التعليق على الموافقات (1429) - 10

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، استكمالاً للمسألة السادسة، يقول المؤلف الشاطبي -رحمه الله تعالى-: "فصل: وأما الثاني، وهو أن يكون العمل إصلاحًا للعادات الجارية بين العباد، كالنكاح والبيع والإجارة، وما أشبه ذلك من الأمور التي عُلم قصد الشارع إلى القيام بها لمصالح العباد في العاجلة؛ فهو حظ أيضًا قد أثبته الشارع وراعاه في الأوامر والنواهي، وعُلم ذلك من قصده بالقوانين الموضوعة له، وإذا عُلم ذلك بإطلاق، فطلبه من ذلك الوجه غير مخالف لقصد الشارع، فكان حقًّا وصحيحًا، وهذا وجه".

فإذا رأى العاقد الشروط الشرعية، وأبرم العقد على الوجه الشرعي، يكون بذلك حقق المصلحة الشرعية، وإن لم يقصد بذلك الاستعانة بهذا العقد على طاعة الله مثلاً، نعم يتخلف الأجر عنه وأجره على قدر نيته: «وإنما لكل امرئ ما نوى»، لكن تحقيق المصلحة الشرعية المنوطة بهذا العقد بحيث يحقق ما رُتب عليه، وتترتب عليه آثاره من تصحيحه للعقد، يتم هذا ولو لم يقصد بذلك الاستعانة به على طاعة الله.

 لكن لو قصد بذلك الاستعانة على طاعة الله، هذا قدر زائد يحقق له فوق ذلك فوق الصحة الأجر والثواب من الله -جل وعلا-. بخلاف ما لو أبرم هذا العقد على خلل شرعي، بحسب قوة هذا الخلل وضعفه، فإما أن يبطل العقد أو يفسد أو يأثم به مع صحته. على كل حال: إذا برأ العقد من الخلل واستوفى الشروط فإنه يصح، وتترتب عليه آثاره، وهو عقد صحيح يحقق المصلحة وينتفع المشتري بالسلعة وينتفع البائع بالقيمة، ولو لم يقصد بذلك الاستعانة بذلك، لو غفل عن الاستعانة بذلك على طاعة الله ما ضر العقد، العقد صحيح.

طالب: "ووجه ثانٍ: أنه لو كان طلب الحظ في ذلك قادحًا في التماسه وطلبه، لاستوى مع العبادات".

نعم؛ لأنه قد يقول قائل: أنت إنما خُلقت للعبودية، فلماذا تخرج هذه العقود عن هذا الهدف الأصلي الذي من أجله خُلقت؟ لماذا لا يتحقق الهدف الأصلي في عقودك العادية، في معاملاتك؟ لأنك وأنت تستحضر النية الصالحة في العقود التي يلاحَظ فيها الحظ العاجل لحققت العبودية في هذا العقد، وأنت خُلقت للعبودية. نقول: إن هذا لا أثر له في صحة العقد، ولو كان مؤثرًا في صحة العقد لما نُص على هذه المصالح ولما وُجدت هذه الشروط لتصحيحه.

طالب: "كالصيام والصلاة وغيرهما في اشتراط النية، والقصد إلى الامتثال. وقد اتفقوا على أن العادات لا تفتقر إلى نية، وهذا كافٍ في كون القصد إلى الحظ لا يقدح في الأعمال التي يتسبب عنها ذلك الحظ".

يعني العادات لا تفتقر إلى نية في تصحيحها، وأما في ترتب الثواب عليها فإنها تحتاج: «وإنما لكل امرئ ما نوى».

طالب: "بل لو فرضنا رجلاً تزوج ليرائي بتزوجه، أو ليعد من أهل العفاف، أو لغير ذلك؛ لصح تزوجه، من حيث لم يشرع فيه نية العبادة من حيث هو تزوج فيقدح فيها الرياء والسمعة، بخلاف العبادات المقصود بها تعظيم الله تعالى مجردًا".

كثير ممن يتزوج لا سيما الأعداد، يتزوج نساءً كثرًا، كثير من هؤلاء إنما ليراءون بذلك الناس، قد لا تكون الحاجة قائمة، نعم منهم من يتزوج لحاجة، ومنهم من يتزوج تحقيقًا للأهداف الشرعية المنوطة بالزواج، ومنهم من يتزوج؛ ليقال: تزوج كذا من النساء. فمثل هذا لا يقدح في صحة العقد ولو تزوج ليقال، والرياء غير مبطل للعقد في هذا الباب؛ لأنه ليس من العبادات المحضة، وإن كان من سنن المرسلين ومن هديه -عليه الصلاة والسلام-، لكنه إذا توافرت أركانه وشروطه صح العقد، ولو نوى بذلك ما نوى. بخلاف ما تؤثر فيه النية من أنواع العقود، كالتحليل مثلاً: تزوج هذه المرأة لا رغبة فيها، وإنما ليحللها لزوجها الذي طلقها ثلاثًا، فإنه حينئذ عقده على خلاف بين أهل العلم، والأكثر على أنه ليس بصحيح.

طالب: لكن لو رأى في هذه المسألة على أنه يريد إقامة السنة من حيث التعدد؟

يكون كمن هاجر لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، يُذم على هذا.

طالب: "ووجه ثالث: أنه لو لم يكن طلب الحظ فيها سائغًا، لم يصح النص على الامتنان بها في القرآن والسنة، كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21]".

السكن مصلحة محسوسة عاجلة ونُص عليها في القرآن، فدل على أن ملاحظتها لا يؤثر في أصل العقد وإن كانت دنيوية محضة. وكررنا مرارًا أن العلل والحكم والفوائد المرتبة حتى على العبادات المحضة، لا تؤثر فيها إذا نص عليها الشارع؛ لأنها لو كانت مؤثرة ما نص عليها: «من سره يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه»، وصل رحمه، الأصل أنه اتباع للنصوص هذا الأصل، لكن لو نظر إلى مسألة الرزق ومسألة طول العمر هذا ما يضره؛ لأنه لو كان مؤثرًا ما نُصَّ عليه في الحديث.

طالب: "وقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [يونس: 67]، وقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة: 22]، وقال: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص: 73].

طالب: فيه أن يا شيخ؟

نعم؟

طالب: الآية مضبوطة؟

أيها؟

طالب: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص: 73]. أم أن جعل؟

من المصحف مأخوذة، رسمها من المصحف.

طالب: نعم.

وقال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 10، 11]... إلى آخر الآيات، إلى غير ذلك مما لا يحصى. وذلك أن ما جاء في معرض مجرد التكليف لا يقع النص عليه في معرض الامتنان؛ لأنه في نفسه كلفة وخلاف للعادات وقطع للأهواء، كالصلاة والصيام والحج والجهاد".

نعم. هل يمكن أن يُمتن على المكلف بما يشق عليه؟ يساق في معرض الامتنان؟ يَمتن الله علينا -جل وعلا- بأن فرض علينا الصلاة والصيام والحج والجهاد، إلا من باب: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]، من باب ملاحظة هذا الخير الكثير المرتب عليه. أما بالنسبة للملحظ العاجل: التكاليف معروف أنها إلزام ما فيه كلفة، وليس بها حظ عاجل في الجملة، لكن قد يتلذذ الإنسان، ويرى أنها نعيمه وسعادته؛ هذه مسألة أخرى. لكن الكلام في عموم الناس، عموم الناس هذه تكاليف: «وحفت الجنة بالمكاره»، فالذي يُمتن به هو ما فيه مصلحة عاجلة.

طالب: "إلا ما نحا نحو قوله: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] بعد قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]، بخلاف ما تميل إليه النفوس وتقضى به الأوطار، وتفتح به أبواب التمتع".

يعني كوننا يُمتن علينا بالجهاد، وهو مشروع للأمم قبلنا، وفيه إلزام كلفة ومشقة، لكن مما يُمتن به علينا، مما اختصصنا به دون الأمم، وهو حل المغانم، هذا الذي يساق مساق محل الامتنان، مع أن الإنسان لو تدبر المصلحة العاجلة مع المصلحة الآجلة لوجد أنه لا نسبة بينهما، وبهذا التدبر يتبين أن المصالح المرتبة على العبادات المحضة التي ليس فيها مصلحة عاجلة أكثر بكثير، بل لا مقارنة بينها وبين هذه المصالح العاجلة؛ ولذا أورد ابن القيم -رحمه الله- سؤالًا أو استشكالًا على لسان بعض المخالفين وقال: إنه كيف يفرط الإنسان بشيء عاجل ولذة عاجلة رجاء وانتظار لذة آجلة؟

يعني ينفق الدراهم، عنده ألف ريال يُخرج منها خمسًا وعشرين زكاة، هذه مصلحته عاجلة، فكيف يقدم هذه الخمسة والعشرين ريال في مقابل مصلحة عاجلة؟ وكيف يبيع حاضرًا بنسيئة؟ يقول ابن القيم: لو كانت الفائدة يسيرة خمسة وعشرين يجيئني بدلها ثلاثون كأنه عندكم العاجل؛ لأنه ما يدرى، هذا غيب، مع أنه وعد من لا يخلف الميعاد، يعني إذا كان في معاملات الناس ومعاوضاتهم لو أن الإنسان جاء له واحد وقال: أعطني خمسة وعشرين أو ما قيمته خمسة وعشرين بثلاثين ريال بعد سنة؟ يجعل واللهِ ما يأخد، معك خمسة وعشرون ويعطيك أفضل من ثلاثين ما تدرى سيجيء، لكن المعاوضة مع من؟ مع من لا يخلف الميعاد. وهل النسبة عشرة بالمائة، عشرون بالمائة، مائة بالمائة إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، يعني ما فيه نسبة، يعني المقدم الآن كلا شيء بالنسبة للجزاء.

طالب: "بخلاف ما تَميل إليه النفوس، وتُقضى به الأوطار، وتُفتح بها أبواب التمتع واللذات النفسانية، وتُسد به الخلات الواقعة من الغذاء والدواء ودفع المضرات، وأضراب ذلك، فإن الإتيان بها في معرض الامتنان مناسب. وإذا كان كذلك اقتضى هذا البساط الأخذَ بها من جهة ما وقعت المنَّة بها، فلا يكون الأخذ على ذلك قدحًا في العبودية، ولا نقصًا من حق الربوبية، لكنهم مطالبون على أثر ذلك بالشكر للذي امتن بها، وذلك صحيح.

فإن قيل: فيلزم على هذا أن يكون الأخذ لها بقصد التجرد عن الحظ قادحًا أيضًا؛ إذ كان المقصود المفهوم من الشارع إثبات الحظ والامتنان به، وهذا أيضًا لا يقال به على الإطلاق؛ لِما تقدم؟

فالجواب: أن أخذها من حيث تلبيةُ الأمر أو الإذن قد حصل في ضمنه الحظ وبالتبعية؛ لأنه إذا نُدب إلى التزوج مثلاً، فأخذه من حيث الندب على وجه لو لم يُندب إليه لتركه مثلاً، فإن أخذه من هنالك قد حصل له به أخذه من حيث الحظ؛ لأن الشارع قصد بالنكاح التناسل، ثم أتبعه آثارًا حسنةً من التمتع باللذات، والانغمار في نعم يتنعم بها المكلف كاملةً، فالتمتع بالحلال من جملة ما قصده الشارع، فكان قصد هذا القاصد بريئًا من الحظ، وقد انجر في قصده الحظ".

يعني لو أن الإنسان ما يلاحظ إذا أراد أن يتزوج إلا أنه يولد له الولد، ويبقى هذا النوع يتسلسل، ولا يعرف من الآثار المرتبة على النكاح إلا هذا، ولو قيل: إن الناس قبل وجود هذه الآلات ما يعرفون شيئًا عن النكاح، حتى إنهم كانوا يدرَّسون، إذا أرادوا الزواج يُدرسون، ما يعرفون ماذا يترتب على النكاح، يعني الميل الجنسي ما يفقهونه ولا يعرفونه، أولاً لأنهم يُزوجون صغارًا، الأمر الثاني أنهم ما عندهم ما يثير هذه الفتن، ومع ذلك تجد الأطفال في المدارس الابتدائية، بل في رياض الأطفال ويدرسهم نساء، تجد عندهم شيئًا من الميل والرغبة لأنهم ما يُحجبون عن شيء، والله المستعان. فلو افترضنا أن شخصًا ما يعرف من الحكم والمصالح المرتبة على الزواج إلا بقاء النوع، أنه يجيئه أولاد، وينفعونه فيما بعد، ويتسلسلون يدعو له الصالح منه وهكذا، ثم بعد ذلك انجر بعد ذلك إلى مصالح كثيرة جدًّا، هو ما قصد في الأصل إلا هذا، وتأتي بقية المصالح والحكم تبعًا.

طالب: "فالمتمتع بالحلال من جملة ما قصده الشارع، فكان قصد هذا القاصد بريئًا من الحظ وقد انجر في قصده الحظ، فلا فرق بينه وبين من قصد بالنكاح نفس التمتع، فلا مخالفة للشارع من جهة القصد، بل له موافقتان: موافقة من جهة قبول ما قصد الشارع أن يتلقاه بالقبول وهو التمتع، وموافقة من جهة أن أمر الشارع في الجملة يقتضي اعتبار المكلف له في حسن الأدب، فكان له تأدب مع الشارع في تلبية الأمر، زيادةً إلى حصول ما قصده من نيل حظ المكلف. وأيضًا ففي قصد امتثال الأمر القصد إلى المقصد الأصلي من حصول النسل، فهو بامتثال الأمر مُلَبٍّ للشارع في هذا القصد، بخلاف طلب الحظ فقط، فليس له هذه المزية.

 فإن قيل: فطالب الحظ على هذا الوجه ملوم؛ إذ أهمل قصد الشارع في الأمر من هذه الجهة. فالجواب: أنه لم يهمله مطلقًا، فإنه حين ألقى مقاليده في نيل هذه الحظوظ للشارع على الجملة، حصل له بالضمن مقتضى ما قصد الشارع، فلم يكن قصد المكلف في نيل الحظوظ منافيًا لقصد الشارع الأصلي".

لكن لو قُدر أن شخصًا لم يلتفت إلى هذا القصد، وهو التناسل، بل العكس يتمنى عدم الإنجاب، أو يبحث عن امرأة لا تنجب، لم يلاحظ هذا الهدف الشرعي، التناسل، إنما لاحظ مصالح أخرى، فهل يكون محققًا للمصلحة الشرعية المرتبة على هذا العقد، ويكون ممدوحًا بامتثال: «من استطاع منكم الباءة فليتزوج»؟

أما امتثاله لحديث «تزوجوا الودود الولود»، هذا ليس بموجود؛ لأنه مناقض له، لكن «من استطاع منكم الباءة فليتزوج»، والزواج فيه هذه المصلحة التي أغفلها ولم يلتفت إليها، وفيه أيضًا مصالح يرغب فيها؛ لأنه يضع شهوته في حلال أقل الأحوال، ويؤجر على هذا، «أرأيت لو وضعها في حرام؟»؛ لأنه لم يكن له إلا أن يكتفي عن الحرام، ولا شك أنه مثاب على هذا القصد في الجملة، لكن يبقى أنه دون من قصد القصد الأصلي الذي هو بقاء النوع.

طالب: "وأيضًا، فالداخل في حكم هذه الحظوظ داخل بحكم الشرط العادي على أنه يلد، ويتكلف التربية والقيام بمصالح الأهل والولد، كما أنه عالِم إذا أتى الأمر من بابه أنه يُنفق على الزوجة، ويقوم بمصالحها، لكن لا يستوي القصدان: قصد الامتثال ابتداءً حتى كان الحظ حاصلاً بالضمن، وقصد الحظ ابتداءً حتى صار قصد الامتثال بالضمن، فثبت أن قصد الحظ في هذا القسم غير قادح في العمل".

نعم؛ لأن بعض الناس يأتي إلى أمور رُغِّب فيها في الشرع، ويأتي إليها من زاوية قد تكون غير مرغَّب فيها أصلاً، أو تكون دون بعض المقاصد التي جاءت في النصوص، مثل ما ذكرنا عن النكاح له مقاصد كثيرة، قد يكون ملحظ بعض الناس أنه لا يريد النسل، وليست عنده شهوة تدفعه إلى الوقاع، وأيضًا عنده شيء من الشح بالمال مما قد يترتب عليه ظلم مناقض لما يترتب عليه هذا العقد، لكنه لا يستطيع أن ينام بمفرده، فتزوج هذه المرأة من أجل أن تؤنسه فقط، هي سكن، وكونها سكنًا مقصد من مقاصد الشرع، وهذا نوع، لكن هل هذا أفضل المقاصد أو أعلى المقاصد؟ لا، هذا ليس أعلى المقاصد. فلا شك أنهم يتفاوتون على حسب تحقيق هذه الأهداف وهذه المقاصد تبعًا لقوتها وضعفها.

طالب: "فإن قيل: فطالب الحظ إذا فرضناه لم يقصد الامتثال على حال، وإنما طلب حظه مجردًا، بحيث لو تأتى له على غير الوجه المشروع لأخذ به، لكنه لم يقدر عليه إلا بالوجه المشروع، فهل يكون القصد الأول في حقه موجودًا بالقوة أم لا؟".

نعم. هذا -نسأل الله العافية- بحث في هذه القرية عن امرأة يواقعها على غير وجه مشروع، بحث عن متعة مثلاً، يعني فضلاً عن أن يكون مثلاً زنا متعة، وهي محرمة بإجماع من يعتد بقوله من أهل العلم، متعة، ما وجد قال: يتزوج. مثل هذا هل يكون محقق للمصالح الشرعية المرتبة على الزواج؟ ولو افترضنا أنه فيما بعد بعد العقد نوى الاستمرار بعد ذلك، لكن الأمور بمقاصدها؛ ولذلك قال: "فطالب الحظ إذا فرضناه لم يقصد الامتثال على حال، وإنما طلب حظه مجردًا"، وهو الاستمتاع، "بحيث لو تأتى له على غير الوجه المشروع لأخذ به، لكنه لم يقدر عليه إلا بالوجه المشروع"، ما وجد امرأة يعاشرها إلا بعقد صحيح، "فهل يكون القصد الأول في حقه موجودًا بالقوة"، يعني وإن لم يكن موجودًا بالفعل، "أم لا" يكون مقصودًا؟ "فالجواب". نعم.

طالب: "فالجواب أنه موجود له بالقوة أيضًا؛ لأنه إذا لم يكن له سبيل".

إذا كان مراد قصده وهدفه الذي رمى إليه بغض النظر عن موافقة الشرع أو مخالفته، فهدفه موجود، يريد أن يفرغ هذه اللذة، وبحث عن شيء غير مشروع فلم يجد إلا المشروع، قصده تحقق.

طالب: "لأنه إذا لم يكن له سبيل إلى الوصول إلى حظه على غير المشروع، فرجوعه إلى الوجه المشروع قصد إليه، وقصد الوجه المشروع يتضمن امتثال الأمر أو العمل بمقتضى الإذن، وهو القصد الأول الأصلي وإن لم يشعر به على التفصيل، وقد مر بيان هذا في موافقة قصد الشارع".

"قصد الشارع" موافقة، يعني فرق بين أن يقصد لموافقة الشارع، وبين أن يوافق الشارع من غير قصد، يعني فرق بين قاضيين: فمثلاً قاضٍ عنده من العلم والتحري لموافقة الحكم الشرعي المطابق لما عند الله -جل وعلا-، وبين من يقصد، أو يحكم بغير الحكم الشرعي سواء كان عن عمد أو عن جهل، ثم إذا طلعت النتيجة إذا هو موافق للحكم الشرعي، فرق بين هذا وهذا.

طالب: "وأما العمل بالحظ والهوى بحيث لو يكون قصد العامل تحصيل مطلوبه وافق الشارع أو خالفه، فليس من الحق في شيء، وهو ظاهر، والشواهد عليه أظهر. فإن قيل: أما كونه عاملاً على قصد المخالفة، فظاهر أنه عامل بالهوى لا بالحق، وأما عمله على غير قصد المخالفة فليس عاملاً بالهوى بإطلاق، فقد تبين في موضعه أن العامل بالجهل، فيخالف أمر الشارع حكمه حكم الناسي، فلا يُنسب عمله إلى الهوى هكذا بإطلاق. وإذا وافق أمر الشرع جهلاً، فسيأتي أنه يصح عمله على الجملة، فلا يكون عمله بالهوى أيضًا. وإلى هذا، فالعامل بالهوى إذا صادف أمر الشارع فلِمَ تقول: إنه عامل بالهوى، وقد وافق قصده مع ما مر آنفًا أن موافقة أمر الشارع تُصيِّر الحظَّ محمودًا.

 فالجواب: أنه إذا عمل على غير قصد المخالفة، فلا يستلزم أن يكون موافقًا له، بل الحالات ثلاث: حال يكون فيها قاصدًا للموافقة، فلا يخلو أن يصيب بإطلاق، كالعالِم يعمل على وفق ما علم، فلا إشكال. أو يصيب بحكم الاتفاق أو لا يصيب. فهذان قسمان يدخل فيهما العامل بالجهل، فإن الجاهل إذا ظن في تقديره أن العمل هكذا، وأن العمل مأذون فيه على ذلك الوجه الذي دخل فيه؛ لم يقصد مخالفةً، لكن فرط في الاحتياط لذلك العمل، فيؤاخذ في الطريق، وقد لا يؤاخذ إذا لم يُعد مفرِّطًا، ويمضي عمله إن كان موافقًا. وأما إذا قصد مخالفة أمر الشارع، فسواء في العبادات وافق أو خالف؛ فإنه لا اعتبار بموافقته، كما لا اعتبار بما يخالف فيه؛ لأنه مخالف القصد بإطلاق، وفي العادات الأصل اعتبار ما وافق دون ما خالف؛ لأن ما لا تُشترط النية في صحته من الأعمال لا اعتبار بموافقته في القصد الشرعي ولا مخالفته، كمن عقد عقدًا يقصد أنه فاسد فكان صحيحًا، أو شرب جُلابًا يظنه خمرًا، إلا أن عليه في قصد المخالفة درك الإثم".

يعني فرق بين عمل له أكثر من وسيلة وكل هذه الوسائل توصل إلى الغاية، وبين العمل الذي لا وسيلة له إلا واحدة. يعني بعض مسائل الرياضيات يمكن أن تُحل على أكثر من وسيلة، والنتيجة تخرج واحدة، بعضها مختصر، وبعضها مطول، وبعضها متوسط، لكنه في النهاية يصل إلى غاية واحدة، ويمكن أن تصحح كل هذه الوسائل.

لكن حكم شرعي مبني على مقدمات شرعية لا بد من سلوك هذه المقدمات الشرعية لنصل إلى الغاية، كون شخص ما عمل بهذه المقدمات، ثم حصل له اتفاقًا أنه وصل إلى الغاية، هذا عمله لا يوافق عليه وليس بصحيح ولو وافق في النهاية.

وعلى هذا: لو أن قاضيًا، شخص زور شهادات ووُلِّي القضاء، ثم جلس في مجلس القضاء وحضر عنده الخصوم وقضى في كذا مسألة، أصاب في بعضها وأخطأ في بعضها، ثم بعد ذلك الجهة التي هي مرجعة كالتمييز مثلاً اطلعوا على أن شهاداته مزورة وأنه جاهل لا يعرف من العلم شيئًا، تُنقض جميع أحكامه أو يُنقض ما خالف الحق؟

طالب: ما خالف الحق.

بخلاف ما إذا كان كفؤًا للعمل وتغير اجتهاده، فصار نصف أحكامه على الاجتهاد الأول والنصف الثاني على الاجتهاد الثاني. الاجتهاد ما يُنقض باجتهاد، لكن هذا لا عن اجتهاد، هذه الأحكام لم تنشأ عن اجتهاد، ومقدماتها ليست شرعية، إذًا غاياتها ليست شرعية، تُنقض جميعًا ويحالون إلى غيره.

طالب: ما يقال هنا بالانفكاك يا شيخ؟

لا لا، ما فيه انفكاك هنا، يكون الذي قضى الجهة المميزة ما هو بالقاضي.

طالب: هو في المسائل التي قضى وافق الحق؟

لا لا، هذا ما قضى أصلاً، لا.

طالب: هو يوافق أحد القضاة الثلاثة وإن أصاب....

هذا من حيث الحكم معروف أنه آثم، لكن تنفيذ أحكامه بهذه الصفة ما تنفذ.

طالب: "وأما إذا لم يقصد موافقةً ولا مخالفةً، فهو العمل على مجرد الحظ أو الغفلة، كالعامل ولا يدري ما الذي يعمل، أو يدري، ولكنه إنما قصد مجرد العاجلة، مُعرِضًا عن كونه مشروعًا أو غير مشروع، وحكمه في العبادات عدم الصحة؛ لعدم نية الامتثال. ولذلك لم يكلف الناسي ولا الغافل ولا غير العاقل، وفي العادات الصحة إن وافق قصد الشارع، وإلا فعدم الصحة".

ولذلك "لم يكلف الناسي ولا الغافل ولا غير العاقل، وفي العادات الصحة إن وافق قصد الشارع"، الأمور العادية ما فيها إشكال، الأمور العادية، لكن الكلام في غير العادية، في الأمور الشرعية التي مبناها على المقدمات الشرعية، فإذا وُجدت هذه المقدمات صارت النتائج شرعية، وإلا فلا.

طالب: "وفي هذا الموضع نظر، إذ يقال: إن المقصد هنا...".

لأن الشرع جاء بأحكام لها وسائلها، إن طُبقت هذه الوسائل صُححت الأحكام ولو لم تطابق الواقع: «إنما أنا بشر أقضي على نحو ما أسمع»، هذا كلام المؤيد بالوحي، لكنه يحكم بهذا ليسن لمن بعده من القضاة، فقد يحكم لغير صاحب الحق، ويكفيه أنه اجتهد، واستعمل المقدمات الشرعية، ثم بعد ذلك النتائج بأدلة. وقل مثل هذا: لو أن شخصًا رأى شخصًا يزني بأم عينه بحيث لا يتردد في كونه الزنا الكامل، ثم طلب منه أربعة شهداء فلم يجد؛ هذا كاذب ولو كان كلامه مطابقًا للواقع، بنص القرآن. وعكسه حكمه صحيح ولو خالف الواقع؛ لأنه استعمل ما أُمر به. ولو شهدت البينة بدخول الشهر، البينة مرتضاة شرعًا، فإننا نصوم ولو قُدر أن شهادتهم لم تطابق الواقع؛ لأنهم في الأصل ثقات، ومقدماتنا الشرعية مستعملة، فالنتائج شرعية. وقل مثل هذا فيما لو أن الهلال بالفعل وُلد وطلع الهلال، لكنه لم يره أحد ولم يشهد به أحد، فإننا لا نصوم حتى يشهد به من يثبت الحكم بشهادته.

طالب: "وفي هذا الموضع نظر، إذ يقال: إن المقصد هنا لما انتفى، فالموافقة غير معتبرة لإمكان الاسترسال بها في المخالفة، وقد يظهر لهذا تأثير في تصرفات المحجور، كالطفل والسفيه الذي لا قصد له إلى موافقة قصد الشارع في إصلاح المال، فلذلك قيل بعدم نفوذ تصرفاته مطلقًا، وإن وافقت المصلحة، وقيل بنفوذ ما وافق المصلحة منها لا ما خالفها، على تفصيل أصله هذا النظر، وهو أن مطلق القصد إلى المصلحة غير منتهض، فهو بهذا القصد مخالف للشارع، وقد يقال: القصد إنما يعتبر بما ينشأ عنه، وقد نشأ هنا مع عدم القصد موافقة قصد الشارع، فصح".

يعني أنه مجرد المطابقة، لأنه طابق.

طالب: "فصل: حيث قلنا بالصحة في التصرفات العادية، وإن خالف القصد قصد الشارع، فإن ما مضى الكلام فيه مع اصطلاح الفقهاء، وأما إذا اعتبرنا ما هو مذكور في هذا الكتاب في نوع الصحة والبطلان من كتاب الأحكام، فكل ما خالف قصد الشارع، فهو باطل على الإطلاق، لكن بالتفسير المتقدم، والله أعلم".

يعني شخص تزوج لا للنسل ولا للمعاشرة ولا لتخدمه في بيته، يعني لا يريد أن يحقق أي هدف من المصالح الشرعية المرتبة على الزواج، وإنما قصد أن تكون عاملاً عنده في مزرعته فقط، ثم بعد ذلك قد يحتاج إليها وتحتاج إليه في معاشرة أو شبهها، يحصل بعد ذلك تبعًا ما لا يحصل بالقصد الأول. ماذا يقال عن هذا النكاح؟ وتعدى هذا قليلاً ثم قال -يعني في غير بلدنا-: تزوج امرأة من أجل أن تكون سائقًا لأسرته، لأولاده وبناته تذهب بهم إلى المدارس بدلاً من أن يأتي بسائق، بهذا الهدف تزوجها، هذا قصده الأول. يعني هل هذا يؤثر على صحة العقد أو لا يؤثر؟

طالب: لا يؤثر.

ما يؤثر، لكن إنما أجره على قدر، ثم إن طولب بالواجبات الشرعية من معاشرة أو نفقة، هي لزمته بالعقد، فإن أداها وإلا فلها الفسخ.

طالب: ........

نعم.

طالب: ........

لا، لا، ما يوجد، هو أراد أن يفرغ هذه الشهوة، وهمه الحرام؛ لأن الحلال له تبعات -على حد زعمه-، أليس كذلك؟ فما وجد الحرام، ما وجد إلا حلالًا، هذا آثم على كل حال.