بلوغ المرام - كتاب القضاء (2)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
يعني في الحديث السابق: ((لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان)) ماذا عن تولية من عرف بشدة الغضب، أو سرعة الغضب في هذا المرفق العظيم؟

عرفنا أنه في الحديث السابق إذا حكم الحاكم فاجتهد أن الاجتهاد مطلوب للقاضي، وهو قيد وجودي، ونأخذ من هذا الحديث: ((لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان)) أن الغضب مطلوب عدمه، فلا يصل للقضاء من هو سريع الغضب، أو شديد الغضب، وكل شيء يثيره؛ لأن هذا يؤثر في نظره في القضايا، ومن ثم على أحكام هذه القضايا، والغضب خصلة مذمومة، ووصية النبي -عليه الصلاة والسلام- لمن استوصاه قال له:  ((لا تغضب)) وكررها مراراً، لكن قد يقول بعض الناس: أنا مجبول على هذا، فما الحيلة؟ نقول: كما أن العلم بالتعلم كذلك الحلم بالتحلم، إذا وطنت نفسك على التحلم صرت حليماً؛ لأن هذه الملكات وهذه الغرائز منها ما هو غريزي، جبلي، جبل عليه الإنسان، ومنها ما هو مكتسب، فإذا فات الغريزي الجبلي من أصل الخلقة إذا فات هذا لا يفوت الثاني المكتسب، وهو الذي فيه المدح والذم؛ لأن مناط المدح والذم في الأفعال الاختيارية التي للإنسان أن يفعل، وله أن يترك، أما الأفعال الإجبارية فإنها ليست بمناط للذم ولا للمدح.
قال -رحمه الله-: "وعن علي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر))" الآخَر الذي هو الثاني، والآخِر الذي هو الأخير مقابل للأول، فلو قلت: حتى تسمع كلام الآخَر أو الآخِر المعنى واضح، ولا فرق بينهما هنا.
يفرقون في التقويم فيقولون مثلاً: جمادى الآخرة، وربيع الثاني أليس كذلك؟ نعم؟

طالب:.......
لماذا؟ والعادة أن الثاني إذا كان هناك ثالث، وإذا لم يكن هناك ثالث قالوا: الآخر، يعني أول وآخر، كما في المقابلة في الأسماء الحسنى (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) ((3) سورة الحديد).

ربيع الأول ربيع الثاني، جمادى الأولى جمادى الآخرة، لماذا فرقوا بينهما؟ هل في ربيع ثالث؟ أو نقول: هو مجرد تفنن؟ الجواب؟ في جواب؟

طالب:.......

نعم؟

طالب:.......

أصل؟.....

طالب:.......

أيوه؟

طالب:.......

يعني لوقوعه في آخر فصل الشتاء؟ هذا ليس بمطرد، يعني جمادى الآخرة الماضي في فصل الشتاء أو في عز الصيف؟ في شدة الصيف اللي يظهر أنه مجرد تفنن، يعني لئلا يكثر الثاني الثاني، الآخر الآخر، مجرد تفنن في العبارة، والمعنى واضح.

((إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر)) لا يجوز للقاضي أن يحكم لأحد الخصمين بمجرد سماع كلامه؛ لأنه قد يكون عند الثاني ما يدفع الدعوى، فإذا سمع كلام المدعي، وسمع كلام المدعى عليه، إن اعترف فلا يحتاج إلى بينة، إن أنكر طلبت البينة من المدعي، إذا كانت البينة مقنعة مرضية يثبت بها الحق حكم بها، وإن كانت البينة غير مقنعة ووجودها مثل عدمها فإنه يتجه إلى المدعى عليه، ويطلب منه اليمين؛ لأن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر.

ثم بعد ذلك إن نكل المدعى عليه عن اليمين إذا قال المدعي: ليست لي بينة، عاد القاضي إلى المدعى عليه وطلب منه اليمين، إن نكل هل يقضى عليه بالنكول، ويحكم عليه بلزوم الحق وثبوته؟ أو يقال له: تقبل يمين المدعي؟ وهذا ما يعرف برد اليمين.

ومالك -رحمه الله- قال: إنه لا يعلم أحد قال برد اليمين على المدعي، مع أن ممن قال به قضاة عصره ابن أبي ليلى وابن شبرمة، فالمسألة خلافية هل يحكم عليه بمجرد النكول، أو تطلب اليمين من المدعي فترد عليه؟ مسألة خلافية بين أهل العلم.

إن سكت المدعى عليه قال له: ماذا تقول؟ سكت، هل يحكم عليه بمجرد هذا السكوت، أو ذكر شيئاً مثل السكوت، قال: لا أعترف ولا أنكر، منهم من يقول: يحكم عليه كما يحكم على الغائب، ومنهم من يقول: يحبس حتى يعترف أو ينكر.

الحكم على الغائب مسألة خلافية بين أهل العلم فأبو حنيفة يقول: لا يحكم عليه مطلقاً حتى يحضر، طيب، لكن بعض المدعى عليهم قد يتخذ الغياب ذريعة لضياع الحق، فيختفي، أو يسافر إلى بلد لا يمكن إحضاره منه، ولا يمكن استخلاف من قاضٍ إلى قاضٍ، فمن أجل أن يضيع الحق يسافر أو يختفي حتى يظن أن الدعوى تركت، فمن أهل العلم وهم الجمهور يقولون: يقضى عليه، تضرب له مدة إن حضر وإلا يقضى عليه، فإذا حضر بعد ذلك فأثبت ما ينفي هذه الدعوى عمل بها، وإلا نفذ الحكم، وهذا قول الأكثر.
هذا الحديث فيه كلام لأهل العلم، حديث علي: ((إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر)) معناه صحيح، لكن فيه كلام، في ثبوته كلام، وله شاهد، ولذا احتاج الحافظ أن يورد له شاهداً من حديث ابن عباس عند الحاكم.

((حتى تسمع كلام الآخر، فسوف تدري كيف تقضي)) يعني إذا مشى القاضي على هذه المقدمات المرسومة الشرعية يعرف كيف يقضي، لكن إذا كان يتخبط مرة يسأل المدعي، ومرة يسأل المدعى عليه، مرة يرد على المدعي، ومرة لا يلتفت إلى المدعى عليه، مثل هذا ما يمكن أن يقضي بين الناس، لكن إذا اتخذ هذه الطريقة والوسيلة الشرعية لإثبات الحقوق فإنه سوف يدري كيف يقضي.

قال علي: "فما زلت قاضياً بعد" استمر في القضاء على هذه الطريقة، "فما زلت قاضياً بعد" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه، وقواه ابن المديني، وصححه ابن حبان، وله شاهد عند الحاكم من حديث ابن عباس يصل به إلى درجة الحسن، ومعناه على كل حال صحيح.

قال -رحمه الله-: "وعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنكم تختصمون إلي))" تتنازعون، فيدعي بعضكم على بعض ((ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته)) يعني أبلغ بالحجة وبيان ما يريد ((ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض)) ولا شك أن التعبير له دور، حسن التعبير له دور في جلاء الحق، كما أن ضعف العبارة قد تغطي شيء من الحق، ولذا جاء في الحديث: ((إن من البيان لسحراً)) فالبيان مؤثر، لا شك أنه مؤثر، فالحق قد يعتريه سوء تعبير، أحياناً إذا أردت أن تمدح شيئاً لا سيما إذا كنت من أهل البلاغة والفصاحة جعلته بمكانة أعلى من مكانته الحقيقية، بخلاف ما إذا كنت في الفصاحة والبلاغة أقل فإنك قد لا توفيه حقه، كما قالوا في العسل:

تقول: هذا جنى النحل تمدحه *** وإن شئت قلت: هذا قيء الزنابير

ما في فرق، بالنسبة للواقع هذا هو، جنى النحل يجنيه من الزهور والورود هذا جناه، وإن شئت قلت: هذا قيء الزنابير، مجرد اللفظ قيء هذا ذم، وإن كانت هذه حقيقته، لكن إذا عبرت بالأسلوب المقبول مدحت، وإذا عبرت بالأسلوب الذي تنفر منه الطباع، وإن كان هو الواقع، فكما قالوا: "الحق يعتريه سوء تعبير" فيكون أحد الخصمين أبلغ وألحن وأفصح، وأسرع في الحجة وبيانها، يبادر بها، ويجليها ويوضحها، والثاني بطيء في الرد، وإذا استحضر الرد قصر في التعبير عنه، وهذا في كثير من الأمور تجد الإنسان يسأل سؤال أو يطرح عليه إشكال فلا يبادر بالجواب، ثم إذا ذهب إلى منزله، واستلقى في فراشه حضر الجواب، هذا ما ينفع، وبعض الناس ما شاء الله مباشرة هات السؤال، وخذ الجواب، فإذا كان الخصم من هذا النوع حجته حاضرة، وعنده فصاحة وبلاغة، ولحن في القول، فإنه يستطيع أن يجلي القضية، ويستطيع أن يصرف نظر القاضي إلى كلامه، بينما خصمه أقل من مستواه.

وبعض الناس يضيّع حقه بكلامه الذي..، الحجج القوية التي تؤيده تغيب عنه، فيستمسك بحجج ضعيفة، يستدل القاضي من خلالها أنه لا حجة له قوية، يعني الآن في المناظرات تجدون بعض الناس في المناظرة يكون حاضر الجواب، ويعبر عنه بأسلوب يجعل الناس يقبلونه، ويجعل الخصم يذعن له، وبعض الناس عنده ضعف في هذا الباب، ومثل هذا لا سيما إذا كان من أهل الحق لا يجوز له أن يناظر؛ لأنه إذا ضعف أمام خصمه، وغلب في الحجة والبيان، فإنه سيقضى على أهل مذهبه بالعجز، وينسب عجزه إلى مذهبه، ما يقال: والله عجز فلان، إنما يقال: عجز أهل المذهب الفلاني عن الجواب عن الشبه التي وجهت إليهم.
وفي تفسير الرازي الكبير يورد الشبه قوية جداً، ويجيب عنها بضعف، فهل نقول: إن من مقصده تقرير هذه الشبه؟ لأنك إذا أردت أن تقرر شبهة، أو أردت أن تقرر ما في نفسك مما تميل إليه، وتتوجه إليه، وترجحه تجليه بأقوى ما تستطيع من أدلة وبيان، وتجلب عليه بكل ما أوتيت من حجة، ثم قد تورد ما يمكن إيراده عليه، فلا تأتي بأقوى الإرادات ليقتنع القارئ أنه لا يوجد أقوى من هذه، وحينئذٍ يحكم بما قررت، وينساق وراءه، والإنصاف والعدل أن الإنسان إذا ساق الأقوال بأدلتها أن يورد أقوى ما يجد في الطرفين؛ لأن هذا أسلوب يسلكه بعض المقلدة، تجده يورد المذهب الذي يذهب إليه، ويميل إليه، مذهب إمامه، ويورد أقوى الأدلة لهذا الإمام النقلية والعقلية، ثم يقول، يذكر القول الثاني، ويذكر أضعف ما عنده من حجج.

إذا اقتنع القارئ بمثل هذا الكلام، وتوقف عليه، ما تعداه إلى الكتب الأخرى التي يجلى فيها القول الثاني من أصحابه وأربابه فإنه سوف يقتنع، ومثل هذا لو أورد مذاهب، وأحياناً ترجح الأقوال بالنظر إلى قائليها، قد لا تكون الحجة واضحة في الطرفين، لكن قد ترجح الأقوال بالنظر للقائلين، فلو قال: ذهب مالك والشافعي إلى كذا، ودليلهم كذا، وذهب فلان يعني ممن لم يشتهر بعلم، لو كان منصفاً قال: ذهب مالك والشافعي، وذهب أحمد وأبو حنيفة، هذا لو كان منصف، لكن ما يذكر أحمد وأبو حنيفة في الطرف الثاني، تجده يذكر شخص غير معروف بعلم، وغير مشهور، أنت إذا وجدت هذا الشخص غير المشهور بالعلم في مقابل مالك والشافعي ماذا تقول؟ لا شك أن ترجيح القول باعتبار القائلين ملحظ عند أهل العلم، يعني لو كان القول قوياً لقال به غير هذا الشخص، لكن لضعفه لم يقل به إلا هذا الشخص، مع أنه معروف في المذاهب الأخرى، لكنه من باب الهجوم على العقول حتى تذعن لما يلقيه الإنسان.

ولذلك على الإنسان أن يتأنى ويتريث في دراسة المسائل العلمية، كثير من الناس إذا قيل له: المذهب عند الحنابلة كذا، لكن شيخ الإسلام -رحمه الله- اختار كذا، خلاص أذعن واستسلم، شيخ الإسلام، إذا قالت حذام فصدقوها، أو ابن القيم درس هذه المسألة دراسة مستفيضة، نعم هجم قول ابن القيم، وما أجلب عليه ابن القيم من بيان، وترك النظر الدقيق في المسألة، نعم شيخ الإسلام إمام من أئمة المسلمين، وابن القيم إمام، لكن إذا رجحنا بالنسبة للقائلين، يعني من غير نظر في أدلة ولا غيرها أين منزلة شيخ الإسلام وابن القيم من منزلة الإمام أحمد أو مالك أو الشافعي؟! فكثير من الناس يقتنع بمجرد العرض، نقول: لا، لا تقتنع، ابن قدامه أو غير ابن قدامه من كبار الفقهاء حينما يعرض قول الحنابلة، ويؤيده بما عنده من أدلة، ثم يعرض قول الآخرين، اذهب إلى كتب الآخرين، وشف ما عندهم من أدلة؛ لأن عدم الاستيعاب إما أن يكون بسبب تقصير أو قصور، كم في كتب المالكية من أدلة تؤيد أقوالهم لم نطلع عليها، وقل مثل هذا في الشافعية والحنفية، فالإنسان عليه أن يبحث الأقوال من كتب أصحابها، ولا يقتنع بلحن بعض العلماء وبلاغة بعض العلماء، كم من قول راجع على الناس؛ لأن ابن القيم -رحمة الله عليه- عنده بيان، وعنده قوة حجة، كمن قول راج لأن ابن حزم بقوة حجته وبيانه، ثم إذا دققت ونظرت في أقوال الآخرين وأدلتهم وجدت أن المسألة تحتاج إلى إعادة نظر.
ومن هذا الحديث نأخذ أن على الإنسان أن يتأنى في أموره كلها، يعني في بحث المسائل العلمية، وفي بحث القضايا التي عند الخصوم، يعني أحياناً تكون القضية عند قاض من الشباب، يعني ليس له قدم راسخة في القضاء، جديد على القضاء، ويتقاضى فيها جهتان، وينوب عن كل جهة شخص ضليع، وقد حصل، حتى أن القاضي في بعض الجلسات ما يستطيع أن يتصرف، أمام هذا أو ذاك، في مثل هذه الحالة عليه أن يعتذر عن هذه القضية، ألا يمكن أن يوجد في الخصوم من هو أفقه من القاضي، وأبلغ من القاضي؟ القاضي عليه أن يحكم بالمقدمات الشرعية، لكن أحياناً تكون بعض القضايا لها ذيول، ولها تاريخ، بعض القضايا تستمر مدة طويلة، ويترتب عليها قضايا أخرى، وتتشعب، تحتاج إلى شيء من اللم، يدركها من له قدم راسخة في القضاء، فمثل هذه الأمور إذا وردت على قاض يعني جديد على القضاء ما مر عليه مثل هذه القضايا المتشعبة لا ضير أن يقول: والله أنا تقصر مرتبتي عن مثل هذه القضية، وتحال إلى غيره، أو يشترك معه غيره، ما في أدنى غضاضة ولا إشكال.

((ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه)) الرسول -عليه الصلاة والسلام- بشر ((إنما أنا بشر)) بشر لا يعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله إياه، فيقضي على نحو ما يسمع، الرسول -عليه الصلاة والسلام- بالإمكان أن يصل إلى الحكم المطابق للواقع؛ لأنه مؤيد بالوحي، لكنه في هذه الحالة قدوة للقضاة، يعني من يأتي بعده من القضاة الذين لم يؤيدوا بوحي، فكيف يصنعون لو لم يقل النبي -عليه الصلاة والسلام- هذا الكلام؟ كما أنه -عليه الصلاة والسلام- سها في صلاته مع إمكان أن ينبه بالوحي، ومع ذلك سها ونبه من قبل بعض من خلفه، ينسى -عليه الصلاة والسلام- ليسن، والنبي -عليه الصلاة والسلام- تنام عيناه ولا ينام قلبه، ومع ذلك نام عن صلاة الصبح حتى أيقظهم حر الشمس، لماذا؟ ليشرع، لو لم ترد مثل هذه القضايا ما عرفنا كيف نتصرف إذا وقعت لنا؟ يعني أهل الحرص وأهل التحري لو لم يحصل من النبي -عليه الصلاة والسلام- النوم في هذه الحادثة ثم نام، نام قلبه عن الصلاة حتى طلعت عليه الشمس، ماذا يحصل له من الأسى والحزن؟ ما يكدر عليه حياته، لكن إذا عرف أن النبي -عليه الصلاة والسلام- نام صار هذا فيه تسلية له، وعرف كيف يتصرف كما تصرف النبي -عليه الصلاة والسلام-.
ومثل هذا يقضي النبي -عليه الصلاة والسلام- على نحو ما يسمع من هذا الخصم البليغ، ثم بعد ذلك قد تكون النتيجة، الوسيلة شرعية، سمع من المدعي، سمع جواب المدعى عليه، طلب البينة من المدعي، أحضرت البينة، ثم بعد ذلك حكم له، النتيجة شرعية وصحيحة ما فيها أدنى إشكال، والقاضي مأجور على أي حال، سواءً كان أصاب أو أخطأ، فإن أصاب فله أجران على ما تقدم، وإن أخطأ له أجر، لكن ماذا عن المدعي والمدعى عليه إذا لم يطابق الحكم الواقع؟

((فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فإنما أقطع له قطعة من نار)) المدعي الذي أخذ هذا الحق بشهادة زور مثلاً، شهد أناس ظاهرهم العدالة، وحكم بهم القاضي، اجتهد ورأى أن الذمة تبرأ بشهادتهم، ثم صار الحكم غير مطابق للواقع.

يحكم للمدعي بقطعة من نار ((فإنما أقطع له قطعة من نار)) وفي رواية: ((فإن شاء أخذها، وإن شاء فليدعها)) وهذا أسلوب تهديد، وليس أسلوب تخيير، لا، وعامة أهل العلم على أن هذا الحكم لا يحل ولا يبيح للمدعي أخذ ما حكم له به، وإن حكم به القاضي، وأيده التمييز، فإنه حرام عليه أن يأخذ منه شيئاً، ومعروف عند الحنفية أنه إذا حكم به القاضي نفذ حكمه ظاهراً وباطناً، ويحل له أن يأكل ما حكم له به القاضي، لكن هذا القول مصادم لهذا النص الصحيح الصريح، ومنهم من يفرق بين الفروج وبين الأموال، فيقول: ينفذ الحكم ظاهراً وباطناً في النكاح والطلاق، ولا ينفذ باطناً -وإن نفذ ظاهراً- في الأموال، مع أنك تعجب من مثل هذا القول، وإلا المفترض أن يكون العكس؛ لأن الفروج يحتاط لها أكثر مما يحتاط للأموال، وعلى كل حال الحديث نص قاطع في أنه لا يحل له أن يأخذ ما حكم له به إذا كان مبطلاً في حقيقة الأمر.
يقتطع له قطعة من نار، والذين يأكلون أموال اليتامى جاء في القرآن عنهم أنهم (إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا) ((10) سورة النساء) و((الذي يشرب في آنية الذهب إنما يجرجر في بطنه نار جهنم)) لأن هذا هو المآل، معصية توعد عليها بالعذاب بالنار، فهذا مآله، وهذا في حقوق العباد، وأمره أشد من حقوق الله تعالى، هذا من الديوان الذي لا يغفر، وإن كان ما دون الشرك داخل تحت المشيئة، لكن أمره أشد من حقوق الله -جل وعلا-.
ثم بعد هذا قال -رحمه الله تعالى-: "وعن جابر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((كيف تقدس أمة؟))" التقديس: هو التطهير ((كيف تقدس أمة لا يؤخذ من شديدهم لضعيفهم؟!)) كيف تطهر هذه الأمة وهذا واقعها؟ الشديد القوي يأكل الضعيف، وهذا استبعاد لهذا التطهير وهذا التقديس ((كيف تقدس أمة لا يؤخذ من شديدهم لضعيفهم؟!)) والحديث له شواهد من حديث بريدة وأبي سعيد، كما أشار المؤلف -رحمه الله تعالى-، وبها يصل إلى درجة الحسن لغيره، وإلا فمفرداتها ضعيفة.
الحق لا بد من أخذه من الظالم للمظلوم، بغض النظر عن موقع هذا الظالم وهذا المظلوم ((ولو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) والنبي -عليه الصلاة والسلام- لما وضع الدماء في حجة الوداع والربا، أول ما بدأ بدم ابن ربيعة ابن عمه، وأول ما وضع ربا العباس بن عبد المطلب عم النبي -عليه الصلاة والسلام-، وهذا هو الواجب وهو المتعين أن يبدأ السلطان بنفسه، وأقرب الناس إليه في تطبيق الحقوق والحدود؛ ليمكن امتثال ما يأمر به، وينهى عنه.

بني إسرائيل كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، فهلكوا بسبب ذلك، ولا فرق بين شريف ووضيع أمام التشريع، وأبو بكر في أول خطبة خطبها يقول: "القوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي حتى آخذ له الحق" والنصرة واجبة للظالم والمظلوم، النصرة للمظلوم واضحة، لكن نصرة الظالم بأن يكف عن الظلم، مهما كان موقعه ومنزلته، سواءً كان من ذوي القربى، أو من ذوي الهيئات وعلية القوم، لا بد أن يؤخذ منهم الحق.

سم.

أحسن الله إليك.

وعن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:

((يُدعى بالقاضي العادل يوم القيامة، فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في عمره)) رواه ابن حبان، وأخرجه البيهقي ولفظه: ((في تمرة)).

وعن أبي بكرة -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)) رواه البخاري.

وعن أبي مريم الأزدي -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من ولاه الله شيئاً من أمر المسلمين، فاحتجب عن حاجتهم وفقيرهم، احتجب الله دون حاجته)) أخرجه أبو داود والترمذي.

وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: "لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الراشي والمرتشي في الحكم" رواه أحمد والأربعة، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان.

وله شاهد: من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله تعالى عنهما- عند الأربعة إلا النسائي.

وعن عبد الله بن الزبير -رضي الله تعالى عنهما- قال: "قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم" رواه أبو داود، وصححه الحاكم.

هذا يقول: هلا بينت كيف يميز القاضي بين المدعي والمدعى عليه؟

إذا جلس الخصمان بين يديه سأل: أيكما المدعي؟ ثم صاحب الدعوى يقول: أنا المدعي، وقد يقول المدعى عليه: أنا المدعي، فتكون الدعوى مقلوبة، وحينئذٍ لا ينظر فيها، لا تنظر الدعوى مقلوبة، لا تنظر الدعوى المقلوبة، لكن في النهاية يصل القاضي إلى معرفة المدعي من المدعى عليه بأن المدعي إذا تَرك تُرك، إذا تَرك تُرك، والمدعى عليه إذا ترك لم يترك، فإذا ادعى كل منهما أنه هو المدعي قال لهما القاضي: انصرفا، هذا المدعى عليه بينصرف فوراً، لكنه لن يترك في حقيقة الأمر، المدعي الحقيقي لن يتركه، ولن ينصرف فيتبين بذلك المدعي من المدعى عليه، يعني إذا قال القاضي للخصمين: ما عندي لكم سماع انصرفا، أحدهما سوف ينصرف، والثاني لن ينصرف، وبهذا نعرف أن هذا المنصرف هو المدعى عليه؛ لأنه لن يترك، وأما المدعي لن ينصرف وإن انصرف فيكون قد أبطل دعواه إذا انصرف.

يقول -رحمه الله تعالى-: "وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((يدعى بالقاضي العادل))" يعني يؤمر به ((يوم القيامة)) فيحضر ((فيلقى من شدة الحساب)) من التدقيق في الحساب ((ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في عمره)).

شدة الحساب تدل على المناقشة، ومن نوقش الحساب عذب ((يدعى بالقاضي العادل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في عمره)) وهذا الحديث فيه كلام لأهل العلم، والراجح عدم ثبوته، ويذكر في كتب أهل العلم من باب التحذير من الظلم، والترغيب في العدل، إذا كان هذا القاضي العادل فكيف بغيره؟! مع أنه جاءت النصوص التي تدل على مدح أهل العدل والإنصاف من القضاة وغيرهم ((المقسطون على منابر من نور يوم القيامة)) المقسطون: يعني العادلين الذين يعدلون بين أهليهم وغيرهم ممن ولوا أمرهم على منابر من نور، فيكف يقال: ((يلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين))؟ إذا ثبت له الوصف وهو العدل، والقاسطون بخلاف ذلك، المقسطون على منابر من نور، والقاسطون؟ (فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) ((15) سورة الجن) نسأل الله العافية، فالمقسط هو العادل، والقاسط هو الذي يعدل عن الحق، ويميل إلى الباطل.

((يدعى بالقاضي العادل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في عمره)) هذا العادل إذا لقي من شدة الحساب من التدقيق والمناقشة لا محيد ولا مفر أنه هالك ((من نوقش الحساب عذب)) مما يدل على أن هذا الحديث في معناه وفي ثبوته نظر.

((بين اثنين في عمره)) رواه ابن حبان، وأخرجه البيهقي، ولفظه: ((في تمرة)) من قضى بين اثنين في تمرة، فقضى بها لأحدهما دون الآخر، ولو كان عادلاً قضى بها لصاحبها، يتمنى أنه ما قضى، مما يدل على ضعف هذا الخبر؛ لأنه إذا كان العادل بهذه المثابة فمن يتولى القضاء بعد ذلك؟! من يفصل بين الناس؟ من يحل مشاكل الناس؟ إذا كان هذا في حق العادل؟ نعم الظالم الجائر جاءت النصوص بوعيده، لكن العادل جاءت النصوص الصحيحة القطعية بمدحه، وهذا الحديث يتضمن ذمه بخلاف ما جاء في النصوص القطعية.
على كل حال هذا الحديث فيه كلام لأهل العلم في سنده وفي متنه.

قال -رحمه الله-: "وعن أبي بكرة" نفيع بن الحارث الصحابي المعروف "-رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة))" هذا الحديث في البخاري، ويكثر الكلام فيه من قبل بعض الكتاب الذين يطنطنون بالمساواة بين الرجل والمرأة، ويدعون إلى أن تتولى المرأة جميع الإعمال بما فيها الولاية العظمى، وبما فيها ما يعرضها للوحوش من البشر، ولا فرق عندهم بين العمل الذي يناسبها، والعمل الذي لا يناسبها، لا يناسب طبيعتها، فتجدهم يكتبون عن هذا الحديث، ومع الأسف أنه قدح في الحديث من قبل من ينتسب إلى العلم والدعوة، وألف في السنة، ونقد السنة، ومما أورده هذا الحديث، وقال: مما يدل على عدم صحته أن الواقع يخالفه، كيف الواقع يخالفه؟ يعني تركيب المرأة تصلح معه أن تتولى الأمور العامة للناس؟ لها وظائف لا يستطيع الرجال أن يقوموا بها، لكن للرجال وظائف لا تستطيعها ولا تطيقها النساء.
هذا الكاتب الذي كتب عن السنة، ونقد بعض متون السنة، وأورد أمثلة، ومنها هذا الحديث، وقال: إن الواقع يخالفه، كيف الواقع يخالفه؟ قال: غاندي حكمت الهند سبعمائة مليون في وقتها، ومشت أمورهم بحكمها؟ كيف مشت؟! بغير ما أنزل الله تمشي الأمور؟!

يقول: جولد مائير هزمت العرب بسبعة وستين، وثلاثة وسبعين أو ما أدري كم؟ رئيسة وزراء إسرائيل، وتاتشر المرأة الحديدية التي صارت رئيسة وزراء بريطانيا مدة، هؤلاء نسوة نجحن في قيادة الأمم والشعوب كيف يقال: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة))؟ بمثل هذا الكلام ترد النصوص الصحيحة؟! يعني إذا تطاولنا على البخاري ماذا يبقى لنا؟ لكنه الهوى والضلال، وليس للضلال حد ولا نهاية إذا بدأ الإنسان وانساق وراء عقله فإنه لن يقف عند حد، سوف يضيع في المتاهات، يعني يمكن أن يقول هذا الشخص مثل هذا الكلام في بداية طلبه للعلم، وفي أثناء طلبه للعلم، لكن نسأل الله الثبات.

((لن يفلح قوم ولوا أمرهم)) لما تولت بنت كسرى، ولوها بعد أبيها، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)) وهكذا حصل، وهكذا وقع الخبر مطابقاً لما أخبر به النبي -عليه الصلاة والسلام-.
حتى هؤلاء النسوة اللواتي تولين هذه المهمات مما ذكر في الأمثلة، هل المرأة هي التي تدير شئون الملك والحكم والدول في حقيقة الأمر؟ هي مجالس التي تدير هذه الدول مجالس، ودساتير يعملون بها، هي في أصلها مخالفة لما شرعه الله -جل وعلا-، ويطبقها أناس، مجالس ليس التطبيق يوكل إلى فرد بعينه، فليست هي في الحقيقة هي الحاكمة، وإن نصبوها تمثالاً يتوصلون به إلى مآربهم ومقاصدهم، فينظر إلى الأمور بعين الاعتدال والإنصاف والحكمة، نعم المرأة نصف المجتمع، ولها مهام أنيطت بها من قبل الشرع لا يستطيعها الرجال، فلا يستطيع الرجل تربية الأولاد، ولا حضانة الأولاد، لا يستطيعها إلا النساء، وهذه من أعظم المهمات؛ لأنك تتعامل مع شخص لا يعقل، وله مشاعره، وله عواطفه، يعني لست تتعامل مع حضيرة غنم لا تعقل، ولا تتعامل مع عقلاء ينصاعون للأوامر والنواهي، ويحذرون بالترهيب، ويرغبون بالترغيب، لا، تتعامل مع شخص ليس ببهيمة، له مشاعره، وله عواطفه، وله نفسيته التي تتأثر بأدنى شيء، وتنخدش بأدنى شيء، لكنه ليس عنده من العقل ما يميز به ما ينفعه ويضره، والإنسان في هذه المرحلة من أصعب ما يمكن التعامل معه، وكلت هذه المهمة العظيمة للمرأة، ولا يطيقها الرجال، لا يستطيع الأب أن يتعامل مع الولد في هذه السن، لكن وكل له أمور أخرى تليق بتركيبه، وتليق بطبيعته البشرية، والرجال قوامون على النساء، ومع ذلك لهن مثل الذي عليهن بالمعروف، يعني لهن حقوق مثل ما للرجل عليهن، ولكن الرجال فضلوا على النساء بدرجة.

قال بعضهم: إن بعض النساء أذكى من زوجها بمراحل، ومع ذلك تحشر المرأة الذكية في البيت، والرجل الأقل ذكاءً يخرج للناس، فكان من بعض الأجوبة اللطيفة، مما قاله بعضهم ممن يرد على هذه الشبه، قال: ليس الظهور بأكمل من الاختفاء مطلقاً، فأنت ترى الحارس أكثر مما ترى المدير، والحارس أقل من المدير، يعني ليس الظهور أمام الناس باستمرار هو من أجل أنه أفضل، أو من أجل أن من أتيح له الظهور أفضل من غيره، وعلى كل حال كانت المرأة مظلومة في الجاهلية، فرفع الإسلام من شأنها، بما لا مزيد عليه؛ لأن الزيادة على ما قرره الإسلام ضرر على الجنسين، وماذا جنت الأمة من الدعوات التي خلال قرن من الزمان، يعني أخرجت المرأة من وظيفتها، ومع ذلك ما استفادت مما وكل إليها، ولا استفيد منها على المستوى الذي خطط له، لكن يظهر من خلال بعض التصرفات شيء ينم عن بعض النوايا السيئة.
فليس الحرص على المرأة وخروج المرأة وعمل المرأة النظر فيه إلى المصلحة بقدر ما فيه من تقليد من جهة، وإرضاء لرغبات ونزوات من بعض المغرضين، والله المستعان.

قال -رحمه الله-: "وعن أبي مريم الأزدي -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من ولاه الله شيئاً من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وفقيرهم احتجب الله دون حاجته))" الجزاء من جنس العمل، لماذا يولى هذا الشخص على أمر من أمور المسلمين؟ إنما ولي ليخدم مصالح المسلمين، فإذا احتجب عنهم لم يستطع القيام بما وكل إليه، وما أسند إليه، فإذا احتجب عنهم ضيعهم، وضيع حوائجهم، فيجازى بجنس عمله، تضيع حاجته، ويحتجب الله -جل وعلا- دون حاجته، وإذا احتجب الله -جل وعلا- دون حاجته من يقضيها؟ البشر كلهم لا يستطيعون قضاء حاجة من احتجب الله دون حاجته؛ لأن قلوب هؤلاء البشر كلهم بيد الله -جل وعلا-، هو الذي يسيرهم لقضاء حاجة فلان، وتفريج هم فلان، وتنفيس كربة فلان، حتى الذي يدفع المال من جيبه للفقير هذا لا يدفع من ماله (وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ) ((33) سورة النــور) وقد يأتي شخصان من ذوي الحاجات إلى غني، وقد يكون أحدهما أشد حاجة من الآخر، فينشرح صدره ليعطي فلان ويمنع فلان، الله -جل وعلا- هو الذي أمره بإعطاء فلان، وحجب عطاءه عن فلان.
"
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" طيب ولعلنا نكتفي بهذا نرجئ ما بقي للدرس القادم، والله أعلم.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

"
هذا يقول: لماذا لم يورد الحافظ ابن حجر كتاب عمر في القضاء لأبي موسى الأشعري؟

أولاً: الحافظ لم يلتزم إيراد كل ما يتعلق في أحاديث الأحكام، ولذا تجدون ما في البلوغ يعادل ربع ما في المنتقى، والإلزام بغير ما يلتزم به المؤلف ليس بوارد، والإلزامات التي ذكرها الدارقطني من إلزام البخاري ومسلم أحاديث لم يخرجاها في كتابيهما، مع أن شروطهما تتفق، ومتوافرة في هذه الأحاديث، نقول كما قلنا هنا: إن الحافظ لم يلتزم في إيراد جميع أحاديث الأحكام وما يتعلق بها، وكذلك البخاري ومسلم لم يلتزما إيراد كل ما صح، فالاختيار متروك للمؤلف.

ذكر الفقهاء ضمن الشروط بالنسبة للقاضي: أن يكون القاضي بصيراً، وعللوا ذلك لكي يرى المدعي والمدعى عليه، فهل معنى ذلك أن الأعمى لا يصلح للقضاء؟

لا شك أنه شرط كمال، هو شرط كمال، وليس بشرط صحة، فكما هو الشأن في الإمارة، هم اشترطوه في الإمامة العظمى والولايات العامة، لكن مع ذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- استخلف ابن أم مكتوم مراراً على المدينة، مما يدل على أن ولايته صحيحة، وإمامة الأعمى سبق الكلام فيها حتى من أهل العلم من يقول: إن الأعمى أولى بالإمامة من المبصر، ومنهم من يرى أن المبصر ألوى بالإمامة من الأعمى، وكل له حجته، وكلها علل، وليس فيها نص، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- استخلف ابن أم مكتوم على المدينة مراراً، وعلى هذا فالأعمى لا خدش في إمامته، ولا في إمارته، ولا في قضائه، وعلى مر التاريخ تولى القضاء كثير من العميان، إلى عصرنا الحاضر، وكثير منهم متميز في قضائه، بل أكثر المتميزين من العميان، لكنه شرط كمال؛ لأن النظر في ملامح الوجوه، يعني إذا استوى من كل وجه الأعمى والمبصر المبصر أولى، إذا استوى من كل وجه، لكن قد يكون في الأعمى من الصفات ما يميزه على كثير من المبصرين، وحينئذٍ يرجح عليهم.

هذا يقول: أنا طالب في كلية الشريعة، وأخشى إن تخرجت أن أختار للقضاء، فما هي نصيحتكم لي؟

على كل حال إذا كنت تعلم من نفسك، وتؤمن من نفسك الكفاءة والأهلية فلا تتأخر، أما إذا كنت تعرف من نفسك ما لا يعرفه غيرك من عدم الكفاءة؛ لأن اللجان التي تختار للقضاء يعملون على الظاهر، يعاملون الناس على الظاهر، ويتحرون في الاختيار، لكن مع ذلك قد يختارون مفضول، ويتركون من هو أفضل منه؛ لأنهم ليسوا بمعصومين، وبعض الناس يجيد حسن التعامل في الظاهر، وإن كان عنده في الباطن ما قد يكون خادشاً في هذا الاختيار.
وهنا يقول: من المعلوم أن القضاء عندنا إلزامي؟
نعم لولي الأمر ومن ينوب عنه أن يلزم من يرى فيه الأهلية، له أن يلزم من يرى فيه الأهلية.
يقول: القضاء عندنا إلزامي، ويتم تعليق اسمه في وزارة الخدمة المدنية، فلا يستطيع التقديم في أي وظيفة؟
يعني هذا من باب الإلزام، من تمام الإلزام؛ لأنه لو ترك له الاختيار والتقديم إلى جهة أخرى، ويتم قبوله في تلك الجهة ما صار للإلزام معنى.
فما الحكم فيمن لا يرى في نفسه الصلاحية للقضاء؟
إذا كان لا يرى بالفعل؛ لأن بعض الناس قد يخيل له أنه لا يصلح، وقد يتواضع ويهضم نفسه فيرى أنه لا يصلح، وهو في الحقيقة صالح، فإذا شهد له أهل الخبرة واستفاض بين زملائه أنه صالح تكفي هذه الاستفاضة.
يقول: علماً بأن هناك في بعض الحالات ممن رفضوا القضاء جلسوا عاطلين عن العمل لمدة سنوات.
وهذا أيضاً من تمام الإلزام، ولو لم يجلسوا عاطلين لما تم الإلزام.

هذا يقول: في نسختي: ((فنعمت المرضعة، وبئست الفاطمة)) تحقيق الشيخ طارق عوض الله، فهل لفظة (فنعمت) صحيحة؟

الشراح نصوا على التغاير، ووجهوا هذا التغاير بين (نعم وبئس) مما يدل على أن الأصول كذلك، والشيخ طارق من أهل العناية وأهل التجويد، وأهل التحري في التحقيق، لكنه لا سيما في سبل السلام في طبعته أخطاء كثيرة، يعني مرت بنا أخطاء ما يمكن أن تمشي على مثله، فلعله مع كثرة أعماله العلمية، وكل متابعة العمل في هذا الكتاب إلى غيره، وإلا فالمعروف عنه أنه من أهل التحري والتثبت.