كتاب الجامع من المحرر في الحديث - 01

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نعم.

بسم الله، والحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبحانك اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علمًا.

قال الإمام ابن عبد الهادي –يرحمه الله تعالى- في كتابه المحرر: "كتاب الجامع:

 عَن عمر بن الْخطاب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- قَالَ: قَالَ رَسُول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لكل امرئ مَا نَوى، فَمن كَانَت هجرته إِلَى الله وَرَسُوله، فَهجرَته إِلَى الله وَرَسُوله، وَمن كَانَت هجرته إِلَى دنيا يُصِيبهَا، أَو امْرَأَة يَتَزَوَّجهَا، فَهجرَته إِلَى مَا هَاجر إِلَيْهِ».

وَعَن عَائِشَة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- قَالَت: قَالَ رَسُول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «من أحدث فِي أمرنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رد».

وَعَن الشّعبِيّ عَن النُّعْمَان بن بشير قَالَ: سمعته يَقُول: سَمِعت رَسُول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُول -وأهوى النُّعْمَان بإصبعيه إِلَى أُذُنَيْهِ-: «إِن الْحَلَال بيِّن وإِن الْحَرَام بيِّن، وَبَينهمَا أُمُور مُشْتَبهَات لَا يعلمهُنَّ كثير من النَّاس، فَمن اتَّقَى الشُّبُهَات اسْتَبْرَأَ لدينِهِ وَعرضه، وَمن وَقع فِي الشُّبُهَات وَقع فِي الْحَرَام، كَالرَّاعِي يرْعَى حول الْحمى يُوشك أَن يرتع فِيهِ، أَلا وَإِن لكل ملك حمى، أَلا وَإِن حمى الله مَحَارمه، أَلا وَإِن فِي الْجَسَد مُضْغَة إِذا صلحت صلح الْجَسَد كُله، وَإِذا فَسدتْ فسد الْجَسَد كُله، أَلا وَهِي الْقلب».

وَعَن أبي هُرَيْرَة، أَن رَسُول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «اجتنبوا السَّبع الموبقات» قيل: يَا رَسُول الله! وَمَا هن؟ قَالَ: «الشّرك بِاللَّه، وَقتل النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأكل مَال الْيَتِيم، وَأكل الرِّبَا، والتولي يَوْم الزَّحْف، وَقذف الْمُحْصنَات الْغَافِلَات الْمُؤْمِنَات».

وَعَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة أَن رَسُول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِن الله -عَزَّ وَجَلَّ- حرم عَلَيْكُم عقوق الْأُمَّهَات، ووأد الْبَنَات، ومنعًا وهات، وَكره لكم ثَلَاثًا: قيل وَقَالَ، وَكَثْرَة السُّؤَال، وإضاعة المَال».

وَعَن ابْن عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما- قَالَ: قَالَ رَسُول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «بُني الْإِسْلَام عَلَى خمس: شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، وإقام الصَّلَاة، وإيتاء الزَّكَاة، وَصَوْم رَمَضَان، وَحج الْبَيْت».

وَعَن أنس أَن النَّبِي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «ثَلَاث من كن فِيهِ وجد بِهن حلاوة الْإِيمَان: من كَانَ الله وَرَسُوله أحبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا، وَأَن يحب الْمَرْء لَا يُحِبهُ إِلَّا لله، وَأَن يكره أَن يعود فِي الْكفْر بعد أَن أنقذه الله مِنْهُ كَمَا يكره أَن يلقى فِي النَّار».

وَعنهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- قَالَ: قَالَ رَسُول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى أكون أحب إِلَيْهِ من وَلَده ووالده وَالنَّاس أَجْمَعِينَ».

وَعنهُ عَن النَّبِي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قَالَ: «وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَا يُؤمن عبد حَتَّى يحب لجاره -أو قَالَ لِأَخِيهِ- مَا يحب لنَفسِهِ».

وَعَن عبد الله بن مَسْعُود -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- قَالَ: قَالَ رَسُول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «سباب الْمُسلم فسوق، وقتاله كفر».

وَعنهُ قَالَ: سَأَلت رَسُول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَي الذَّنب أعظم عِنْد الله؟ قَالَ: «أَن تجْعَل لله ندًّا وَهُوَ خلقك»، قَالَ: قلت لَهُ: إِن ذَلِك لعَظيم، قَالَ: قلت: ثمَّ أَي؟ قَالَ: «أَن تقتل ولدك خشيَة أَن يطعم مَعَك»، قَالَ: قلت: ثمَّ أَي؟ قَالَ: «ثمَّ أَن تُزَانِي حَلِيلَة جَارك».

وَعَن أبي هُرَيْرَة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- أَن رَسُول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «آيَة الْمُنَافِق ثَلَاث: إِذا حدَّث كذب، وَإِذا وعد أخلف، وَإِذا ائْتمن خَان».

وَعَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ -رضي الله عنهما- أَن رَسُول الله –صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مِن الْكَبَائِر شتم الرجل وَالِديهِ» قَالُوا: يَا رَسُول الله! وَهل يشْتم الرجل وَالِديهِ؟ قَالَ: «نعم. يسب أَبَا الرجل، فيسب الرجل أَبَاهُ، ويسب أمه فيسب أمه»".

حسبُك.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،

فكتاب الجامع من هذا الكتاب العظيم المحرر لابن عبد الهادي على اسمه جامع، وهو مسبوقٌ في ختم كتابه بالجامع، فالجامع موجودٌ في كُتب المتقدمين، ومن أوائلها كتاب الموطأ للإمام مالك، وهو يجمع أحاديث لا تندرج تحت الكُتب والأبواب السابقة، وفي الغالب أنها في الآداب لا في الأحكام، فالجامع يُدرَج فيه: كتاب الآداب، والبِر، والصلة، وحُسن الخُلق، وسوء الخُلق، والذِّكر والدعاء، وغير ذلك كالطب إلى أبوابٍ تتعلق أو يشملها هذا المسمى الواسع كتاب الجامع؛ لأن الكتاب موضوعه أحاديث الأحكام، ويعز على المؤلفين من أهل العلم –النصحة- أن يخلو كُتبهم وإن كانت في الأحكام من مثل هذه الأحاديث، أن يخلو كُتبهم وإن كانت في الأحكام في الحلال والحرام مرتبة على أبواب الفقه على طريقة أهل العلم، لكن هذه أحاديث يُضطَر إليها المسلم ويحتاج إليها، وهي لا تندرج تحت الأبواب السابقة.

والتفريط فيها ليس بالسهل على النفس؛ لأهميتها في حياة المسلم، فيجعلونها تحت مسمى كتاب الجامع، والأئمة سبقوهم بذلك، كالإمام مالك وغيره جعلوا في أواخر الكُتب مثل هذه الأبواب تحت مسمى (كتاب الجامع).

فالجامع يجمع ما يحتاج إليه المسلم من الأحاديث التي لا تتعلق بالأحكام، وإن كان يُستنبَط منها مسائل منها ما هو محرَّم، ومنها ما هو واجب، ومنها ما هو مُستحب وهو الكثير الغالب، ومنها ما هو مكروه إلى غير ذلك من الأحاديث التي يُستفاد منها ما ذكرناه.

معروف أن الكتب كُتب الفقه وأحاديث الأحكام مرتبة على الأرباع الأربعة: العبادات والمعاملات والأنكحة، ثم بعد ذلك الجنايات، هناك أحاديث يحتاجها طالب العلم، ويحتاجها المسلم لا تندرج تحت هذه الأرباع الأربعة، فأفردوها بهذا الكتاب الذي سموه جامع.

العبادات وجميع التصرفات التي يُرجى ثوابها من الله –جلَّ وعلا- لا تصح ولا تُقبَل إلا بشرطين هما:

- الإخلاص لله جلَّ وعلا.

- والمتابعة لنبيه عليه الصلاة والسلام.

ولذا بدأ المؤلف هذا الكتاب الجامع بحديث «إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ» حديث عمر –رضي الله عنه- وحديث عائشة «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً ليسَ عليه أمرُنا هذا فهو رَدٌّ».

الله –جلَّ وعلا- يقول: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] لا بُد من الإخلاص لله –جلَّ وعلا- في كل ما يُتقرَّب به إليه وفي كل ما يُرجى ثوابه لا بُد من الإخلاص.

أيضًا لا بُد فيه من المتابعة للنبي –عليه الصلاة والسلام- الله –جلَّ وعلا- يقول: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:7] متى يكون العمل حسنًا؟ إذا كان خالصًا لله –جلَّ وعلا- صوابًا على سُنَّة نبيه -عليه الصلاة والسلام-.

قال الفضيل بن عياض في قوله –جلَّ وعلا-: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:7] قال: أخلصه وأصوبه، قيل: يا أبا علي ما أخلصه؟ وما أصوبه؟ قال: إذا كان العمل خالصًا لله –جلَّ وعلا- ولم يكن صوابًا على سُنَّة نبيه –صلى الله عليه وسلم- لم يُقبل، وإذا كان على السُّنَّة ولم يكن خالصًا لله –جلَّ وعلا- فإنه لا يُقبَل.

هل يُتصوَّر أن يكون على السُّنَّة ولا يكون خالصًا لله –جلَّ وعلا- هل يُتصوَّر؟ يعني في ظاهره، جاء بصلاة مشتملة على الشروط والواجبات والأركان والسُّنن ظاهرها يندرج تحت قوله –عليه الصلاة والسلام-: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ظاهرها على السُّنَّة، لكنها غير مقبولة إذا لم تقترن بالإخلاص ولو كان ظاهرها على السُّنَّة؛ ولذا يشترط أهل العلم لقبول العبادات أن تكون خالصةً لله –جلَّ وعلا- صوابًا على السُّنَّة.

بعض العلماء يقول: لا داعي للشرط الأول، يكفي أن تكون على السُّنَّة؛ لأن العمل إذا لم يكن خالصًا لله –جلَّ وعلا- فإن المتابعة للنبي –عليه الصلاة والسلام- لا يُمكن أن تتحقق؛ لأن أعماله –عليه الصلاة والسلام- كلها خالصة لله –جلَّ وعلا-، فإذا تخلَّف هذا الشرط فمعناه أنها ليست على السُّنَّة.

هل يُمكن أن يُستغنى عن الشرط الأول الإخلاص لله -جلَّ وعلا- على التقرير الذي ذكرناه ممكن أم لا يمكن؟

نعم، بعض أهل العلم يرى أنه لا داعي لذِكر شرط الإخلاص، يكفي أن نقول: صوابًا على السُّنَّة تحقق فيه شرط المتابعة، ولا يمكن أن يتحقق شرط المتابعة للنبي –عليه الصلاة والسلام- ولا يكون العمل صوابًا على سُنَّة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلا إذا كان خالصًا لله –جلَّ وعلا-، فلا داعي لذكر الشرط الأول، لكن عامة أهل العلم يُركّزون على الشرط الأول، يُركزون عليه، ويُشددون عليه؛ لأنه مزلة قدم، يعني بدلًا من أن يكون عملًا مقبولًا مُثابًا عليه يكون على الضد، يكون معاقبًا عليه مردودًا، ويُعاقب عليه، يكون عملًا باطلًا؛ فلأهمية هذا الأمر يُفردونه ويُركزون عليه ويؤكدون عليه، والنية شرود إذا لم يُؤكَّد عليها في كل مناسبة، فإن الإنسان قد يغفل عنها، يُحقق الصفة الظاهرة والهيئة الظاهرة، ويغفل عن الباطن، وأيضًا عموم الناس حينما يقتدون بالأعمال الظاهرة ما الذي يُدريهم عن البواطن؟

إذا كان الرسول –عليه الصلاة والسلام- قال: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»، وقلنا: اصنع كما صنع النبي –عليه الصلاة والسلام- فإنه سوف يقرأ فيما ثبت عنه –عليه الصلاة والسلام- في صفة الصلاة، ويُطبِّق من غير أن يستحضر هذه النية إذا لم يؤكَّد عليها، فلا بُد من التأكيد على النية؛ لأهميتها؛ ولأن كثيرًا من الناس بصدد الغفلة عنها ونسيانها فلا بُد من التأكيد عليها، فذكرها مع الشرط الثاني وإن أمكن الاستغناء عنها بالشرط الثاني على سبيل الكلام النظري؛ لأن مثل ما قلنا: إن كثيرًا من الناس إذا لم يُذكَّر بالنية نسيها، فلا بُد من التأكيد عليها لأهميتها.

ودليل الشرط الأول هو الحديث الأول الذي أورده المؤلف –رحمه الله تعالى- حديث عمر بن الخطاب المخرَّج في الصحيحين وغيرهما.

"عَن عمر بن الْخطاب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- قَالَ: سمعت رَسُول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يقول: «إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لكل امرئ مَا نَوى»"، وتفريعًا على هذا الحصر قال: «فَمن كَانَت هجرته إِلَى الله وَرَسُوله فَهجرَته إِلَى الله وَرَسُوله، وَمن كَانَت هجرته إِلَى دنيا، يُصِيبهَا أَو امْرَأَة يَتَزَوَّجهَا، فَهجرَته إِلَى مَا هَاجر إِلَيْهِ»".

 والحديث في الصحيحين وغيرهما، وهو أول حديثٍ في صحيح البخاري، وخرَّجه الإمام البخاري في سبعة مواضع.

يقول الإمام البخاري في أول صحيحه: "حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عن يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، عن مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، عن عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ، عن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على المنبر يَقُولُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»" الحديث.

هذا الحديث يرويه الإمام البخاري عن شيخه الحميدي عبد الله بن الزبير، والحميدي يرويه عن سفيان بن عُيينة، وابن عُيينة يرويه عن يحيى بن سعيد، تفرَّد بروايته عن النبي –عليه الصلاة والسلام- عمر بن الخطاب، ما رواه عن النبي –عليه الصلاة والسلام- إلا عمر مع أن النبي –عليه الصلاة والسلام- قاله على المنبر يخطب به، "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على المنبر يَقُولُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»"، فما رواه عنه إلا عمر –رضي الله عنه-، جاء من طُرق، لكن كلها ضعيفة، يعني ما يثبت إلا من طريق عمر –رضي الله عنه-، هل معنى هذا أن الصحابة ضيعوا السُّنَّة، أو فرَّطوا في روايتها مع أنهم سمعوها من النبي -عليه الصلاة والسلام-؟

إذا ثبت الخبر من طريقٍ صحيح فإنه يكفي، نعم، لا يجوز للأمة أن تُفرِّط بشيءٍ من دينها مجتمعة، لكن إذا ثبت من طريقٍ تقوم به الحُجة يُكتفى به عن بقية الطرق.

عمر أيضًا جاء في بعض الروايات أنه خطب به على المنبر، فلم ينقله عنه إلا علقمة بن وقاص الليثي، ولم يروه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولم يروه عنه إلا يحيى بن سعيد الأنصاري، وعنه انتشر، فرواه عنه جموعٌ غفيرة حتى قال بعضهم: إنه رواه عن يحيى بن سعيد أكثر من سبعمائة شخص، مع أن الحافظ ابن حجر يُشكك في هذا العدد، وأنه من بداية الطلب حرص على جمع طرقه عن يحيى بن سعيد، يقول: فما قدرت على تكميل المائة، لكن لا يعني أنه إذا لم يطلع ابن حجر على جميع الطرق ألا تكون موجودة، لا سيما وأن ممن قال: إنه رواه هذا الجمع الغفير أئمة الاطلاع الواسع، فهل يكون ابن حجر قد اطلع على طرق مع أن الأئمة المتقدمين كأحمد والبخاري وغيرهما من الأئمة جمعوا مئات الألوف من الأحاديث؟

الإمام أحمد يحفظ سبعمائة ألف حديث أكثر من جميع الحواسيب الموجودة، أبو داود يحفظ خمسمائة ألف حديث، فلا يُشك فيما قالوه، وإن كان القدر الزائد على ما تثبت به الحُجة لا حاجة إليه يعني سواءً كانت مائة أو سبعمائة ما فيه فرق، الحديث ثابت وصحيح، ولا مجال للتشكيك فيه، ومُخرَّجٌ في الصحيحين وغيرهما، وبهذا يُرد على من يقول: إن الحديث لا يثبت إلا إذا رواه عدد، ما يكفي رواية واحد، كالمعتزلة ومن يقول بقولهم.

 هذا الحديث ما رواه عن النبي –عليه الصلاة والسلام- إلا عمر، وما رواه عن عمر إلا علقمة، وما رواه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولا رواه عنه إلا يحيى بن سعيد، هذا أول حديث في البخاري، وآخر حديث مثله «كَلِمَتانِ خَفِيفَتانِ علَى اللِّسانِ، ثَقِيلَتانِ في المِيزانِ، حَبِيبَتانِ إلى الرَّحْمَنِ: سُبْحانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ، سُبْحانَ اللَّهِ العَظِيمِ»، ما رواه عن النبي –عليه الصلاة والسلام- إلا أبو هريرة، وعنه أبو زُرعة بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي، وعنه عمارة بن القعقاع فقط، وعنه محمد بن الفضيل، وعنه انتشر مثل الحديث الأول أول حديث وآخر حديث،  ترد هذه المقالة، فهذه المقالة مرفوضة، وليس لها حظٌّ من النظر، فإذا ثبت الحديث برواية ثقة فإنه يكفي وتقوم به الحُجة، ويلزم العمل به.

عن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على المنبر يقول: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» «إِنَّمَا»، أداة حصر، والحصر بها حقيقي مع أن الحصر قد يكون حقيقيًّا، وقد يكون إضافيًّا، وهنا حصرٌ حقيقي فلا يصح عملٌ إلا بنية، يعني مما يُتقرَّب به إلى الله- جلَّ وعلا-.

«إِنَّمَا الْأَعْمَالُ» يُراد بها أعمال الجوارح، وأعمال القلوب، ومن أعمال الجوارح الكلام، والنطق، وقول اللسان وعمل اللسان، كذلك عمل القلب كلها تحتاج إلى الإخلاص لله –جلَّ وعلا-، وأنها لا تُقبَل إلا بهذا القيد «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ»، من أهل العلم من يُدخِل التروك في ضمن الأعمال، ويستدل على ذلك بقول الصحابي:

لئن قَعَدْنا والنبي يَعْمَل
 

 

..............................................
 

يعني ترك العمل لئن تركنا العمل.

لئن قَعَدْنا والنبي يَعْمَل
 

 

فذاك مِنَّا العَمَلُ المُضَلَّل
 

يُسمى الترك عملًا «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ» قُصِر قبولها وصحتها على وجود النية الخالصة لله –جلَّ وعلا-، والنية في اللغة القصد، والمراد بها قصد وجه الله –جلَّ وعلا- بالعمل الصالح دون غيره، فلا يكون لأحدٍ فيه شركة «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ مَعِيَ فِيهِ غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»، فالتشريك مُبطِل للعبادة.

النية في اللغة: القصد، يقولون كما في كُتب اللغة: نواك الله بخيرٍ أي: قصدك، وهذا من باب الإخبار، يعني ما يُقال: ما الدليل على هذا؟ لأن العرب قالوا هذا، وهذا لا يحتاج في إثباته ونسبته إلى الله –جلَّ وعلا- إلى دليل؛ لأن دائرة الإخبار أوسع من غير أن يُسمى الله –جلَّ وعلا- بالنواي أو أنه ينوي لا، الصفة والاسم لا بُد فيها من دليل يُثبتها.

والنية محلها القلب، ولذا لا يجوز النُّطق بها، بل النُّطق بالنية بدعة، فلم يُحفَظ عن النبي –عليه الصلاة والسلام- ولا عن صحابته ولا عن التابعين لهم بإحسان أن أحدًا منهم لا بسندٍ صحيح ولا بسندٍ ضعيف أنه قال: نويت أن أتوضأ، نويت أن أصلي، نويت أن أفعل كذا، فالنية محلها القلب، {أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} [الحجرات:16] الذي يقول: نويت كذا، كأنه يُعلِّم الله، الله –جلَّ وعلا- {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7].

«إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» يعني مقصورٌ قبولها وصحتها على وجود النية الصالحة الخالصة لله- جلَّ وعلا-.

«إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لكل امرئ مَا نَوى» من نوى شيئًا حصل له، ومن نوى شيئًا لم يحصل له غيره، «وَإِنَّمَا لكل امرئ مَا نَوى».  

في الأمور في العبادات وما يُتقرَّب به إلى الله يُقدَّر هنا الصحة صحتها بالنيات الخالصة لله –جلَّ وعلا- في أمور الدنيا إذا كانت مما يُرجى ثوابه من الله –جلَّ وعلا- مزارع يُريد أن يتقرب على الله –جلَّ وعلا- بهذه المزروعات، طبيب يُريد أن يُؤجر على هذا العمل بأن يخدم المسلمين، وينفع غيره بهذه النية يؤجر عليها، وبغيرها مزارع ما نوى إلا الكسب فقط، نقول: زراعته غير صحيحة أو عليه إثم؟

لا، لكن إن نوى الخير بهذا وقصد بذلك نفع نفسه ونفع غيره وإيجاد ما تمس الحاجة إليه من فروض الكفايات هذا يؤجر عليها بهذه النية.

«وَإِنَّمَا لكل امرئ مَا نَوى» ثم فرَّع فقال: «فَمن كَانَت هجرته إِلَى الله وَرَسُوله فَهجرَته إِلَى الله وَرَسُوله» هذه الجملة ليست موجودة في الموضع الأول من صحيح البخاري، هذه الجملة «فَمن كَانَت هجرته إِلَى الله وَرَسُوله فَهجرَته إِلَى الله وَرَسُوله»، هذه الجملة لا تُوجد في الموضع الأول من صحيح البخاري في أول حديث، والذي يظهر أن البخاري هو الذي حذفها؛ لأنها موجودة في رواية شيخه الحُميدي، ولو لم تكن موجودة في رواية شيخه الحُميدي، لقلنا: إن الحذف من شيخه ليس منه، إنما هي موجودة في روايته، فدل على أن البخاري هو الذي حذفها، لماذا حذفها؟ لأنها تتضمن التزكية، والبخاري جعل هذا الحديث كالخطبة لكتابه «فَمن كَانَت هجرته إِلَى الله وَرَسُوله» كأنه يُشَم منها أن البخاري بهذا التأليف كان قصده الله ورسوله فحذفها؛ لئلا يتطرق الوهم والفهم إلى مثل هذا الاحتمال، وأوردها في المواضع الأخرى، لكن هذا الموضع الذي فيه بيان منهجه وخطبته في الكتاب هذا بمنزلة الخطبة حذفها؛ لئلا يُظن به أنه يرى أن عمله خالصًا لله –جلَّ وعلا-، فأراد أن يقطع هذا الاحتمال، فحذف هذه الجملة.

طيب هل يجوز للمحدِّث أن يحذف أو أن يزيد؟

لا يجوز له أن يزيد، لكن اختصار الحديث عند أهل العلم جائز، لا سيما لمن رواه تامًّا في موضعٍ آخر، إذا رواه في موضع تام، وفي موضع مختصر فلا مانع، ولا يلزم أن يأتي الراوي بجميع الخبر، فيجوز له أن يحذف منه ما يحذف، ويقتصر على بعضه، لا سيما إذا كان الموجود منه لا يتوقف فهمه على المحذوف، فهذه الجملة لو حذفناها استقام المعنى.

ومثل هذا يجوز حتى في القرآن، فإذا أردت أن تتحدث عن الأمانة قلت: يقول الله –جلَّ وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] ،هل يلزمك تكمل الآية وتقول: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58]؟ ما يلزم، لكن إذا أردت أن تتحدث عن العدل تأتي بما يخص العدل، ولا تأتي بما يتعلق بالأمانة، لكن إذا أوردت الحديث كاملًا فلا شك أنه أولى، وإذا أوردت الآية كاملة لا شك أنها أولى، وكثيرًا ما يقول أهل العلم: الحديث، الآية يعني أكمل الآية، أو أكمل الحديث إذا حذفوا منه ما لا يُحتاج إليه، فالبخاري حذف «فَمن كَانَت هجرته إِلَى الله وَرَسُوله فَهجرَته إِلَى الله وَرَسُوله».

«فَمن كَانَت هجرته إِلَى الله وَرَسُوله» هذه جملة شرطية (مَن) شرطية «كَانَت هجرته إِلَى الله وَرَسُوله» هذا فعل الشرط «فَهجرَته إِلَى الله وَرَسُوله» هذا جواب الشرط، وهل يصح أن يكون الجواب نفس الشرط؟ هل يصح أن تقول: مَن قام قام؟ من قام فقد قام يصح أم ما يصح؟

 ما يصح أن تقول: من قام فقد قام، هنا «فَمن كَانَت هجرته إِلَى الله وَرَسُوله فَهجرَته إِلَى الله وَرَسُوله»، لكنهم يُقدرون ما يصح به المعنى، ويتم به المطلوب من كانت هجرته إلى الله ورسوله نيةً وقصدًا، فهجرته إلى الله ورسوله ثوابًا وأجرًا، فينتفي المحظور، ويختلف الجواب عن الشرط.

«وَمن كَانَت هجرته إِلَى دنيا، يُصِيبهَا أَو امْرَأَة يَتَزَوَّجهَا، فَهجرَته إِلَى مَا هَاجر إِلَيْهِ».

كم بقي؟ 

طالب: .............

«فَهجرَته إِلَى مَا هَاجر إِلَيْهِ» أولًا: المرأة جزء من الدنيا، وعطفها على الدنيا من باب عطف الخاص على العام؛ للاهتمام بها والعناية بشأنها، فكثيرًا ما ينتقل الناس من بلد إلى بلد من أجل أن يتزوج امرأة، وكثيرٌ من الناس من ينتقل من بلدٍ إلى بلد من أجل الدنيا كما أنه يُوجد من ينتقل من بلدٍ إلى بلد؛ لوجود من يُعينه على الطاعة، ويُساعده على ذلك، أو ينتقل من بلدٍ إلى آخر؛ لطلب العلم والرحلة في طلب العلم وطلب الحديث معروفة عند أهل العلم، وفيها مصنفات، لكن من هاجر لدنيا يُصيبها أو امرأةٍ يتزوجها، الجملة الأولى سيقت مساق مدح «فَمن كَانَت هجرته إِلَى الله وَرَسُوله فَهجرَته إِلَى الله وَرَسُوله»، والجملة الأخرى سِيقت مساق ذم «وَمن كَانَت هجرته إِلَى دنيا، يُصِيبهَا أَو امْرَأَة يَتَزَوَّجهَا»، وفي رواية «يُنكحها؛ فَهجرَته إِلَى مَا هَاجر إِلَيْهِ» سِيقت الجملة مساق الذم، ومعلومٌ أن من ضاقت به السُّبل وما وجد عمل في بلده وانتقل إلى بلدٍ آخر؛ للبحث عن لقمة العيش، وعما يقوم بكفايته وكفاية من يمون يُذَم أم ما يُذَم أو يؤجر؟ يؤجر، إذا نوى النية الصالحة يؤجر على ذلك، فكيف يُساق مساق الذم في هذا الحديث، ومثله من هاجر ليتزوج امرأة، بحث عن امرأة فما وجد في بلده، فقيل له: انتقل إلى البلد الفلاني، وفيه نساء كثير، ويُزوجون من يأتيهم، يُذَم أم ما يُذَم؟ ما يُذَم، إذًا كيف سِيقت الهجرة من أجل المرأة، ومن أجل الدنيا مساق الذم؟ سِيقت إذا أظهر هجرته وهي ليست لله، للدنيا أو للمرأة في مظهر من هاجر إلى الله ورسوله.  

يُقال: إن الحديث ورد بسبب رجل هاجر؛ ليتزوج امرأة يُقال لها: أم قيس، وأظهر للناس أنه هاجر إلى الله ورسوله، فكان يُسمى مهاجر أم قيس.

إذا هاجر وأظهر للناس أنه هاجر لله ورسوله، انتقل من بلده إلى بلدٍ آخر فيه أبواب الرزق متاحة، وفيه فرص العمل كثيرة، ثم قيل له: تركت أهلك، وتركت بلدك، وقومك، قال: نعم هناك خيار الناس يُعينونني على طاعة الله، وهناك المنكرات قليلة، ويستطيع الإنسان أن يتعبد، وما هو بصحيح ما جاء لهذا، هو جاء للدنيا هذا الذي يُذَم، وكذلك من انتقل ليتزوج قيل له: تركت بلدك وأهلك وعشيرتك، قال: أنا تركت من أجل أهل الخير وأهل الفضل، وأهل الدين يُساعدوننا على ديننا وكذا، ويُريد الزواج، هذا الذي يُذَم.

لو أن شخصًا في يوم الاثنين أو في يوم الخميس دخل مسجدًا ومعه تمر وماء وقهوة ومد السماط قبل أذان المغرب بنصف ساعة، ووضع التمر والماء والقهوة وكل من دخل المسجد قال: تفضل، مُوهِمًا أنه صائم وهو ما صام، هل يقول له أحد: إن الأكل في المسجد حرام، ما هو بحرام الأكل، لكن إذا أوهم الناس أنه صائم بحيث ينتظر يأتي في هذا الوقت، وينتظر ولا يأكل إلا إذا أذَّن يُذَم؛ لأنه أوهم الناس أنه صائم، وإلا فالأصل أن الأكل في المسجد مُباح، والانتظار إلى الأذان أيضًا ما فيه إشكال، لكن إذا أوهم الناس أنه صائم فإنه يُذَم.

وهذا الحديث عظَّم أهل العلم شأنه، ولا شك أنه عظيم، حتى قال بعضهم: إنه ينبغي أن يُكتَب في مطلع كل باب؛ ليُذكِّر الناس بالنية، وقال بعض الأئمة: أنه يدخل في سبعين بابًا من العلم، فشأنه عظيم.

ومنهم من قال: إنه رُبع الإسلام، ومنهم من قال: الثلث.   

عُمْدَةُ الدِّينِ عندَنا كلماتٌ
 

 

أربعٌ مِنْ قول خيرِ البريَّه
 

اتَّق الله وازهَدْ ودَعْ ما
 

 

لَيسَ يَعْنِيكَ واعمَلَنَّ بِنيَّه
 

فهي أربعة أحاديث.

عُمْدَةُ الدِّينِ عندَنا كلماتٌ
 

 

أربعٌ مِنْ قول خيرِ البريَّه
 

اتَّق الله وازهَدْ ودَعْ ما
 

 

لَيسَ يَعْنِيكَ واعمَلَنَّ بِنيَّه
 

ومنهم من قال: المدار على ثلاثة أحاديث، وهذا منها.

الحديث الثاني: حديث عائشة – رضي الله عنها - قَالَت: قَالَ رَسُول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً ليسَ عليه أمرُنا هذا فهو رَدٌّ»، وفي روايةٍ «من أحدث فِي أمرنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رد» هذا دليل الشرط الثاني، الشرط الثاني الذي نبَّهنا عليه سابقًا، وهو أن يكون العمل صوابًا موافقًا لسُنَّة النبي- عليه الصلاة والسلام-.

«مَنْ عَمِلَ عَمَلاً ليسَ عليه أمرُنا» «من أحدث فِي أمرنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رد» «فِي أمرنَا» يعني في ديننا، والمحظور الإحداث في الدين، أما الإحداث في أمور الدنيا، فالتطور سُنَّة إلهية، والتغيير أيضًا من السُّنن الإلهية لا بُد فيها من التجديد والإحداث أمور الدنيا؛ ولذا قال: «فِي أمرنَا»، يعني في الدين لا يجوز الإحداث.

وهذا الحديث يهدم البدع كلها صغيرها وكبيرها، فكل البدع مردودة «من أحدث فِي أمرنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رد» كائنًا من كان لا يجوز الإحداث في الدين، وكل مُحدثةٍ في الدين بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، فكل عملٍ لم يسبق له شرعية، بل يُعمَل على غير مثالٍ سابق ولم يكن له شرعية من كتاب الله ولا سُنَّة نبيه –عليه الصلاة والسلام- هذا مردودٌ على صاحبه، «رد» مصدر يُراد به اسم المفعول، يعني مردود مثل الحمل يُراد به المحمول.

«كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ» هذا عموم لا يُستثنى من البدع والمحدثات شيء، وهذا يرد على قول من يقول: إن من البدع ما هو حسن، ومنها ما هو سيئ، فيُقسمون البدع إلى محمودة وبدع مذمومة، ومنهم من يُقسمها إلى الأحكام الخمسة التكليفية، فيقولون: بدع واجبة، وبدع مستحبة، وبدع مباحة، وبدع مكروهة، وبدع محرَّمة، قال بهذا بعض الشراح وبعض العلماء، فكيف يُقال: إن البدع منها ما هو محمود، ومنها ما هو واجب، ومنها ما هو مستحب، والنبي –عليه الصلاة والسلام- يقول: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ».

من يقول بتقسيم البدع يستدل بقوله –عليه الصلاة والسلام-: «مَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً حَسنةً فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَن عَمِلَ بهَا إلى يوم القيامة، وَمَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، فعليه وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَن عَمِلَ بهَا إلى يوم القيامة»، هذا سن سُنَّة حسنة معناه أنه هو الذي ابتدأها لم يسبق لها شرعية، لكنها حسنة.

كيف تكون حسنة ولم يعملها النبي –عليه الصلاة والسلام-، ولا جاءت في حديثه، ولا نقلها عن ربه –جلَّ وعلا- وهو القائل: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ»؟

لا شك أن هذا مصادمة للعموم الوارد في قوله –عليه الصلاة والسلام-: «كلَّ مُحْدَثةٍ في الدين بِدْعةٌ، وَكلَّ بِدْعةٍ ضَلالةٌ»، إذًا كيف يقول النبي –عليه الصلاة والسلام-: «مَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً حَسنةً»؟ هل معناه أنه ابتدعها واخترعها أو أنه فعلها وله أصلٌ في الشرع واقتدى به الناس، واستنُّوا بطريقته وهديه؟ بدليل أن النبي –عليه الصلاة والسلام- قال هذا الحديث لما حثَّ على الصدقة، حثَّ النبي –عليه الصلاة والسلام- على الصدقة، فجاء رجلٌ بمال، فلما رآه النبي– عليه الصلاة والسلام- سُر به، وقال: «مَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً حَسنةً فَلَهُ أَجْرُهَا» يعني أحياها، أحيا هذه السُّنَّة وإلا فلها أصل يعني الصدقة ما لها أصل في الشرع قبل أن يأتي هذا بما جاء به؟

لها أصل، جاءت في الكتاب والسُّنَّة بنصوصٍ لا يُمكن حصرها، والنبي –عليه الصلاة والسلام- حث هذا جاء بهذه السُّرة؛ امتثالًا لحثِّه –عليه الصلاة والسلام-، فاقتدى به الناس، وتتابعوا على التصدق؛ لأن الناس يُشجع بعضهم بعضًا إذا رأى غيره يتصدق تصدَّق، ويُعين بعضهم بعضًا، فيكون الأول الذي اقتدى به الناس له مثل أجورهم، فعلى الإنسان أن يُبادر بأفعال الخير؛ ليُقتدى به، ليكون قدوة وأسوة، فيستن به من يستن فيكون له مثل أجره.

قد يقول قائل: ركعتا الوضوء بما ثبتت؟

النبي –عليه الصلاة والسلام- لما دخل الجنة في رؤيا أو في الإسراء؟ رؤيا، قال: سمع خشخشة بلال، فسأل النبي –عليه الصلاة والسلام- بلال ما عملك الذي من أجله بلغت ما بلغت؟ قال: إنه ما توضأ وضوءًا إلا صلى ركعتين، هل أخذ هذا من النبي -عليه الصلاة والسلام-؟

إذًا ابتدع بلال، نعم لو لم تكتسب الشرعية، هذا العمل لو لم يكتسب الشرعية من إقرار النبي –صلى الله عليه وسلم- لقلنا: بدعة، مع أنه جاء عنه –عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صلى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ بهِمَا نَفْسَهُ دخل الجنة»، هذا فيه شرعية لركعتي الوضوء، لكن هل حُفِظ عن النبي –عليه الصلاة والسلام- أنه كان يُصلي ركعتي الوضوء؟ ما حُفِظ عنه، لكن ثبتت شرعية ركعتي الوضوء بإقرار النبي –عليه الصلاة والسلام- لكلام بلال.

الرجل الذي كان يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] بعد السورة في كل ركعة ما عنده شيء يتمسك به من فعل النبي –عليه الصلاة والسلام- أو من قوله، ما عنده شيء؛ ولذلك لما سأله النبي –عليه الصلاة والسلام- قال: إنه يُحبها؛ لأنها صفة الرحمن، أقره النبي –عليه الصلاة والسلام-، فاكتسب العمل الشرعية من إقراره –عليه الصلاة والسلام-، لكن لو فعل واحد بعد وفاته –عليه الصلاة والسلام- مثل هذا الفعل قلنا: بدعة؛ لأنه لم يسبق له شرعية من فعله –عليه الصلاة والسلام- أو من قوله، لم يسبق له شرعية من كتابٍ ولا سُنَّة، وهذا هو حد البدعة.

نأتي إلى مسألة مهمة جدًّا، وهي مؤثرة في الباب، صلاة التراويح، النبي –عليه الصلاة والسلام- صلى بالناس في رمضان في الليلة الأولى، فاجتمع إليه قوم، ثم في الليلة الثانية اجتمع أكثر صلوا وراءه، وفي الليلة الثالثة غصَّ المسجد، امتلأ، فلم يخرج إليهم، والنبي –عليه الصلاة والسلام- قال: «لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ مَكَانُكُمْ»، ولكنه –عليه الصلاة والسلام- من رحمته ورأفته بأمته خشي أن تُفرض؛ فترك الجماعة، صلاة التراويح قيام الليل في رمضان، واستمر على ذلك إلى أن مات –عليه الصلاة والسلام-، وبعد ذلك أبو بكر كذلك ما جمع الناس، ثم جمعهم عمر في خلافته على أُبي، خرج في ليلةٍ من الليالي فوجد المصلين، فقال: "نِعمت البدعة هذه". والتي ينامون عنها أفضل منها، يعني صلاة آخر الليل.

 "نِعمت البدعة" سمى صلاة التراويح بدعة، أفي هذا مُستمسك لمن يقول: إن هناك بدعًا محمودة؛ لأن عمر يقول: نِعمت البدعة؟

 هل صلاة التراويح ليس لها أصل يعني عُمِلت على غير مثالٍ سبق، ليس لها شرعية من الكتاب والسُّنَّة؟

أبدًا، النبي –عليه الصلاة والسلام- صلاها ليلتين والثالثة ترك؛ خشية أن تُفرض، فقد سبق لها شرعية من فعله –عليه الصلاة والسلام- في ليالي رمضان جماعة.

وهل تركها نسخًا لها أو خشية أن تُفرض؟ خشية أن تُفرض، فلما مات –عليه الصلاة والسلام- وانقطع الوحي أُمِنت هذه الخشية، فهو تركٌ معلقٌ بسبب.

ومن الأحكام ما له وقتٌ محدد، الآن الجزية مفروضة بكتاب الله –جلَّ وعلا-، لكن لها أمد، إذا نزل عيسى يقبل الجزية؟ ما يقبل الجزية، فهل نقول: أنها نُسِخت؟ لا ما نُسِخت.