التعليق على الموافقات (1436) - 12

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نعم.

طالب: أحسن الله إليك.

 الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فيول المؤلف -رحمه الله تعالى-: المسألة الثالثة: تنبني على ما قبلها، وهي أن الفتيا لا تصح من مخالف لمقتضى العلم، وهذا وإن كان الأصوليون قد نبَّهوا عليه وبيَّنوه، فهو في كلامهم مجمل يحتمل البيان بالتفصيل المقرر في أقسام الفتيا. فأما فتياه بالقول، فإذا جرت أقواله على غير المشروع، فلا يوثق بما يفتي به، لإمكان جريانها كسائر أقواله على غير المشروع".

يعني إذا أفتى بغير المشروع، إذا أفتى بغير المشروع هذا لا يعتد به ولا يعتبر. وأما إذا أفتى بالمشروع، وجرت عادته بأنه يتكلم كثيرًا بغير المشروع، فهذه مسألة أخرى. فهل العبرة بفتياه أو العبرة بكلامه المناقض لعدالته؟ لعل المؤلف يشير إلى شيء من هذا.

طالب: "وهذا من جملة أقواله، فيمكن جريانها على غير المشروع، فلا يوثق بها. وأما أفعاله، فإذا جرت على خلاف أفعال أهل الدين والعلم، لم يصح الاقتداء بها ولا جعلُها أسوة في جملة أعمال السلف الصالح".

نعم. هذا في ذات المخالفة.

طالب: "وكذلك إقراره؛ لأنه من جملة أفعاله".

يعني إذا أقر منكرًا فإنه حينئذٍ لا يعتد بإقراره ويكون قادحًا في عدالته ومؤثرًا في الثقة في قبول قوله كأقواله وأفعاله.

طالب: .......

ماذا؟

طالب: .......

كيف؟

طالب: .......

لا، لكن بقدر المخالفة، يأمر الناس بشيء ولا يأتيه، وينهاهم عن شيء ويأتيه، فما قدر هذه المخالفة؟ هل المخالفة تقدح في أصل الدين، تقدح فيه، تخرجه من العدالة إلى الفسق؟ المخالفات متفاوتة.

طالب: .......

ماذا؟

طالب: .......

لا، هذا الإجمالي، سيجيء ويفصل. نعم.

طالب: "وأيضًا، فإن كل واحد من هذه الوجوه الثلاثة عائد على صاحبيه بالتأثير، فإن المخالف بجوارحه يدل على مخالفته في قوله، والمخالف بقوله يدل على مخالفته بجوارحه؛ لأن الجميع يُستمد من أمر واحد قلبي. هذا بيان عدم صحة الفتيا منه على الجملة. وأما على التفصيل، فإن المفتي إذا أمر مثلاً بالصمت عما لا يعني، فإن كان صامتًا عما لا يعني ففتواه صادقة، وإن كان من الخائضين فيما لا يعني فهي غير صادقة".

يعني لأنها غير مطابقة للواقع، لكن هل أمره بالصمت مطابق للواقع ومطابق لمراد الشارع أم لا؟ من أجل ماذا؟ عند من يقول: تنفك الفتوى عن الفعل، وتنفك الفتوى عن القول، ويقال في ذلك ويتناقل: خذوا علمي واتركوا عملي، دعوا عملي. هذه يقولها بعضهم، لكن العلم والعمل متلازمان في الجملة. يبقى الأثر، أثر العمل في فتوى المفتي، إذا جاءت فتواه على الجادة فهل تعتبر أو لا تعتبر باعتبار أنه مكذب لها بفعله؟

ويجرنا الحديث إلى ما يحمله الفساق مما يسمى علمًا، هل هو علم في الحقيقة أم جهل؟ لأن حقيقة العلم ما نفع، هل هو علم أم جهل؟ لأن الكلام مؤثر في هذا، إذا قلنا جهل ما قبلنا منه شيئًا، والدليل يدل على أنه جاهل: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء: 17]. طيب هذا شخص يعرف أن الخمر حرام، ومنصوص عليه بالكتاب والسنة، ويشرب الخمر. له توبة أم لا توبة له؟

طالب: له توبة.

لو تاب له توبة أم لا توبة له؟

طالب: له توبة.

توبة، هذا جاهل أم عالم؟

طالب: جاهل.

عارف الحكم بدليله، بتفاصيله، وقد يكون له مصنف في تحريم الخمر، زيد على ذلك، إذا قلنا عالم صار ما له توبة؛ لأن التوبة محصورة...

طالب: بالجهل.

للذين يعملون السوء بجهالة، أما من يعمل السوء مع العلم فهذا ما له توبة؛ لأن التوبة محصورة بالجهال. ولذلك يقرر أهل العلم أن ما يحمله الفساق ليس بعلم؛ لأنهم جهال في الحقيقة، ولو قلنا علماء فلا توبة لهم؛ لأن التوبة محصورة في الجهال. ولم يقل أحد إن العاصي الذي يعرف الحكم لا توبة له.

طالب: .......

ماذا؟

طالب: .......

ماذا؟

طالب: .......

نحن ما لنا منه هو اجتهاده له بقصده هو بكيفه، لكن الكلام إذا تولى على المسلمين، حكمه إذا حكم، هذا الكلام وإلا ففتواه الناس ما ينظرون إليه، إلا إذا صار رسميًّا.

طالب: .......

فاسق ولو رسميًّا إلا مثله، إلا شخص مثله، لكن الكلام إذا ابتلي به الناس، وهو من هذا النوع.

طالب: .......

لا، لا، أفتى بالرخصة التي لها وجه، ما هو بمجرد التخفيف على الناس، سيتعرض المؤلف لهذا.

طالب: .......

أين هو؟

طالب: .......

لأن هذا الشخص العزيمة أفضل له؛ لأن بعض الناس، الناس يتفاوتون، كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين، الناس وأناس صالحون وعباد وكذا، يعني حملهم على الرخصة هذا فيه تهوين من شأن الدين عندهم، وحملهم على التضييع، ما دام هم حملوا أنفسهم على العزيمة يفتون بمقتضاها.

طالب: "وإذا دلك على الزهد في الدنيا وهو زاهد فيها صدقت فتياه، وإن كان راغبًا في الدنيا فهي كاذبة، وإن دلك على المحافظة على الصلاة، وكان محافظًا عليها صدقت فتياه، وإلا فلا".

شخص يسأل، طالب علم يسأل عالمًا، يعني موقعه في المجتمع ووظيفته كبيرة، علمية، ويسأله في برنامج فتوى، ويقول له: ما حكم الإسراف في بناء البيوت والقصور لا سيما من ينتسب إلى العلم وطلبه؟ تكلم بكلام قوي هذا العالم، والذي يُسجِّل معه يقول: أنا أتفرج على البيت كيف هو؟ هذا له أم ما هو له؟!! فماذا يقول تؤخذ فتواه أم ما تؤخذ؟

طالب: على هذا يُرد.

ماذا؟

طالب: على هذا يُرد.

على كلامه نعم ما تؤخذ فتواه.

طالب: في هذه المسألة.

نعم، في هذه المسألة، وإلا فمعلوم أن العصمة ليست مطلوبة من أحد.

طالب: "وعلى هذا الترتيب سائر أحكام الشريعة في الأوامر، ومثلها النواهي، فإذا نهى عن النظر إلى الأجنبيات من النساء، وكان في نفسه منتهيًا عنها صدقت فتياه، أو نهى عن الكذب وهو صادق اللسان، أو عن الزنا وهو لا يزني، أو عن التفحش وهو لا يتفحش، أو عن مخالطة الأشرار وهو لا يخالطهم، وما أشبه ذلك، فهو الصادق الفتيا والذي يقتدى بقوله ويقتدى بفعله، وإلا فلا".

يعني لو كان العكس: ينهى عن المعصية ويرتكبها، هذا لن يقتدى به، لن يقتدى، لكن لو سئل وهو في منصب فتوى: عنده معصية غُلب عليها من صغره، وعجز عن التنصل عنها، والتوبة منها، هل يقول: اذهب إلى غيري، استفتِ غيره؟ أو يقول: الحكم كذا، ودليله كذا، وما بينه وبين ربه فالله يتولاه. لكن لا تكون صبغته الفسق وارتكاب المحرمات. يعني لو كان عنده معصية مثلاً أو معاصٍ محصورة معدودة، هذا يختلف ممن كانت صبغته الفسق.

طالب: أحسن الله إليك يا شيخ .......

الخفي لا أحد ينبش عنه وهو الخفي، لكن إذا استفاض أمره في هذه المسألة أو يمشي مع الناس في الأماكن العامة ويُسأل عن حكم النظر إلى النساء وكذا؟ يقول: حرام وهو يتلفت! هذه قبيحة من عامي، فضلاً عن طالب علم أو عالم، والله المستعان.

طالب: "لأن علامة صدق القول مطابقة الفعل، بل هو الصدق في الحقيقة عند العلماء".

نعم. مطابقة الواقع، إذا طابق الواقع هو الصدق، إذا خالف الواقع فهو الكذب.

طالب: "ولذلك قال تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]".

نعم. فطابقت أفعالهم أقوالهم.

طالب: "وقال في ضده: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة: 75] إلى قوله: {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77]".

لما أخلفوا ما عاهدوا الله عليه، وخالفوا الواقع الذي والعهد الذي أبرموه مع الله -جل وعلا-، جاء في حقهم: {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77]؛ لأن صنيعهم لا يطابق الواقع.

طالب: "فاعتبر في الصدق مطابقة القول الفعل، وفي الكذب مخالفته. وقال تعالى في الثلاثة الذين خُلفوا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]. وهكذا إذا أخبر العالم عن الحكم أو أمر أو نهى، فإنما ذلك مشترك بينه وبين سائر المكلفين في الحقيقة، فإذا وافق صدق وإذا خالف كُذب، فالفتيا لا تصح مع المخالفة، وإنما تصح مع الموافقة".

يعني كلام العلماء في حد الصدق والكذب على عمومه وإطلاقه، إذا طابق الواقع فصدق، وإن خالف فكذب. والخبر ما يحتمل الصدق والكذب لذاته، يعني بغض النظر عن قائله، فإن طابق فصدق وإن خالف فكذب، ولا واسطة بينهما كما تقول المعتزلة أن هناك كلامًا ليس بصدق ولا كذب.

طالب: "وحسب الناظر من ذلك سيد البشر -صلى الله عليه وسلم-، حيث كانت أفعاله مع أقواله على الوفاق والتمام، حتى أنكر على من قال: يحل الله لرسوله ما شاء. وحين سأله الرجل عن أمر، فقال: «إني أفعله». فقال له: إنك لست مثلنا، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. غضب -عليه الصلاة والسلام- وقال: «والله، إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقي»".

يريدون أن يحتاطوا لدينهم أكثر من فعله -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولسان حال القائل: نحن أهل معاصٍ، وما غُفر لنا، ولا ضمن لنا جنة ولا غيره، نحتاط لأنفسنا. الذي يحتاط لنفسه من باب الورع مع علمه بأن هذا حلال ويتركه خشية أن يجره إلى الحرام، هذا شيء. لكن الذي يحرم على نفسه ما أحل الله، فهذا شيء آخر.

طالب: "وفي القرآن عن شعيب -عليه السلام-: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} [الأعراف: 89]، وقوله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88]. فبينت الآية أن مخالفة القول الفعل تقتضي كذب القول، وهو مقتضى ما تقدم في المسألة قبل هذا، وقد قالوا في عصمة الأنبياء قبل النبوة من الجهل بالله وعبادة غير الله: إن ذلك لأن القلوب تنفر عمن كانت هذه سبيله، وهذا المعنى جارٍ من باب أولى فيما بعد النبوة".

إذا عصموا من ذلك قبل النبوة، فمن باب أولى أن يُعصموا منه بعدها.

طالب: "بالنسبة إلى فروع الملة فضلاً عن أصولها، فإنهم لو كانوا آمرين بالمعروف ولا يفعلونه وناهين عن المنكر ويأتونه -عياذًا بالله من ذلك-، لكان ذلك أولى منفر وأقرب صاد عن الاتباع، فمن كان في رتبة الوارثة لهم، فمن حقيقة نيله الرتبة ظهور الفعل على مصداق القول".

نعم. والواقع يشهد بأن الناس عمومًا بمن فيهم من بني جنسهم ممن سلك طريق العلم وأخذ نصيبًا منه، أنهم أيضًا يتفاوتون في هذه الأمور. يعني الأصل هو الصدق، والكذب ومخالفة الواقع خلاف الأصل. وهذا في عامة الناس وغوغائهم يكثر مخالفة الأصل، وفي طلاب العلم وفي العلماء يقل مخالفة الأصل هو الجادة المسلوكة عندهم، وقد يتأولون فيسلكون غيره، وقد يتسامحون في عبارة أو في شيء من هذا، أو يتسامحون في أمر من الأمور التي لا يستطيعون مقاومة النفس عندها، وكل هذا بسبب الإنسان نفسه، إذا تساهل الشخص سواء كان في كلامه أو في أفعاله فيم يأتي وفيما يذر، إذا تساهل السيئة تقول: أختي أختي، تسهل عنده وتهون عليه وتستمرئها النفس، وتجري عليها، ثم تجره إلى ما هو أكبر منها.

 وأناس تسمعونهم يتكلمون بكلام قبل سنين ما كانوا يقولون مثل هذا الكلام، إلا أنهم تسامحوا في الكلام ولم يحتاطوا لأنفسهم، ومنهم من تساهل بالأفعال. وانظروا من يفتون في الساحة سواء كان في الاقتصاد أو في غيره، تجد التساهل في أول الأمر يسيرًا، ثم يجره ذلك إلى ما هو أكبر منه حتى يفتي بالصريح، وتجد الإنسان يكذب الكذبة مازحًا بها، ثم تليها أخرى، ثم ثالثة، ثم يتساهل في أن يكذب جادًّا؛ ليدفع عن نفسه، أو ليجلب لنفسه شيئًا، ثم بعد ذلك يصير الكذب سجية «حتى يكتب عند الله كذابًا».

فعلى الإنسان أن يهتم لنفسه ويحتاط لها، فلا يتكلم إلا بعد نظر فيما يقول، ولا يسكت إلا عن- وإن كان السكوت هو الأصل- لكن إلا عن ما يسعه فيه السكوت.

 يعني ذكرنا مرارًا من بعض المبتدعة الذين تكلموا بكلام ما يُتصور أن ينطق به عاقل، وهم من أهل العلم، كانوا من أهل العلم، لكنهم انتحلوا نحلاً لا دليل عليها، وتركوا الكتاب والسنة، وذهبوا إلى أقوال وقواعد وافدة من غير المسلمين واعتمدوها وحكموها في كتاب الله، وفي النهاية قادتهم إلى الضلال المبين، وتساهلوا فيما ألزموا به والتزموا به، وحملهم هذا اللازم وجرهم إلى أن قالوا بكلام ما يُتصور أن عاقل يقول مثله، يعني متى قال بشر المريسي: سبحان ربي الأسفل!

طالب: تدرج.

هذا تساهل ذا؟

طالب: تدرج.

ماذا؟

طالب: تدرج.

التدرج نعم، هذا التساهل، سببه التساهل في أول الأمر. متى قال ابن عربي: ألا بذكر الله تزداد الذنوب وتنطمس البصائر والقلوب! هذا يقوله مسلم في أول الأمر؟ ما يمكن أن يقوله ولو كان من أفسق الناس ما يقوله، لكنه التساهل وعدم التحري والتثبت، إلى أن استدرج وألزم بلوازم فالتزم بها فجرته إلى مثل هذا الكلام.

طالب: "ولما نهى" عليه الصلاة والسلام "عن الربا قال: «وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب»".

نعم. هكذا يكون القدوة، الرسول -عليه الصلاة والسلام- ما عنده ربا، ولا تعامل بربا، أقرب الناس إليه عمه العباس بن عبد المطلب، أراد أن يضع الربا بمن يبدأ؟ بنفسه وأقرب الناس إليه، وحينئذ يطاع ويقتدى به، «ودماء الجاهلية موضوعة بين قدمي هاتين، وأول دم أضعه دم ابن ربيعة بن عبد المطلب» أو «ربيعة بن عبد المطلب» كما تختلف الروايات. فالآمر والناهي إذا أراد أن يطاع ويقتدى به فليبدأ بنفسه وأقرب الناس إليه.

طالب: "وحين وضع الدماء التي كانت في الجاهلية، قال: «وأول دم أضعه دمنا: دم ربيعة بن الحارث»، وقال حين شُفع له في حد السرقة: «والذي نفسي بيده، لو سرقت فاطمة بنت رسول الله لقطعت يدها»".

أقرب الناس إليه -عليه الصلاة والسلام-.

طالب: "وكله ظاهر في المحافظة على مطابقة القول الفعلَ بالنسبة إليه وإلى قرابته، وأن الناس في أحكام الله سواء. والأدلة في هذا المعنى أكثر من أن تحصى. وقد ذم الشرع الفاعل بخلاف ما يقول، فقال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] الآية، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3]. عن جعفر بن برقان، قال: سمعت ميمون بن مهران يقول: إن القاص المتكلم ينتظر المقت، والمستمع ينتظر الرحمة. قلت: أرأيت قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] الآية، هو الرجل يقرظ نفسه فيقول: فعلت كذا وكذا من الخير؟ أو هو الرجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وإن كان فيه تقصير؟ فقال: كلاهما".

ومع ذلك عامة أهل العلم يقولون: لا يشترط في الآمر والناهي أن يكون مؤتمرًا بكل ما يقول أو منتهيًا عن كل ما يقول، وإلا لتعطلت الشعيرة.

طالب: "فإن قيل: إن كان كما قلت تعذر القيام بالفتوى وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد قال العلماء: إنه لا يلزم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون صاحبه مؤتمرًا أو منتهيًا، وإلا أدى ذلك إلى خرم الأصل، وقد مر أن كل تكملة أدت إلى انخرام الأصل المكمل غير معتبرة، فكذلك هنا، ومثله الانتصاب للفتوى، ومن الذي يوجد لا يزِل ولا يضل ولا يخالف قوله فعله، ولا سيما في الأزمنة المتأخرة البعيدة عن زمان النبوة؟".

"من الذي يوجد لا يزِل ولا يضل ولا يخالف قوله فعله؟" يعني في كل شيء، وإلا فهذا هو الأصل، يعني لا يشترط في كل ما يقول أن يطابق ولا كل ما يفعل أن يطابق، لكنه يبقى هو الأصل، وإذا خرج عن هذا الأصل أمور يسيرة، فهذه تغتفر في جانب عدم طلب العصمة. نعم.

طالب: "نعم، لا إشكال في أن من طابق قوله فعله على الإطلاق هو المستحق للتقدم في هذه المراتب".

يعني كل ما حصلت المطابقة صار أولى الناس بالاقتداء، إلى أن يصل الأمر إلى المطابقة من كل وجه في فعله وقوله -عليه الصلاة والسلام-.

طالب: "وأما أن يقال: إذا عُدم ذلك لم يصح الانتصاب، هذا مشكل جدًّا. فالجواب: أن هذا السؤال غير وارد على القصد المقرر؛ لأنا إنما تكلمنا على صحة الانتصاب والانتفاع في الوقوع لا في الحكم الشرعي، فنحن نقول: واجب على العالم المجتهد الانتصاب والفتوى على الإطلاق، طابق قوله فعله أم لا".

لأنه لا بد ممن يقوم بهذا الأمر للمسلمين، سواء كان في الحكم في القضاء وفصل منازعاتهم، أو في الفتوى في بيان دينهم ودلالتهم إلى الصراط المستقيم وتصحيح (الدقيقة 26.36 من الدرس رقم12 شرح كتاب الموافقات) إلى غير ذلك مما يقوم به المفتي، لا بد أن يقام بهذا. طيب ولي الأمر لما بحث ما وجد شخصًا كاملًا، ينزل في الدرجة، ينزل في الشروط إلى أن يصل إلى الأمثل من الموجودين. نعم. يعني لو مجموعة من السراق أو قطاع الطريق أو غيرهم ممن يعصي في سفره، حضرت الصلاة يقول: لا تصلون؟ أو لا تصلون جماعة، ما بكم واحد يصلح إمامًا؟

طالب: ما يستثنى.

ماذا؟

طالب: يصلون.

وإمامهم؟

طالب: أصلحهم.

منهم.

طالب: حرامي!!

ماذا؟

طالب: الريس.

ولذلك يقولون، العوام عندهم أمثال مطابقة لهذا الكلام، يقولون: مطوع الحنشل منهم!! الحنشل السراق، مطوع منهم، وزكاة الجرب منها، يعني الغنم إذا كان فيها جرب منين تجيء بزكاتها؟ منها. نعم. الله المستعان.

طالب: "لكن الانتفاع بفتواه لا يحصل ولا يطرد إن حصل، وذلك أنه إن كان موافقًا قوله لفعله حصل الانتفاع والاقتداء به في القول والفعل معًا أو كان مظنة للحصول؛ لأن الفعل يصدق القول أو يكذبه، وإن خالف فعله قوله، فإما أن تؤديه المخالفة إلى الانحطاط عن رتبة العدالة إلى الفسق، أو لا".

يعني هل يفسق بهذا العمل؟ بمعنى أنه يرتكب كبيرة أو يصر على صغيرة فينزل عن درجة العدالة إلى الفسق، لا شك أن هذا مؤثر في قبول الفتوى.

طالب: "فإن كان الأول، فلا إشكال في عدم صحة الاقتداء وعدم صحة الانتصاب شرعًا وعادة، ومن اقتدى به كان مخالفًا مثله، فلا فتوى في الحقيقة ولا حكم، وإن كان الثاني صح الاقتداء به واستفتاؤه وفتواه فيما وافق دون ما خالف، فمن المعلوم كما تقدم أنه إذا أفتاك بترك الزنا والخمر وبالمحافظة على الواجبات وهو في فعله على حسب فتواه لك؛ حصل تصديق قوله بفعله، وإذا أفتاك بالزهد في الدنيا أو ترك مخالطة المترفين أو نحو ذلك مما لا يقدح في أصل العدالة ثم رأيته يحرص على الدنيا ويخالط من نهاك عن مخالطتهم؛ فلم يصدق القول الفعل. هذا وإن كان الشرع قد أمرك بمتابعة قوله".

لكن إذا كان ظرف السائل غير ظرف المسؤول؟ المسؤول المفتي لا يستطيع أن ينفك عن هذه المخالطة لأرباب الدنيا وأعيانها ووجهائها من أجل النفع العام مثلاً، وسأله واحد من طلاب العلم الذي ما له علاقة بهذه الأمور، لا مانع أن يفتيه بما لا يطابق فعله.

طالب: "هذا وإن كان الشرع قد أمرك بمتابعة قوله، فقد نصبه الشارع أيضًا ليؤخذ بقوله وفعله؛ لأنه وارث النبي".

طالب: .......

اللهم صل على محمد، نعم.

طالب: .......

أحيانًا يحتاج إلى بيان، وأحيانًا لا يحتاج إلى بيان؛ لأن وضعه العام يحتم عليه مثل هذه الأمور.

طالب: "فإذا خالف فقد خالف مقتضى المرتبة، وكذب الفعل القول لما في الجبلات من جواذب التأسي بالأفعال. فعلى كل تقدير لا يصح الاقتداء ولا الفتوى على كمالها في الصحة إلا مع مطابقة القول الفعل على الإطلاق، وقد قال أبو الأسود الدؤلي:

ابدأ بنفسك فانهها عن غيها...  فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

 فهناك يسمع ما تقول ويقتدى... بالرأي منك وينفع التعليم

 لا تنه عن خلق وتأتى مثله...  عار عليك إذا فعلت عظيم

 وهو معنى موافق للنقل والعقل، لا خلاف فيه بين العقلاء.

فصل: فإن قيل: فما حكم المستفتي مع هذا المفتي الذي لم يطابق قوله فعله، هل يصح تقليده في باب التكليف، أم لا؟ بمعنى أنه يؤخذ بقوله ويعمل عليه أو لا؟

فالجواب: أن هذه المسألة مبنية على ما تقدم، فإن أُخذت من جهة الصحة في الوقوع فلا تصح؛ لأنها إذا لم تصح بالنسبة إلى المفتي، فكذلك يقال بالنسبة إلى المستفتي، هذا هو المطرد والغالب، وما سواه كالمحفوظ النادر الذي لا يقوم منه أصل كلي بحال. وأما إن أُخذت من جهة الإلزام الشرعي، فالفقه فيها ظاهر، فإن كانت مخالفته ظاهرة قادحة في عدالته، فلا يصح إلزامه، إذ من شرط قبول القول والعمل به صدقه، وغير العدل لا يوثق به، وإن كانت فتواه جارية على مقتضى الأدلة في نفس الأمر؛ إذ لا يمكن علم ذلك إلا من جهته، وجهته غير موثوق بها، فيسقط الإلزام عن المستفتي، وإذا سقط الإلزام عن المستفتي، فهل يبقى إلزام المفتي متوجهًا أم لا؟ يجري ذلك على الخلاف في مسألة حصول الشرط الشرعي: هل هو شرط في التكليف أم لا؟ وذلك مقرر في كتب الأصول، وإن لم تكن مخالفته قادحة في عدالته، فقبول قوله صحيح، والعمل عليه مبرئ للذمة، والإلزام الشرعي متوجه عليهما معًا".

بمعنى أن المخالفة لا تصل إلى حد القدح في عدالته، مخالفته يترك بعض المأمورات وتركها لا يُلحقه الإثم، أو قد يكون له تأويل وله فهم معين للنص يفهمه على غير ما يفهمه غيره ممن يرى التحريم، مثل هذه الأمور لا تقدح في العدالة؛ لأن له تأويلًا والتأويل، وهو من أهل العلم الذين يقبل تأويلهم السائغ، أما أن يكون يرتكب المحرم من غير تأويل أو محرم يصل إلى حد الكبيرة عند أهل العلم، فلا شك أن هذا قادح وجارح، ويسلب اسم العدالة إلى الفسق.

طالب: "المسألة الرابعة: المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال".

لأن دين الله وسط بين الغالي والجافي.

طالب: "والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة، فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين، خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذمومًا عند العلماء الراسخين".

لا شك أن التشديد وحمل الناس عليه ينفرهم، ويزهدهم في الخير، ويجعلهم يملون، ويسأمون ويتركون، وكذلك حملهم على التساهل هذا لا شك أنه تضييع لهم وإخراج لهم عن حظيرة التدين والاستقامة، إلى ما يقابلها من التفريط والإضاعة.

 "وأيضًا".

طالب: "وأيضًا، فإن هذا المذهب كان المفهوم من شأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الأكرمين، وقد رد -عليه الصلاة والسلام- التبتل، وقال لمعاذ لما أطال بالناس في الصلاة: «أفتان أنت يا معاذ؟»، وقال: «إن منكم منفرين»، وقال: «سددوا، وقاربوا، واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا»".

«إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه»، لكن في هذه النصوص مستمسك لمن يسلك سبيل التيسير في كل شيء. الدين الأصل فيه التكاليف، وهي إلزام ما فيه كلفة، وأيضًا الجنة حفت بالمكاره، ما يقال: كل ما لا تهواه النفس شاق، ما هو بصحيح. الأصل التكاليف، والتكليف إلزام ما فيه كلفة، ومخالفة لهوى النفس والشيطان؛ لأن بعض الناس يأخذ من هذه النصوص ويضيع بنفسه ويضيِّع غيره، غافلاً عما جاء من هذه التكاليف والأوامر والنواهي والأطر على الحق، وأما ما جاء فيما وُصفت به الشريعة من مخالفة الشرائع السابقة أنه ليس فيها آصار ولا أغلال، صحيح ليس فيها آصار ولا أغلال، لكن فيها ما يشق، فيما لا يتحمله الإنسان من مشقة. لو أن الإنسان أوقظ لصلاة الفجر في يوم شديد البرد، قال: والله الصلاة شاقة، أنتظر لأن ترتفع الشمس ويدفأ الجو؟ نقول: لا، الصلاة لها وقت محدد، ولو شقت عليك.

طالب: "وقال: «عليكم من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا»،
وقال: «أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل»،
ورد عليهم الوصال، وكثير من هذا. وأيضًا، فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق. أما في طرف التشديد، فإنه مهلكة، وأما في طرف الانحلال، فكذلك أيضًا؛ لأن المستفتي إذا ذُهب به مذهب العنت والحرج بُغض إليه الدين، وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة، وهو مشاهد، وأما إذا ذُهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة، والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى، واتباع الهوى مهلك، والأدلة كثيرة"
.

وقد يستدرج من حُمل على التشديد إلى أن يخرج عن دائرة الوسط التي اتصفت بها الشريعة إلى الغلو. والثاني الذي جُر بسبب هذه الفتاوى السمحة السهلة على ما يقولون، قد يجره ذلك إلى الانحلال. فيكون أحدهما سلك سبيل التفريط، والآخر سلك سبيل الإفراط، وكلاهما بمعزل عن دين الله.

طالب: "فصل: فعلى هذا يكون الميل إلى الرخص في الفتيا بإطلاق مضادًّا للمشي على التوسط، كما أن الميل إلى التشديد مضاد له أيضًا. وربما فهم بعض الناس أن ترك الترخص تشديد، فلا يجعل بينهما وسطًا، وهذا غلط، والوسط هو معظم الشريعة وأم الكتاب، ومن تأمل موارد الأحكام بالاستقراء التام عرف ذلك، وأكثر من هذا شأنه من أهل الانتماء إلى العلم يتعلق بالخلاف الوارد في المسائل العلمية، بحيث يتحرى الفتوى بالقول الذي يوافق هوى المستفتي، بناءً على أن الفتوى بالقول المخالف لهواه تشديد عليه وحرج في حقه".

يعني إذا جاء المستفتي وعليه أمارات الصلاح، وأنه مظنة لالتزام ما يقال له، يفتى بأشد الأقوال، وإن قال به من قال من أهل العلم. وبالمقابل، إذا وجد عليه أمارات التساهل والتراخي، يُفتى بما يوافق هواه من الأقوال المضادة. ولو قيل بعكس ذلك معالجة للمستفتين لكان أقرب، لكن الذي يترتب على هذا أنك إذا أفتيت من ظاهره الصلاح بأسهل الأقوال، فتحت له بابًا قد يكون غافلاً عنه، مع أنه إذا أفتي بأشد الأقوال أن يزداد غلوه، وإن أفتي بأسهل الأقوال مثلما قلنا قد يتساهل ويجره ذلك التساهل إلى ما لا تُحمد عقباه. فالدين هو الوسط، وهو الحكم على الجميع. نعم هناك مسائل اجتهادية قد يُفتى بعض الناس من باب التأديب له بقول أشد مما يفتى به لو كان مجردًا عن هذا الوصف الذي يستحق به التأديب، فالفتوى لها سياسة.

طالب: "بناءً منه على أن الفتوى بالقول المخالف لهواه تشديد عليه وحرج في حقه، وأن الخلاف إنما كان رحمة لهذا المعنى، وليس بين التشديد والتخفيف واسطة، وهذا قلب للمعنى المقصود في الشريعة، وقد تقدم أن اتباع الهوى ليس من المشقات التي يترخص بسببها".

يعني تنظر إلى هواه، إذا خالفته في الفتوى وأفتيته على غيره، شق عليه ذلك. النفس إذا ألفت شيئًا صارت مخالفتها لهذا الشيء شاقة، لكن في الفتوى لا ينظر إلى مثل هذا، وإنما ينظر إلى القول الراجح بدليله سواء وافق هواه أم خالفه.

طالب: "وأن الخلاف إنما هو رحمة من جهة أخرى، وأن الشريعة حمل على التوسط لا على مطلق التخفيف، وإلا، لزم ارتفاع مطلق التكليف من حيث هو حرج ومخالف للهوى، ولا على مطلق التشديد، فليأخذ الموفق في هذا الموضوع حذره، فإنه مزلة قدم على وضوح الأمر فيه.

 فصل: قد يسوغ للمجتهد أن يحمِّل نفسه من التكليف ما هو فوق الوسط، بناءً على ما تقدم في أحكام الرخص".

يعني مما يشمله الدليل، مما تشمله الأدلة. أحيانًا الحكم يكون له درجات، يعني ليس بقاطع فيما يختاره هذا المفتي أو ذاك، يعني مثل ما جاء في الشريعة من الأمور التي لها أطراف، كخصال الكفارة مثلاً، وما جاء فيه التخيير من الشارع يجوز أن يحمل بعض الناس على نوع مما يناسب حاله في حال التخفيف من كان محتاجًا إليه، ولا يستطيع ما هو أشد من ذلك. وعلى كل حال، مثل ما قلنا: الفتوى لها سياسة، يعني في مسائل الاجتهاد، أما مخالفة النص من أجل أن هذا القول يصلح هذا الرجل، وذاك القول يصلح ذاك، ونخالف النص من أجل هذه المصالح، فلا.

 ولذلك الذي أفتى الخليفة بصيام شهرين متتابعين وهو قادر على العتاق أجمعوا على تخطئته، قال: العتق.. يطأ كل يوم في نهار رمضان ويعتق رقبة، ما عنده مشكلة، لكن لو قيل له: تصوم شهرين متتابعين فلن يتكرر منه ذلك. السياسة في بادئ النظر ماشية، يعني أن هذا يردعه، لكن مع ذلك الشريعة للجميع.

طالب: "ولما كان مفتيًا بقوله وفعله كان له أن يخفي ما لعله يقتدى به فيه".

نعم. إذا كان يحمل نفسه على أمر شاق تحتمله النصوص، وسبق إليه من قبل السلف، فلا مانع من أن يحمل نفسه على هذا الشاق. لكن لا يبديه للعامة؛ لئلا يقتدوا به، فيشق عليهم. قد يجتهد العالم، ويصح عنده، أو يمثل عنده ذكر من الأذكار، وهو مضعف عند الجمهور، أو هو يرى رأي الجمهور في عدم التشديد في هذا الباب مثلاً، فينتقي من الأذكار ما ضعف ويعتمدها؛ لأنه في الأصل يخالف، أنه يرى التسامح في مثل هذه الأمور، أو يرى أن هذا الذكر، وإن لم يثبت من حيث السند فمعناه في الجملة صحيح وصالح، ودعواته جامعة، فيرى أنه يلتزم هذا الذكر ويقوله، مثل هذا لا بد أن يخفيه على الناس؛ لئلا يقتدى به، فيعمل به ويكون قدوة فيما لا أصل له، وهكذا.

طالب: "فربما اقتدى به فيه من لا طاقة له بذلك العمل فينقطع، وإن اتفق ظهوره للناس نبه عليه، كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعل؛ إذ كان قد فاق الناس عبادة وخُلقًا".

قام -عليه الصلاة والسلام- حتى تفطرت قدماه -عليه الصلاة والسلام-، قام حتى تفطرت قدماه، وصلى بالبقرة والنساء وآل عمران في ركعة، ومن يطيق هذا؟

   لا شك أنه -عليه الصلاة والسلام- معان من قبل الله -جل وعلا-، وإضافة إلى ما عنده من الرغبة في الخيرة، وهو الأسوة والقدوة. فمثل هذا إذا كان يشق على المشاهد، ينبغي أن يُخفى عنه، إذا كان يشق عليه؛ لأن بعض الناس لا تسمح نفسه إلا أن يفعل كما فعل فلان، والناس يتفاوتون في قدراتهم، وتحملهم، وكل هذا في إطار ما شرع الله. وقد يظهر العمل عند أناس عندهم شيء من التساهل، من أجل أن يكون ذلك باعثًا لهم على العمل، والله المستعان. نعم.

طالب: "وكان -عليه الصلاة والسلام- قدوة، فربما اتُّبع لظهور عمله، فكان ينهى عنه في مواضع، كنهيه عن الوصال، ومراجعته لعمرو بن العاص في سرد الصوم".

"لعبد الله بن عمرو".

طالب: نعم.

نعم. "لعبد الله بن عمرو في سرد الصوم"، وفي قراءة القرآن.

طالب: "ومراجعته لعبد الله بن عمرو بن العاص في سرد الصوم، وقد قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7]. وأمر بحل الحبل الممدود بين الساريتين".

نعم. هذه امرأة قامت لصلاة الليل، فأحست بنوع من تعب، أو خشيت أن تتعب، فربطت حبلاً تتعلق به إذا تعبت، فأمر النبي -عليه الصلاة والسلام- بحله. نعم.

طالب: أم المؤمنين.

ماذا؟

طالب: لعلها أم المؤمنين.

أم المؤمنين نعم.

طالب: "وأنكر على الحولاء بنت تُويت قيامها الليل".

يعني كله، هذا في البخاري. نعم.

طالب: "وربما ترك العمل؛ خوفًا أن يعمل به الناس فيفرض عليهم".

كما فعل في قيام رمضان في المسجد جماعة، فعله ليلتين أو ثلاثًا، ثم تركه؛ خشية أن يُفرض عليهم.

طالب: "ولهذا -والله أعلم- أخفى السلف الصالح أعمالهم؛ لئلا يُتخذوا قدوة، مع ما كانوا يخافون عليه أيضًا من رياء أو غيره، وإذا كان الإظهار عرضة للاقتداء، لم يظهر منه إلا ما صح للجمهور أن يحتملوه.

فصل: إذا ثبت أن الحمل على التوسط هو الموافق لقصد الشارع، وهو الذي كان عليه السلف الصالح، فلينظر المقلد أي مذهب كان أجرى على هذا الطريق فهو أخلق بالاتباع وأولى بالاعتبار، وإن كانت المذاهب كلها طرقًا إلى الله، ولكن الترجيح فيها لا بد منه؛ لأنه أبعد من اتباع الهوى كما تقدم، وأقرب إلى تحري قصد الشارع في مسائل الاجتهاد".

نعم. إذا بغى الإنسان أن يقلِّد إمامًا ومذهبًا من المذاهب المعروفة في البلد، فإنه يقلِّد أقربهم إلى الحق، كلهم إن شاء الله على الحق في الجملة، لكن لا شك أن المسائل الاجتهادية قابلة للخطأ والصواب.

فإذا فرضنا أن المذاهب الأربعة موجودة، وفيها مذاهب أخرى، فسبقت الإشارة إلى مذهبين متضادين، هما مذهب الظاهرية ومذهب الحنفية الذين هم أهل الرأي. هؤلاء اتبعوا الدليل بظاهره وجمدوا عليه، وأولئك أكثروا من الأقيسة وغفلوا عن الدليل في كثير من المواطن، فلا شك أن مثل هذا التباين مع وجود المذاهب الوسط بين المذهبين، أنه في الغالب أنه الحق يكون مع من جمع بين الدليل، الأثر، يعني الكتاب والسنة كما هو الأصل في أدلة الشريعة، وأيضًا من جهة النظر والشرع لا يهمل هذا الجانب. فالمؤلف أشار إلى المقابلة بين المذهبين، ويمكن أن يشير إليها.

طالب: "فقد قالوا في مذهب داود لما وقف مع الظاهر مطلقًا: إنه بدعة حدثت بعد المائتين، وقالوا في مذهب أصحاب الرأي: لا يكاد المغرق في القياس إلا يفارق السنة".

يعني يغرق في القياس، وينساق وراء الأقيسة وضرب الأمثال، إلى أن يغفل عن حفظ السنن، وهذا شيء مشاهد ومجرب أن الذي يعنى بالتحليل العقلي للنصوص أو لكلام أهل العلم يضعف في الجانب الآخر؛ لأن القدرات محدودة. والذي يهتم بالأثر، ويكون همه وديدنه الأثر، وإن قصر في جانب الرأي وضرب الأمثلة والأقيسة، إلا أنه بيده الأصل. والعلماء والأئمة منهم الكبار من جمعوا بين الأمرين؛ لأنه ليست كل المسائل منصوصة، فلا بد من النظر، والله المستعان.

 نعم.

طالب: "فإن كان ثَم رأي بين هذين فهو الأولى بالاتباع، والتعيين في هذا المذهب موكول إلى أهله.

 والله أعلم".

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك.

* * *

طالب: .......

أصله في البخاري: «أن امرأة».

طالب: .......

ماذا؟

طالب: .......

نعم؛ لأنه في التيسير فرع عن جامع الأصول، وجامع الأصول ما فيه ابن ماجه.

طالب: .......

نعم، ما فيه ابن ماجه، ما فيه إلا الثلاثة أبو داود والترمذي والنسائي، ما فيه ابن ماجه.

طالب: أحسن الله إليك يا شيخ .......

دون الكعب.

طالب: .......

وينزعونها أحيانًا؟

طالب: لا، يشق نزعها.

الحكم على الفوقاني، فإذا نُزع الكندرة التي هي الخف وقد مُسح عليها، انتهت الطهارة.

طالب: حتى لو كانت غير سابغة للمحل يا شيخ؟

يعني مع الجورب الحكم واحد.

طالب: الحكم واحد.

نعم.

طالب: .......

لكن إذا فسخها خلاص انتهت الطهارة.

طالب: .......

كما لو فسخ الشراب.

طالب: أحسن الله إليك يا شيخ.

"