شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (247)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا ومرحبًا بكم إلى حلقة جديدة في شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، ولازلنا في كتاب العلم في حديث عبد الله بن مسعود في الحديث رقم (104) في المختصر،(125) من الأصل، والذي يتولى شرح هذا الكتاب فضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: لعلنا نستكمل ما تبقى من الأحكام في هذا الحديث، أحسن الله إليكم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،

فألفاظ الحديث انتهت، وما بقي إلا أطرف الحديث.

 هذا الحديث، حديث ابن مسعود خرجه الإمام البخاري في خمسة مواضع:

الأول: هنا في كتاب العلم، في باب قول الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء:85]، قال -رحمه الله-: حدثنا قيس بن حفص قال: حدثنا عبد الواحد قال: حدثنا الأعمش سليمان عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: «بينما أو بينا أنا أمشي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في خرب المدينة» فذكر الحديث، وذكر.. سبق ذكر مناسبته للترجمة، وأنها مطابقة حيث ذكرت الآية في الحديث التي ترجم بها، وأما مناسبة الباب لكتاب العلم فظاهرة {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ}[الإسراء:85]، والكتاب كتاب العلم.

 الموضع الثاني: في كتاب التفسير، في باب قول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ}[الإسراء:85] في كتاب التفسير، والمناسبة بين الباب والكتاب ظاهرة.

المقدم: في تفسير الآية.

في تفسير الآية، قال -رحمه الله-: حدثنا عمرو بن حفص بن غياث قال: حدثنا أبي قال: حدثنا الأعمش قال: حدثني إبراهيم عن علقمة عن عبد الله -رضي الله عنه- قال: بينا أنا أمشي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في حرث، (حرث) سبق أن أشرنا إلى هذه الرواية، وهو متكئ على عسيب، فذكره، وفيه الآية على ما في المصحف {وَمَا أُوتِيتُمْ}[الإسراء:85] الحديث واحد، ويروى في موضع (أوتوا)، وموضع {وَمَا أُوتِيتُمْ}[الإسراء:85]، يعني إذا كان حديثًا واحدًا والاختلاف في لفظ واحد، فهل يقال بالتعدد أو يجزم بأن أحد اللفظين محفوظ، والثاني شاذ؟

المقدم: على ما رجحنا قبل قليل؟

نعم رجحناه من حيث الجملة، لكن هنا من حيث الاصطلاح الحديث، يقول الحافظ ابن حجر في فتح الباري: قوله وما أوتيتم من العلم كذا للكشميهني هنا، وكذا لهم يعني الرواة في الاعتصام على ما سيأتي، ولغير الكشميهني هنا (وما أوتوا)، وكذا لهم في العلم الذي شرحناه، وزاد قال الأعمش وهكذا قراءتنا، وبين مسلم اختلاف الرواة عن الأعمش وهي مشهورة عن الأعمش أعني بلفظ (وما أوتوا)، وهي مشهورة عن الأعمش أعني بلفظ (وما أوتوا)، ولا مانع أن يذكرها بقراءة غيره، وقراءة الجمهور (وما أوتيتم)، ظاهر، يعني الآن الحافظ ابن حجر يريد أن يرد هذه الرواية (وما أوتيتم) إلى الرواية الأولى (وما أوتوا)، وأن المحفوظ عن الأعمش (أوتوا) هذا الأصل وهي قراءته، لكنه في بعض المواضع وفي بعض المناسبات يذكر الآية بقراءته هو، وفي بعض المناسبات يذكرها بقراءة غيره، يقول: وبيَّن مسلم اختلاف الرواة عن الأعمش فيها وهي مشهورة عن الأعمش، هذا كلام ابن حجر: مشهورة عن الأعمش يعني بلفظ (وما أوتوا)، أبو عبيد في كتاب القراءات كما قرر ذلك ابن حجر نفسه...

المقدم: ما ذكره.

ما ذكر هذا الأمر، ولا مانع أن يذكرها بقراءة غيره وقراءة الجمهور: {وَمَا أُوتِيتُمْ}، والأكثر على أن المخاطب بذلك سواء (أوتوا) أو (أوتيتم) المخاطب بذلك اليهود فتتحد القراءتان، وهي تتناول جميع علم الخلق بالنسبة إلى علم الله تعالى؛ لأن العبرة بعموم اللفظ، والخطاب يتجه إلى كل من يصلح له، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فجميع ما أوتي الخلق من علم بالنسبة إلى علم الله -جل وعلا- قليل، ووقع في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن اليهود لما سمعوها قالوا: أوتينا علمًا كثيرًا. التوراة ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرًا كثيرًا، فنزلت {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي}[الكهف:109] الآية، قال الترمذي: حسن صحيح.

 الآن اعترض اليهود كعادتهم، الله -جل وعلا- يقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء:85] هذا سواء كان خطابًا لليهود أو لهم ولغيرهم، وهم قالوا: لا، أوتينا علمًا كثيرًا، (ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرًا كثيرًا) فنزلت: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي}[الكهف:109] الآية، قال الترمذي: حسن صحيح، هذا الاعتراض يعني قال شخص: إن السنة فيها علم كثير، صحيح أم ليس بصحيح؟ صحيح لنسبة لعلم المخلوق، وكونهم اعترضوا على ما جاء عن الله -جل وعلا- كعادتهم.

 قال ابن حجر في الحديث من الفوائد: جواز سؤال العالم في حال قيامه ومشيه، إذا كان لا يثقل ذلك عليه، يعني وهو خارج من المسجد إلى بيته أو العكس، فأراد شخص أن يسأله، فلا مانع من ذلك، النبي- عليه الصلاة والسلام- في حديث مسعود يقول: بينا أنا أمشي مع رسول الله- عليه الصلاة والسلام-، سئل النبي-عليه الصلاة والسلام- وهو يمشي، فلا مانع من الجواب وهو يمشي، وليس في هذا امتهان للعلم إنما القدوة-عليه الصلاة والسلام- سُئل وهو يمشي، وأجاب وهو يمشي، وجاء في آخر آل عمران {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191]، فالذكر من قيام وقعود أو على جنب ليس من باب الامتهان.

المقدم: بل يجب أن يكون الذكر على كل حال.

على كل حال، وهكذا العلم يسأل العالم حال قيامه، وحال قعوده، وحال مشيه، وقد يحتاج إلى سؤاله وهو مضجع، لكن إذا كان ذلك لا يثقل عليه؛ لأن بعض الطلاب أحيانًا يكون الدرس متواصلًا لساعتين أو ثلاث، ثم إذا انتهى الدرس خرجوا مع الشيخ وكل واحد يسأل وأوقفوه عند باب المسجد، وفي طريقه، وعند الباب، هذا يثقل عليه، فمن أدب طالب العلم الذي ذكره أهل العلم في أدب الطلب ألا يثقل على الشيخ... وأن يتحين الفرص المناسبة للسؤال، وألا يضجر الشيخ، وأيضًا على الشيخ أيضًا أن يبذل ويتحمل، وكلٌّ مخاطب بما يناسبه، أدب الصحابة مع النبي- عليه الصلاة والسلام- واضح في هذا الحديث يمشي مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ولا شك أنه هو المستفيد، لكن كونه يمشي مع النبي -عليه الصلاة والسلام- والمعية تشعر بالتبعية، فهو تابع له يمشي معه، وأيضًا يقول: فقمت. يعني ذهبت عنه، هذا من أدبه -رضي الله عنه- مع النبي -عليه الصلاة والسلام-.

والعمل بما يغلب على الظن من أين؟ هذه من الفوائد التي ذكرها ابن حجر العمل بما يغلب على الظن.

المقدم: ابن مسعود فقلت: إنه يوحى إليه.

نعم أنه يوحى إليه، هذه غلبة الظن؛ لأن ابن مسعود ما رأى الملك، ولا سمع ما جاء به الملك، فبناءً على غلبة الظن جزم بأنه، أو حكم بأنه يوحى إليه، والتوقف عن الجواب بالاجتهاد لمن يتوقع النص، والتوقف عن الجواب بالاجتهاد لمن يتوقع النص؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- بإمكانه أن يجتهد، وله أن يجتهد، واجتهد في قضايا، وأُقر عليها، واجتهد في قضايا ما أقر عليها -عليه الصلاة والسلام-، فمن ورّاثه من أهل العلم ممن بلغ درجة الاجتهاد قد يسأل في نازلة لا يحضره دليلها، وحينئذٍ يجتهد إذا كان الحصول على الدليل يفوّت الجواب على السائل، أما إذا كان بالإمكان الوصول إلى الدليل بحيث لا تفوت الفائدة على السائل، فهذا هو الأصل؛ لأن الجواب ينبغي أن يكون مقرونًا بدليله، يعني إذا كان العالم بين كتبه في مكتبته، وسُئل مثلًا، وأراد أن يجيب باجتهاده، إذا كانت المسألة مما يفوت اجتهد، فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد. إذا كان من أهل الاجتهاد، وإذا كان بين كتبه وبإمكانه أن يصل إلى الدليل في وقت بحيث لا يفوت على السائل السؤال الجواب فهذا أيضًا مطلوب.

المقدم: يعني يتريث.

نعم يتريث، وأيضًا يبحث عن الدليل، ولذا يقول أهل العلم: إن الفقه نوعان: فقه بالفعل، ويقولون: فلان فقيه بالفعل، وفلان فقيه بالقوة القريبة من الفعل، بالقوة القريبة من الفعل، ما معنى هذا؟ شخص يحفظ المسائل بأدلتها، ويعرف الراجح، ويفتي الناس جائز لقوله -عليه الصلاة والسلام-: كذا أو لقول الله تعالى كذا، حاضر الأجوبة هذا فقيه بالفعل، هناك فقيه بالقوة القريبة من الفعل بمعنى أنه إذا سُئل عن مسألة أولًا عنده الآلة وعنده فقه النفس، لكن عزب عنه الحكم، كما سُئل مالك -رحمه الله- عن أربعين مسألة، وأجاب عن أربع مسائل أو ستة، المقصود أنه أجاب عن شيء يسير، وقال في ستة وثلاثين أو اثنين وثلاثين مسألة قال: الله أعلم، مثل هذا يسميه العلماء فقيهًا بالقوة القريبة من الفعل، ومثل هذا في الغالب أنه إذا ذهب يذهب إلى كتاب لا تخطئ فيه فراسته أن الحكم موجود، والدليل موجود، من كثرة المعاناة، وأيضًا إذا فتح هذا الكتاب، الكتاب عشرون مجلدًا. المسألة...

المقدم: يقع على المسألة.

نعم على المجلد الذي فيه المسألة، وإذا فتح المجلد فتح قريبًا من المسألة، لكن إذا سُئل عن مسألة في الطهارة فذهب إلى آخر مجلد أو منتصف الكتاب، نقول: هذا فقيه بالفعل أو بالقوة؟ لا هذا، ولا هذا، سئل عن مسألة في الإقرار أو في القضاء في كذا، فذهب إلى المجلد الأول من عشرين مجلدًا هذا لا هذا ولا هذا، فلا شك أن القوة تجعل الشخص قريبًا من الفعل بمعنى أنه في وقت يسير جدًّا يستطيع أن ينظر في المسألة بجميع أطرافها وأدلتها، وما قيل فيها من قبل أهل العلم ويحكم أو يذكر الحكم الراجح في المسألة، فهذا يسميه أهل العلم فقيهًا بالقوة القريبة من الفعل، التوقف عن الجواب بالاجتهاد لمن يتوقع النص، طيب الآن الأمور تيسرت أكثر، فبإمكان طالب العلم أو العالم أن لا ينتظر إلى أن يصل إلى مكتبه، هناك الحواسب الجيبية في جيبه، حاسب يضرب ما يريد في زر، ويخرج حكم المسألة من كذا كتابًا وأدلتها من كذا مصدرًا، وهذا أمر متيسر، ولله الحمد.

 لكن لا أوصي طلاب العلم أن يعتمدوا على هذه الآلات قبل أن يتمرنوا على الكتب، فإذا تمرنوا وتأهلوا صارت لديهم الأهلية في مراجعة الكتب، الأمر يعني خفيف أو إذا ضاق عليه الوقت، واحتاج أن يستفيد من هذه الآلات الأمر في سعة، يقول: وأن بعض فوائد الحديث وأن بعض المعلومات قد استأثر الله بعلمه حقيقة، يعني لم يطلع عليه أحدًا مثل الروح، وأن الأمر يرد لغير الطلب أين الأمر؟

المقدم: قل الروح من أمر ربي.

قال له: هذا ينفذ، طلب أمر، لفظ الأمر، نعم إن الأمر يرد لغير طلب، لفظ الأمر هنا هل للطلب؟ ليس للطلب وإنما هي من علمه الذي استأثر به؛ لأنه لو كان المراد به الأمر لكنا مأمورين بأن....

المقدم: نجيب.

أو نتصرف بشأن الروح أي تصرف يتم به امتثال هذا الأمر، لكن لا يراد به الأمر.

 الموضع الثالث: في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال ومن تكلف ما لا يعنيه، وقوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}[المائدة:101] الاعتصام بالكتاب والسنة مقتضاه الاستسلام والإذعان لما في الكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال ومن تكلف ما لا يعنيه، يعني الذي بينه الله -جل وعلا- في كتابه وعلى لسان رسوله -عليه الصلاة والسلام- هذا العلم به مطلوب، وما سكت عنه تكلف، يعني سكت الله -جل وعلا- عن أشياء رحمة بالناس، لا عن نسيان ولا عن غفلة ولا ذهول تعالى الله، باب ما يكره من كثرة السؤال من تكلف ما لا يعنيه، وهذا السؤال من قبل اليهود للنبي -عليه الصلاة والسلام- لاشك أنه تعنت، ولاشك أنه للتعجيز، فيدخل في هذا الكتاب كتاب الاعتصام دخولًا أوليًّا. وقوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}[المائدة:101] يعني يسأل الإنسان عن أمور إذا أجيب عنها ساءه الجواب، كمن سأل فيما تقدم في باب الغضب في المسألة فيما تقدم من سأل من أبي؟ إذا كان الإنسان قد ستر الله عليه، واستفاضت نسبته إلى فلان، ثم سأل من أبي؟ سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو المؤيد بالوحي الذي لا ينطق عن الهوى، فأخبره بأن أباه غير من استفاض، هذا يسوؤه بلا شك، يسوؤه، فمثل هذه الأسئلة التي من التعنيت، أو يكون الجواب مما يسوء السائل مثل هذا الأشياء لا يسأل عنها.

 قال -رحمه الله-: حدثنا محمد بن عبيد بن ميمون قال: حدثنا عيسى بن يونس عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود -رضي الله عنهم- قال: «كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في حرث بالمدينة..»، وتقدم ذكر الروايات لهذه الكلمة «وهو يتوكأ على عسيب» فذكره بنحوه، والمناسبة بين الباب والكتاب ظاهرة، من جهة أن من لا يكثر السؤال ولا يتكلف ما لا يعنيه فقد اعتصم بالكتاب والسنة، ورضي بهما، من لا يكثر السؤال يعني السؤال عما لا ينفع، مثلًا يسأل: ما لون كلب أصحاب الكهف؟ هل هذا ما ينتفع به في دينه ودنياه؟

المقدم: أبدًا.

مثل هذا يرضي ويسلم ولا يتكلف أسئلة غير نافعة، لكن الذي يتكلف الأسئلة التي يستفيد منها، مما له أثر عملي يستفيد منه هو أو غيره، مثل هذا نقول: لا يكثر السؤال؟! مثل هذا يسأل، لاسيما بعد الأمن من تحريم ما أحل الله؛ لأنه جاء نهي النبي -عليه الصلاة والسلام- عن السؤال، وجاء أيضًا التنصيص على أن شر الناس من سأل عن شيء حلال فحرم من أجل مسألته، لكن من سأل؛ ليتفقه بعد أمن تحريم ما أحل الله- جل وعلا- بوفاته -عليه الصلاة والسلم- هذا من باب طلب العلم، لاسيما إذا كان له أثر عملي، من جهة أن من لا يكثر السؤال، ولا يتكلف ما لا يعنيه فقد اعتصم بالكتاب والسنة ورضي بهما واقتنع بذلك فلم يتطلب ما وراء ذلك، ومناسبة الحديث للباب من جهة أن اليهود تكلفوا ما لا يعنيهم، وسألوا عما لا يمكن إدراكه، وقصدهم بذلك اختبار النبي- صلى الله عليه وسلم- فمثل هذا مناقض للتسليم للكتاب والسنة، ثم جاء الجواب لهم ولغيرهم بصرف النظر عن مثل هذا السؤال، وأن مثل هذا لا يُلتفت إليه ولا يسأل عنه.

 الرابع الموضع الرابع: في كتاب التوحيد، في باب قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ}[الصافات:161]، كتاب التوحيد، ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، فالتوحيد من أنواعه وأقسامه توحيد الأسماء والصفات، والكلمة والكلمات والكلام صفة من صفات الله -جل وعلا-، والصفات نوع من أنواع التوحيد، فمناسبة الباب لكتاب التوحيد ظاهرة، قال -رحمه الله-: حدثنا يحيى قال: حدثنا وكيع عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله -رضي الله عنه- قال: «كنت أمشي مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في حرث بالمدينة» فذكره بنحوه، والمناسبة بين الترجمة باب قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ}[الصافات:161] أن كلام الله من صفاته، وصفات الله -جل وعلا- من أنواع التوحيد الثلاثة المعروفة توحيد الربوبية، توحيد الألوهية، توحيد الأسماء والصفات، وهذا هو النوع الثالث، ومناسبة الحديث للترجمة حيث أنزل الله القرآن الوحي، وهو كلامه المنزل على نبيه جوابًا لسؤال اليهود، فما أنزله الله- جل علا- الآية ما أوتوا {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}[الصافات:85] كلامه -جل وعلا-، وكلامه مناسب للترجمة.

الموضع الخامس: في كتاب التوحيد أيضًا، في باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ}[النحل:40] قال -رحمه الله-: حدثنا موسى بن إسماعيل عن عبد الواحد عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود قال: «بينا أنا أمشي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعض حرث المدينة وهو يتوكأ على عسيب» فذكره بنحوه، والمناسبة أن القول كتاب التوحيد، والترجمة: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ} المناسبة أن القول هو الكلام المسموع بحرف وصوت، وهو صفة من صفات الله تعالى، وهو نوع من أنواع التوحيد كما تقدم، ومناسبة الحديث للترجمة، قال ابن بطال: غرضه -رحمه الله-، غرض البخاري الرد على المعتزلة في زعمهم أن الأمر مخلوق، فتبين أن الأمر هو قوله تعالى للشيء: كن فيكون بأمره له، وأن أمره وقوله واحد وأنه يقول للشيء: كن حقيقةً، وأن الأمر غير الخلق؛ لعطفه عليه بالواو انتهى.

 والحديث مخرج في صحيح مسلم، فهو متفق عليه.

المقدم: أحسن الله إليك، في مثل هذه المواضع إذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتكلم، ثم نزل إليه الوحي وجاء بالآية في سياق حديثه، كلامه -عليه الصلاة والسلام- دون فاصل، كيف يعرف الصحابة، ثم ينزعون هذه الآية ويدخلونها في موضعها؟ هل هناك نص عليه مثل هنا قال: فلما انجلى عنه قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}[الكهف:85]؟

الرسول -عليه الصلاة والسلام- بيَّن أتم بيان وقال: ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا، هو ينص على كل آية -عليه الصلاة والسلام-.

المقدم: في مواضع أخرى.

في مواضع كثيرة.

المقدم: يعني ينص لكُتّاب الوحي ضعوا هذه بمكان كذا قبل كذا وبعد كذا.

نعم

وإذا كانت منزوعة إن كانت آية داخل..

وإن كانت جزءًا من آية.

 جزءًا من آية هو ينص على هذا.

وينص على هذا -عليه الصلاة والسلام-.

المقدم: أحسن الله إليكم، ونفع بعلمكم، أيها الإخوة والأخوات، بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، وهو المشهور بمختصر صحيح البخاري للإمام زين الدين أحمد بن أحمد عبد اللطيف الزبيدي المُتوفى سنة ثلاث وتسعين وثمانمائة للهجرة، نلقاكم بإذن الله في حلقة قادمة بحديث آخر من كتاب العلم، وأنتم على خير. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.