تعليق على تفسير سورة البقرة (38)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسَلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين،

قال الإمام ابن كثيرٍ -رَحِمَهُ الله تَعَالَى-:

"قَالَ الله تَعَالَى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة البقرة:109-110]

يُحَذِّرُ تبارك وتَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ سُلُوكِ طَرَائق الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَيُعْلِمُهُمْ بِعَدَاوَتِهِمْ لَهُمْ فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ وَمَا هُمْ مُشْتَمِلُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَسَدِ لِلْمُؤْمِنِينَ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِفَضْلِهِمْ وَفَضْلِ نَبِيِّهِمْ. وَيَأْمُرُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّفْحِ وَالْعَفْوِ وَالِاحْتِمَالِ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ مِنَ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ. وَيَأْمُرُهُمْ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَيُرَغِّبُهُمْ فِيهِ، كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عباس، قال: كَانَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَأَبُو يَاسِرِ بْنُ أَخْطَبَ مِنْ أَشَدِّ يهود لِلْعَرَبِ حَسَدًا، إذْ خَصهم اللَّهُ بِرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَا جَاهدَين فِي ردِّ النَّاسِ عَنِ الْإِسْلَامِ مَا اسْتَطَاعَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمَا: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ} الْآيَةَ".

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسَلَّم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد،

فقد خَصَّ الله -جلَّ وعلا- هذه الأمة بفضائل ومزايا، وبنبي هو أفضل الرسل على الإطلاق، مما جعل ذلك مثار حسدٍ من الأمم الأخرى، لا سيما اليهود، فإنهم أهل حسد وبهت. وهذه العداوة لا للشيء، إلا لأنهم فُضلوا وخُصوا بهذه المزايا والفضائل، بشرف نبيهم -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-. وفي أمور الدنيا، يُقال في المثل: عدو المرء من يعمل عمله، عدوه من يعمل عمله، هو الذي يُحْسَد في أمور الدنيا؛ من أجل أن يترك المجال له ليكون هو المستفيد وحده. وإذا عَمِلَ أحدٌ مثل عمله، تجده يحسده؛ ليتفرَّد بالمجال. لكن في أمر الدين، وهذه العداوة الناشئة عن قلوبٍ ملأها الحقد والبغض لهذه الأمة ولنبيها، هذا الأمر يختلف، وإن كان عملنا يختلف عن أعمالهم، لكنهم يحسدوننا لنكثر سوادهم في النار، كما أن إبليس أقسم بعزة الله -جلَّ وعلا- أن يغوي الناس أجمعين؛ ليكثُر أتباعه؛ لأن الكثرة قد تُخفف المصيبة، يعني: لما كان واحد يُعَذَّب مثلاً، أو يُصاب بجائحة أو شيء من هذا، دون غيره، تجد المصاب عنده شديدًا. ولكن لما يكثر المصابون بمصابه، يخف عليه الأمر. ولذا قال بعضهم في بعض الأحداث، لما أقدم على مكانٍ فيه فتن وفيه قتل وفيه تشريد، لما قيل له: لماذا تُقدِم على هذا المكان وأنت في مكانٍ آمن؟ نوعًا ما، يعني: أخف، قال: الموت مع الجماعة رحمة.

على كل حال، اليهود عُرفوا بالحسد، وحاولوا صرف هذه الأمة ومن يريد الدخول فيها عن دينه، وحاولوا اغتيال النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في وقائع؛ حسدًا من عند أنفسهم، كما قال الله -جلَّ وعلا-. المقصود أن ما ذُكِر من حُيي بن أخطب وأخيه، وأنهما جهدا في صدِّ الناس عن دين الله، إنما هو مثال لهؤلاء اليهود. وإلا ففي الآية ما يدلُّ على أن الأمر أعظم من اثنين أو ثلاثة أو عشرة، {وَدَّ كَثِيرٌ}، كثيرٌ من الناس. ومن هنا ينزل النازل بالعموم، وإن كان سببه الخصوص. فهذان أبرز اليهود الذين سعوا وجهدوا في صدِّ الناس عن الدخول في الإسلام، وكثيرٌ منهم يوافقونهم في الباطن، وإن لم يظهر من بعضهم الصد الظاهر. فينزل الخبر؛ ليشمل الجميع، أو الكثير كما في الآية.

"وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} قَالَ: هُوَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ".

وهذا أيضًا مثال، ولا يعني أن الأمر خاص به؛ لأن الآية تدلُّ على أن الذين ودوا أن يرتد المسلمون أو بعض المسلمين كثير، كما قال الله -جلَّ وعلا-.

"وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ الْيَهُودِيَّ كَانَ شَاعِرًا، وَكَانَ يَهْجُو النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا}".

قد يقول قائل: إن هذا شاعر ويهجو النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، فكيف يكون تصرفه هذا مؤديًا لردِّ الناس عن الدين؟ إذا طعن في الرسول، فقد طعن فيما أُرْسِلَ به، والله المُستعان.

"وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إنَّ رَسُولًا أُمِّيًّا يُخْبِرُهُمْ بِمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الرُّسُلِ والكتب وَالْآيَاتِ، ثُمَّ يُصَدِّقُ بِذَلِكَ كُلِّهُ مِثْلَ تَصْدِيقِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ جَحَدُوا ذَلِكَ كُفْرًا وحسدًا وبغيًا؛ ولذلك قال اللَّهُ تَعَالَى: {كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} يَقُولُ: مِنْ بَعْدِ مَا أَضَاءَ لَهُمُ الْحَقُّ لَمْ يَجْهَلُوا مِنْهُ شَيْئًا".

قد يقول قائل: هم أهل كتاب، وعندهم من النصوص في كتبهم ما يدلُّ على ما أعدَّ الله لمن كفر به من العذاب الشديد والخلود الأبدي في النار، فكيف يُقدمون على مثل هذا؟ نقول: هذه إرادة الله -جلَّ وعلا- المكتوبة على هؤلاء الجماعة، وعلى أفرادٍ من الناس من غيرهم. قد يكون من أمة محمد -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- من يُفني عُمَرهَ في العلم، ثمَّ يسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، نسأل الله العافية. وهذه أمور بيد الله -جلَّ وعلا-، لكن للعبد فيها حرية واختيار، وليس بمجبور على ما يصنع.

"وَلَكِنَّ الْحَسَدَ حَمَلَهُمْ عَلَى الْجُحُودِ، فعيرهم وَوَبَّخَهُمْ وَلَامَهُمْ أشدَّ الْمَلَامَةِ، وَشَرَعَ لَنَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلِلْمُؤْمِنِينَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّصْدِيقِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِقْرَارِ بِمَا أُنْزِلَ الله عَلَيْهِمْ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِمْ، بِكَرَامَتِهِ وَثَوَابِهِ الْجَزِيلِ وَمَعُونَتِهِ لَهُمْ.

وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَكَفَرُوا بِهِ حَسَدًا وَبَغْيًا؛ إِذْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَس وَالسُّدِّيُّ.

وَقَوْلُهُ: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ} [سورة آلِ عِمْرَانَ: 186].

قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عباس فِي قَوْلِهِ: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} نَسَخَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وَقَوْلُهُ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [سورة التَّوْبَةِ: 29] فَنَسَخَ هَذَا عَفْوَهُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ".

يعني: هذه الآية مما نُسِخ بآية السيف، وآية السيف - كما يقول أهل العلم - نسخت سبعين آية، على كلامه هنا. وقوله: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} قد يقول قائل: إن هذا ليس من باب النسخ، وإنما هو حكمٌ موقوت بوقت له غاية، فإذا انتهت هذه الغاية ارتفع الحكم، ولا يُعدُّ نسخًا، كما هو الشأن فيما يحصل في عهد عيسى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- في آخر الزمان من رفع بعض الأحكام، قتل الخنزير، ووضع الجزية، وأمور وُقِتت بمجيئه -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، ولا يُقال: هذا نسخ؛ لأنه لا نسخ بعد محمد -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-. والنسخ من خصائص النصوص، قوله: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} إن كان المراد بالأمر هذا التوقيت الذي انتهى بنزول آية السيف، فمثل هذا عند أهل العلم لا يُعدُّ نسخًا، إنما حكم موقوت بوقت، فجاء الوقت فرُفِعَ الحكم.

طالب: ...

على خلافٍ بين أهل العلم، هل يُعدُّ أهل الكتاب أهل شرك أو هل يُقال: مشركون؟ أو يُقال: فيهم شرك؟ والخلاف بسطه الحافظ ابن رجب في شرح البخاري، فمن أهل العلم من يقول: هم مشركون؛ لأنهم عبدوا المسيح وعبدوا عُزيرًا، وعبدوا مع الله غيره، فهم مشركون. ومنهم من يقول: ليسوا بمشركين، لا يُقال: مشركون، وإنما يُقال: فيهم شرك. وفرقٌ بين هذا وهذا، النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لما قال لأبي ذر: «إنك امرؤٌ فيك جاهلية» هل المعنى أنه جاهلي؟ لا، وإذا قيل: فيه نفاق، ما يكون منافقًا. المقصود أن الخلاف معروف بين أهل العلم، ولكنهم كفار خالدون مخلدون في النار بالإجماع، باتفاق أهل العلم. ومن شكَّ في كفرهم كفر، ونُقِل الإجماع على ذلك.

 المقصود أنه لا يعني أنهم احتمال أن تشملهم الرحمة باعتبار أنهم غير مشركين، لا، الجنةُ عليهم حرام، نسأل الله العافية. والخلاف في نكاح نسائهم، النص ورد بإباحته، لكن هل هذا النص نقول: إنه مُخصِّص لقوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ} [سورة البقرة:221]؟ أو أن نقول: إن النص لا يحتاج إلى تخصيص؛ لأنهن لسن بمشركات؟ والخلاف شبه لفظي، ما له أثر. لأنه حتى لو قلنا: النص يحتاج إلى مُخصِّص، فالمُخصِّص موجود.

طالب: ...

المسلم، خلنا مع المسلم، اترك اليهود والنصارى، المسلم الذي اعترف بأركان الإيمان، واعترف بالرسول، ويصلي ويصوم وأتى بمُكفِّر، وخرج بهذا المُكفِّر من الملة، تشمله الشفاعة؟ وقلبه مملوء بالإيمان، لكن أتى بمُكفِّر، بناقض من نواقض الإسلام، ما تشمله الشفاعة بالاتفاق.

طالب: ...

نعم.

"وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَيُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قال أَخْبَرَنِي عُرْوَة بْنُ الزُّبَيْرِ: أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ أَخْبَرَهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ، وَيَصْبِرُونَ عَلَى الْأَذَى، قَالَ اللَّهُ: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتأوَّل مِنَ الْعَفْوِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ فِيهِمْ بِقَتْلٍ، فَقَتَلَ اللَّهُ بِهِ مَنْ قَتَلَ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ.

وَهَذَا إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَلَكِنْ لَهُ أَصْلٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-".

مع الأسف أنه يوجد من بعض الكُتَّاب المنهزمين بدلاً من أن يقول: إن آية السيف نسخت سبعين آية، يقول: نسختها سبعون آية. ضَعف، وحل المشكلات لا يأتي بمثل هذه الطريقة، ودرء شر الأعداء ومكرهم وكيدهم، لا يأتي بهذه الطريقة أن نتنازل ونُداهن، لا. قد نُداري، لكن المداهنة لا تجوز، {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [سورة القلم:9]. لكن مع ذلك، علينا أن ننزِّل الأمور منازلها، وننظر إلى واقعنا، وضعفنا، فبدلاً من أن نبدأ الناس بقتالهم، امتثالاً لأمر الله بالجهاد، نتنازل عن مبادئنا وما أوجبه الله علينا، مما أجمعت عليه الأمة ودلَّت عليه النصوص، لا أبدًا ما يكون هذا. نعم، قد لا تبدأ وتُصالح مثلاً إذا اقتضى الأمر ذلك، وتُسَالِم، لكن ما تتنازل عما أوجب الله عليك، ولا تُغيِّر الأحكام الشرعية.

ولا إشكال في أصل المسألة باعتبار أن حال الضعف لها أحكامها، لكن ما يُنزَّل العهد كاملًا على عهدٍ كامل. لكن في وقائع قد يقتضي الأمر ألا ننابذهم، معروف أن مسألة...

طالب: ...

نعم، ما يستطيع، ما عنده قوة ولا أُمِرَ بذلك، لكن العهد المدني نسخ العهد المكي. ولا يمنع أن تُسالم الأمة في حال ضعف، ووجِدَ على مرِّ العصور، مع وجود أهل العلم، أن درء المفاسد مطلوب، والله -جلَّ وعلا- يقول: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة الأنعام:108]. لا نتعرَّض لأذاهم؛ لئلا يؤذوننا.

وعلى كل حال، في حال العزة نضطرهم إلى أضيق الطريق. لكن الآن، ماذا تفعل؟ هم الذين يضطرونك؛ لضعفنا، وبما كسبت أيدينا. وإلا فهذه الأمة خير أمةٍ أخرجت للناس، وأعز الناس على الله -جلَّ وعلا-، والله المُستعان.

"وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} يَحُثُّهُم تَعَالَى عَلَى الِاشْتِغَالِ بِمَا يَنْفَعُهُمْ وتَعُودُ عَلَيْهِمْ عاقبتُه يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مِنْ إِقَامِ الصَّلَاةِ وإيتاء الزكاة، حَتَّى يُمَكِّنَ لَهُمُ اللَّهُ النَّصْرَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [سورة غَافِرٍ: 52]؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} يَعْنِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَغْفَلُ عَنْ عَمَلِ عَامِلٍ، وَلَا يَضِيعُ لَدَيْهِ، سَوَاء كَانَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا، فَإِنَّهُ سَيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ".

{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [سورة آل عمران:30]، المقصود: كل شيء موجود في كتابٍ لا يُغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها.

"وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ ابْنُ جَرِيرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}  هذَا الْخَبَرُ مِنَ اللَّهِ لِلَّذِينَ خَاطَبَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَاتِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهُمْ مَهْمَا فَعَلُوا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، سِرًّا أَوْ عَلَانِيَةً، فَهُوَ بِهِ بَصِيرٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ، فَيَجْزِيهِمْ بِالْإِحْسَانِ خَيْرًا، وَبِالْإِسَاءَةِ مِثْلَهَا. وَهَذَا الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْخَبَرِ، فَإِنَّ فِيهِ وَعْدًا وَوَعِيدًا وَأَمْرًا وَزَجْرًا. وَذَلِكَ أَنَّهُ أعْلَم الْقَوْمَ أَنَّهُ بَصِيرٌ بِجَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ؛ لِيَجِدُّوا فِي طَاعَتِهِ إِذْ كَانَ ذَلِكَ مذخورًا..

عندنا مُدَّخرًا.

مذخورًا لَهُمْ عِنْدَهُ، حَتَّى يُثِيبَهُمْ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} وَلِيَحْذَرُوا مَعْصِيَتَهُ.

قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: {بَصِيرٌ} فَإِنَّهُ مُبْصِرٌ صُرِفَ إِلَى (بَصِيرٍ)، كَمَا صُرِفَ مُبْدِعٌ إِلَى (بَدِيعٍ)، وَمُؤْلِمٌ إِلَى (أَلِيمٍ)، وَاللَّهُ أَعْلَمُ".

وهذه من صيغ المبالغة، فعيل، من صيغ المبالغة.

"وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَير، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعة، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: سمعت رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَقْترئ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {سَمِيعٌ بَصِيرٌ} يَقُولُ: «بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ»".

يُفَسِّرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.

طالب: يُفسِّر ولا يقترئ؟

الخلاف سهل؛ لأنه يُفسرها بعدما قرأها، ويُبيِّن معناها، وهذا معنى التفسير.

"وقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [سورة البقرة:111-113]

يُبَيِّنُ تَعَالَى اغْتِرَارَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِمَا هُمْ فِيهِ، حَيْثُ ادَّعَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى مِلَّتِهَا، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [سورة الْمَائِدَةِ: 18]. فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا أَخْبَرَهُمْ أَنُّ يعَذِّبُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَلَوْ كَانُوا كَمَا ادَّعَوْا لَمَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، َكَمَا تَقَدَّمَ مِنْ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ لَنْ تَمَسَّهُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً".

فقالوا: إنها بقدر أيام عبادتهم للعجل، يُعذبون بقدرها ثمَّ يُخرجون من النار.

"ثُمَّ يَنْتَقِلُونَ إِلَى الْجَنَّةِ. وردَّ عَلَيْهِمْ تَعَالَى فِي ذَلِكَ، وَهَكَذَا قَالَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى التِي ادعوها بلا دليل ولا حجة وَلَا بَيِّنَةٍ، فَقَالَ: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ}.

وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: أَمَانِيّ تَمَنَّوْهَا عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ} أَيْ: يَا مُحَمَّدُ، {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ}".

والأماني لا يحُدها حد، تجد الإنسان عاطلًا من كل عمل، ومُجردًا من كل وصف، ويتصوَّر نفسه ويتمنى أن يكون أسعد الناس وأعلم الناس وأشجع الناس، وليس عنده شيء من ذلك. لكن الأماني والخيالات، ما لها حد.

"وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: حُجَّتُكُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بَيِّنَتُكُمْ عَلَى ذَلِكَ. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي: فِيمَا تَدَّعُونَهُ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} أَيْ: مَنْ أَخْلَصَ الْعَمَلَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} الْآيَةَ [سورة آلِ عِمْرَانَ: 20].

وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} يَقُولُ: مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ.

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ} أَخْلَصَ، {وَجْهَهُ} قَالَ: دِينَهُ، {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أَيْ: مُتَّبِعٌ فِيهِ الرَّسُولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَإِنَّ لِلْعَمَلِ الْمُتَقَبَّلِ شَرْطَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ صَوَابًا مُوَافِقًا لِلشَّرِيعَةِ".

{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} [سورة البينة:5]، في الحديث الصحيح عن عائشة: «مَنْ عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». فالعمل الذي لا يتحقق فيه الشرطان مردود، لا بُدَّ من الإخلاص والمتابعة. وبعضهم يكتفي بالمتابعة، يُشترط في العمل المتابعة، يقول: فقط، لماذا؟ لأن العمل الذي لا يُخْلِص فيه عامله، لم يتابع فيه النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-؛ لأن أعماله- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كلها مُخلصًا فيها.

وعلى كل حال، التأكيد على الإخلاص، وتصحيح النية، أمرٌ مطلوب؛ لأنه من أهم المهمات. وإذا غفل عنه الإنسان يحبط عمله وهو لا يشعر، والنية شرود، والتأكيد عليها في كل مناسبة مما ينبغي. فكوننا نقتصر على المتابعة، قد يظن ظان أن ذلك في الظاهر، في الصورة فقط. فلا بُدَّ من التأكيد على الإخلاص، وإن كان القول له نوع وجاهة؛ لأن العمل الذي لا يُخْلِص فيه عامله لم يكن فيه متبعًا للنبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-. لكن التنصيص على الإخلاص، أمرٌ لا بُدَّ منه؛ لأن بعض الناس ما يستوعب مثل هذه الأمور، ويعرف أن العمل إذا لم يكن خالصًا، لم يتحقق فيه شرط الاتباع، فالتنصيص عليه من أهل العلم، والتأكيد عليه، مما ثبت في نصوص الكتاب والسُّنَّة، فإن العمل إذا لم يكن خالصًا لله -جلَّ وعلا-، فهو مردودٌ على صاحبه، وهذا يكون فيه نوع شرك لأحد، لفلان. لذا يقول عُمَر: اللهمَّ اجعل عملي خالصًا لوجهك، ولا تجعل فيه شركةً لأحد.

"فَمَتَى كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُتَقَبَّلْ؛ وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، عَنْهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-".

يعني: كما جاء عن الفُضيل بن عياض في تفسير قوله -جلَّ وعلا-: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [سورة الملك:2]، قال: أخلصه وأصوبه. فإن العمل إذا لم يكن خالصًا لله لم يُقبَل، وإن لم يكن صوابًا على سُنة محمد -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لم يُقْبَل.

"فَعَمَلُ الرُّهْبَانِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ -وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُمْ مُخْلِصُونَ فِيهِ لِلَّهِ- فَإِنَّهُ لَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُمْ، حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ مُتَابِعًا لِلرَّسُولِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ وَإِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَفِيهِمْ وَأَمْثَالِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [سورة الْفُرْقَانِ: 23]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [سورة النُّورِ: 39]، وَقَالَ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [سورة الغاشية:2-5]"

{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} يعني: يوم القيامة، {خَاشِعَةٌ} ذليلة، {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} تعمل وتكد وتتعب، وفي النهاية {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً}. قوله: {يَوْمَئِذٍ} في القيامة. والعمل والنَّصب هناك يُكلفون بأعمال في النار، نسأل الله العافية. كما قال ذلك المفسرون، منهم من يرى أن العمل والنصب في الدنيا، يتعبون على عباداتٍ لا إخلاص فيها، ولا متابعة فيها، فهم يتعبون ويتعبدون بأمور لم يشرعها الله -جلَّ وعلا-، وفي النهاية {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً}، لماذا؟ لفقد.. شروط القبول.

"وَرُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ -رضي الله عنه- أَنَّهُ تَأَوَّلَهَا فِي الرُّهْبَانِ كَمَا سَيَأْتِي".

في غُلاة المبتدعة ممن يرتكبون من البِدَع المُكفرة، تجد عندهم من التعب والنصب الشيء الكثير، وتجد عندهم من الخوف والوجل والبكاء شيئًا يُشاهد، ومع ذلك، مع فقد الشروط، أعمالهم حابطة، نسأل الله العافية.

"وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْعَمَلُ مُوَافِقًا لِلشَّرِيعَةِ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، وَلَكِنْ لَمْ يُخْلِصْ عَامِلُهُ الْقَصْدَ لِلَّهِ فَهُوَ أَيْضًا مَرْدُودٌ عَلَى فَاعِلِهِ، وَهَذَا حَالُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُرَائِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [سورة النِّسَاءِ: 142]، وَقَالَ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (*) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (*) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [سورة الْمَاعُونِ: 4-7]"

قلنا مرارًا: إن بعض المسلمين، إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، وهذا موجود وموجود بكثرة، إذا أوقظ لصلاة الصبح، قد تَعِبَ وسَهِرَ بالليل، أو كان الجو باردًا، يكسل عن القيام. ويتأخر، ولا يستجيب بسرعة، ويقوم كسلان، فهل تنطبق عليه الآية؟ نعم، لماذا؟

طالب: ...

{يُرَاءُونَ النَّاسَ}، لكن قد يوجد شيء من هذا. كثير من الشباب الموجودين الآن، إذا أوقظهم أهلوهم تثاقلوا على الصلاة، ومع ذلك يخشى أن يُلام على ترك الجماعة، وقد يكون شيء من هذا. لكن الإشكال أن هؤلاء يفارقون المنافقين في شيءٍ واحد، أن هؤلاء يصلون، في قرارة قلوبهم أنهم سوف يصلون، ولن يتركوا الصلاة. لكن بدلاً من أن ينهض إليها بنشاط، قد يتأخر، وقد تفوته الجماعة، وقد تغفو عينه فيفوته الوقت. لكنه في قرارة نفسه أنه سوف يصلي، بخلاف المنافق، الذي لا يصلي إلا إذا رآه الناس، وليس في قرارة نفسه أنه مُصلٍّ على كل حال.

طالب: ...

من باب التخويف والتذكير، لا بأس، زجر؛ لأنه قد ينزل النص ويُحذَّر به ويُخوَّف ولا يُراد معناه، ولا يُراد ظاهره.

طالب: ...

يخشى، ما المانع أن يكون في وقتٍ من الأوقات مشابهًا لهم؟ امتد به الأمر أن يكون مثلهم.

طالب: ...

كذلك، النصوص الواردة في غير المسلمين، وفيها زجر للمسلمين، فأنت إذا قدمت الآية لا تقول: إن الآية منطبقة عليك، تقول: يُخشى أن تنطبق عليك، والمسلم إذا بدأ المقدمات والمشابهة في الظاهر قد تقوده إلى المشابهة في الباطن.

"وَقَالَ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ  الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [سورة الْمَاعُونِ:4-7]. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاَءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [سورة الْكَهْفِ: 110] . وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ}".

بعض المتصوفة يقول: إن الذي يعمل عملاً صالحًا من أجل دخول الجنة والنجاة من النار، تنطبق عليه الآية: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [سورة الْكَهْفِ: 110] هذا أشرك، الجنة والنار في عبادته، نظر إليهما ولحظهما وهو يعبد، فهو مُلاحظ ومُشرك للجنة والنار بالله -جلَّ وعلا-، والله يقول: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [سورة الْكَهْفِ: 110]، قاله بعض المتصوفة.

لكن الذي يعبد الله، وهو مُلاحظٌ لدخول الجنة التي ذُكِرَت في النصوص من أجل أن تُلاحظ، من باب السياط التي تقود العامل إلى العمل، وكذلك النار. الذي يطلب الجنة وهو يعبد الله- جلَّ وعلا-، ويرجو النجاة من النار وهو يعبد الله -جلَّ وعلا-، خوفه من النار أو من بيده العذاب بالنار؟ أنت لو رأيت عصا بيد إنسان، خوفك من العصا؟ أو من حامله؟ من حامله؛ لأن العصا بمفردها ما تفعل شيئًا، وهكذا. فالذي يخاف من النار، هو خائفٌ من الذي يُعذِّب بالنار، والذي يرجو الجنة هو يرجو من بيده إدخال الجنة، وهكذا.

ولهذا قال أهل العلم: مَنْ عَبَدَ الله -جلَّ وعلا- بالخوف وحده فهو حروري، وبالرجاء وحده فهو مُرجيء، ومَنْ عَبَدَهُ بالحب وحده فهو زنديق. فلا بُدَّ أن يجتمع الخوف والرجاء مع الحب والتعظيم.

"وَقَوْلُهُ: {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} ضَمِنَ لَهُمْ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ تَحْصِيلَ الْأُجُورِ، وَأمَنَهُمْ مِمَّا يَخَافُونَهُ مِنَ الْمَحْذُورِ فَـ {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ، {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} عَلَى مَا مَضَى مِمَّا يَتْرُكُونَهُ، كَمَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: فَـ {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} يعني: في الآخرة {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} يَعْنِي: لَا يَحْزَنُونَ لِلْمَوْتِ".

وقول الله -جلَّ وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} [سورة فصلت:30]، يعني: لا تخافوا مما أمامكم ولا تحزنوا على ما خلفتموه وراء ظهوركم.

"وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} يُبَيِّنُ بِهِ تَعَالَى تَنَاقُضَهُمْ وَتَبَاغُضَهُمْ وَتَعَادِيَهِمْ وَتَعَانُدَهُمْ. كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لما قَدِمَ أَهْلُ نَجْرَانَ مِنَ النَّصَارَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَتَتْهُمْ أَحْبَارُ يَهُودَ، فَتَنَازَعُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ رَافِعُ بْنُ حُرَيْملة: مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَكَفَرَ بِعِيسَى وَالْإِنْجِيلِ. وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ مِنَ النَّصَارَى لِلْيَهُودِ: مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَجَحَدَ نُبُوَّةَ مُوسَى وَكَفَرَ بِالتَّوْرَاةِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} قَالَ: إِنَّ كُلًّا يَتْلُو فِي كِتَابِهِ تَصْدِيقَ مَنْ كَفَرَ بِهِ، أَيْ: يَكْفُرُ الْيَهُودُ بِعِيسَى وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ، فِيهَا مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ مُوسَى بِالتَّصْدِيقِ بِعِيسَى، وَفِي الْإِنْجِيلِ مَا جَاءَ بِهِ عِيسَى بِتَصْدِيقِ مُوسَى، وَمَا جَاءَ التَّوْرَاةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكُلٌّ يَكْفُرُ بِمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: قَدْ كَانَتْ أَوَائِلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ".

تقدَّم مرارًا هذا الإسناد الذي يروي به محمد بن إسحاق، وقد تكرر مرارًا أنه مُضَعَّف عند أهل العلم، السند ضعيف. ولكن المعنى الذي تضمنه هذا الخبر والواقع اليهود كفروا بعيسى والنصارى كفروا بموسى، وكلٌ منهم يزعُم أن الآخر ليس على شيء. ونحن أيضًا نعتقد أن اليهود ليسوا على شيء، وأن النصارى ليسوا على شيء، بعد نسخ دياناتهم، مع إيماننا بموسى وعيسى.

طالب: ...

مهما كان، هذا واقع. واليهود كفروا بمحمد وفي توراتهم ما يدلُّ على نبوته بأوصافه، حتى يعرفونه حق المعرفة كما يعرفون أبنائهم.

"وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} قَالَ: بَلَى، قَدْ كَانَتْ أَوَائِلُ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ، وَلَكِنَّهُمُ ابْتَدَعُوا وَتَفَرَّقُوا. {وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} قَالَ: بَلَى قَدْ كَانَتْ أَوَائِلُ الْيَهُودِ عَلَى شَيْءٍ، وَلَكِنَّهُمُ ابْتَدَعُوا وَتَفَرَّقُوا.

وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى كَقَوْلِ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} هَؤُلَاءِ أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

وَهَذَا الْقَوْلُ يَقْتَضِي أَنَّ كُلًّا مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ صَدَقَتْ فِيمَا رَمَتْ بِهِ الطَّائِفَةَ الْأُخْرَى. وَلَكِنَّ ظَاهِرَ سِيَاقِ الْآيَةِ يَقْتَضِي ذَمَّهُمْ فِيمَا قَالُوهُ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} أَيْ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنْ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، كُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ كَانَتْ مَشْرُوعَةً فِي وَقْتٍ، وَلَكِنْ تَجَاحَدُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عِنَادًا وَكُفْرًا وَمُقَابَلَةً لِلْفَاسِدِ بِالْفَاسِدِ، كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى عَنْهُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} يُبَيِّن بِهَذَا جَهْلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِيمَا تَقَابَلُوا مِنَ الْقَوْلِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيمَنْ عنَى بقوله تعالى: {الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} فَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَقَتَادَةُ: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} قَالَا وَقَالَتِ النَّصَارَى مِثْلَ قَوْلِ الْيَهُودِ وَقِيلِهِمْ".

ثمَّ قالت النصارى مثل قول اليهود.

"وَقَالَ ابْنُ جُرَيج: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ؟ قَالَ: أُمَمٌ كَانَتْ قَبْلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَقَبْلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ".

{مِثْلَ قَوْلِهِمْ} القول المُشار إليه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ}، هذا القول الذي يُشار إليه، مثل قولهم هذا. لا يُمكن أن يقوله أممٌ متقدمة عليهم، هل يُقال إن قوم صالح قالوا: ليست اليهود على شيء، والنصارى ليست على شيء، أو قوم هود؟ ما يمكن أن يُقال، هذا القول فيه ما فيه.

طالب: ...

نعم، لكن ما المقصود ب{مِثْلَ قَوْلِهِمْ}؟ يعني: في وقتهم.

طالب: ...

هذا يقول: أممٌ كانت قبل اليهود والنصارى، ممكن؟ لا، غير ممكن.

طالب: ...

نعم، منصوص عليه في الآية، أممٌ كانت قبل اليهود والنصارى تقول: ليست النصارى على شيء، وتقول: ليست اليهود على شيء؟ ما يمكن. ولكن القول: أممٌ كانت قبل اليهود، ونحن نناقش هذا القول. "أُمَمٌ كَانَتْ قَبْلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَقَبْلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ"، إلا أن تكون هذه الأمم قالت لأمةٍ معاصرةٍ لها، أمة تقول: ليست هذه الأمة على شيء، وطائفة تقول مثلهم. يعني: القول وُجِد، لكن لا بذكر اليهود والنصارى، وإنما بأممٍ متعاصرة قبل ذلك، كل أمة قالت لمعاصرتها: ليست على شيء، ممكن.

طالب: ...

لكن قبل اليهود والنصارى قالوا: ليست اليهود على شيء؟ ما يمكن.

"وَقَالَ السُّدِّيُّ: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} فَهُمُ: الْعَرَبُ، قَالُوا: لَيْسَ مُحَمَّدٌ عَلَى شَيْءٍ.

وَاخْتَارَ أَبُو جَعْفَرِ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهَا عَامَّةٌ تَصْلُحُ لِلْجَمِيعِ"

يعني {مِثْلَ قَوْلِهِمْ}: شِبه قولهم، ولو لم يكن بلفظه.

"وَلَيْسَ ثمَّ دَلِيلٌ قَاطِعٌ يُعَيِّنُ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، فَالْحَمْلُ عَلَى الْجَمِيعِ أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [سورة البقرة:113]، أَيْ: أَنَّهُ تَعَالَى يَجْمَعُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْمَعَادِ، وَيَفْصِلُ بَيْنَهُمْ بِقَضَائِهِ الْعَدْلِ الذِي لَا يَجُورُ فِيهِ وَلَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. وَهَذه الآية كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سورة الْحَجِّ: 17]، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سورة سَبَأٍ:26] .

قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة البقرة:114].

اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ مِنَ الَّذِينَ مَنَعُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ وسَعَوا فِي خَرَابِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}"

يعني خُلاصة الأقوال: إن القول الأول: الذين منعوا مساجد الله هم النصارى، خرَّبوا بيت المقدس ومنعوا من الصلاة فيه.

والقول الثاني: إنهم المشركون، صدوا النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عن البيت زمن الحديبية. والآية أعمُّ من ذلك، كل من منع مساجد الله أن يُذكر فيها اسمه يدخل في الآية، فيكون من أظلم الناس، أي: لا أحد أظلم منه.

"عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}، قَالَ: هُمُ النَّصَارَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ النُّصَّارَى، كَانُوا يَطْرَحُونَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ الْأَذَى، وَيَمْنَعُونَ النَّاسَ أَنْ يُصَلُّوا فِيهِ.

وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} قَالَ: هُوَ بُخْتَنَصَّر وَأَصْحَابُهُ، خَرَّب بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَأَعَانَهُ عَلَى ذَلِكَ النَّصَارَى.

وَقَالَ سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: قَالَ: أُولَئِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ النَّصَارَى، حَمَلَهُمْ بُغْضُ الْيَهُودِ عَلَى أَنْ أَعَانُوا بُخْتَنَصَّرَ الْبَابِلِيَّ الْمَجُوسِيَّ عَلَى تَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.

وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانُوا ظَاهَرُوا بُخْتَنَصَّرَ عَلَى خَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى خَرَّبَهُ، وَأَمَرَ بِهِ أَنْ تُطْرَحَ فِيهِ الْجِيَفُ، وَإِنَّمَا أَعَانَهُ الرُّومُ عَلَى خَرَابِهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتَلُوا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا. وَرُوِيَ نَحْوَهُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابن وهب قال: قال ابن زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ حِينَ حَالُوا بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَبَيْنَ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ حَتَّى نَحَرَ هَدْيَهُ بِذِي طُوَى وَهَادَنَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: «مَا كَانَ أَحَدٌ يُصَد عَنْ هَذَا الْبَيْتِ، وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى قَاتِلَ أَبِيهِ وَأَخِيهِ فَلَا يَصُدُّهُ». فَقَالُوا: لَا يَدْخُلُ عَلَيْنَا مَنْ قَتَلَ آبَاءَنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَفِينَا بَاقٍ.

وَفِي قَوْلِهِ: {وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} قَالَ: إِذْ قَطَعُوا مَنْ يَعْمُرُها بِذِكْرِهِ وَيَأْتِيهَا لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذُكَرَ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ"

ثمَّ ذكر عن سعيد، ما فيه (ثُمَّ)؟

طالب:...

في وقتهم، في وقت صحة أديانهم قبل نسخها.

طالب: ... {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ} [سورة الحج:40].

المساجد عُطِفَت على ما ذكرت، فهي غيرها.

"عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ قُرَيشًا مَنَعُوا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الصَّلَاةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}

ثُمَّ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ قُرَيْشًا لَمْ تَسْعَ فِي خَرَابِ الْكَعْبَةِ. وَأَمَّا الرُّومُ فَسَعَوْا فِي تَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ".

الخراب أعم من أن يكون حسيًّا، فمنع المساجد من أداء وظيفتها تخريبٌ لها، كما أن العمارة أعم من أن تكون حسية. فالعمارة بالطين واللَبِن والأدوات، هذه عمارة وهي حسية. وأهم منها العمارة المعنوية، بالعبادة وإتاحة ما بُنِيَت من أجله، إنما بُنيت لذكر الله وإقام الصلاة، إلى غير ذلك. فالعمارة كما تكون حسية، تكون أيضًا معنوية. والتخريب كما يكون حسيًّا، يكون معنويًّا.

"قُلْتُ: الذِي يَظْهَرُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- الْقَوْلُ الثَّانِي، كَمَا قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِأَنَّ النَّصَارَى إِذَا مَنَعَتِ الْيَهُودَ الصَّلَاةَ فِي الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، كَانَ دِينهُمْ أَقْوَم مِنْ دِينِ الْيَهُودِ، وَكَانُوا أَقْرَبَ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ ذِكْرُ اللَّهِ مِنَ الْيَهُودِ مَقْبُولًا إِذْ ذَاكَ؛ لِأَنَّهُمْ لُعِنُوا مِنْ قَبْلُ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَجَّهَ الذَّمَّ فِي حَقِّ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، شَرَعَ فِي ذَمِّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَخْرَجُوا الرَّسُولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابَهِ مِنْ مَكَّةَ، وَمَنَعُوهُمْ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَمَّا اعْتِمَادُهُ عَلَى أَنَّ قُرَيْشًا لَمْ تَسْعَ فِي خَرَابِ الْكَعْبَةِ، فَأَيُّ خَرَابٍ أَعْظَمُ مِمَّا فَعَلُوا؟

أَخْرَجُوا عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابَهُ، وَاسْتَحْوَذُوا عَلَيْهَا بِأَصْنَامِهِمْ وَأَنْدَادِهِمْ وَشِرْكِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [سورة الْأَنْفَالِ:34]، وَقَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [سورة التَّوْبَةِ:17-18]، وَقَالَ تَعَالَى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فتَصُيِبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [سورة الْفَتْحِ: 25]، فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ} [سورة التَّوْبَةِ: 18]، فَإِذَا كَانَ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ مَطْرُودًا مِنْهَا مَصْدُودًا عَنْهَا، فَأَيُّ خَرَابٍ لَهَا أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ؟ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ عِمَارَتِهَا زَخْرَفَتَهَا وَإِقَامَةَ صُورَتِهَا فَقَطْ، إِنَّمَا عِمَارَتُهَا بِذِكْرِ اللَّهِ فِيهَا وَإِقَامَةِ شَرْعِهِ فيها، ورفعها من الدنس والشرك".

كما قلنا سابقًا: إن الأمر أعمُّ من ذلك، أعم من أن يكون المقصود بيت المقدس أو المسجد الحرام، كل من منع بيتًا من بيوت الله أن يُذكر فيها اسمه، يدخل في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ}، يعني: لا أحد أظلم منه.

طالب:...

وقد يتيحون لهم الصلاة على وجهٍ لا تنفعهم هذه الصلاة، فيُدخلون فيها القبور ويتوجهون إليها، ويحثون الناس على ذلك، ويجمعونهم في هذا المسجد، يتيحون، ما منعوا الناس. لكن المنع من جهةٍ أخرى، كما أنه قد يمنعون من إقامة صورتها، يمنعون من إقامتها على الوجه المقبول شرعًا.

"وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ} هَذَا خَبَرٌ مَعْنَاهُ الطَّلَبُ، أَيْ: لَا تُمَكِّنوا هَؤُلَاءِ -إِذَا قَدَرتم عَلَيْهِمْ- مِنْ دُخُولِهَا إِلَّا تَحْتَ الْهُدْنَةِ وَالْجِزْيَةِ. وَلِهَذَا لَمَّا فَتَحَ رسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَكَّةَ أَمَرَ مِنَ الْعَامِ الْقَابِلِ فِي سَنَةِ تِسْعٍ أَنْ يُنَادَى بِرِحَابِ مِنًى: «أَلَّا لَا يَحُجَّن بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُريان، وَمَنْ كَانَ لَهُ أَجْلٌ فَأَجَلُهُ إِلَى مُدَّتِهِ». وَهَذَا كَانَ تَصْدِيقًا وَعَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} الْآيَةَ [سورة التَّوْبَةِ: 28]، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ إِلَّا خَائِفِينَ عَلَى حَالِ التَّهَيُّبِ، وَارْتِعَادِ الْفَرَائِصِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَبْطِشُوا بِهِمْ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَسْتَوْلُوا عَلَيْهَا وَيَمْنَعُوا الْمُؤْمِنِينَ مِنْهَا. وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ الْحَقُّ وَالْوَاجِبُ إِلَّا ذَلِكَ، لَوْلَا ظُلْمُ الْكَفَرَةِ وَغَيْرِهِمْ.

وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا بِشَارَةٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ سيُظْهرهم عَلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَعَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، وَأَنَّهُ يُذِلُّ الْمُشْرِكِينَ لَهُمْ حَتَّى لَا يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا خَائِفًا، يَخَافُ أَنْ يُؤْخَذَ فَيُعَاقَبَ أَوْ يُقْتَلَ إِنْ لَمْ يُسْلِمْ. وَقَدْ أَنْجَزَ اللَّهُ هَذَا الْوَعْدَ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَنْعِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ لَا يَبْقَى بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ، وَأَنْ تُجْلَى الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَمَا ذَاكَ إِلَّا لتَشْرِيفِ أَكْنَافِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَتَطْهِيرُ الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ التِي بَعَثَ اللَّهُ فِيهَا رَسُولَهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً بَشِيرًا وَنَذِيرًا- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ-. وَهَذَا هُوَ الْخِزْيُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ. فَكَمَا صَدُّوا الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، صُدوا عَنْهُ، وَكَمَا أَجْلَوْهُمْ مِنْ مَكَّةَ أُجْلُوا عنْهَا".

النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ربط ثمامة وهو مُشرك في المسجد، فدخول ثُمامة في المسجد داخل في الاستثناء، {إِلَّا خَائِفِينَ}، ولم يدخل بقوته وإصراره، وإنما أدخِل ليُربَط ويُحْبَس، فليس من هذا النوع الذي هو تمكين المشرك من دخول بيوت الله، وإنما هو من أجل أن يُحْبَس في بيت الله.

"{وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} عَلَى مَا انْتَهَكُوا مِنْ حُرْمَةِ الْبَيْتِ، وَامْتَهَنُوهُ مِنْ نَصْبِ الْأَصْنَامِ حَوْلَهُ، وَدُّعَاءِ غَيْرِ اللَّهِ عِنْدَهُ، وَالطَّوَافِ بِهِ عُرْيًا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفَاعِيلِهِمُ التِي يَكْرَهُهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ.

وَأَمَّا مَنْ فَسَّرهُ بِبَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: إِنَّ النَّصَارَى لَمَّا ظَهَرُوا عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَرَّبُوهُ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْزَلَ عَلَيْهِ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ} الْآيَةَ، فَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ نَصْرَانِيٌّ يَدْخُلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ إِلَّا خَائِفًا.

وَقَالَ السُّدِّيُّ: فَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ رُومِيٌّ يَدْخُلُهُ الْيَوْمَ إِلَّا وَهُوَ خَائِفٌ أَنْ تُضْرَب عُنُقُه، أَوْ قَدْ أُخِيفَ بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ فَهُوَ يؤديها.

وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يَدْخُلُونَ الْمَسَاجِدَ إِلَّا مُسَارَقَةً.

قُلْتُ: وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا في معنى عموم الآية، فإن النصارى لما ظَلَمُوا بَيْتَ الْمَقْدِسِ، بِامْتِهَانِ الصَّخْرَةِ التِي كَانَتْ تُصَلِّي إِلَيْهَا الْيَهُودُ، عُوقِبُوا شَرْعًا وقَدَرا بِالذِّلَّةِ فِيهِ، إِلَّا فِي أَحْيَانٍ مِنَ الدَّهْرِ امْتُحِنَ بِهِمْ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَكَذَلِكَ اليهودُ لَمَّا عَصَوا اللَّهَ فِيهِ أَيْضًا أَعْظَمَ مِنْ عِصْيَانِ النَّصَارَى كَانَتْ عُقُوبَتُهُمْ أَعْظَمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفَسَّرَ هَؤُلَاءِ الْخِزْيَ فِي الدُّنْيَا، بِخُرُوجِ الْمُهْدِيِّ عِنْدَ السُّدِّيِّ، وَعِكْرِمَةَ، وَوَائِلِ بْنِ دَاوُدَ. وَفَسَّرَهُ قَتَادَةُ بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ.

وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْخِزْيَ فِي الدُّنْيَا أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ مَيْسَرَةَ بْنِ حَلبس، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، عَنْ بُسْر بْنِ أَرْطَاةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْعُو: «اللَّهُمَّ أَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، وَأَجِرْنَا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ»، وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَلَيْسَ لِصَحَابِيِّهِ وَهُوَ بُسْرُ بْنُ أَرْطَاةَ -وَيُقَالُ: ابْنُ أَبِي أَرْطَاةَ- حَدِيثٌ سِوَاهُ، وَسِوَى حَدِيثِ: «لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي الْغَزْوِ»".

اللهَمَّ صَلِّ وسَلِّم على نبينا محمد.