات والتراجم، وسماه المنذري في مختصر أبي داود خِراش قال: بالخاء المعجمة مخالفًا في ذلك جميع أهل العلم.
"عن ربعي بن حراش عن أبي موسى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا الحديث غير أن في حديث عياض الأشعري «ليس منا» ولم يقل «بريء»" المعنى يختلف والا واحد؟ ليس منا من فعل كذا وكذا أو برئ النبي -صلى الله عليه وسلم- من فعل كذا وكذا، الفرق بينهما أن «ليس منا» من قوله -عليه الصلاة والسلام-، وقول "برئ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو برئ" أو قال هنا قوله: "أنا بريء" يعني ما يختلف عن قوله: "ليس منا" بخلاف ما لو قال الصحابي: برئ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كذا وكذا، مع أنه في الحقيقة والواقع لا اختلاف، نظير ما قيل في قول الصحابي: أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكذا، أو نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن كذا، لا يختلف عن قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: افعلوا كذا، وعن قوله -عليه الصلاة والسلام-: لا تفعلوا كذا فسواء كذا النهي من لفظه -عليه الصلاة والسلام- أو من تعبير الصحابي عن قوله -صلى الله عليه وسلم-.
خلافًا لمن قال: إن هذا لا يفيد لا أمرًا ولا نهيًا، لا بد أن يسوق اللفظ النبوي، لا بد أن يسوق الصحابي اللفظ النبوي؛ لأنه قد يسمع كلامًا يظنه أمرًا أو نهيًا وهو في الحقيقة ليس بأمر ولا نهي، هذا منسوب لداود الظاهري وبعض المتكلمين، لكنه ليس بشيء يعني قوله: أنا بريء، أو ليس منا، أو برئ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قول الصحابي أنا بريء في مثل هذا الحديث أو «أنا بريء ممن يقيم بين ظهراني المشركين» وقوله:
وقد برئ المعصوم من كل مسلم |
|
يقيم بدار الكفر غير مصارم |
على كل حال القول المنسوب لداود الظاهري وبعض المتكلمين إن قول الصحابي: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس بحجة ولا يفيد الأمر والنهي حتى ينقل اللفظ النبوي، هذا قول مردود على قائله وليس بشيء؛ لأن الصحابة أعرف الناس بمدلولات الألفاظ الشرعية؛ لأنهم عايشوا الرسول وعاصروه وخالطوه وسمعوه، وهم من أعرف الناس بلغة العرب وأساليبها، فإذا لم يعرف الصحابة مدلولات الألفاظ النبوية فمن يعرفها؟ ما فيه أحد يعرف المدلولات كما يعرفها من خالط الرسول -عليه الصلاة والسلام-، ثم يأتي من يأتي في العصور المتأخرة ممن لم يحفظ عن النبي -عليه الصلاة والسلام- ولا عشرة أحاديث، ويفسر النصوص بمزاجه وبفهمه، وإذا قيل له: هذا فهم الشيخ الفلاني أو العالم الفلاني أو الإمام الفلاني قال: هم رجال ونحن رجال، كلنا عرب نفهم الكلام.
الآن يطرح مثل هذا بقوة، حتى وجد من يشكك في الدين جملة بحجة أن الدين بفهم من؟ كل له فهمه مثل هذا الكلام يقبل؟! والله ما يقبله إلا زائغ -نسأل الله العافية-، ولا يتفوه به إلا زنديق يقول: الدين بفهم من؟ أنا سمعته في بعض القنوات يقول: الدين بفهم من؟ مليون فهم للإسلام، المشكلة أنها عجوز امرأة تقول هذا الكلام ومثل هذه الشبهات، تلقى على عواهنها في القنوات، ويتلقفها الناس والمغرضون وأصحاب الأهواء يروجون لها، وتدخل بيوت العوام من غير أن يبيَّن لهم حقيقة الحال، ونسمع وسمعنا من بعض أذناب المستشرقين من تأوَّل النصوص على غير وجهها، وضل بذلك وأضل غيره، والله المستعان.
كم باقٍ؟
طالب: ..........
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك...