التعليق على الموافقات (1431) - 14

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد....

فإتمامًا لِما بدأناه في المسألة الثالثة، يقول المؤلف-رحمه الله تعالى-: "وقال قتادة أيضًا في قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228]: إنه نسخٌ من ذلك التي لم يُدخل بها، بقوله: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] والتي يئست من المحيض، والتي لم تحض بعد والحامل بقوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُر} إلى قوله: {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4]".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

ذلك لأن المؤلف يُقرر ما بدأ به سابقًا من أن السلف يُعبِّرون بالنَّسخ بما هو من أعم من حقيقته الاصطلاحية التي استقر عليها الأمر عند أهل العلم، وهي الرفع الكلي للحكم، السلف يستعملون النسخ فيما هو أعم من ذلك، فيُطلقونه إضافةً إلى ذلك على النسخ الجزئي من التخصيص والتقييد وشِبههما.

المطلقات جنس يشمل جميع المطلقات ممن يحيض، وممن يئسن من المحيض لكبرٍ أو صغر، والحوامل وغيرهن، فخرج ما خرج من أفراد هذا الجنس التي لم يُدخل بها بقوله: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] ليس لها عدة أصلاً لا بالأشهر، ولا بالأقراء، ولا بأي أمرٍ آخر، تُطلق اليوم وتُزوَّج بنفس الوقت؛ لأنه ليس عليها عدة غير المدخول بها.

وهذه تختلف عن المتوفى عنها التي لم يُدخل بها، تعتد أربعة أشهر وعشرة أيام، المتوفى عنها ولو لم يُدخل بها فإنها لا بُد أن تعتد كالمدخول بها، المتوفى عنها ولو لم يدخل بها؛ لأنها زوجة ترث وتُورث، فتعتد.

أما المطلقة غير المدخول بها فإنها تبين بهذه الطلقة، وليست بزوجة كالرجعية، فلا عدة عليها، فتخرج من جنس المطلقات { وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] فإذا طُلِّقت الحامل فإنها لا تخرج من العدة حتى تضع الحمل طالت المدة أو قصرت، ولو وضعت بعد ساعة خرجت من العدة، ولو استمرت تسعة أشهر لم تخرج من العدة حتى تضع الحمل، ولو كانت متوفًّى عنها فإنها تخرج من العدة والإحداد بوضع الحمل خلافًا لمن يقول: بأنها تعتد بأقصى الأجلين، لا بُد أن تعتد أربعة أشهر وعشرة، فإن لم تضح الحمل إلا بعد ذلك فإنها تستمر في العدة والإحداد حتى تضع حملها.    

"وقال ابن عبد الملك بن حبيب في قوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:40]، وقوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، وقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28]: إن ذلك منسوخ بقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29].

 وهذه الآية إنما جاءت في معرض التهديد والوعيد، وهو معنىً لا يصح نسخه، فالمراد أن إسناد المشيئة للعباد ليس على ظاهره، بل هي مقيدةٌ بمشيئة الله سبحانه".

نعم العبد له مشيئة، وله إرادة، وله حرية، وله اختيار، لكن كل ذلك مقيدٌ بمشيئة الله وإرادته واختياره، له مشيئة، لكنه لا يستقل بها عن مشيئة الله -جلَّ وعلا-، ولكنه أيضًا ليس كما يقول الجبرية: إنه مسلوب الاختيار، مسلوب المشيئة، مسلوب الإرادة، حركته وتصرفاته مثل تحركات وتصرفات ورق الشجر في مهب الريح، لا مشيئة له، ولا إرادة، ولا اختيار، وإذا كان بهذه المثابة فتعذيبه على تصرفاته التي لا اختيار له فيها ظلمٌ له، فليس الأمر كما يقول الجبرية الذين يسلبون عنه المشيئة والإرادة، وليس كما يقول المعتزلة: إن له مشيئة وحرية واختيارًا مستقلًّا، فيخلق فعل نفسه، فأثبتوا مع الله خالقًا؛ ولذا جاءت تسميتهم بمجوس هذه الأمة.

وقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:40] هذا تهديد وليس إباحة، وكذلك قوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] هذا غير معارض لقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:29] لأنه ليس المراد به المشيئة المطلقة لهم، واختيارهم وحريتهم، لا، هذا تهديد وليس على ظاهره. 

"وقال في قوله: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} [التوبة:97]، وقوله: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا} [التوبة:98]: إنه منسوخٌ بقوله: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة:99] الآية".

هذا الكلام ليس له حظ من النظر؛ لأن (مِن) للتبعيض، مِن الأعراب كذا، ومنهم كذا، ومنهم كذا، فهم أجناس وأصناف.

وعمومًا بالنسبة للجنس بصفةٍ عامة الكفر فيهم أشد، والنفاق فيهم أكثر؛ لتمكن الجهل منهم بخلاف الحاضرة، البادية الذين يعيشون في البوادي الغالب عليهم الجهل؛ فلذلك يكثر فيهم الكفر والنفاق لجهلهم، بخلاف الحاضرة، فهم أشد كفرًا، والكفر والنفاق موجودٌ في الجنسين في الأعراب والحاضرة، لكن وجوده في الأعراب أشد وأكثر.

{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا} [التوبة:98] نعم منهم من يقول هذا إذا طولِب بالزكاة، وأُجبر عليها قال: جزية أو أُخت الجزية، فيظنها مغرمًا لا غُنم فيه، ومنهم من يؤمن بالله واليوم الآخر، يعني فيهم الأخيار، وفيهم الأشرار، وفيهم الجُهال، وفيهم الكفار، وفيهم المنافقون، كما قال الله –جلَّ وعلا- في سورة التوبة.

"وهذا من الأخبار التي لا يصح نسخها، والمقصود أن عموم الأعراب مخصوصٌ فيمن كفر دون من آمن.

وقال أبو عبيد وغيره: إن قوله: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] منسوخٌ بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [النور:5] الآية، وقد تقدم لابن عباس مثله".

{إِلَّا} [النور:5] استثناء، والاستثناء من أنواع المخصصات، والتخصيص نسخ على ما ذكرنا عندهم عند المتقدمين يُطلقون عليه النسخ، فهذا منه.

"وقيل في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] منسوخٌ بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] الآية، وقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء:93] الآية، وهذا من باب تخصيص العموم لا من باب النسخ".

نعم يُناقشون بمثل هذا لو كان رأيهم في النسخ ما استقر عليه الاصطلاح، لكن مادام عُرِف اصطلاحهم في النسخ، فيُعرف اصطلاحهم، وتُحمل أقوالهم عليه، ولا يُقال: إن هذه الآيات منسوخة بما ذُكِر، وإنما على الاصطلاح الذي استقر عليه الأمر يُقال: هذا من باب التخصيص لا من باب النسخ.

"وفي قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98]: إنه منسوخٌ بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}  [الأنبياء:101].

وكذلك قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] منسوخٌ بها أيضًا".

{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98] يقول: "منسوخٌ بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101]" يعني: الذين يعبدون المسيح، والذين يعبدون عزيرًا، والذين يعبدون الصالحين والأولياء، هم معبودون فهل يدخلون في قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98] لنحتاج إلى الآية الأخرى لإخراجهم من هذه الآية، أو أن نقول: إنهم غير داخلين أصلاً؛ لأن (ما) لغير العقلاء (ما) لغير العاقل؟ فما يُعبد ممن سبقت لهم الحسنى هؤلاء لا يدخلون أصلاً في قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98]، فلا يدخل المسيح، ولا يدخل عزير، ولا يدخل فلان ولا علان من الصالحين؛ لأنهم عقلاء.

فقوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98] قد يقول قائل: إن المعبودات كثيرةٌ جدًّا، منها ما يعقل، ومنها ما لا يعقل، ونظرًا لكثرة من لا يعقل جاء التعبير بـ(ما) دون (مَن) ، فيدخل من يعقل تبعًا لقلتهم بالنسبة لما لا يعقل، فنحتاج إلى إخراج من يعقل بقوله-جلَّ وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101] واضح أم ليس بواضح؟ ونحتاج لمثل هذا أم ما نحتاجه؟

 يعني حتى لو قيل: إنهم يدخلون؛ لأن الغالب من المعبودات من لا يعقل، فعُبِّر بالغالب، وجيء بـ(ما) دون (مَن) مع أنه في المواطن كلها التي يشترك فيها العاقل وغير العاقل إلا ما ندر يُعبَّر بما يُناسب العاقل تشريفًا له، ولو كان غير العاقل أكثر.

على كل حال ليس هذا من باب النسخ.

"وكذلك قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] منسوخٌ بها أيضًا، وهو إطلاق النسخ في الأخبار، وهو غير جائز.

قال مكي: وأيضًا فإن هذا لو نسخ لوجب زوال حكم دخول المعبودين من دون الله كلهم النار؛ لأن النسخ إزالة الحكم الأول، وحلول الثاني محله، ولا يجوز زوال الحكم الأول في هذا بكليته، إنما زال بعضه، فهو تخصيصٌ وبيان".

نعم قول مكي جارٍ على اصطلاح المتأخرين، ولا يُمكن أن تُنزَّل أقوال المتقدمين ويُناقشون على ضوء اصطلاح المتأخرين.

"وفي قوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 2] الآية: إنه منسوخٌ بقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء:25]، وإنما هو بيانٌ لشرط نكاح الإماء المؤمنات.

والأمثلة هنا كثيرة توضح لك أن مقصود المتقدمين بإطلاق لفظ النسخ بيان ما في تلقي الأحكام من مجرد ظاهره إشكالٌ وإيهام".

من مجردٍ ظاهره.

من مجردٍ ظاهره إشكالٌ وإيهام لمعنى غير مقصود للشارع، فهو أعم من إطلاق الأصوليين، فليُفهم هذا، وبالله التوفيق".

يعني طالب العلم يستصحب مثل هذا الكلام، ولا يتبناه ويُخالف الاصطلاح الذي أطبق عليه أهل العلم، فيُطلق على التخصيص نسخًا أو على التقييد نسخًا، وإنما يعرف اصطلاح المتقدمين؛ ليُنزِّل كلامهم عليه، ولا يُطالبهم بما استقر عليه أمر المتأخرين.

"المسألة الرابعة: القواعد الكلية من الضروريات والحاجيات والتحسينيات لم يقع فيها نسخ.".

كما تقدم في أول المسألة السابقة، وهي أن ما نزل بمكة أكثره قواعد، وما نزل بالمدينة أكثر تطبيقات لهذه القواعد؛ ولذا كثر النسخ في المدني، وقل في المكي؛ لأن القواعد لا تُنسخ، وإنما يُنسخ الفروع.

"وإنما وقع النسخ في أمورٍ جزئيةٍ بدليل الاستقراء، فإن كل ما يعود بالحفظ على الأمور الخمسة ثابت".

"الأمور الخمسة" ما هي؟ الضروريات الخمس: الدِّين، والنَّفس، والعِرض، والعقل، والمال، نعم.

"فإن كل ما يعود بالحفظ على الأمور الخمسة ثابت، وإن فُرض نسخ بعض جزيئياتها، فذلك لا يكون إلا بوجهٍ آخر من الحفظ".

جزئياتها.

"جزئياتها، فذلك لا يكون إلا بوجهٍ آخر من الحفظ".

يعني الحفظ لأصل القاعدة، وإن نُسخ بعض فروعها لمناسبته لوقت تنزيله، ثم مناسبة غيره بعد ذلك، ويبقى عموم القاعدة التي تقرر فيها حفظ الضرورات الخمس على أصلها.

"وإن فُرض النسخ في بعضها إلى غير بدل، فأصل الحفظ باقٍ، إذ لا يلزم من رفع بعض أنواع الجنس رفع الجنس.

بل زعم الأصوليون أن الضروريات مراعاةٌ في كل ملة، وإن اختلفت أوجه الحفظ بحسب كل ملة، وهكذا يقتضي الأمر في الحاجيات والتحسينات، وقد قال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13].

وقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35].

وقال بعد ذكر كثير من الأنبياء -عليهم السلام-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90]".

وهذا بالنسبة لأصل الدِّين أصل الدِّين واحد عند جميع الأنبياء، «نَحْنُ مَعَاشِر الْأَنْبِيَاء أَوْلَاد عَلَّات دِيننَا وَاحِد» أما الشرائع والعمليات فإن لكلٍ منهم شريعته التي قد تختلف عن سابقه ولاحقه { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] سبيلاً وسُنَّة.

"وقال تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} المائدة:43] الآية.

وكثيرٌ من الآيات أخبر فيها بأحكامٍ كلية كانت في الشرائع المتقدمة، وهي في شريعتنا، ولا فرق بينهما.

وقال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78].

وقال في قصة موسى -عليه السلام-: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]".

يعني مع ما يُوجد من التحريف في الكتب المتقدمة من التوراة والإنجيل وغيرهما، إلا أنه يبقى فيها ما يبقى مما لم تصل إليه يد التحريف، مما هو موافقٌ لشرعنا، كالرجم مثلاً حيث حكم عليهم النبي –عليه الصلاة والسلام- بما في كتابهم «وفيه الرجم» كما في الصحيحين وغيرهما.

فالتحريف يُحرِّف الأحبار والرُّهبان ما قد يحتاجون إليه، وقد يفوتهم ما تدعوا إليه الحاجة فيما بعد كالرجم، يعني لو أنهم عرفوا أن هذه القصة سوف تحدث، ويُطالبون بتوراتهم لحرَّفوها؛ لأنهم {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} [النساء:46] لكنهم فوجئوا بالقصة والقضية قبل التحريف، ولا يعني أنهم يُحرِّفون أنهم حرَّفوا كل حرف في التوراة والإنجيل؛ ولذا أخطأ من قال وإن كان لا يجوز النظر في التوراة ولا في الإنجيل، والنبي –عليه الصلاة والسلام- غضب غضبًا شديدًا على عمر بن الخطاب حينما رأى معه قطعة من التوراة «أفي شكٍّ أنت يا ابن الخطاب؟ والله لو لكان أخي موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي» فلا يجوز النظر في هذه الكتب، وللسخاوي كتابٌ اسمه (الأصل الأصيل في ذِكر الإجماع على تحريم النقل من التوراة والإنجيل) لأن عندنا ما يكفينا.

يبقى أن بعض الناس ممن يتصدى للرد عليهم ونقض شُبهاتهم كالنظر في سائر الكتب التي فيها مخالفات وضلالات، ينظر فيها من لا يُخشى عليه التأثر؛ من أجل الرد عليها كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية حينما اطلع على كتب أهل الكتاب ورد عليهم منها، وأيضًا اطلع على كتب طوائف البدع ورد عليهم.

يعني أخطأ من أخطأ من...وأساء من أساء، وإن كانت التوراة والإنجيل محرَّفة، لكن يصل الأمر إلى أن يقول قائل من الشافعية: إنه يجوز الاستنجاء بالتوراة المحرَّفة؟ يعني هو ما يدريك أنه قد يوجد حكم أو مسألة أو شيء ما حُرِّف، ما طالته كما حصل في آية الرجم؛ لأن البشر عقولهم ما تستوعب كل القضايا السابقة واللاحقة، ويُحرِّف ما قد يُحتاج إليه ما يدري، ولو أنهم عرفوا أن هذه القصة سوف تحدث قصة الرجم لبادروا بتحريفها؛ لئلا يُرجم اليهودي.

المقصود أن مثل هذ الكلام لا ينبغي وإن كان النظر في هذه الكتب محرَّمًا، وهي كتب مُحرَّفة لا يجوز الاعتماد عليها، ولا يجوز اقتناؤها، ومع الأسف إن بعض طلاب العلم يقتنيها.

إنجيل برنابا الذي يقولون: هو أصح الأناجيل وأقربها إلى الحق طبعه بعض أهل العلم، محمد رشيد رضا طبعه في مطبعة المنار، أما بقية الأناجيل التي....ما يطبعها من يتدين بالإسلام أو يتورع، ومن يخشى أن يُدخل الضلال على غيره، ويهتم ببراءة ذمته ما يطبعها.

"وقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [البقرة:183].

وقال: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم:17]".

{كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] يعني فيه تشابه بين شرعنا وشرع من قبلنا {بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم:17].

"وقال: {كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْس} [المائدة:45] إلى سائر ما في ذلك من معاني الضروريات.

وكذلك الحاجيات؛ فإنَّا نعلم أنهم لم يُكلفوا بما لا يطاق، هذا وإن كانوا قد كلفوا بأمور شاقة؛ فذلك لا يرفع أصل اعتبار الحاجيات، ومثل ذلك التحسينات، فقد قال تعالى: {أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت:29] وقوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] يقتضي بظاهره دخول محاسن العادات: من الصبر على الأذى، والدفع بالتي هي أحسن، وغير ذلك.

وأما قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] فإنه يُصدِّق على الفروع الجزئية.

يصدُق.

"يصدُق على الفروع الجزئية، وبه تجتمع معاني الآيات والأخبار، فإذا كانت الشرائع قد اتفقت في الأصول مع وقوع النسخ فيها وثبتت ولم تُنسخ، فهي في الملة الواحدة الجامعة لمحاسن الملل أولى، والله تعالى أعلم".

وهذا معنى قوله –عليه الصلاة والسلام-: «نَحْنُ مَعَاشِر الْأَنْبِيَاء أَوْلَاد عَلَّات دِيننَا وَاحِد» «أَوْلَاد عَلَّات» يعني الأمهات مختلفة، والأب واحد الذي هو الأصل، فالأصل الدِّين واحد، وأما بالنسبة لفروعه فهي مختلفة كاختلاف الأمهات.

هذا مقال حول مقدمة فتح الباري هل الصواب في ضبطها (هَدي السَّاري) أو (هُدى السَّاري)؟

هناك بعض الإخوة من الشاميين لهم جهد في إخراج صحيح البخاري إخراجًا علميًّا متقنًا تُقارن فيه جميع الروايات، ومعه جميع الشروح، وأطلعونا على عملهم، وهو عملٌ متقن، الشروح المطبوعة والمخطوطة، وهو على جهاز قرص، وفرغوا لنا بعضًا منه؛ من أجل أنه ما لنا يدٌ في هذه الآلات، قلت: لازم أن تفرغوا لنا شيئًا نراه، وبالفعل لما وجدنا عملهم متقنًا وجيدًا كان مما أحضروه نُسخة من مقدمة (فتح الباري) مضبوطة بضم الهاء، نُسخة قديمة وموثَّقة وصحيحة.

وهذا مقال في جريدة الجزيرة يقول: (هَدي السَّاري) أم (هُدى السَّاري)؟ يقول: الذي تلقيناه عن مشايخنا أن ضبط اسم الكتاب (هَدي السَّاري) ولكني وقفت مؤخرًا على نسخةٍ نفيسة عن مقدمة (فتح الباري) عنوانها مكتوبٌ مخطوطٌ بخطِ مؤلفها الحافظ ابن حجر، وضبط اسم كتابه هكذا (هُدَى السَّاري) بضم الهاء، وفتح الدال.

هذه النُّسخة هي التي أحضروا منها صورة واطلعنا عليها، وهي قاطعة للنزاع، وعلى كل حال الهدي والهُدى كما جاء في الحديث «وخير الهَدي هدي محمد» صلى الله عليه وسلم، وجاء في بعض الروايات «الهُدى هُدى محمد» عليه الصلاة والسلام، فالأمر سهل، فهدي السَّاري هدايته، وهُداه: طريقه المستقيم، ما فيه فرقٍ يُذكر إلا أن ما اختاره المؤلف أولى بالاعتبار.

اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه.