شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (283)

المُقَدِّم: بسم الله الرحمن الرحيم.

 الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين،

أيُّها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا بكم إلى لقاء جديد في برنامجكم "شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح".

مع بداية هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المُقَدِّم: توقفنا في الحلقة الماضية عند الحديث عن غسل أو مسح الرجل، ووعدتم باستكمال الحديث حول الخلاف الذي ساقه الألوسي- رحمه الله-.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:

في آخر الحلقة السابقة نقلنا عن الألوسي القراءات في {وَأَرْجُلَكُمْ} [سورة المائدة 6] الثلاث، وأنَّ قراءة الرفع شاذة، وأمَّا قراءة النصب والخفض فمتواترتان.

المُقَدِّم: تفسير الألوسي هذا يا شيخ؟

ماذا فيه؟

المُقَدِّم: النقل عن تفسيره.

نعم، عن روح المعاني، تفسير مطول، وفيه بسط، وفيه دقائق، وطرائف، ولطائف، ونكات، واستنباطات عجيبة من الألوسي، لكنه مع ذلك شانه بما سماه بالتفسير الإشاري، وإلا فهو تفسير مفيد جدًّا، لا سيما في التحليل اللفظي وما يتعلق بالصناعة اللفظية.

المُقَدِّم: وخدم التفسير.

طُبع مرارًا، طُبع أول ما طُبع في بولاق، ثم طُبع في مطبعة منير الطبعة الأولى، ثم المنيرية الثانية، ثم بعد ذلك طُبع في مطبعة الكليات الأزهرية أو شيء من هذا، على كل حال أعيد طبعه طبعة جديدة، وصف صفًّا جديدًا في الطباعات الجديدة بالأوفست، على كل حال التفسير محل عناية عند أهل العلم، وفيه جمع طيب لطالب العلم البصير. يؤخذ عليه أنَّه شانه بالتفسير الإشاري من جهة، يؤخذ عليه أنَّه يشيد بمن ينقل عنهم، ويصفه بصفات تغرر بطالب العلم المبتدئ الذي لا يعرف هذا الشخص المنقول عنه، فمثلًا يقول: قال الإمام المحقق ابن القيم، ويقول: قال ابن عربي- قُدِّس سره- فينقل عن أهل العقائد السليمة ويُثني عليهم، وينقل عن أهل العقائد التي فيها شوب من البدعة، بل فيهم بدع مغلظة.

المُقَدِّم: ويثني عليهم.

ويثني عليهم، هذا يُغرر بطالب العلم المبتدئ الذي لا يعرف أقدار الرجال ولا منازلهم وما لديهم من مخالفات، ونظيره في هذا في هذه المسألة على وجه الخصوص القاسمي في تفسيره، تجده يثني على من ينقل عنهم موافقًا كان أو مخالفًا.

المُقَدِّم: هل ترون يا شيخ أن يكون فيه رسائل علمية، يعني ما خُدم التفسير خدمة علمية في الآونة الأخيرة، هل فيه مشاريع.

فيه رسالة ماجستير.

المُقَدِّم: نعم.

في عقيدة الألوسي من قسم العقيدة في جامعة الإمام.

المُقَدِّم: لكن التفسير نفسه ما أخذ مشروعًا.

يعني حقق، ومؤلفه متأخر ألف ومائتين وثمانين، متأخر هو، متأخر الرجل.

المُقَدِّم: يعني يُحقق ويُخدم ويبين ما فيه من اللبس.

هو الكتاب ممكن أن يكون بحاجة إلى اختصار وتهذيب؛ لأنَّ فيه طولًا، وهذا يدلك على أنَّ من تقدم قبل انفتاح الدنيا، وكثرة الاختراعات يحفظون أوقاتهم، وإلا فالكتاب يحتاج إلى عمر، وأعجب من هذا من صنف مئات المجلدات كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.

المُقَدِّم: الألوسي ألف ومائتين.

في آخر القرن الثالث عشر، في أواخر القرن الثالث عشر أظن.

المُقَدِّم: في الشام يا شيخ.

لا، في العراق.

المُقَدِّم: في العراق.

نعم، والألوسيون مجموعة، أسرة كبيرة.

المُقَدِّم: الذين هم الآن المعروفون هو منهم.

منهم، نعم، الألوسي الجد هذا هو محمود أبو الثناء، وفيه أيضًا محمود شكري المتأخر الألوسي، وبينهما نعمان الألوسي صاحب جلاء العينين في محاكمة الأحمدين.

المُقَدِّم: صحيح.

فهي أسرة علم، لكن مثل ما ذكرنا لا يغتر طالب العلم بإشادته ببعض من لديه مخالفات عقدية.

نعود إلى كلام الألوسي يقول: من هنا اختلف الناس في غسل الرجلين ومسحهما فذكر القولين ثم قال: وقال داود: يجب الجمع بينهما، وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري: المكلف مخير بين المسح والغسل، وحجة القائلين بالمسح قراءة الجر، فإنَّها تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس، فكما وجب المسح فيها وجب فيها، والألوسي ينقل هذا الخلاف عن..

المُقَدِّم: الطبري.

الرازي، عن الرازي، ثم انتقده، المقصود أنَّ حجة القائلين بالمسح قراءة الجر فإنَّها تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس، فكما وجب المسح فيها وجب فيها، ماذا يعني؟ كيف كما وجب المسح فيها يعني الرؤوس، وجب فيها يعني الأرجل، والقول بأنَّه جرّ بالجوار كما في قولهم: هذا جحر ضب خرب، باطل من وجوه:

أولها: أنَّ الكسر على الجوار معدود في اللحن، يعني ليس بقاعدة مطردة عند العرب، يعني الجوار في أمثلة يسيرة، فلا يُحمل عليه أفصح الكلام، الأول: أنَّ الكسر على الجوار معدود في اللحن الذي قد يتحمل لأجل الضرورة في الشعر، وكلام الله تعالى يجب تنزيهه عنه.

وثانيها: أنَّ الكسر إنَّما يصار إليه حيث حصل الأمن من الالتباس كما فيما استشهدوا به، وفي الآية الأمن من الالتباس غير حاصل، هل يُؤمن اللبس إذا قيل: {وَأَرْجُلِكُمْ} [سورة المائدة 6] أو يوجد اللبس عند هذه؟ أو إنَّما وجد اللبس في هذه القراءة؟ يعني يؤمن اللبس أم ما يؤمن؟

المُقَدِّم: في هذا الموضع؟

في هذا الموضع، اللبس مأمون أم غير مأمون؟

المُقَدِّم: في الآية.

نعم، يعني لولا نصوص الأحاديث الذي دلتنا على وجوب غسل الرجلين.

المُقَدِّم: لكان فيه لبس.

نعم؟ الآن فيه لبس.

المُقَدِّم: نعم.

والخلاف والكلام الطويل في الآية إنَّما وجد بسبب الجر الذي قيل بأنَّه للمجاورة، وهم يشترطون في الجر بالمجاورة ألا يقع في لبس، وفي الآية الأمن من الالتباس غير حاصل.

وثالثها: أنَّ الجر بالجوار إنما يكون بدون حرف العطف، وأمَّا مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب. وسيأتي النقض لهذه الوجوه التي أبطل بها الجر بالمجاورة، وتقدم في البيت السابق، في بيت ذكرناه..

المُقَدِّم: جحر ضب خرب؟

لا.

                   لعب الزمان بها وغيّرها                      بعدي سوافي المور والقطر

هنا حرف عطف، وردوا قراءة النصب إلى قراءة الجر، يعني القائلين بالجر ردوا قراءة النصب إلى قراءة الجر، سبق أنَّ من قالوا بالغسل ردوا قراءة الجر إلى قراءة النصب، وهنا الذين قالوا بالمسح ردوا قراءة النصب إلى قراءة الجر، فقالوا: إنَّها تقتضي المسح أيضًا، قراءة النصب تقتضي المسح أيضًا، كيف؟ قالوا: لأنَّ العطف حينئذٍ على محل الرؤوس فيتشاركان في الحكم، وهذا مذهب مشهور للنحاة، يعني معطوف على محل لا على اللفظ، يعني قراءة النصب الذي يستدل بها عامة أهل العلم على الغسل يُمكن أن ترد إلى قراءة، أن تكون مفيدة للمسح كقراءة النصب مفيدة للمسح عندما نقول بوجوب المسح، لماذا؟ قالوا: {وَأَرْجُلَكُمْ} [سورة المائدة 6] معطوف على رؤوسكم على محلها لا على لفظها، فالقراءتان مفيدتان للمسح؛ لأنَّ العطف حينئذٍ على محل الرؤوس لقربه، فيتشاركان في الحكم، وهذا مذهب مشهور للنحاة، ثم قالوا: ولا يجوز رفع ذلك بالإخبار؛ لأنَّها بأسرها من باب الآحاد، ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز.

قالوا: مادام ثبت الدليل القطعي بوجوب المسح على القراءتين يعني فيما تأوَّلوه فيما بعد.

المُقَدِّم: نعم.

قالوا: كيف نقول بالغسل والقراءتان متضافرتان على وجوب المسح؟

يقول لهم الجمهور: بالأحاديث الصحيحة الصريحة، قالوا: لا، الأحاديث أخبار آحاد.

المُقَدِّم: آحاد، ولكن صحيحة.

والآحاد لا ينسخ القرآن، القرآن دل على المسح فقط، والأحاديث وإن دلت على الغسل إلا أنَّها أخبار آحاد.. أولاً نسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز، ومعلوم الخلاف في مسألة نسخ القرآن بالآحاد، قول كثير من أهل العلم أنَّ الآحاد لا ينسخ القرآن، لكن الذي اعتمده كثير من أهل التحقيق أنَّ الآحاد تنسخ؛ لأنَّها من كلام من لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، ومن أوضح الأمثلة على ذلك حديث عبادة بن الصامت: «خذوا عني، خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم»، يقول الذين يقولون بعدم نسخ الآحاد للقرآن {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [سورة النساء 15]، حديث عبادة «قد جعل الله لهن سبيلًا» فهل هذا نسخ أم بيان؟ الجمهور يقولون: بيان.

المُقَدِّم: {قد جعل الله لهن سبيلًا} هذا هو السبيل يعني.

نعم، بيَّن المسألة موقوفة إلى {يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [سورة النساء 15]، فجاء البيان بهذا الحديث، وجمع من أهل التحقيق ونصره الشنقيطي وغيره قالوا: إنَّ هذا نسخ؛ لأنَّ العقوبة في الحبس.

المُقَدِّم: نعم.

العقوبة في الحبس رفعت بالجلد والرجم، فهذا نسخ، ولا يوجد ما يمنع عنه منه؛ لأنَّ السُّنَّة إذا ثبتت قبلت في جميع أبواب الدين؛ لأنَّها الوحي الثاني.

المُقَدِّم: «لا وصية لا وارث» تكاد تكون محل إجماع.

لكن هل النسخ بآيات المواريث، أو بحديث «لا وصية لا وارث»؟ الكلام كثير لأهل العلم، والمحقق والمحرر أنَّ السُّنَّة تنسخ القرآن.

ثم قال الألوسي بعد ذلك: فلنبسط الكلام في تحقيق ذلك رغمًا لأنوف الشيعة السالكين من السبل كل سبيل حالك، فنقول وبالله تعالى التوفيق، هو عنده السجع.

المُقَدِّم: كثير.

كثير جدًّا، فنقول وبالله التوفيق وبيده أزمة التحقيق: إنَّ القراءتين متواترتان بإجماع الفريقين، بل بإطباق أهل الإسلام كلهم، ومن القواعد الأصولية عند الطائفتين أنَّ القراءتين المتواترتين إذا تعارضتا في آية واحدة فلهما حكم آيتين، فلا بد لنا أن نسعى ونجتهد في تطبيقهما أولاً مهما أمكن؛ لأنَّ الأصل في الدلائل الإعمال دون الإهمال كما تقرر عند أهل الأصول، ثم بعد ذلك نطلب الترجيح بينهما، ثم إذا لم يتيسر لنا الترجيح بينهما نتركهما ونتوجه إلى الدلائل الأخر من السنة، يعني لابد من أن نوفق بين القراءتين إلا أنَّ الجمع إذا أمكن بين النصوص تعين المصير إليه، إذا لم يمكن فالترجيح، فإن علم المتقدم من المتأخر فالنسخ وإلا فالترجيح، إذا وجد ما.. الترجيح بين النصين نفسيهما إمَّا بالنسبة للثبوت أو بالنسبة للدلالة، إذا وجد الترجيح بينهما من هذه الحيثية انتهى الإشكال، إذا لم يوجد بأن تكافأ النصان من كل وجه، فإننا نبحث عن مرجح خارجي.

يقول: إن القراءتين متواترتان بإجماع الفريقين، بل بإطباق أهل الإسلام كلهم، ما فيه أحد يقول إنَّ قراءة الخفض ليست بصحيحة، وليست ثابتة، ولا أحد يقول بأنَّ قراءة النصب.

المُقَدِّم: ليست بثابتة.

ليست بصحيحة ولا ثابتة، بل بإطباق أهل الإسلام كلهم، ومن القواعد الأصولية عند الطائفتين أنَّ القراءتين المتواترتين إذا تعارضتا في آية واحدة فلهما حكم آيتين، فلا بد لنا أن نسعى ونجتهد في تطبيقهما أولًا مهما أمكن، لابد من التوفيق مهما أمكن؛ لأنَّ الأصل في الدلائل الإعمال دون الإهمال كما تقرر ذلك عند أهل الأصول ثم نطلب بعد ذلك الترجيح بينهما، ثم إذا لم يتيسر لنا الترجيح بينهما نتركهما ونتوجه إلى الدلائل الأخر من السُّنة، أولًا مسألة التعارض بين النصوص الصحيحة الثابتة إنَّما هو فيما يظهر للمجتهد، لا في حقيقة الأمر، حقيقة الأمر لا تعارض.

المُقَدِّم: صحيح.

لأنَّ المصدر واحد، فلا يتعارض كلامه، إنَّما هو فيما يبدو للمجتهد، يقول: وقد ذكر الأصوليون أنَّ الآيات إذا تعارضت، بحيث لا يمكن التوفيق، ثم الترجيح بينهما يرجع إلى السُّنة فإنَّها لما لم يمكن لنا العمل بها صارت معدومة في حقنا من حيث العمل يعني الآية بقراءتيها.

المُقَدِّم: نعم.

لم يمكن لنا العمل؛ لأنَّهما قراءتان متضادتان متعارضتان في الظاهر، ولم نستطع الترجيح، رجعنا إلى السُّنَّة، وإن تعارضت السنة كذلك نرجع إلى أقوال الصحابة وأهل البيت، هل عند أهل البيت مزيد علم عن غيرهم من الصحابة؟ ليس عندهم مزيد علم، وعلي- رضي الله عنه- ينص أنَّه لم.. النبي- عليه الصلاة والسلام- لم يخصهم بعلم، إلا فهم يؤتاه الإنسان لكلام الله، وكلام نبيه- عليه الصلاة والسلام-، أو العقول، مسألة الديات التي عنده.

 على كل حال إلى أقوال الصحابة وأهل البيت، وأهل البيت لهم حق عظيم على الأُمَّة؛ لأنَّهم وصية النبي- عليه الصلاة والسلام-، {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [سورة الشورى 23]، هم وصية النبي- عليه الصلاة والسلام-، لكن على كل حال من هو صحابي منهم يدخل في الصحابة، ومن هو منهم تابعي يدخل في التابعين، يعني من حيث العلم، فحكمه حكم غيرهم من حيث العلم؛ لأنَّهم لم يخصوا بعلم دون غيرهم، وأمَّا فضلهم ومزيتهم وشرف الانتساب إليه- عليه الصلاة والسلام- فهذا أمر لا يُنازع فيه أحد إلا النواصب، والنواصب لا شك أنَّهم ضلوا.

أو نرجع إلى القياس عند القائلين بأنَّ قياس المجتهد يعمل به عند التعارض، فلمَّا تأملنا في هاتين القراءتين في الآية وجدنا التطبيق بينهما بقواعدنا من وجهين..، يقول: فلمَّا تأملنا في هاتين القراءتين في الآية وجدنا التطبيق بينهما بقواعدنا من وجهين:

الأول: أن يحمل المسح على الغسل كما صرح به أبو زيد، أبو زيد الأنصاري في أول الكلام.

المُقَدِّم: نعم.

وهو من أئمة اللغة، كما صرح به أبو زيد الأنصاري وغيره من أهل اللغة، يعني مثل إذا كما قالوا تمسح والمراد به توضأ، ومسح الله ما بك، يعني غسل الله ذنوبك وخطاياك.

 ثم قال: والوجه الثاني أن يبقى المسح على الظاهر، وتُجعل الأرجل على تلك القراءة معطوفة على المغسولات كما في قراءة النصب، والجر للمجاورة، وما ذكر من كونه لحنًا يجاب عنه بأنَّ إمام النحاة الأخفش وأبا البقاء وسائر مهرة العربية وأئمتها جوزوا جواز الجر، أو جوزوا جر الجوار. إمام النحاة الأخفش، الأخافش معروف عددهم بضعة عشر، وإمامهم إذا أُطلق الأوسط سعيد بن مسعدة، وأبو البقاء العكبري معرب القرآن، وسائر مهرة العربية وأئمتها جوزوا جر الجوار، وقالوا بوقوعه في الفصيح كما ستسمعه إن شاء الله تعالى، ولم ينكره إلا الزجاج، وإنكاره مع ثبوته في كلامهم يدل على قصور تتبعه، ومن هنا قالوا: المثبت مقدم على النافي، وهنا نكتة، يعني نكتة خفية بديعة، وهي أنَّ الغاية دلت على أنَّ المجرور ليس بممسوح، لمَّا قال: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [سورة المائدة 6] هذه غاية، يقول: وهنا نكتة، وهي أنَّ الغاية دلت على أنَّ المجرور ليس بممسوح؛ إذ المسح لم يوجد مغيَّا في كلامهم، ولذا لم يغيّ في آية التيمم، { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} [سورة المائدة 6] وإنَّما يغيّا في الغسل، الوجه.. نأتي إلى الأيدي مثلًا في مسح التيمم فيها غاية أم لا؟

المُقَدِّم: امسحوا بوجوهكم وأيديكم إلى المرافق، نعم.

في آية المسح.

المُقَدِّم: في المسح لا.

في آية التيمم.

المُقَدِّم: التيمم مسح ما فيها غاية.

ما فيها غاية، في آية الوضوء؟

المُقَدِّم: إلى المرافق.

نعم.

المُقَدِّم: غسل.

غسل، لكن قد يقول قائل: إنَّ الوجه في الوضوء.

المُقَدِّم: ما فيه غاية.

ما فيه غاية، بينما الرجلان فيهما غاية، فينتقض بهذا، ونقول: إنَّ المسح.. الوجه معروف الحدود لا يحتاج إلى غاية.

المُقَدِّم: صحيح.

الغاية فيما يمكن الاسترسال فيه.

المُقَدِّم: كاليد والرجل.

إلى ما فوق المشروع، كاليدين والرجلين، فلا يحتاج إلى غاية.

إلى أن قال: ونقل الشريف الرضي عن أمير المؤمنين- رضي الله عنه- في نهج البلاغة حكاية وضوئه- صلى الله عليه وسلم- وذكر فيه غسل الرجلين، وهذا يدل على أنَّ مفهوم الآية كما قال أهل السُّنة، وما يزعمه الإمامية من نسبة المسح إلى ابن عباس-رضي الله عنهما-، وأنس بن مالك- رضي الله عنه- وغيرهما كذب مفترى عليهم، فإنَّ أحدًا منهم ما روي عنه بطريق صحيح أنَّه جوز المسح، ونسبة جواز المسح إلى أبي العالية وعكرمة والشعبي زور وبهتان أيضًا، وكذلك نسبة الجمع بين الغسل والمسح، أو التخيير بينهما إلى الحسن البصري -عليه الرحمة-، ونسبة التخيير إلى محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ الكبير والتفسير الشهير، وقد نشر رواة الشيعة هذه الأكاذيب المختلقة، ورواها بعض أهل السُّنة ممن لم يميز الصحيح والسقيم من الأخبار بلا تحقيق ولا سند، واتسع الخرق على الراقع.

صار الناس يتلقون هذه النسب بدون تحقيق، ولا روية، فصاروا يثبتونها إلى من نسبت إليه وإن كانت لم تثبت عنهم، وفي كلام الطبري ودعمه للمسح وقوله بالغسل قد يفهم منه طالب العلم غير الحاذق بفهم كلام المتقدمين، قد يفهم منه أنَّه يقول: لا سيما وعنده أيضًا توطئة لمثل هذا القبول، نعم، شُهر عن ابن جرير يجمع بينهما، أو يخيِّر بينهما، وكلامه فيه الغسل وفيه المسح؛ إذًا هذا الكلام صحيح عنه.

يقول الألوسي: ولعل محمد بن جرير القائل بالتخيير هو محمد بن جرير بن رستم الشيعي صاحب الإيضاح للمسترشد في الإمامة، لا أبو جعفر محمد بن جرير بن غالب الطبري، يقول: الشافعي، الألوسي يقول: الشافعي، ومعلوم أنَّ الطبري مجتهد، له مذهب مستقل، الذي هو من أعلام أهل السنة، والمذكور في تفسيره هذا هو الغسل فقط لا المسح ولا الجمع ولا التخيير الذي نسبه الشيعة إليه، إلى آخر كلام الألوسي.

 طول الألوسي في هذه المسألة، واقتصرنا من كلامه على ما يحتاج إليه، وفي الخلقة القادمة نبسط كلام الطبري؛ لأنَّه مثار الإشكال، وقد يستطيل بعض طلاب العلم مثل هذا الكلام، لكنه كلام لابد منه، يعني آية مشكلة، آية فيها إشكال لطلاب العلم، وفيها مستمسك لمن يقول بالمسح مع أنَّ النصوص الصحيحة الصريحة جاءت بالتشديد في غسل الرجلين، فكيف يُقال بالتشديد مع قراءة الجر؟ هذا كلام أهل العلم مبسوط بسط يناسب وقت البرنامج، فذكرنا من كلام القرطبي ما لعله يوضح وينير الطريق لطالب العلم.

المُقَدِّم: نسأل الله.

وكذلك في كلام الألوسي، وكذلك في كلام الطبري الآتي، إن شاء الله تعالى.

المُقَدِّم: إن شاء الله تعالى.

بإذن الله سيكون محور الحديث في الحلقة القادمة هو بسط كلام الإمام الطبري- رحمه الله-.

 بهذا نصل وإيَّاكم أيُّها الإخوة والأخوات إلى ختام حلقتنا من شرح كتاب "التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح"، لقاؤنا بكم في الحلقة القادمة بإذن الله.

 

 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.