كتاب الإيمان (35)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

هذا يقول: رجل توفي عن زوجتين وعشر بنات وثمانية أولاد، يعني بنين؟

إن كان الأمر كما ذُكر؛ لأنه كثيرًا ما يأتي السؤال من عامي فيسقط بعض الورثة جهلاً منه لأنه وارث، ولذا من الأفضل أن لا تُقسم تركة حتى يُحضر الصك، صك حصر الورثة. كثيرًا ما يقول: توفي عن أم وبنين وبنات ويقصد بالأم الزوجة؛ لأنها أم أولاده، يسميها أمًّا. على كل حال المسألة هذه إن كان الأمر كما ذُكر فللزوجتين الثمن، والباقي لأولاده من بنين وبنات للذكر مثل حظ الأنثيين.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فيقول الإمام الحافظ زين الدين ابن رجب -رَحِمَهُ اللهُ-: (فصل: قال البخاري: بابٌ)، فيه تقديم وتأخير في ترتيب الأبواب هنا.

("باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أنا أعلمكم بالله»، وأن المعرفة فعل القلب؛ لقوله تعالى: {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]").

يقول: (مراده بهذا التبويب: أن المعرفة بالقلب التي هي أصل الإيمان فعل للعبد وكسب له، واستدل بقوله تعالى: {بِمَاكَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]، فجعل للقلوب كسبًا كما جعل للجوارح الظاهرة كسبًا)، وهذا تقدم تقريره في الدرس الماضي.

(والمعرفة هي مركبة من تصور وتصديق، فهي تتضمن علمًا وعملاً، وهو تصديق القلب، فإن التصور قد يشترك فيه المؤمن والكافر، والتصديق يختص به المؤمن، فهو عمل قلبه وكسبه)، مجرد المعرفة من دون عمل بما تقتضيه يشترك فيه المؤمن والكافر، فإبليس يعرف ربه: {فَبِعِزَّتِكَ} [ص: 82]، والكفار على اختلاف مللهم وإن جحدوا في الظاهر، لكن بواطنهم استيقنت هذه المعرفة. لكن العبرة بماذا؟

طالب: بالتصديق.

نعم. بالتصديق الذي هو العمل بمقتضى هذه المعرفة.

قال: (وأصل هذا: أن المعرفة مكتسبة تُدرَك بالأدلة، وهذا قول أكثر أهل السنة من أصحابنا وغيرهم ورجحه ابن جرير الطبري، وروى بإسناده عن الفضيل بن عياض أنه قال: أهل السنة يقولون: الإيمان المعرفة والقول والعمل)، المعرفة التي هي اعتقاد القلب. (وقالت طائفة: إنها اضطرارية لا كسب فيها. وهو قول بعض أصحابنا وطوائف من المتكلمين والصوفية وغيرهم)، المعرفة اضطرارية يعني بالفطرة، يعني الإنسان مضطر إلى أن يعترف بالخالق، وأن يعرف الخالق بما فُطر عليه، لكن هل ينتفع بهذه المعرفة بمجردها؟ لا ينتفع بها. ولا شك أن من هذه المعرفة ما هو اضطراري، ومنها ما هو كسبي، فما يدركه الإنسان بفطرته التي فطره الله عليها هذا اضطراري يشترك فيه جميع الناس، وأما القدر الزائد على ذلك فكسبي.

(وخرج البخاري في هذا الباب: حديث "هشام عن أبيه، عن عائشة قالت: كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يطيقون قالوا: إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله، إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيغضب حتى يُعرف الغضب في وجهه ثم يقول: «إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا»". كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يأمر أصحابه بما يطيقون من الأعمال، وكانوا لشدة حرصهم على الطاعات يريدون الاجتهاد في العمل، فربما اعتذروا عن أمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالرفق واستعماله له في نفسه أنه غير محتاج إلى العمل بضمان المغفرة له وهم غير مضمون لهم المغفرة)، النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، فتجده يأمرهم بما يطيقونه بحيث لا يملونه في وقت من الأوقات ويقصرون فيه؛ لأن «أحب العمل إلى الله أدومه»، لكن حرص الإنسان على بعض الأمور على التعبد لله -جَلَّ وعَلا- قد يحمله على أن يُحمل نفسه أكثر مما وُجه إليه، فتجده في النهاية يندم كما حصل لعبد الله بن عمرو، ود أنه قبل مشورة النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-.

 وهذا شيء موجود إلى الآن، الذين لديهم توجه إلى التعبد تجدهم يحرصون على المزيد من الطاعات، وتجد ميلهم واسترواحهم إلى من يرى مثل هذا العمل وركونهم إليه، حتى من طلاب العلم تجده يرجح حديثًا على حديث، وإن كان في الحقيقة العكس؛ لأنه يوافق ما في نفسه من جهة التعبد. والعكس بالعكس: تجد بعض الناس ولو كان طالب علم ليس عنده ميل إلى هذا النوع، تجده يسعى ويبحث إلى ما يخفف عليه الأمر.  

من كان ميله مثلاً إلى الصيام تجده إذا نوقش في بعض الأيام التي يصومها يستدل بما عنده من دليل ويتعداه إلى ما قاله فلان وفلان من أهل العلم، وأن فلانًا من العلماء كان يصوم ويحرص عليه، وبالطرف الثاني تجد الذي ليس له أو ليست عنده شائبة التعبد تجده ولو كان الحديث في الصحيح يبحث عما قيل فيه وما في رواته أو بعضهم ولو كان قولًا لا حظ له من النظر، فتجد الذي يشق عليه الصيام يفرح إذا قيل له هذا الحديث ضعيف، ولو كان صحيحًا ولو كان في البخاري، لماذا؟

لأنه يوافق رغبة عنده. سمعنا من طعن في صيام العشر ذي الحجة من سنين، ثم تطرق الأمر إلى صيام الست وشهر قول الإمام مالك من قبل أناس يشق عليهم الصيام، نعم لا يتهم كل شخص يقول بمثل هذا الكلام، لكن النفس لها حظ ومراعاة هذا الحظ معروفة. سمعنا هذه السنة من يقول: النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- قدم مكة في اليوم الرابع من ذي الحجة وما ذُكر أنه صام يومًا من أيام العشر، ولو صامه لنُقل. وتجد الطرف الآخر يصومها متتابعة يقف عند يوم عرفة لما جاء فيه ونفسه تتقطع وتتحسر على صيام عرفة وهو حاج، لكن يعرف أن النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- نهى عن صيام يوم عرفة بعرفة، ويقف عند هذا الحد، ويستدل لبقية الأيام بعموم: «ما من أيام العمل الصالح فيهن خير وأحب إلى الله من هذه الأيام العشر» ومن أفضل الأعمال الصالحة الصيام، هذا تلقائيًّا يصوم بمثل هذه العمومات، وذاك يبحث عن أشياء ليتخلص.  

الصحابة يوجد فيهم هذا النوع من الاجتهاد، فتجدهم مرة سئل -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- بين أظهرهم ويحثهم على الاقتصاد في العمل، ومع ذلك يريدون الزيادة، ونحن أمام هذه النصوص وأمام هذه التصرفات يجب أن يكون العالم وطالب العلم طبيبًا يعالج الناس بالنصوص، فإذا وجد المندفع يقصر من اندفاعه، مثل ما جاء عبد الله بن عمرو يقرأ القرآن كل يوم، قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «اقرأ القرآن في شهر» يعني كل يوم جزءًا، قال: أطيق أكثر من ذلك، قال: «في الشهر مرتين»، ثم قال: «في الشهر ثلاث»، ثم قال: «اقرأ القرآن في سبع ولا تزد».

لكن لو وجده مفرطًا، طالب علم ينتسب إلى طلب العلم في كلية شرعية ويحضر بعض الدروس، ولا يفتح المصحف إلى برمضان: أين أنت يا مسكين؟ حرف بعشر حسنات، ختمة بثلاثة ملايين حسنة، وعرف في السلف من يقرأ القرآن في ليلة، يذكر له مثل هذه النصوص من أجل أيش؟

طالب: يدفع.

نعم. يُدفع. فهذه النصوص نصوص الكتاب والسنة كلها علاج لأدواء الأمراض سواء كانت في الأفراد أو في المجتمعات. يعني متى نحتاج إلى نصوص الوعيد؟ ومتى نحتاج إلى نصوص الوعد؟ ومتى نحتاج إلى الجمع بين الأمرين؟ إذا كنا في مجتمع ظهرت فيه الشدة والغلو والمبالغة لجأنا إلى أحاديث الوعد والرجاء، والعكس إذا وجدنا مجتمعًا منفلتًا ركز على نصوص الوعيد؛ لتردهم إلى حظيرة التوسط، والأصل الجمع بين الأمرين، وهذا هو منهج الكتاب والسنة. لكن إذا وجدت من أولادك من يتساهل في ترك صلاة الجماعة هل تقول له: مذهب الحنفية والشافعية والمالكية أنها سنة؟ أو تقول له: «من سمع النداء فلم يُجب فلا صلاة له»؟ والنبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- هَم بتحريق بيوت الذين يتخلفون عن الصلاة. لا بد أن يعالج الناس بالنصوص.

فالصحابة من هذا النوع، قالوا: أنت غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ووجد منهم من آل على نفسه ألا ينام، يصلي ولا ينام، ومنهم من يصوم ولا يفطر، ومنهم من لا يأكل اللحم، ومنهم من لا يبيت على فراش، ومنهم... إلى آخره، فأخبرهم النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- بسنته: «فمن رغب عن سنتي فليس مني».

طالب: شيخ أحسن الله إليك، قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمرو: «اقرأ القرآن في شهر»، هل مقصوده ذات الشهر يعني أنها تعتبر درجة من درجات القراءة........

هو أراد التدرج؛ ليقصر من غلوائه وشدته، وإلا فلو قرأ القرآن في ثلاث كما فعل عبد الله بن عمرو أخذ يقرأ القرآن في ثلاث وتعب في آخر عمره وتمنى لو قبل الرخصة.

طالب: .......

قالوا: إذًا نكثر؟ قال: «الله أكثر»، الحرف بعشر حسنات ولا ......

طالب: .......

هذه نتيجة حسابية معروفة، ثلاثمائة ألف حرف في عشرة بثلاثة ملايين.

طالب: .......

يعني لو قلت مثلاً: إن صلاة فرض في المسجد الحرام عن خمس وخمسين سنة، ما الذي يضر؟ نتيجة حسابية هذه، أنت ما تقرر شيئًا من عندك مبتدأً.

طالب: .......  

لا، ولكن ما المراد بالدرجة الآن؟ أنت تقر شيئًا تفرضه من فهمك على الناس، هذا ما يصلح، لكن ما فيه نص واضح وله نتيجة مبنية على هذا النص نتيجة حتمية ما فيه ما يمنع.

(كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يأمر أصحابه بما يطيقون من الأعمال، وكانوا لشدة حرصهم على الطاعات يريدون الاجتهاد في العمل، فربما اعتذروا عن أمر النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- بالرفق واستعماله له في نفسه أنه غير محتاج إلى العمل بضمان المغفرة له وهم غير مضمون لهم المغفرة فهم يحتاجون إلى الاجتهاد ما لا يحتاج هو إلى ذلك، فكان- عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- يغضب من ذلك، ويخبرهم أنه أتقاهم لله وأعلمهم به. فكونه أتقاهم لله يتضمن شدة اجتهاده في خصال التقوى وهو العمل، وكونه أعلمهم به يتضمن أن علمه بالله أفضل من علمهم بالله، وإنما زاد علمه بالله لمعنيين؛ أحدهما: زيادة معرفته بتفاصيل أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه وعظمته وكبريائه وما يستحقه من الجلال والإكرام والإعظام.

والثاني: أن علمه بالله مستند إلى عين اليقين، فإنه رآه إما بعين بصره أو بعين بصيرته، كما قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما: رآه بفؤاده مرتين، وعلمهم به مستند إلى علم اليقين)، عين اليقين وعلم اليقين وحق اليقين (وبين المرتين تباين)، يعني علم اليقين ما نتج عن خبر، وعين اليقين ما نتج عن مشاهدة، كما قال ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ-: إذا أُخبرت بأن العسل موجود في الأسواق أُخبرك به من تجزم بصحة خبره وتقطع به هذا علم يقين، إذا نزل عن ذلك فهو ظن ليس بعلم يقين. إذا ذهبت إلى السوق ورأيته هذا عين اليقين، وإذا أخذت منه شيئًا وأكلته صار عندك حق اليقين.

(ولهذا سأل إبراهيم -عليه السلام- ربه أن يرقيه من مرتبة علم اليقين إلى مرتبة عين اليقين بالنسبة إلى رؤية إحياء الموتى، وقد سبق التنبيه على ذلك والكلام في تفاصيل المعرفة التامة بالقلب. فلما زادت معرفة الرسول -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- بربه زادت خشيته له وتقواه، فإن العلم التام يستلزم الخشية كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر: 28])، المأثور عن السلف: من كان بالله أعرف كان منه أخوف (فمن كان بالله وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه أعلم كان له أخشى وأتقى، وإنما تنقص الخشية والتقوى بحسب نقص المعرفة بالله).

 مشكلتنا لو عرضنا هذا الكلام على قلوبنا، ونظرنا إلى مدى خشية الله فيها ظهرت النتيجة أننا ما عرفنا الله، يعني حق المعرفة، يعني معرفة إجمالية قد يكون فيها شيء من التشويش، وفيها نقص؛ لأنها لم تورث الخشية، لو أورثت الخشية والناس يتفاوتون فيها وهي: البرهان على علم العالم، من يحمل شيء من العلم ولو صار في عُرف الناس عالمًا، ولكنه لا يخشى الله -جَلَّ وعَلا- ولا يتقيه هذا ليس بعالم. (وإنما تنقص الخشية والتقوى بحسب نقص المعرفة بالله. وقد خرج البخاري في آخر صحيحه عن مسروق قال: قالت عائشة: صنع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شيئًا ترخص فيه وتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فحمد الله ثم قال: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟! فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم خشية»).

 وعودًا إلى ما سبق تجد شخصًا يردد نصًّا أو موقفًا وينسى بقية المواقف تبعًا لما يميل إليه، فإن كان من أهل العبادة والحرص عليها تجده يقول: قام النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- حتى تفطرت قدماه، وإذا كان من أهل التخفيف جاء بالنصوص المقابلة لهذا التي تُذكر للحد من الطرف الثاني، لكنه يستغلها؛ لأنها توافق هوى نفسه، وتجده يذكر من أفعال السلف ما يناسب هواه. لذا ذكرنا في اختلاف مناهج العلماء لتراجم الرواة، كل يذكر من حياة هذا الراوي ما يناسب ميله، إن كان هذا العالم ومتعبد ذكر من عبادة هذا الراوي، وأشاد به من هذه الناحية، وإن كان من أهل العلم الذي ينتج عنه النفي والإثبات والتصحيح والتضعيف لم يلتفت إلى غير ما قيل فيه من توثيق أو تضعيف، وعرفنا طريقة النووي ومن دار في فلكه، وطريقة ابن حجر ومن قال أو نحا مثل نحوه، كل هذا ميول الشخص تسيره شاء أم أبى، وكل إنسان يجد هذا من نفسه.

 (وفي صحيح مسلم عن عائشة أن رجلاً قال لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يا رسول الله إني أصبح جنبًا وأنا أريد الصيام، فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «وأنا أصبح جنبًا وأنا أريد الصيام فأغتسل وأصوم»، فقال الرجل: يا رسول الله! إنك لست مثلنا، قد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فغضب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال: «إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي». وفي حديث أنس أن ثلاثة رهط جاءوا إلى بيوت أزواج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يسألون عن عبادته، فلما أُخبروا بها كأنهم تقالوها، وقالوا: وأين نحن من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدًا، فجاء النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- إليهم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكن أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني».

وقد خرجاه في الصحيحين بمعناه، ففي هذه الأحاديث كلها الإنكار على من نسب إليه التقصير في العمل للاتكال على المغفرة، فإنه كان يجتهد في الشكر أعظم الاجتهاد، فإذا عوتب على ذلك وذُكرت له المغفرة أخبر أنه يفعل ذلك شكرًا، كما في الصحيحين عن المغيرة أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يقوم حتى تتفطر قدماه فيقال له: تفعل هذا وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: «أفلا أكون عبدا شكورًا». وقد يواصل في الصيام وينهاهم ويقول: «إني لست كهيئتكم؛ إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني»، فنسبة التقصير إليه في العمل لاتكاله على المغفرة خطأ فاحش؛ ولهذا كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول في خطبته: «خير الهدي هدي محمد».

ويقتضي أيضًا هذا الخطأ: أن الاقتداء به في العمل ليس هو أفضل؛ بل الأفضل الزيادة على هديه في ذلك، وهذا خطأ عظيم جدًّا، فإن الله تعالى قد أمر بمتابعته وحث عليها، قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْلَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]).

طالب: فيه زيادة سطر عندنا يا شيخ.

ماذا؟

طالب: .......

عندي؟

طالب: نعم.

ماذا؟

طالب: .......

ما الطبعة التي معك؟

طالب: طارق عوض الله.

(وهذا خطأ عظيم)، فيه سطر نعم. (لأنه يقتضي أن هديه ليس أكمل هدي وأفضله، وهذا خطأ عظيم).

طالب: نعم.

ما قلته؟ ما ذكرته؟

طالب: لا.

يعني الأمر في قوله -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «اقرأ القرآن»، هل مخالفة مثل هذا الأمر يترتب عليها إثم؟ بمعنى أن هذا الأمر للوجوب أو للإرشاد والتوجيه؟

طالب: للإرشاد.

هذا للإرشاد ومن باب الرأفة والرحمة بأمته -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-. أحيانًا تكون مخالفة الأمر...

طالب: .......

لا، لاحترامه وتقديره وتعزيره -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-. النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- لما دخل عليهم بالمسجد وهم يصلون وأبو بكر يؤمهم أراد أبو بكر أن يتأخر، فأشار إليه النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- أن اثبت، هذا أمر، ومع ذلك تأخر، تأخر وأمهم النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-. مخالفة الأمر هل هي مخالفة هنا أم ليست مخالفة؟

طالب: .......

قال له: «اثبت»، لكن ما سبب هذه المخالفة؟ تقديره -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، يأثم بها أو لا يأثم؟ ما يأثم؛ لأنها اكتسبت الإقرار منه -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، ما لامه، ولا ثرَّب عليه، واعتذر أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فبإقراره -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- اكتسبت الشرعية وما صارت مخالفة. بعض طوائف البدع من المتصوفة يقولون: لا مانع من أن نخالف أمره؛ من أجل تعظيمه، ويرون أن الغلو فيه وصرف ما هو من حق الله -جَلَّ وعَلا- من أجل تعظيمه -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- يدخل في مثل هذا. وهذا لا شك أنه خطأ فاحش، من أين تكتسب الشرعية؟ هل عندك أحد معصوم يقرك على ما فعلت؟

فعل أبي بكر اكتسب الشرعية من إقراره -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- وعدم تثريبه عليه. ثم يأتي من يأتي ويغلو به -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- ويخالف أمره: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم»، «إياكم والغلو»، ثم يغلو ويقول: أنا أعظمه كما عظمه أبو بكر ولم يمتثل أمره. هذا الكلام يصح؟ لا يصح إطلاقًا، هناك أمور لا يمكن الاستدلال بها بمفردها، لكن إذا انضم إليها ما يضاف إليه -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- من قول أو تقرير اكتسبت الشرعية. صلاة الركعتين ركعتي الوضوء هل ثبتت بفعل بلال الذي مدحه النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- أو ثبتت بإقراره -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-؟ حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه في الأذان هل الرؤيا يثبت بها حكم شرعي؟ إنما ثبت الأذان بإقرار هذه الرؤيا. وبعد وفاته -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- من أين الإقرار؟

(فلهذا كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يغضب من ذلك غضبًا شديدًا لما في هذا الظن من القدح في هديه ومتابعته والاقتداء به. وفي رواية للإمام أحمد: «والله إني لأعلمكم بالله وأتقاكم له قلبًا». وقوله في الرواية التي خرجها البخاري في هذا الباب: «إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا» فيه الإتيان بالضمير المنفصل مع تأتِّي الإتيان بالضمير المتصل، وهو ممنوع عند أكثر النحاة إلا للضرورة كقول الشاعر: ضَمِنَتْ)، أم (ضَمَّت)؟

طالب: (ضَمِنَت).

أنا عندي (ضَمِنَت)، لكن؟

يقول: (ضَمِنَتْ إياهم الأرضُ في دهر الدهارير)، هذه ضمنتهم، الأصل ضمنتهم؛ لأن الضمير المتصل ممكن.

طالب: .......

هو قال: (ضَمِنَت إياهم)، ولو قال: ضمنتهم لكان أفصح.

(وإنما يجوز اختيارًا إذا لم يتأت الإتيان بالمتصل مثل أن يُبتدأ بالضمير قبل عامله نحو: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5]، فإنه لا يبتدأ بضمير متصل أو يقع بعد نحو: إلا إياه. فأما قول الشاعر: أن لا يجاورنا)؟

طالب: (إلاكِ).

نعم (إلاكِ)، لكن هذا البيت ما فيه نقص؟

طالب: .......

ماذا؟

طالب: .......

نعم. (فشاذ. وأما قوله: وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي، فهو عندهم متأوَّل على أن فيه معنى الاستثناء، كأنه قال: ما يدافع عن أحسابهم إلا أنا. ولكن هذا الذي وقع في هذا الحديث يشهد لجوازه من غير ضرورة، ويكون حينئذٍ قوله: إنما يدافع عن أحسابهم أنا، شاهدًا له غير محتاج إلى تأويل، والله أعلم).

طالب: .......

نعم، هذا الدرس الماضي تكلمنا عليه.

طالب: .......

وما وجه الإشكال؟

طالب: .......

واللام هذه لازمة أم غير لازمة؟ التي يسمونها المزحلقة؟ غير لازمة، تزاد للتأكيد.

يقول الكرماني -رَحِمَهُ اللهُ-: ("باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أنا أعلمكم بالله»، وأن المعرفة فعل القلب". لفظ هذا الباب متعين أن يقرأ مضافًا إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لا غير).

 هناك ابن حجر يقول: هو مضاف بلا ترديد، يعني بلا تردد. «أنا أعلمكم بالله» مقول القول.

قوله: "وأن المعرفة" هو بفتح الهمزة عطفًا على القول لا على المقول، وإلا لكان مكررًا إذ المقول وما عطف عليه حكمهما واحد، وهو خلاف الرواية والدراية.

قوله: {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] أي بما عزمت عليه قلوبكم وقصدتموه؛ إذ كسب القلب عزمه ونيته، وفي الآية دليل لما عليه الجمهور: أن أفعال القلوب إذا استقرت يؤاخذ بها. وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به» محمول على ما إذا لم يستقر، وذلك معفو عنه بلا شك؛ لأنه يمكن الانفكاك عنه، بخلاف الاستقرار).

قال: (واعلم أن العلماء اختلفوا في محل العلم الحادث، وهو غير متعين عند أهل الحق عقلاً، بل يجوز أن يخلقه الله تعالى في أي جوهر أراد، لكن دل السمع على أنه القلب، كقوله تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46])، هل يوجد أحد معه نسخة من الكتاب؟

طالب: .......

أين؟

طالب: .......

واحد يقرأ، جزاكم الله خيرًا.

طالب: .......

ما فيه نسخة ورقية، ما فيه أحد معه نسخة؟

طالب: .......

ماذا؟

نفس الشيء، ما تختلف. 

هذا يقول: هل يُحتج برؤية الصالحين من أهل العلم في التشريع كشيخ الإسلام ابن تيمية؟

رؤية مثل هؤلاء قد يُذكرك بالحكم، لكن لا ينشئ حكمًا جديدًا. أنت تبحث مسألة وما توصلت إلى القول الراجح، ترى شيخ الإسلام مثلاً أو عالم يقول الراجح كذا. فالمسألة أصلها موجود في الشرع وأدلتها موجودة. بخلاف ما إذا لو كانت حادثة نازلة مستجدة، ولا يوجد فيها حكم ثم يحكم فيها حكم أو يخترع حكم جديد، والأصل أنها عبادة توقيفية، ثم يقول لك: افعل كذا أو لا تفعل كذا، هذا لا يُنظر إلى أحد كائنًا من كان. بعضهم وهو يستند إلى حديث: «من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي»، تجده يقول: إنه يرى النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- ويسأله عن مسائل علمية ويفتيه ويسأله عن أحاديث ويصحح ويضعف، ويقول: نرى الشيطان لا يتلبس به -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-. المشكلة أن هذا موجود عند بعض من ينتسب إلى العلم، يصحح أحاديث برؤيا. فهل يسوغ مثل هذا أو لا؟

ما يسوغ، ولا يصح أبدًا، لا لخلل فيه -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- أو نقص أو في رؤيته، إنما الخلل في هذا النائم في نقله وضبطه، الأصل أنه نائم، فكيف يضبط؟ كيف يضبط هذا النائم؟ فالمتلقي هو موضع الخلل الذي تطرق الخلل من أجله. بعضهم يتعدى يقول: رأيته يقظة، لما قيل له مثل هذا الكلام يقول: رأيته يقظة، يقرر بعض المتصوفة أنهم يرونه يقظة -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- يجتمعون به ويسألونه، ولا شك أن هذا قول باطل، الرسول -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- مات بالنص القطعي: {إِنَّكَ مَيِّتٌ} [الزمر: 30]، من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات. فهذا لا يختلف فيه اثنان. نعم هو في قبره -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- حي حياة برزخية أكمل من حياة الشهداء، لكنه في حكم الأموات، روحه فارقت بدنه؛ ولذلك تُرد إليه روحه إذا سُلم عليه، يدل على أنها فارقت بدنه. ويتندر بعض الناس أنه رأى النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- كذا مرة، ويزعم بعض المتصوفة أن النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- يزوره في كل ليلة، والله المستعان.

قال -رَحِمَهُ اللهُ-: (فإن قلتَ: هذا كتاب الإيمان، فما وجه تعلق هذه الترجمه بالإيمان؟ قلتُ: العلم بالله وكذا المعرفة به من الإيمان، والإيمان إما التصديق أو التصديق مع العمل، فالمقصود بيان أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشد إيمانًا منهم، وبيان أن الإيمان هو أو بعضه فِعل القلب ردًّا على الكرامية.

قوله: "محمد بن سلَام" بتخفيف اللام، وهو الصحيح الذي عليه الاعتماد، ولم يذكر جمهور المحققين غيره، وذكر بعضهم أن التشديد لحن، وادعى صاحب المطالع أن التشديد هو رواية الأكثر، فقيل: إنها مخالفة للمشهور، إلا أن يريد رواية أكثر شيوخه، وكنيته أبو عبد الله بخاري بيكندي بباء موحدة مكسورة ومثناة تحتية ساكنة)، بيكندي (وكاف مفتوحة ونون ساكنة فدال مهملة، منسوب إلى بيكند قرية ببخارى، توفي سنة خمس وعشرين ومائتين. قوله: "عبدة" بالمهملة فالموحدة الساكنة فالدال المهملة، أبو محمد سليمان بن الحاجب الكلابي الكوفي، وقيل: اسمه عبد الرحمن وعبدة لقبه، قال الإمام أحمد: هو ثقة ثقة ثقة)، مكررة ثلاث مرات (وزيادة مع صلاح، وكان شديد الفقر، توفي بالكوفة سنة ثمان وثمانين ومائة.

وأما "هشام" فهو أبو المنذر بن عروة المدني التابعي المتوفى ببغداد، وهو يروي عن أبيه عروة بن الزبير الأسدي التابعي الجليل أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، ويروي عن خالته عائشة الصديقة بنت الصديق -رضي الله عنهم- وقد مر ذِكر الثلاثة في باب الوحي).

يقول: أحد الإخوة البريطانيين يقول لهم في جامعتهم ....... ويؤمهم ....... يؤمن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مخلوق من نور، ويستحل الدعاء إليه، ثم يدعو إلى ذلك، والسؤال: هل تجوز الصلاة خلفه؟ وهل عليهم التحذير منهم، مع أن أكثر الجالية هنالك لهم تأثير الصوفية، فقد يسبب فتنة وشقاقًا إذا كان من هذه الطائفة الضالة أو من غلاة المتصوفة فالصلاة لا تصح خلفه، فيبحث عن مكان آخر وإذا لم يجد يصلي منفردًا ولا يصلي صلاة مشكوكًا في صحتها.

اللهم صل على محمد.