شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (196)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك علي عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أيها الإخوة والأخوات، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأهلًا بكم إلى حلقة جديدة في برنامجكم شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، في بداية حلقتنا يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلًا ومرحبًا بك فضيلة الدكتور.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: لازلنا في حديث سلمة بن الأكوع –رضي الله عنه- وفي باب إثم من كذب على النبي –صلى الله عليه وسلم- وأسلفنا الحديث عن حديث عليِّ في حلقات، وأيضًا قد بدأنا بحديث سلمة، ولا زال الحديث متصلًا حول هذا الموضوع، أحسن الله إليكم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المقدم: عليه الصلاة والسلام.

 أما بعد، فقد مضى الحديث على قوله –عليه الصلاة والسلام-: «من يقل علي ما لم أقل»، وشرعنا في الكلام على قوله «فليتبوأ» وقلنا إن معنى «فليتبوأ»..

المقدم: نعم.

أي فليتخذ لنفسه منزلًا، يقال: تبوأ الرجل المكان إذا اتخذه سكنًا، وهو أمر بمعنى الخبر أيضًا، أو بمعنى التهديد، أو بمعنى التهكم، أو دعاء على فاعل ذلك، أي بوأه الله ذلك، يقول الكرماني: «فليتبوأ» بكسر اللام هو الأصل، وبالسكون على المشهور، والتبوء؛ اتخاذ المباءة؛ أي المنزل، قالوا: تبوأ الرجل المكان إذا اتخذه موضعًا لمقامه، ومنه أيضًا الباءة؛ وهي..

المقدم: الزواج.

الزواج وما يتعلق به والقدرة عليه؛ لأنه مأخوذ من المباءة، وهي المرأة؛ لأن المتزوج يبوء هذه المرأة منزلًا ويتخذ لها مكانًا لا بد من ذلك، قال الجوهري: تبوأت منزلًا أي نزلته، وقال الخطابي: «فليتبوأ» أمر ومعناه خبر يريد أن الله -عز وجل- يبوأه مقعدًا من النار، يقال: تبوأ الرجل المكان إذا اتخذه موضعًا لمقامه، وأصله من مباءة الإبل وهي أعطانها، وهي أعطانها، والمقصود أن المباءة هي المنزل سواء كانت للإبل أو لغيرها.

قال ابن بطال: إن قيل معنى قول الرسول –صلى الله عليه وسلم-: «فليتبوأ مقعده من النار» أهو إلى الكاذب؟ يتبوأ بتبوء بمقعده من النار فيؤمر بذلك، أم ذلك إلى الله؟ يعني هل هذا الأمر للكاذب يقال له: انظر مكانك من النار، واتخذه منزلًا، أو أن الله -جل وعلا- هو الذي يبوئه المكان؟ يقول: فإن كان ذلك إليه، يعني إلى الكاذب فلا شك أنه لا يُبَوِّئ نفسه ذلك، وله إلى تركه سبيل.

 وإن يكن ذلك إلى الله -جل وعلا-، فكيف أمر بتبوء المقعد، وأمرُ العبدِ بما لا سبيل إليه غَيْرُ جائز؟ يعني إذا كان الأمر إلى الله -جل وعلا-، إن كان الأمر إلى العبد الكاذب، فلا يمكن أن يبوِّئ لنفسه مكانًا وله إلى تركه سبيل في النار، لا يمكن، وإن كان الأمر ليس للعبد، وإنما هو لله -جل وعلا-، فكيف يؤمر العبد بما ليس إليه؟ يقول: وإن يكن ذلك إلى الله، فكيف أمر بتبوؤ المقعد، وأمرُ العبدِ بما لا سبيل إليه غَيْرُ جائز؟ يعني الأمر إلى الله -جل وعلا-، هو الذي يبوئه، فكيف يؤمر بالتبوء؟ هذا كلام ابن بطال، قيل: معنى ذلك غير ما ذُكر يعني ليس المراد به الأمر، بل هو بمعنى الدعاء منه –عليه السلام- على من كذب عليه؛ فكأنه قال: «مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتعمدًا بَوَّأَهُ اللهُ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّار»، ثم أخرج الدعاء عليه مخرج الأمر له به، وذلك كثير في كلام العرب.

لا شك أن الدعاء يأتي بلفظ الأمر، ويأتي بلفظ النهي، اللام هذه لام الأمر «فليتبوأ»، الدعاء يأتي بلفظ الأمر، ويأتي بلفظ النهي، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} [آل عمران:147] هذا دعاء وبلفظ الأمر.

المقدم: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا} [البقرة:286].

{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا} هذا نهي، وهو دعاء، لكن الملاحظ هنا هل الأمر متجه إلى المدعو، أو إلى المدعو عليه؟ إذا قلنا: ربنا لا تؤاخذنا.

المقدم: الأمر هنا متجه إلى المدعو.

المدعو، اغفر لنا، وارحمنا إلى المدعو، لكن هنا يقولون: معناه الدعاء «فليتبوأ».

المقدم: هذا متجه إلى المدعو عليه.

المدعو عليه، فهل يتجه مثل هذا؟ يعني إذا قلنا: إن الأدعية جلها بلفظ الأمر والنهي، وقد يأتي الدعاء بلفظ الخبر، لكن مجيئه على لفظ الأمر والنهي، معروف أنه أمر من هو أرفع..، أمر من هو أرفع رتبة دعاء.

المقدم: نعم.

وهذا هو المعروف بالنسبة للأوامر والنواهي التي هي المقصود منها الدعاء، على ما مثّلنا، لكن هنا الأمر المدعو عليه «فليتبوأ» هل يمكن أن يطرد في مثل هذا الباب، أو لا؟ هو ليس من الباب الذي ذكرناه؛ لأن الأمر والنهي متجه إلى المدعو، ولا يراد به الأمر والنهي، بل يُراد منه الدعاء.

 يقول: هو بمعنى الدعاء منه –عليه السلام- على من كذب عليه، فكأنه قال: «مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتعمدًا بَوَّأَهُ اللهُ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّار»، «بَوَّأَهُ اللهُ»، والأمر هنا «فليتبوأ» متجه إلى المدعو عليه وهو الكاذب، ثم أخرج الدعاء عليه مخرج الأمر له به، وذلك كثير في كلام العرب.

أما الدعاء وإن كان يُلحظ منه شيء من هذا، لكن الصيغة لا تساعد، قد يأتي الأمر ويُراد به الخبر، فيكون بوَّأه الله مقعده من النار، فليتبوأ، يأتي الأمر ويقصد منه الخبر، كما أن الخبر يأتي ويُراد به الأمر {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة:228]، هذا خبر، لكن المقصود به..

المقدم: الأمر.

الأمر، وهذا الباب واسع في لغة العرب.

فإن قيل: ذلك عامٌّ -كلام ابن بطال- فإن قيل: ذلك عامٌّ في كل كذاب في أمر الدين، وغيره أو في بعض الأمور؟ قيل: قد اختلف السلف في ذلك، فقال بعضهم: معناه الخصوص، والمراد: من كذب عليه في الدين، فنسب إليه تحريم حلال، أو تحليل حرام متعمدًا، وقال آخرون: بل كان ذلك منه –عليه السلام- في رجل بعينه كذب عليه في حياته.

لكن عموم اللفظ يقتضي جميع من كذب؛ لأن (من) من صيغ العموم، جميع من كذب –عليه الصلاة والسلام- كما أنه يتناول جميع أنواع الكذب، سواءًا كان في أمور الدين، أو في أمور الدنيا، وإن صح الخبر الذي هو سبب الورود فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولذا اتقى الصحابة كالزبير وأنس التحديث عن النبي– عليه الصلاة والسلام-؛ مخافة من هذا الحديث، وقال آخرون: ذلك عام فيمن تعمد عليه كذبًا في دين أو دنيا، واحتجوا بتهيب الزبير وأنس كثرة الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولو كان ذلك في شخص بعينه لم يكن لاتقائهم ما اتقوا من ذلك، ولا لحذرهم ما حذروا من الزلل في الرواية والخطأ وجه مفهوم.

يعني لما اتقوا، وامتنعوا من التحديث من أجل هذا الحديث؛ يمكن أن يقال لهم هذا الحديث في شخص كذب عن النبي –عليه الصلاة والسلام- وانتهى، لكنهم فهموا العموم وهو الجادة؛ لأن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، وهذه القاعدة مطردة عند أهل العلم، بعضهم ينقل عليه الاتفاق، والصواب في ذلك أن قوله على العموم في كل من تعمد عليه كذبًا في دين أو دنيا؛ لأنه –عليه السلام- كان ينهى عن معاني الكذب كلها، كان –عليه الصلاة والسلام- ينهى عن معاني الكذب كلها، إلا ما رخَّص فيه من كذب الرجل لامرأته، وكذلك في الحرب، والإصلاح بين الناس، وإذا كان الكذب لا يصلح في شيء إلا في هذه الثلاث.

كذب الرجل لامرأته، وفي الحرب، والإصلاح، وإذا كان الكذب لا يصلح في شيء إلا في هذه الثلاث، فالكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجدر ألا يصلح في دين ولا دنيا، يعني إذا كان الكذب على زيد من الناس حرام في أمر الدنيا، فكيف بالكذب عليه –عليه الصلاة والسلام-؟!

فالكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجدر ألا يصلح في دين ولا دنيا، إذْ كان الكذب عليه ليس كالكذب على غيره، وأن الدعاء الذي دعا على من كذب عليه، لاحق بمن كذب عليه في كل شيء، هذا إذا سلمنا أنه دعاء، وإذا قلنا: إنه خبر، فالخبر ثابت في حق كل من كذب عليه –عليه الصلاة والسلام-، قال ابن حجر: دل قوله -صلى الله عليه وسلم-: «فليتبوأ» على طول الإقامة فيها، دل قوله «فليتبوأ» يعني ليتخذ مباءة، منزل، «فليتبوأ» يقول ابن حجر: يدل على طول الإقامة فيها، بل ظاهره أنه لا يخرج منها.

ظاهره أنه لا يخرج منها، ولعله بهذا الظاهر تمسك من يقول بكفر من تعمد الكذب على النبي –عليه الصلاة والسلام-، كوالد إمام الحرمين على ما تقدم ذكره، وابن الجوزي في التحليل والتحريم، ومنهم من يوجه كلام ابن الجوزي وقبله كلام الجويني، بأن من وضع وكذب على النبي –عليه الصلاة والسلام- حديثًا يحلل به حرامًا، ويحرم به حلالًا، مقتضاه أنه يستحل بهذا، هذا المحرم ويحرم هذا الحلال، والذي يستحل المحرم، أو يحرم الحلال عند أهل العلم لاسيما المجمع عليها يكفر، لو قال أحدهم: إن الخبز حرام، أو التمر حرام، أو قال: إن الخمر حلال، يكفر عند أهل العلم، فالبعض يوجه كلام والد إمام الحرمين وابن الجوزي ويصرفه إلى هذا، وعلى كل حال عامة أهل العلم على عدم كفره، هي كبيرة من الكبائر، وموبقة من الموبقات، والوعيد شديد، لكن الكفر أمره عظيم، يقول: بل ظاهره أنه لا يخرج منها؛ لأنه لم يجعل له منزلًا غيره، لم يجعل له منزلًا غيره إلا أن الأدلة القطعية قامت على أن خلود التأبيد مختص بالكافرين.

خلود التأبيد مختص بالكافرين، ومقعده مفعول يتخذ، والمقعد قال في القاموس: القعود والمقعد الجلوس، أو هو من القيام، والجلوس من الضجعة ومن السجود، وقعد به أقعده، والمقعد مكانه أي مكان القعود، والمقعد مكانه أي مكان القعود، المقعد يقول في القاموس: القعود، والمقعد: الجلوس، فيرى أن القعود والجلوس مترادفان، أو -هذا قول آخر- أو هو من القيام، القعود من القيام، قائم يقعد، لكن مضجع يقعد؟

المقدم: يجلس.

يجلس، والجلوس من الضجعة، ومن السجود وقعد به أقعده، لو أتينا إلى حديث «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس، إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين».

المقدم: حتى يصلي ركعتين

حتى يصلي ركعتين، هو من القيام، القعود من القيام، هل يتناول الخبر من قعد من قيام؟ الداخل من قيام يجلس، لكن هل يتناول الداخل على هذا التفريق، هل يصح أن نقول: إنه جلس، أو نقول: قعد؟

المقدم: ما دام النص جلس، فلا يجوز.

جلس ما فيه إشكال، لكن تنزلًا على كلام من فرَّق بين القعود والجلوس، وإذا قلنا: إن الجلوس من القيام تبعًا للحديث، والقعود من الإضجاع ونحوه، هو أراد أن يفرق بين القعود والجلوس، من أهل العلم..

المقدم: من لا يفرق.

من الأئمة المحققين من يرى أنه لا ترادف في اللغة مطلقًا، ما فيه شيء اسمه مترادف، كل كلمة لها معنى، القعود له معنى، والجلوس له معنى، فإذا قلنا: على كلام صاحب القاموس، الجلوس من الضجعة يعني لا من القيام، فالذي يدخل المسجد ويجلس..

المقدم: مثل الذي يدخل المسجد ويقعد.

مثل الذي يدخل المسجد، لا.

المقدم: هذا إذا بهم ترادف.

إذا قلنا بالترادف.

المقدم: ما فيه إشكال.

ما فيه إشكال مطلقًا؛ لأنه يريد أن يحمل الجلوس من الضجعة، لا من القيام، أما الجلوس من القيام فيسمى قعودًا، ولا شك أن الحديث وارد على هذا الكلام، يرد على هذا الكلام.

المقدم: وفيه حديث آخر يرد أيضًا يا شيخ.

أين؟

إن صح اللفظ في حديث البراء بن عازب: لما يأتيانه في القبر فيقعدانه، وهنا مضطجع الميت، فأيضًا يشكل من أخرى؟

على كل حال كلامه مشكل من الوجهين، على كلامه أيضًا أن من كان مضجعًا في المسجد، ثم جلس يلزمه تحية مسجد، فلا يجلس، لكنها هنا جواب شرط.

المقدم: إذا دخل.

إذا دخل، فمن هذه الحيثية لا يلزمه، على كل حال التفريق هذا مشكل طردًا، وعكسًا.

والمقعد، تبوأ مقعده: يعني مكانه، مكان القعود، من النار: كلمة من بيانية، أو ابتدائية، قاله الكرماني، وقال العيني: الأولى أن تكون بمعنى في، الأولى أن تكون بمعنى في كما في قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة:9]، يعني في يوم الجمعة، قال القسطلاني: هذا الوعيد الشديد سببه، ما فيه من الجرأة على الشريعة وصاحبها، يقول: لما فيه من الجرأة على الشريعة وصاحبها –صلى الله عليه وسلم- فلو نقل العالم معنى قوله بلفظ غير لفظه، لكنه مطابق لمعنى لفظه، فهو سائغ عند المحققين، من يقل عليَّ، يقول: «من يقل عليَّ ما لم أقل» يعني إذا قال: إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس، قال الراوي فلا يقعد، رواه بالمعنى، هل قال عن النبي –عليه الصلاة والسلام- ما قاله، أو قال عليه ما لم يقل؟ إذا اعتمدنا الحرفية.

المقدم: قال ما لم يقل.

ما لم يقل، يقول: فلو نقل العالم معنى قوله بلفظ غير لفظه، لكنه مطابق لمعنى لفظه فهو سائغ عند المحققين.

يقول ابن حجر: وقد تمسك بظاهر هذا اللفظ من منع الرواية بالمعنى، من منع الرواية بالمعنى، وأجاب المجيزون بأن المراد النهي عن الإتيان بلفظ يوجب تغيير الحكم، مع أن الإتيان باللفظ لا شك في أولويته، انتهى.

فعندنا مسألتان: الأولى: مسألة الرواية بالمعنى، ولا شك أنها مما لم يقله النبي –عليه الصلاة والسلام-، وعندنا أيضًا اللحن في الحديث، لو قال قائل: إنما الأعمال بالنيات، هل قال ما قاله النبي –عليه الصلاة والسلام، أو قال عليه ما لم يقله؛ لأنه لم يكن لحّانًا؟

المقدم: قال ما لم يقله.

ما لم يقله، ولأهمية هاتين المسألتين نشير إليهما، فينبغي بحثهما هنا في هذا الموضع؛ لأنهما مما يخالف الحديث في الظاهر، فالمسألة الأولى: الرواية بالمعنى، قال الإمام الحافظ أبو عمرو بن الصلاح في علوم الحديث: إذا أراد رواية ما سمعه على معناه دون لفظه لا شك أن الأصل الرواية باللفظ، لكن ما الذي يجعل الجمهور يجوزون الرواية بمعناه؟ الضرورة، أيضًا الحديث الواحد يرويه الجمع من الصحابة، وهو حديث واحد في حادثة واحدة على ألفاظ مختلفة، فلا مفر ولا محيص عن تجويز الرواية بالمعنى، ماذا يقول؟ إذا أراد رواية ما سمعه على معناه دون لفظه، فإن لم يكن عالمًا عارفًا بالألفاظ ومقاصدها، خبيرًا بما يحيل معانيها، بصيرًا بمقادير التفاوت بينها، فلا خلاف أنه لا يجوز له ذلك، وعليه ألا يروي ما سمعه، إلا على اللفظ الذي سمعه من غير تغيير، بهذه القيود، يعني تجويز الرواية بمعنى هذه الشروط.

فإن لم يكن عالمًا عارفًا بالألفاظ ومقاصدها، خبيرًا بما يحيل معانيها، بصيرًا بمقادير التفاوت بينها، فلا خلاف أنه لا يجوز له ذلك، وعليه ألا يروي ما سمعه، إلا على اللفظ الذي سمعه من غير تغيير، هذا بالنسبة للقيود عند من أجاز الرواية بالمعنى، وهم الجمهور، لكن إذا جاء الحديث بالنفي والإثبات، والنفي يمكن توجيهه على معنى صحيح، والإثبات يمكن توجيهه على معنى صحيح، هل نقول: إن هذه رواية بمعناه؟ «لولا أن تدافنوا لأسمعتكم»، هذا بالخبر، الرواية الأخرى «لولا أن لا تدافنوا لأسمعتكم» هل نقول: هذه رواية بالمعنى؟ يعني المعنى صحيح على هذا وهذا، يعني لولا أن تدافنوا، يدفن بعضكم بعضًا لكثرت الموتى، ولا ألا تدافنوا: مبالغة في كثرة الأموات بحيث لا يمكن دفن بعضهم؟ فالمعنى على الوجهين صحيح، لكن هل نقول: إن هذه رواية بالمعنى؟ وهل هذا مما يجوزه أو يحتمله مثل هذا الخلاف؟ وهناك ألفاظ مقصودة لذاتها، لا تجوز روايتها بالمعنى على ما سيأتي فيما تُعبِّد بلفظه.

فأما إذا كان عالمًا عارفًا بذلك، فهذا مما اختلف فيه السلف، وأصحاب الحديث، وأرباب الفقه والأصول فجوَّزه أكثرهم، ولم يجوِّزه بعض المحدثين، وطائفة من الفقهاء والأصوليين من الشافعيين وغيرهم، ومنعه بعضهم في حديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأجازه في غيره، يقول: والأصح جواز ذلك في الجميع، والأصح جواز ذلك في الجميع، طيب لو أردنا أن ننقل كلامًا عن عالم من العلماء، ننقل عن ابن حجر في مسألة رأيه، هل يلزمنا أن ننقله بحروفه؟ وهذا في البحوث.

المقدم: بالأمانة العلمية.

نعم، لا بد أن تكون بالحروف، وهل هي أهم مما يضاف إلى النبي –عليه الصلاة والسلام- الذي جوزت فيه الرواية بالمعنى، أو نقول: هناك فرق بين المصنفات وبين المسموعات، يعني إذا سمعت كلامًا لك أن ترويه بالمعنى، بالشروط المتقدمة، وإذا نقلت من كتاب، يلزمك أن تنقل بالحرف، لكن إذا طبقنا ما ينقله أهل العلم، لو طبقنا ما ينقله ابن الحجر عن الكرماني، أو العيني عن الكرماني وجدنا بعض الاختلاف، ومثل هذا كثير يتجوزون في مثل هذا، لكنهم لا يحرفون، لكنهم لا يحرفون، وتأتي الإشارة إلى الرواية من المصنفات، والأصح جواز ذلك في الجميع، إذا كان عالمًا بما وصفناه قاطعًا بأنه أدى معنى اللفظ الذي بلغه؛ لأن ذلك هو الذي تشهد به أحوال الصحابة والسلف الأوليين، وكثيرًا ما ينقلون معنى واحدًا في أمر واحد بألفاظ مختلفة، وما ذلك إلا لأن معوّلهم كان على المعنى دون اللفظ، على المعنى دون اللفظ.

يعني حينما صلى النبي –عليه الصلاة والسلام- صلاة الكسوف مرة واحدة فيما يراه أهل التحقيق، وذكرت بألفاظ مختلفة على صور مختلفة، هل نقول بأن هذا من الرواية بالمعنى أو هذا من اختلاف الرواة؟ هذا من اختلاف الرواة، حديث قصة جمل جابر وشراء النبي –عليه الصلاة والسلام-، وأورده البخاري في أكثر من عشرين موضعًا، وفيها من الاختلاف ما فيها.

المقدم: مع أنها حادثة واحدة.

حادثة واحدة، فكل هذا من باب تسويغ الرواية بالمعنى.

يقول: ثم إن هذا الخلاف لا نراه جاريًا، ولا أجراه الناس فيما نعلم فيما تضمنته بطون الكتب، فليس لأحد أن يغير لفظ شيء من كتاب مصنف ويثبت بدله فيه لفظًا آخر بمعناه، يعني إذا نسخت كتابًا، نسخت كتابًا ووجدت المؤلف عباراته ركيكة، هل لك أن تغير هذه العبارة بمعناها، بما هو أجود منها لفظًا؟  

نعم، يقول: ثم إن هذا الخلاف لا نراه جاريًا، ولا أجراه الناس فيما نعلم فيما تضمنته بطون الكتب، فليس لأحد أن يغير لفظ شيء من كتاب، من كتاب مصنف، ويثبت بدله فيه لفظًا آخر بمعناه، فإن الرواية بالمعنى رخص فيها من رخص، لما كان عليهم فيها في ضبط الألفاظ، والجمود عليها من الحرج والنصب، وذلك غير موجود فيما اشتملت عليه بطون الأوراق والكتب؛ ولأنه إن ملك تغيير اللفظ فليس يملك تغيير تصنيف غيره، والله أعلم.

يعني جُوّزت الرواية بالمعنى؛ لتعذر اللفظ أحيانًا، أحيانًا يتعذر اللفظ، يُنسى اللفظ النبوي ويُستحضر المعنى، يُنسى اللفظ، ويُستحضر المعنى، لكن لو كان موجودًا في كتاب بين يديك، فهذا مستحيل؟ يعني الرواية بالمعنى على خلاف الأصل، وجُوِّزت للحاجة، فإذا ارتفعت هذه الحاجة فلا يجوز التصرف في كلام الناس، فضلًا عن كلام الشارع.

المقدم: لعل ما تبقى في هذه المسألة نرجئه في حلقة قادمة بإذن الله تعالى، وأيضًا نضيف إليها المسألة الثانية التي وعدتم بها الإخوة والأخوات.

أيها الإخوة والأخوات بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث كتاب الجامع الصحيح.

لنا بكم لقاء بإذن الله في حلقة قادمة وأنتم على خير، حتى ذلكم الحين نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.