التعليق على الموافقات (1433) - 07
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نعم.
طالب: أحسن الله إليك. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد، يقول الشاطبي -رحمه الله تعالى-: "المسألة الخامسة: إذا وقع القول بيانًا، فالفعل شاهد له ومصدق، أو مخصص أو مقيد، وبالجملة عاضد للقول حسبما قُصد بذلك القول، ورافع لاحتمالات فيه تعترض في وجه الفهم، إذا كان موافقًا غير مناقض، ومكذِّب له أو موقع فيه ريبةً أو شبهةً أو توقفًا إن كان على خلاف ذلك".
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المؤلف -رحمه الله- يقرر في هذه المسألة أنه لا بد من تعاضد القول والفعل، بحيث لا يناقض القولُ الفعلَ، ولا الفعلُ القولَ؛ وحينئذٍ يكون أقوى في الدلالة على المراد. وأنتم تعرفون على مر العصور عصور الأمة من علمائها ومن أدعياء العلم، من اقترن قوله بالعمل هو قدوة، ومن قال قولًا وتركه فلم يعمل به، فمثل هذا لا يُقتدى به: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88].
نعم. فالقول إذا لم يعضده العمل فإنه فإن أثره ضعيف. فلا بد أن يبادر العالِم بفعل ما يأمر به وبترك ما ينهى عنه، ويكون أول المبادرين.
كما جاء في حديث خطبة حجة الوداع، في حجة الوداع قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس»، ما بدأ بالأبعدين وترك الأقربين، كما هو منتشر الآن، «ودماء الجاهلية موضوع، وأول دم أضعه دم ابن ربيعة بن الحارث»، ابن عمه -عليه الصلاة والسلام-. فالذي يأمر الناس ويخالف ما يأمر به، أو يترك من حوله يخالفون، أو يستثني من هذه الأوامر بعض الناس؛ تجد أثره في الناس ضعيفًا جدًّا لا يكاد يؤثر، والناس يقولون: لو كان عمله صحيحًا لفعله. هذا ما يريد المؤلف أن يقرره -رحمه الله-.
طالب: "وبيان ذلك بأشياء؛ منها: أن العالِم إذا أخبر عن إيجاب العبادة الفلانية أو الفعل الفلاني، ثم فعله هو ولم يُخل به في مقتضى ما قال فيه، قوي اعتقاد إيجابه، وانتهض العمل به عند كل من سمعه يُخبر عنه ورآه يفعله. وإذا أَخبر عن تحريمه مثلًا، ثم تركه فلم يُر فاعلًا له ولا دائرًا حواليه، قوي عند متبعه ما أخبر به عنه. بخلاف ما إذا أخبر عن إيجابه ثم قعد عن فعله، أو أخبر عن تحريمه ثم فعله، فإن نفوس الأتباع لا تطمئن إلى ذلك القول منه طمأنينتها إذا ائتمر وانتهى؛ بل يعود من الفعل إلى القول ما يقدح فيه على الجملة، إما من تطريق احتمال إلى القول، وإما من تطريق تكذيب إلى القائل، أو استرابة في بعض مآخذ القول. مع أن التأسي في الأفعال والتروك بالنسبة إلى من يُعظَّم في دين أو دنيا كالمغروز في الجبلة، كما هو معلوم بالعيان، فيصير القول بالنسبة إلى القائل كالتَّبع للفعل، فعلى حسب ما يكون القائل في موافقة فعله لقوله، يكون اتباعه والتأسي به، أو عدم ذلك".
لا سيما بالنسبة للعامة الذين لا يعرفون الأحكام، فإنهم ينظرون إلى عمل العالم، ينظرون إلى عمل العالم. أما طالب العلم الذي يعرف أن هذا الكلام صحيح، مبني على دليل شرعي صحيح ثابت، فإنه لو لم يعمل به المتكلم يقولون: نحن نعمل بحكم ثابت في الشرع بغض النظر عن عمله، ومن هنا يقول القائل: (انظر لقولي، ولا تنظر لعملي)، قال بعضهم هكذا، فالقول المقرون بدليله يؤخذ ممن جاء به ولو خالف عمله قوله.
أما بالنسبة للعامي الذي لا يعرف الأحكام ولا تقريرها ولا مآخذها ولا أدلتها، فليس له إلا النظر إلى الفعل دون القول. والعامة تقرر عندهم كثير من الأعمال، فتجدهم لا يطعنون في القول؛ لأنه تقرر عندهم بأفعال علماء سابقين، شيوخ هذه الطبقة التي معهم أو بينهم، لا تجد عاميًّا يقول: واللهِ أنا أتأخر عن صلاة الجماعة؛ لأن فلانًا يتأخر عنها، وهو من أهل العلم! هذا متقرر عندهم، ولا يقول: أنا أتأخر عن الصف الأول. الأمور مقررة عندهم هذه يستوي فيها العالم والعامي، فلا يقتدون به؛ بل ينتقصون هذا الذي يتأخر. لكن إذا كان علم هذه المسألة ما وصلهم إلا عن طريقه، فلا شك أن تركه للعمل قادحًا في قوله عندهم.
طالب: "ولذلك كان الأنبياء -عليهم السلام- في الرتبة القصوى من هذا المعنى، وكان المتبعون لهم أشد اتباعًا، وأجرى على طريق التصديق بما يقولون، مع ما أيدهم الله به من المعجزات والبراهين".
وذلكم لأن أعمالهم لا تتخلف عن أقوالهم، إلا إذا تركوا شيئًا مما حثوا عليه؛ لبيان الجواز، وهو في حكمهم أفضل من الفعل يكون حينئذٍ، فهم قد يحثون على شيء بالقول ويتركونه أحيانًا؛ لبيان جواز تركه، ولصرف الأمر من الوجوب إلى الاستحباب.
طالب: "مع ما أيدهم الله به من المعجزات والبراهين القاطعة، ومن جملتها ما نحن فيه، فإن شواهد العادات تصدق الأمر أو تكذبه، فالطبيب إذا أخبرك بأن هذا المتناول سم فلا تقربه، ثم أخذ في تناوله دونك، أو أمرك بأكل طعام أو دواء لعلة بك ومثلها به".
مَن مِن الناس يأخذ بنصيحة طبيب في أن الدخان ضار والسيجارة بيده؟ مَن مِن الناس يأخذ بقوله؟ هل يقتدى به وهذا صنيعه؟ ما يمكن.
طالب: "فالطبيب إذا أخبرك بأن هذا المتناول سم فلا تقربه، ثم أخذ في تناوله دونك، أو أمرك بأكل طعام أو دواء لعلة بك ومثلها به، ثم لم يستعمله مع احتياجه إليه؛ دل هذا كله على خلل في الإخبار، أو في فهم الخبر، فلم تطمئن النفس إلى قبول قوله، وقد قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} الآية [البقرة: 44]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} الآية [الصف: 2].
ويخدم هذا المعنى الوفاء بالعهد وصدق الوعد، فقد قال تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]، وقال في ضده: {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ...} [التوبة: 75] إلى قوله: {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77]".
نعم؛ لأنه عاهد الله على ذلك: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة: 75]، فعل أم ما فعل؟ وفى أم ما وفى؟
طالب: لم يوفِّ.
ما وفَّى، والنتيجة: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77].
طالب: "فاعتبر في الصدق كما ترى مطابقة الفعل القول، وهذا هو حقيقة الصدق عند العلماء العاملين، فهكذا إذا أخبر العالم بأن هذا واجب أو محرَّم، فإنما يريد على كل مكلف وأنا منهم، فإن وافق صدق، وإن خالف كذب".
قد يقول قائل: العامة ما الذي دهاهم الآن بأن تغيروا تغيرًا كبيرًا عنهم قبل ثلاثين سنة مثلًا؟ في الأول يوجد عباد بكثرة، هذا الخشوع وهذا الإخبات وقيام ليل وبكاء، شيء أدركناه. لماذا تغير الآن؟ عامي تجده يلهث وراء الدنيا وكأن الأمر لا يعنيه، وإذا جلس في مجالس قيل وقال ما يستفيد منها، لماذا؟ لأنه يرى التغير في طلبة العلم والعلماء.
طالب: "ومن الأدلة على ذلك أن...".
فيحذر طالب العلم أن يقع في مثل هذا، فلا يقتصر ضرره على نفسه؛ لأن هذا متعدٍّ إلى غيره، هو يُقتدى به في الجملة، فيكون كالصاد عن ذكر الله.
طالب: "ومن الأدلة على ذلك أن المنتصب للناس في بيان الدين منتصب لهم بقوله وفعله، فإنه وارث النبي، والنبي كان مبينًا بقوله وفعله، فكذلك الوارث لا بد أن يقوم مقام الموروث، وإلا لم يكن وارثًا على الحقيقة. ومعلوم أن الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا يتلقون الأحكام من أقواله وأفعاله وإقراراته وسكوته وجميع أحواله".
الآن حجة كثير من العوام في اقتناء القنوات الهابطة الإباحية التي تبث الشبهات والشهوات، وتضرهم في دينهم ودنياهم، لماذا جرأوا عليها، مع أنهم كانوا يعظمون هذه الأمور؟ قالوا: الشيخ فلان يطلع في القناة، فقط هذه حجتهم، ولو كانت حرامًا ما طلع. فالعامة ليس لهم إلا هذا، لا يدركون حقائق الأمور، لا شك أن هذا تغرير بهم، ويخشى من أن يتحمل أوزارهم هذا الذي خرج. قد يكون له تأويل سائغ، يقول: أنا أريد أن أصل إلى فئة لا أصل إليهم، ما يجيؤون لنا المساجد، فكيف أصل إليهم؟ كيف أبلغهم، والنبي -عليه الصلاة والسلام- كان يغشى العرب، ويغشى المشركين في مجالسهم، الرسول -عليه الصلاة والسلام- يغشى المشركين في مجالسهم، وقبله امرأة سافرة متبرجة وبعده أغنية؟ تقول هذا الكلام؟ حاشا، حاشا وكلا.
طالب: فاصل.
ماذا؟
طالب: يعملون فاصل أغانٍ.......
نعم، والله المستعان. نعم.
طالب: "ومعلوم أن الصحابة...".
ماذا؟
طالب: .......
هذا الرسول -عليه الصلاة والسلام- ملزم بتبليغ الدعوة وتبليغ الرسالة، ولا وسيلة إلا هذا، ولا بعد بني مساجد، ولا بعد صار لهم محلات يجتمعون فيها ويلقي عليهم ما يريدون إلا هذا، فهذه ضرورة.
طالب: يا شيخ، مثل هؤلاء يُنكر عليهم.......
على كل حال برفق، لهم وجهة نظرهم، لكن يبقى أن هذا تغرير، بعضهم يقول: أنا ما أحرص على المساجد؛ لأن المساجد يغشاها صالحون، أحرص على ملعب أو على بنك أروح أنصحهم، وألقي عندهم محاضرة أو درسًا أو ما أشبه ذلك؛ لأنه كثير منهم ما يجيء إلى المسجد، والمساجد ما هي بحاجة، فيهم صالحون، وفيهم مشايخ ينتفعون منهم.
طالب: "ومعلوم أن الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا يتلقون الأحكام من أقواله وأفعاله وإقراراته وسكوته وجميع أحواله، فكذلك الوارث، فإن كان في التحفظ في الفعل كما في التحفظ في القول، فهو ذلك، وصار من اتبعه على هدًى، وإن كان على خلاف ذلك صار من اتبعه على خلاف الهدى، لكن بسببه. وكان الصحابة -رضي الله عنهم- ربما توقفوا عن الفعل الذي...".
لا يُعذر من ارتكب المخالفة من أجل أن فلانًا من الناس خالف، نعم فلان من الناس الذي هو قدوته متسبب، لكن المخالف مباشر لهذه المخالفة فلا يُعذر، ما يقول: واللهِ نحن بذمة المشايخ، ما هو بصحيح.
طالب: "وكان الصحابة -رضي الله عنهم- ربما توقفوا عن الفعل الذي أباحه لهم السيد المتبوع -عليه الصلاة والسلام- ولم يفعله هو، حرصًا منهم على أن يكونوا مُتبعين لفعله وإن تقدم لهم بقوله، لاحتمال أن يكون تركه أرجح، ويستدلون على ذلك بتركه -عليه الصلاة والسلام- له، حتى إذا فعله اتبعوه في فعله، كما في التحلل من العمرة، والإفطار في السفر، هذا وكل صحيح".
يعني "في التحلل من العمرة" في قصة الحديبية، "والإفطار في السفر" حينما دعا بماء أو بلبن شرب منه وهم ينظرون، وكان يصوم في السفر -عليه الصلاة والسلام- ويفطر، والصحابة يصومون ويفطرون، وإذا لم تكن ثَم مشقة فالصيام أفضل، وإذا وُجدت المشقة فالفطر أفضل، إلى أن يكونوا عصاة إذا زادت المشقة.
المقصود أن النبي -عليه الصلاة والسلام- حث على الصيام، حث على العمرة، حث على الحج، وخالف ذلك درءًا للمشقة، ودخل البيت وندم على ذلك؛ خشية من أن يتدافع الناس ويشق عليهم، رحمة ورأفة بأمته -عليه الصلاة والسلام-.
طالب: "فما ظنك بمن ليس بمعصوم من العلماء؟ فهو أولى بأن يبين قوله بفعله، ويحافظ فيه على نفسه، وعلى كل من اقتدى به. ولا يقال: إن النبي معصوم، فلا يتطرق إلى فعله أو تركه المبين خلل، بخلاف من ليس بمعصوم؛ لأنا نقول: إن اعتبر هذا الاحتمال في ترك الاقتداء بالفعل، فليعتبر في ترك اتباع القول".
هذا المعصوم قد يترجح عنده قول مرجوح، وحسبه أنه اجتهد وبذل وسعه؛ ليكون له أجر، ثم عمل به تبعًا لقوله، هذا هو الواجب في حقه، ولا يكلف أكثر من هذا. بخلاف المعصوم الذي لا يمكن أن يرجح غير الراجح أو يعمل بغير الراجح، إلا لمصلحة راجحة، كأن يُبين أنه ليس على سبيل الوجوب.
طالب: "وإذ ذاك يقع في الرتبة فساد لا يصلح، وخرق لا يرقع، فلا بد أن يجري الفعل مجرى القول، ولهذا تستعظم شرعًا زلة العالم، وتصير صغيرته كبيرةً، من حيث كانت أقواله".
لا سيما إذا كانت هذه الزلة في القضايا الحساسة بالنسبة للأمة والمجتمع، هذه لا تُغتفر؛ لأنه يضل بسببها كثيرة، وحينئذ عليه أن يتحرى ويتثبت ويستشير ويديم النظر في المسألة ويستخير ويسأل الله -جل وعلا- أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه ولا يستعجل، أما مجرد زلة نشأت عن عجلة وضل بسببها كثير أو انتهك بها أمور، كما هو الحاصل الآن: بعض الناس تتعجل في بعض القضايا، ثم بعد ذلك تحل بالأمة ولا يمكن رفعها بسببه، والله المستعان.
طالب: "ولهذا تستعظم شرعًا زلة العالم، وتصير صغيرته كبيرة، من حيث كانت أقواله وأفعاله جاريةً في العادة على مجرى الاقتداء، فإذا زل حُملت زلته عنه قولًا كانت أو فعلًا؛ لأنه موضوع منارًا يُهتدى به، فإن علم كون زلته زلةً، صغرت في أعين الناس وجسر عليها الناس تأسيًا به، وتوهموا فيها رخصةً علم بها ولم يعلموها".
عامة الناس، يظن بعض الناس أنهم ما يميزون، هم يميزون ويعرفون ويزنون أهل العلم بموازين صحيحة؛ ولذا كان فرضهم سؤال أهل العلم. يعرفون أن هذا حق أن يُقتدى به، وهذا ما يستحق أن يُقتدى به. فالعامة يميزون، ويعرفون كثير الزلات، ويعرفون كثير الشواذ، ويعرفون صاحب التحري، ويعرفون من قُرن قوله بالفعل وبالعمل، يميزون، وإن كانت ليست لديهم الأدوات العلمية الدقيقة، لكنهم في الجملة أعطاهم الله -جل وعلا- من دقة النظر ما يميزون به؛ ولذا كان فرضهم تقليد أهل العلم. طيب، العلماء كثير وأقوالهم مختلفة ومتعارضة، وكلٌّ له رأيه في المسألة، لكنهم يميزون ويعرفون الأتقى والأصلح والأورع والأعلم، يعرفون هذا، ولو سألت الناس في مجالسهم: أيهم أولى بالاقتداء فلان أم فلان؟ لا تكاد تجدهم يختلفون في هذا.
طالب: "فإن علم كون زلته زل، صغرت في أعين الناس وجسر عليها الناس تأسيًا به وتوهموا فيها رخصة علم بها ولم يعلموها هم تحسينًا للظن به، وإن جهل كونها زلة، فأحرى أن تُحمل عنه محمل المشروع، وذلك كله راجع عليه. وقد جاء في الحديث: «إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة». قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: «أخاف عليهم من زلة العالم، ومن حكم جائر، ومن هوًى متبع»".
هذا الحديث ضعيف عند أهل العلم؛ لأنه من رواية كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده، وهو ضعيف وضعفه شديد.
طالب: "وقال عمر بن الخطاب: «ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون». ونحوه عن أبي الدرداء ولم يذكر فيه الأئمة المضلين. وعن معاذ بن جبل: «يا معشر العرب, كيف تصنعون بثلاث: دنيا تقطع أعناقكم، وزلة عالم، وجدال منافق بالقرآن؟». ومثله عن سلمان أيضًا. وشبه العلماء زلة العالم بكسر السفينة؛ لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير".
يعني زلته لا تقتصر عليه، وإنما تسري إلى كل من اقتدى به. وبعض الناس يعرف أن هذا العالم ليس بأهل أو ليس بأولى أن يُقتدى به من غيره، لكنه الهوى، لا سيما إذا كانت هناك مصلحة دنيوية أو تنصل من تكليف. يعني تجد العامة على جادة، ويصومون الفرائض والنوافل، وما سمعنا أحدًا يترك صيام الست مثلًا؛ لأنها ثابتة عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، ثم نُشر وشهر قول مالك: الذين يشق عليهم الصيام، ولو كان من شَهره ليس بأهل أن يُقتدى به، وليس بأرجح من غيره، لكنه الهوى. ومثله إذا عُلم عن مساهمة، تجد أهل التحري وأهل التثبت يحذرون من هذه المساهمة، ثم ينبغ من ينبغ من يجيزها، تجد من في قلبه هوى، نعم خلاص.
طالب: أجازها فلان.
أجازها فلان، وقد يطعن في الثاني، لا سيما إذا كان من الكبار. وسمعنا من يقول: الكبار خبرتهم بالمعاملات المعاصرة ما هي بكبيرة. ثم إذا خسرت المساهمة وسقطت الأسهم.
طالب: يرجع.
قال: لا، هؤلاء صغار، ماذا يدريهم عن العلم؟ يرجع على صاحبه الذي اقتدى به! يعني سمعنا هذا وهذا، والسبب في ذلك الهوى، ما قصدهم حق.
طالب: "وعن ابن عباس: «ويل للأتباع من عثرات العالم. قيل: كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئًا برأيه، ثم يجد من هو أعلم برسول الله منه، فيترك قوله ذلك، ثم يمضي الأتباع»".
نعم يرجع عن قوله ولا يبين للناس أنه رجع، ثم يستمر الناس يقلدونه على قوله المرجوح الذي رجع عنه، وهو رجع إلى الصواب والقول الراجح.
طالب: "وهذه الأمور حقيق أن تهدم الدين".
ولذلك من قال قولًا ثم رجع عنه، عليه أن يبين، عليه أن يبين بنفس المستوى الذي بلغ به القول الأول. ولذلك في توبة من ضل أو أضل الناس من أهل البدع: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة: 160]، لا بد من البيان، أما أن يستمر الناس على الضلال بسببه ثم يعود إلى رشده ويتوب، من شرط توبته أن يبين.
طالب: "وهذه الأمور حقيق أن تهدم الدين. أما زلة العالم، فكما تقدم، ومثال كسر السفينة واقع فيها، وأما الحكم الجائر فظاهر أيضًا، وأما الهوى المتبع فهو أصل ذلك كله، وأما الجدال بالقرآن، فإنه من اللسن الألد من أعظم الفتن لأن القرآن مهيب جدًّا".
شخص من عامة الناس كبير من العامة جاءني في يوم من الأيام وقال: رأيت الشيخ فلانًا جزاه الله خيرًا يقول: الحلي ما فيه زكاة. فرح بهذه الفتوى.
طالب: .......
ما هي مسألة أن يوفر، فماذا قلت له أنا؟ قلت: أنا أرى أن ما فيه زكاة، لكن ضعني أنا وفلانًا بكفة، وضع ابن باز وابن عثيمين بكفة، والمسألة دين ما هي بهوى، والله المستعان.
طالب: "فإن جادل به منافق على باطل أحاله حقًّا، وصار مظنةً للاتباع على تأويل ذلك المجادل، ولذلك كان الخوارج فتنةً على الأمة، إلا من ثبَّت الله؛ لأنهم جادلوا به على مقتضى آرائهم الفاسدة".
لأنهم عندهم قوة في الجدل وصلابة فيما يزعمون أنه حق، وعندهم أدلة تخدمهم. لكنهم ينظرون إليها من زاوية، ولا ينظرون إليها من زاوية أخرى؛ لوجود النصوص التي تصرفها عن فهمهم.
طالب: "ووثقوا تأويلاتهم بموافقة العقل لها، فصاروا فتنةً على الناس، وكذلك الأئمة المضلون؛ لأنهم بما ملكوا من السلطنة على الخلق قدروا على رد الحق باطلًا والباطل حقًّا، وأماتوا سنة الله، وأحيوا سنن الشيطان، وأما الدنيا فمعلوم فتنتها للخلق. فالحاصل أن الأفعال أقوى في التأسي والبيان إذا جامعت الأقوال من انفراد الأقوال، فاعتبارها في نفسها لمن قام في مقام الاقتداء أكيد لازم، بل يقال: إذا اعتُبر هذا المعنى في كل من هو في مظنة الاقتداء ومنزلة التبيين، ففرض عليه تفقد جميع أقواله وأعماله، ولا فرق في هذا بين ما هو واجب وما هو مندوب أو مباح أو مكروه أو ممنوع، فإن له في أفعاله وأقواله اعتبارين:
أحدهما: من حيث إنه واحد من المكلفين، فمن هذه الجهة يتفصل الأمر في حقه إلى الأحكام الخمسة.
والثاني: من حيث صار فعله وقوله وأحواله بيانًا وتقريرًا لما شرع الله -عز وجل- إذا انتصب في هذا المقام".
يعني المقام الأول باعتباره في ذاته، والمقام الثاني في اعتباره قدوة لغيره. يعني الشخص اللي غير منظور إليه ولا يُقتدى به سواء أخطأ أو أصاب، هذا ضرره على الناس قليل، ضرره على نفسه وبينه وبين ربه، هذا الأمر سهل. لكن الإشكال في الأجيال التي تقتدي به وليس الجيل الحاضر، لا سيما إذا كان كلامه مسطرًا ومدونًا في كتاب. نعم.
طالب: "فالأقوال كلها والأفعال في حقه إما واجب وإما محرم، ولا ثالث لهما؛ لأنه من هذه الجهة مبين، والبيان واجب لا غير".
نعم، البيان واجب، يبين بأن هذا الفعل سنة، بالنسبة له، لا لأن الحكم سنة، لكن يُنظر إليه باعتبار أن البيان واجب، وأنك إذا قلت سنة كأنك تقول: هذا مراد الله -جل وعلا- من هذه الآية، أو هذا مراد نبيه -عليه الصلاة والسلام- من هذا الحديث.
طالب: "فإذا كان مما يفعل أو يقال".
يعني ليس الأمر في تقرير السنن بأخف منه في تقرير الواجبات؛ لأن كل هذا عن الله -جل وعلا-، ما يقال إن السنة أسهل من...، الكلام في طريقة إثبات الحكم، ولذا لما تساهل بعض الناس في إثبات الفضائل بالأحاديث الضعيفة قالوا: الشرع أشار إلى هذا، جوز الصلاة صلاة النافلة من قعود، ولم يجوزها في الفريضة، ودل على أن هذا يختلف عن هذا. فرق بين الكيفية وبين الإثبات، هذا أنت تنسب للشرع ثبوت هذا الفعل، سواء كان واجبًا أو مندوبًا. أما الكيفية التي ورد الشرع بتخفيفها في الندب دون الفرض، هذا أمرها يختلف، الإثبات نسبة إلى الشرع ما لم يثبت عنه سواء كان فرضًا أم نافلة ما يختلف. لكن الكفيفة تؤدى على ضوء ما جاء عن الله وعن رسوله -عليه الصلاة والسلام-.
طالب: "فإذا كان مما يفعل أو يقال، كان واجب الفعل على الجملة، وإن كان مما لا يفعل، فواجب الترك، حسبما يتقرر بعد بحول الله، وذلك هو تحريم الفعل. لكن هذا بالنسبة إلى المقتدى به إنما يتعين حيث توجد مظنة البيان، إما عند الجهل بحكم الفعل أو الترك، وإما عند اعتقاد خلاف الحكم أو مظنة اعتقاد خلافه. فالمطلوب فعله بيانه بالفعل، أو القول الذي يوافق الفعل إن كان واجبًا، وكذلك إن كان مندوبًا مجهول الحكم".
لا شك أن البيان بالفعل أقوى؛ لأنه يصور تصويرًا دقيقًا ومرئيًّا. القول إذا كان مطابقًا للفعل، بحيث تكون الصورة معلومة لدى السامع كفى البيان بالقول، وإذا كانت غير مفهومة للسامع وفصلت وقد أخفى بعضها حتى مع التفصيل، فلا بد من البيان بالقول، وقد سبق القول بأن البيان بالفعل أقوى من البيان بالقول والعكس.
طالب: "فإن كان مندوبًا أو مظنة لاعتقاد الوجوب، فبيانه بالترك أو بالقول الذي يجتمع إليه الترك، كما فُعل في ترك الأضحية وترك صيام الست من شوال، وأشباه ذلك، وإن كان مظنةً لاعتقاد عدم الطلب".
لئلا يُظن الوجوب، لكن ممن؟ ممن يُقتدى به، قد يترك العالم اقتداء بالنبي -عليه الصلاة والسلام- فعلًا مسنونًا؛ لئلا يلتزمه طيلة عمره فيظنه الناس واجبًا، فيبين للناس أحيانًا بالقول وأحيانًا بالفعل، كما فعل النبي -عليه الصلاة والسلام- وترك. أما أن يأتي شخص لا يلتفت إليه ولا ينظر إليه، ويترك فعلًا مسنونًا جاء الحث عليه ورتب عليه ثواب عظيم، ثم يقال: لئلا يظن الوجوب!
طالب: .......
ماذا؟
طالب: .......
حرمان، أنا رأيت شابًّا يعني أكثر ما أعطيه أنه في الثانوي أم في المتوسط بعد، بالحرم جالس والناس يصلون على جنازة. قلت: الناس يصلون على جنازة والجنازة الواحدة فيها قيراط؟ قال: لئلا يُظن وجوبها. مسك هذه الكلمة، ما أدري ممن مسكها، مرت عليه بدراسته ويطبق، وأمة الثقلين في الحرم كلها تصلي على الجنازة، والله المستعان.
طالب: "وإن كان مظنةً لاعتقاد عدم الطلب أو مظنةً للترك، فبيانه بالفعل والدوام فيه على وزان المظنة، كما في السنن والمندوبات التي تُنوسيت في هذه الأزمنة. والمطلوب تركه بيانه بالترك، أو القول الذي يساعده الترك إن كان حرامًا، وإن كان مكروهًا، فكذلك إن كان مجهول الحكم، فإن كان مظنةً لاعتقاد التحريم وترجح بيانه بالفعل، تعين الفعل على أقل ما يُمْكِن وأُقِرَّ به".
"ما يُمْكِن وأَقْرَبِه"، على أقل وأقرب.
طالب: نعم أحسن الله إليك، "على أقل ما يُمْكِن وأَقْرَبِه، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، وقال: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} الآية [الأحزاب: 37]. وفي حديث المصبح جنبًا قوله: «وأنا أصبح جنبًا وأنا أريد الصيام»، وفي حديث أبي بكر بن عبد الرحمن من قول عائشة: «يا عبد الرحمن، أترغب عما كان رسول الله ﷺ يصنع؟ قال عبد الرحمن: لا والله، قالت عائشة: فأشهد على رسول الله ﷺ أنه كان يصبح جنبًا من جماع غير احتلام، ثم يصوم ذلك اليوم»".
نعم، ولو لم يغتسل إلا بعد طلوع الصبح صومه صحيح.
طالب: "وفي حديث أم سلمة: «ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك...» إلى آخر الحديث. وروى إسماعيل القاضي عن زياد بن حصين عن أبيه، قال: «رأيت ابن عباس وهو يسوق راحلته وهو يرتجز وهو مُحرِم وهو يقول: وهن يمشين بنا هميسا... إن تصدق الطير نفعل لميسا»".
....... وسيأتي المؤلف التصريح بذلك، وهو موجود في كتب اللغة وفي كتب التفسير بالتفسير؛ لأن رأي ابن عباس أن الرفث المنهي عنه ما يواجه به النساء، لا ما يتحدث به الرجال بينهم، مع أني في نفسي شيء من نسبة البيت لابن عباس، وإن كانت موجودة وتتابع على نقله العلماء؛ لأنه يقول: إن تصدق الطير. نعم. أن هذا من التطير.
طالب: "«قال: فذكر الجماع باسمه، فلم يكن عنه. قال: فقلت: يا ابن عباس! أتتكلم بالرفث وأنت محرم؟ فقال: إنما الرفث ما روجع به النساء»، كأنه رأى مظنة هذا الاعتقاد، فنفاه بذلك القول بيانًا لقوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} الآية [البقرة: 197]، وأن الرفث ليس إلا ما كان بين الرجل والمرأة، وإن كان مظنةً لاعتقاد الطلب أو مظنةً لأن يثابر على فعله، فبيانه بالترك جملةً إن لم يكن له أصل، أو كان له أصل لكن في الإباحة أو في نفي الحرج في الفعل، كما في سجود الشكر عند مالك وكما في غَسل اليدين قبل الطعام، حسبما بيَّنه مالك في مسألة عبد الملك بن صالح، وستأتي إن شاء الله. وعلى الجملة، فالمراعى هاهنا مواضع طلب البيان الشافي المخرج عن الأطراف والانحرافات".
"الأطراف"، أي طرفي قصد الأمور، الإفراط والتفريط، الطرف الذي فيه الإفراط والطرف الذي فيه التفريط، والمطلوب الوسط.
طالب: "المخرج عن الأطراف والانحرافات والراد إلى الصراط المستقيم، ومن تأمل سير السلف الصالح في هذا المعنى، تبين ما تقرر بحول الله، ولا بد من بيان هذه الجملة بالنسبة إلى الأحكام الخمسة أو بعضها حتى يظهر فيها الغرض المطلوب، والله المستعان".
وعليه التكلان. اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* * *
طالب: شيخنا.
نعم.
طالب: هل إيجاب البيان عن العالم يقتضي أنه في كل أزمة وكل موقف يمر بالأمر يتعين عليه أن يخبر عن رأيه أم يسعه سكوته.......
إذا تعين عليه؛ لأن الأصل أن البيان فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عنه الإثم، وإذا تعين عليه لزمه وأثم بتركه.