التعليق على تفسير القرطبي - سورة الكهف (02)

نعم.

اقرأ.

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

 كلام بعض العلماء على مسألة حفظ عشر آيات من سورة الكهف ومناسبتها:

 قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا همام حدثنا قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة من حديث أبي الدرداء يرويه عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال»، قال أبو داود: وكذا قال هشام الدستوائي عن قتادة إلا أنه قال: من حفظ من خواتيم سورة الكهف، وقال: شعبة عن قتادة: من آخر سورة الكهف.

قال صاحب عون المعبود: عن معدان بن أبي طلحة عن حديث أبي الدرداء: وفي صحيح مسلم عن معدان بن أبي طلحة اليعمري عن أبي الدرداء أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم-، وهكذا في سنن الترمذي وعصم: بصيغة المجهول، أي وقي وحفظ، من فتنة الدجال: أي من آفاته.

قال أبو داود: وكذا قال هشام الدستوائي عن قتادة: عن سعد بن أبي الجعد الغطفاني عن معدان بن أبي طلحة اليعمري عن أبي الدرداء كما رواه هشام عن قتادة بإسناده مثله، إلا أنه أي هشام الدستوائي قال: من حفظ من خواتيم سورة الكهف إلخ: فهشام الدستوائي وهمام كلاهما اتفقا في إسناد هذا الحديث عن قتادة إلى أبي الدرداء، لكن اختلفا في متن الحديث، فقال همامٌ في روايته: من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف، وقال هشام: من حفظ من خواتيم سورة الكهف، وتابع هشامٌ شعبة فقال عن قتادة: من آخر سورة الكهف. هذا معنى كلام المؤلف الإمام، وهو مخالفٌ لما في صحيح مسلم، فإن مسلمًا أخرجه في فضائل القرآن من كتاب الصلاة بقوله: حدثنا محمد بن المثنى قال: أخبرنا معاذ بن هشام قال: حدثني أبي عن قتادة عن سعد بن أبي الجعد الغطفاني عن معدان بن أبي طلحة اليعمري عن أبي الدرداء أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال».

وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا: أخبرنا محمد بن جعفر قال: أخبرنا شعبة. وحدثني زهير بن حرب قال: أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي قال: أخبرنا همامٌ، جميعًا عن قتادة بهذا الإسناد، قال شعبة: من آخر الكهف، وقال همام: من أول الكهف، كما قال هشام. فرواية مسلم هذه تنادي أن همامًا وهشامًا كليهما متفقان في الإسناد والمتن، وقالا: عشر آيات من أول الكهف، وأما شعبة فقال: من آخر الكهف.

وأما في رواية الترمذي في فضائل القرآن فقال محمد بن جعفر: قال: أخبرنا شعبة عن قتادة بإسناده: من قرأ ثلاث آيات من أول الكهف. وفي عمل اليوم والليلة عن عمرو بن علي عن غندر عن شعبة بإسناده وقال: من قرأ عشر آيات من الكهف، وقال في عمل اليوم والليلة: العشر الأواخر.

وعن أحمد بن سليمان عن عفان عن همام عن قتادة به، مثل الأول: عشر آيات من أول سورة الكهف. انتهى.

قال النووي: قيل: سبب ذلك ما في أولها من العجائب والآيات، فمن تدبرها لم يفتتن بالدجال، وكذا في آخرها أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا إلخ.

وقال القرطبي: اختلف المتأولون في سبب ذلك، فقيل: لما في قصة أصحاب الكهف من العجائب والآيات، فمن وقف عليها لم يستغرب أمر الدجال، ولم يهله ذلك، فلم يفتتن به، وقيل: لقوله تعالى: {لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ}[الكهف:2] تمسكًا بتخصيص البأس بالشدة واللدنية، وهو مناسبٌ لما يكون من الدجال من دعوى الإلهية واستيلائه وعظم فتنته، ولذلك عظم النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره، وحذر عنه، وتعوَّذ من فتنته، فيكون معنى الحديث: أن من قرأ هذه الآيات وتدبرها ووقف على معناها حذره فأمن منه. وقيل: ذلك من خصائص هذه السورة كلها، فقد روي: من حفظ سورة الكهف ثم أدركه الدجال لم يُسلَّط عليه، وعلى هذا يجتمع رواية من روى أول سورة الكهف مع من روى من آخرها، ويكون ذكر العشر على جهة الاستدراج في حفظها كلها. انتهى كلام السيوطي.

قلت: وعلى هذا يجتمع أيضًا رواية عشر آياتٍ مع من روى ثلاث آياتٍ كما أخرجه الترمذي.

قال المنذري: وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي، فلفظ مسلم: من حفظ عشر آياتٍ من أول سورة الكهف عصم من الدجال. وفي لفظٍ: "من آخر الكهف"، وفي لفظٍ "من أول الكهف".

تنبيهان: الأول: وقع في رواية الترمذي هذه (من قرأ ثلاث آيات)، ووقع في رواية مسلم "من حفظ عشر آيات"، فقيل: وجه الجمع بين الثلاث وبين العشر أن حديث العشر متأخر، ومن عمل بالعشر فقد عمل بالثلاث، وقيل: حديث الثلاث متأخر ومن عصم بثلاثٍ فلا حاجة إلى العشر، وهذا أقرب إلى أحكام النسخ .

يكون أخف، النسخ إلى أخف، يقول: هو أقرب إلى أحكام النسخ، مع أنه جاء النسخ إلى الأخف، وجاء النسخ إلى الأثقل.

 قال ميرك: بمجرد الاحتمال لا يحكم بالنسخ. قال القاري: النسخ لا يدخل في الأخبار وقيل: حديث العشر في الحفظ، وحديث الثلاث في القراءة.

لكنه وإن كان خبرًا إلا إنه متضمن لحكم شرعي وهو الترغيب في حفظ هذه الآيات وفهمها والعمل بمقتضاها.

 فمن حفظ العشر وقرأ الثلاث كفي وعصم من فتنة الدجال. انتهى.

التنبيه الثاني: قد اختلف أصحاب قتادة في رواية هذا الحديث، ففي رواية شعبة عند الترمذي عن قتادة عن سالم عن معدان عن أبي الدرداء: من أول الكهف، وفي روايته عند مسلم وأبي داود عن قتادة بهذا الإسناد: من آخر الكهف، وفي رواية هشام عند مسلم عن قتادة بهذا الإسناد: من أول سورة الكهف، وفي روايته عند أبي داود عن قتادة بهذا الإسناد: "من خواتيم سورة الكهف"، وفي رواية همام عند مسلم وأبي داود عن قتادة بهذا الإسناد: "من أول سورة الكهف". وقد تقدم وجه الجمع في كلام السيوطي المذكور.

رواية أول عشر آيات، ورواية فواتح، ورواية أواخر عشر آيات صححه الألباني، وأما رواية ثلاث آيات فحكم عليها الألباني بالشذوذ في ضعيف الترغيب والترهيب.

من لطائف ما ذكره بعض العلماء.

لأنها مخالفة لرواية الأكثر والأحفظ، الأكثر على العشر، وإن كان الحفاظ قد اختلفوا في هذه العشرة من أولها أو من آخرها، وكونها من أولها مخرج في الصحيح، صحيح مسلم. وهو أرجح من هذه الحيثية، ورواية من روى من آخرها أحفظ.

 فعلى كل حال لكل منهما وجه من الترجيح، والأولى حفظ العشر الأولى والعشر الأخيرة، هذا بالنسبة لمن لا يستطع حفظ الصورة كلها، أما من استطاع أن يحفظ السورة كلها، وقرأها، وتدبرها فهو أولى بالحفظ من الدجال، والله المستعان.

من لطائف ما ذكره بعض العلماء أن سورة الكهف اشتملت على ذكر بعض أنواع الفتن، فذكرت فتنة الدين كما في قصة الكهف، والفتنة في الجلساء واصبر نفسك، والفتنة في المال في قصة صاحب الجنتين، والفتنة في العلم في قصة موسى مع الخضر، والفتنة في السلطان في قصة ذي القرنين، والفتنة في القوة والكثرة في ذكر يأجوج ومأجوج.

وذكرت السورة المخرج من كل واحدة من هذه الفتن، وكأنها كهفٌ لمن اعتصم بها من الفتن، وقد قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: «من حفظ عشر آياتٍ من أول سورة الكهف عُصم من فتنة الدجال»، انتهى.

كلامٌ طيب، جزاك الله خيرًا وبارك فيك.

من كتبها؟

طالب: ......

نعم؟

طالب: ......

جاهز؟

طالب: نعم.

نعم.

قال المؤلف-رحمه الله تعالى-:

"قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا}[الكهف:9]. مذهب سيبويه أن "أم" إذا جاءت دون أن يتقدمها ألف استفهام أنها بمعنى بل وألف الاستفهام، وهي المنقطعة. وقيل: "أم" عطف على معنى الاستفهام في لعلك، أو بمعنى ألف الاستفهام على الإنكار. قال الطبري: وهو تقريرٍ للنبي-صلى الله عليه وسلم- على حسابه".

أم يعطف بها بعد همزة التسوية، أو همزة الاستفهام، فإذا وجدت الهمزة وإلا قُدرت، أحسبت كذا، أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم، هذا المعروف عند أهل العلم. ولا يُعطف بها بعد غير الهمزة، من حروف الاستفهام "كـهل" مثلًا، ولا يقال: هل يجوز هذا أم لا؟ هل يجوز كذا أم لا؟ لأنه لا يجوز مثل هذا التعبير، إنما قيل: أيجوز هذه أم لا؟ هذا الأصل. جاء في بعض روايات حديث جابر في الصحيحين: هل تزوجت بكرًا أم ثيبة؟ فاضطر الشراح أن يجعلوا هل هنا بمعنى الهمزة؛ لتكون القاعدة مضطردة.

"قال الطبري: وهو تقريرٌ للنبي-صلى الله عليه وسلم- على حسابه أن أصحاب الكهف كانوا عجبا، بمعنى إنكار ذلك عليه; أي لا يعظم ذلك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة، فإن سائر آيات الله أعظم من قصتهم وأشيع، هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن إسحاق. والخطاب للنبي-صلى الله عليه وسلم-; وذلك أن المشركين سألوه عن فتيةٍ فقدوا، وعن ذي القرنين وعن الروح، وأبطأ الوحي على ما تقدم".

يعني وإن كان في قصتهم عجب، فيها أعاجيب، لكن غيرها من القصص فيه ما هو أعجب، في غيرها من القصص ما هو أعجب منها، وإن كان فيها أعاجيب.

 "فلما نزل قال الله-تعالى- لنبيه-عليه السلام-: أحسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبًا، أي ليسوا بعجبٍ من آياتنا، بل في آياتنا ما هو أعجب من خبرهم. قال الكلبي: خلق السماوات والأرض أعجب من خبرهم. وقال الضحاك: ما اطلعت عليه من الغيب أعجب. وقال الجنيد: شأنك في الإسراء أعجب. وقال الماوردي: معنى الكلام النفي، أي ما حسبت لولا إخبارنا. وقال أبو سهلٍ: استفهام تقرير، أي أحسبت ذلك فإنهم عجب. والكهف: النقب المتسع في الجبل; وما لم يتسع فهو غار. وحكى النقاش عن أنس بن مالك-رضي الله عنه- أنه قال: الكهف الجبل، وهذا غير شهيرٍ في اللغة.

واختلف الناس في الرقيم; فقال ابن عباس: كل شيءٍ في القرآن أعلمه إلا أربعة: غسلين، وحنان، والأواه، والرقيم. وسئل مرةً عن الرقيم فقال: زعم كعبٌ أنها قرية خرجوا منها. وقال مجاهد: الرقيم وادٍ. وقال السدي: الرقيم الصخرة التي كانت على الكهف. وقال ابن زيد: الرقيم كتابٌ غمَّ الله علينا أمره، ولم يشرح لنا قصته".

رقيم فعيل بمعنى مفعول، فهو مرقوم يعني مكتوب.

"وقالت فرقةٌ: الرقيم كتابٌ في لوح من نحاس. وقال ابن عباس: في لوحٍ من رصاص كتب فيه القوم الكفار الذين فرَّ الفتية منهم قصتهم وجعلوها تاريخًا لهم، ذكروا وقت فقدهم، وكم كانوا، وبين من كانوا. وكذا قال الفراء، قال: الرقيم لوحٌ من رصاص، كُتب فيه أسماؤهم وأنسابهم ودينهم وممن هربوا. وقال ابن عطية: ويظهر من هذه الروايات أنهم كانوا قومًا مؤرخين للحوادث، وذلك من نبل المملكة، وهو أمرٌ مفيد".

لا شك أن كتابة الحوادث والتواريخ من أجل الاعتبار والاتعاظ، لا شك أن مثل هذا يدل على نُبل الكاتب، وإذا كانت الدولة تعتني بتواريخ الأمم السابقة، وتتعظ، وتعتبر بما حصل لهم، لا شك أن هذا دليل على نبلها وصحة سياستها.

 

"وهذه الأقوال مأخوذةٌ من الرقم; ومنه كتاب مرقوم. ومنه الأرقم لتخطيطه. ومنه رقمه الوادي، أي مكان جري الماء وانعطافه. وما روي عن ابن عباس ليس بمتناقض; لأن القول الأول إنما سمعه من كعب. والقول الثاني يجوز أن يكون عرف الرقيم بعده. وروى عنه سعيد بن جبير قال: ذكر ابن عباس أصحاب الكهف فقال: إن الفتية فُقِدوا فطلبهم أهلوهم فلم يجدوهم فرفع ذلك إلى الملك فقال: ليكونن لهم نبأ، وأحضر لوحًا من رصاص، فكتب فيه أسماءهم، وجعله في خزانته، فذلك اللوح هو الرقيم. وقيل: إن مؤمنين كانا في بيت الملك فكتبا شأن الفتية وأسماءهم وأنسابهم في لوح من رصاص، ثم جعلاه في تابوتٍ من نحاس، وجعلاه في البنيان. فالله أعلم. وعن ابن عباس أيضًا: الرقيم كتابٌ مرقوم".

جعلاه في الجدار يعني بنوا عليه، بنوا عليه جدارًا، وجعلوه في جوف بناية، كما يفعل بالكنوز؛ لأنه كنز.

"الرقيم كتابٌ مرقوم كان عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين عيسى-عليه السلام-. وقال النقاش عن قتادة: الرقيم دراهمهم. وقال أنس بن مالك والشعبي: الرقيم كلبهم. وقال عكرمة: الرقيم الدواة. وقيل: الرقيم اللوح من الذهب تحت الجدار الذي أقامه الخضر. وقيل: الرقيم أصحاب الغار الذي انطبق عليهم، فذكر كل واحدٍ منهم أصلح عمله".

أصحاب الغار معروفة قصتهم الثلاثة الذين توسلوا بأعمالهم الصالحة، فأصحاب الكهف الذين ذكروا في هذه السورة، وأصحاب الرقيم الثلاثة الذين أووا إلى الكهف فانطبق عليهم، لكن هذا بعيد، لا شك أن الرقيم أقرب ما يكون إلى أنه اسم مفعول، يعني رقيم مكتوب وليكن كتاب أو لوح كتب فيه، إما أن يكونوا كتبوا ما أثروه عن الأنبياء؛ ليعملوا به، أو يكون كتابٌ مرقومٌ كُتبت فيه قصتهم وما حصل لهم.

"قلت: وفي هذا خبرٌ معروف أخرجه الصحيحان، وإليه نحا البخاري. وقال قومٌ: أخبر الله عن أصحاب الكهف، ولم يخبر عن أصحاب الرقيم بشيء. وقال الضحاك: الرقيم بلدة بالروم فيها غارٌ فيه أحد وعشرون نفسًا كأنهم نيامٌ على هيئة أصحاب الكهف، فعلى هذا هم فتيةً آخرون جرى لهم ما جرى لأصحاب الكهف. والله أعلم.

وقيل: الرقيم وادٍ دون فلسطين فيه الكهف، مأخوذ من رقمة الوادي وهي موضع الماء، يقال: عليك بالرقمة ودع الصفة".

الضفة.

 "ودع الضفة، ذكره الغزنوي".

يعني عليك بموضع الماء، ودع الضفة التي هي الحافة.

 "قال ابن عطية: وبالشام على ما سمعت به من ناسٍ كثير كهف فيه موتى، يزعم مجاوروه أنهم أصحاب الكهف، وعليهم مسجدٌ وبناء يسمى الرقيم، ومعهم كلبٌ رمة. وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قريةٍ تسمى لوشة كهف فيه موتى ومعهم كلبٌ رمةٌ، وأكثرهم قد تجرد لحمه، وبعضهم متماسك، وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم أثارةٌ".

وعلى كل حال لا يبعد أن يزعم أهل كل قطر، وأهل كل إقليم أن هذا الكهف عندهم، وأن هؤلاء الصالحين من بلادهم، وقد أُشربت القلوب حب مثل هذه الأمور، وتسرع إلى مثل هذه الأمور ويدعون؛ لأن هؤلاء قومٌ صالحون، يتشرف الناس بالانتساب إليهم، فلا يمنع أن يدّعى هذا الكهف بأنه في الأندلس أو في الشام أو في المشرق أو في المغرب، لا يمنع هذا، والدعاوى إذا لم تقم عليها بينات فلا شك أنه لا نصيب لها، ومثل هذه الأمور إثباتًا ونفيًا دونها خرق القتاد، لأنها إنما تثبت بالتوارث، والتوارث قد يصدق المخبر وقد يكذب، فهي أخبار.

"ويزعم ناسٌ أنهم أصحاب الكهف، دخلت إليهم ورأيتهم سنة أربع وخمسمائة وهم بهذه الحالة، وعليهم مسجد، وقريبٌ منهم بناء رومي يسمى الرقيم".

هذه الأمور كثيرٌ منها يثبته بعض الناس بالرؤى بعد قرونٍ طويلة وعصور يأتي من يقول: إن هذا الموضع هو كذا؛ لأني رأيت كذا، ولا شك أن هذا من تلبيس الشيطان لتعلق القلوب بهذه البقاع، فيحصل ما يحصل من الشرك والبدع حولها، وكم كم بقعة قُدِّست وهي في الحقيقة لا قيمة لها، تقدس لأن فلانًا رأى رؤية، أو لأن فلانًا قال: إن هذه البقعة إذا وصلتها حصل لي من الروحانية كما لم يحصل لي في غيرها، كما قيل في كثيرٍ من البقاع، شخص كتب في ترجمة الحسين بن علي-رضي الله عنهما- يقول: لا أشك أن المدفون في مصر هو الحسين، لا يشك أن المدفون في مصر هو الحسين، المسجد مسجد الحسين، والقبر قبر الحسين، واستدل على ذلك مما يجده إذا دخل المسجد من روحانية وارتياح بال، هل يمكن أن يُعتمَد على مثل هذا؟ لا يمكن أن يستند على مثل هذا أبدًا؟

 على كل حال لو قُدِّر أنه هناك فحكم المسجد الذي فيه قبر عند أهل العلم معروف، والحكم للسابق، إن كان القبر بعد بناء المسجد يُنبش القبر، وإن كان المسجد بعد دفن الميت يُهدم المسجد، أما روحانية هذا فليس بصحيح، هذا من وسائل الشيطان لإذلال الناس ومن تلبيسه عليهم.

طالب:......

نعم.

طالب:......

ماذا؟

طالب:......

لا شك أن هذا مستمسك للمبتدعة، مستمسك، لكن من أقوى ما يرد عليهم أن الأمة في آخر أمرها يسعها ما وسع الأمة في صدر عصرها، قبورٌ أُدخلت في المسجد، في عصر الصحابة، وعصر التابعين أنكر من أنكر، لكن استمر العمل عليه، وتواطأ وجود الأئمة وخيار الأمة، ما طالب أحدٌ منها بعد ذلك بشيءٍ من هذا، نعم هم يتضرعون بهذا، يقولون: نحن عندنا قبور لا نعبدها، وإنما نتبرك بها، وهي موجود في المساجد، ولا أثر لها في الصلاة، كما أنه لا أثر لقبر النبي -عليه الصلاة والسلام- وصاحبيه في الصلاة بالمسجد النبوي، هذه حجتهم، ولا شك أنهم يحتجون بهذا، لكن العصور المتأخرة يسعها ما وسع أول الأمة؛ لأن القبور هذه أدخلت في عهد الوليد بن عبد الملك وبعض الصحابة موجود،في عصر خيار الأمة.

 وعلى كل حال الإدخال خطأ، لا يوافق عليه، ولكنه أدخل وحصل، وخُشي من الفتنة وما يفسد في الإخراج، فتواطأت الأمة على ذلك، مع أنه من أراد أن يتجه قلبه إلى القبر فحكمه سواء كان قريبًا من المسجد أو بعيدًا عن المسجد في أقصى الدنيا ويتجه بقلبه، في صلاته، في دعائه إلى القبر حكمه واحد.

"كأنه قصرٌ مخلقٌ قد بقي بعض جدرانه، وهو في فلاة من الأرض خربة، وبأعلى غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينةٍ قديمةٍ رومية يقال لها: مدينة دقيوس، وجدنا في آثارها غرائب من قبورٍ ونحوها.

قلت: ما ذكر من رؤيته لهم بالأندلس فإنما هم غيرهم؛ لأن الله تعالى يقول في حق أصحاب الكهف: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا}[الكهف:18]. وقد قال ابن عباس لمعاوية لما أراد رؤيتهم: قد منع الله من هو خيرٌ منك عن ذلك، وسيأتي في آخر القصة.

 وقال مجاهدٌ في قوله: {كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا}[الكهف:9] قال: هم عجبٌ. كذا روى ابن جريج عنه، يذهب إلى أنه ليس بإنكارٍ على النبي-صلى الله عليه وسلم- أن يكون عنده أنهم عجب. وروى ابن نجيحٍ عنه قال: يقول: ليس بأعجب آياتنا.

قوله تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:10]، فيه ثلاث مسائل:

الأولى: قوله تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ}[الكهف:10]، روي أنهم قوم من أبناء أشراف مدينة دقيوس الملك الكافر، يقال فيه: دقليوس، ويقال فيه: دقنيوس. وروي أنهم كانوا مطوقين مسورين بالذهب ذوي ذوائب، وهم من الروم، واتبعوا دين عيسى. وقيل: كانوا قبل عيسى، والله أعلم.

وقال ابن عباس: إن ملكًا من الملوك يقال له: دقيانوس ظهر على مدينة من مدائن الروم يقال لها: أفسوس. وقيل: هي طرسوس، وكان بعد زمن عيسى-عليه السلام- فأمر بعبادة الأصنام، فدعا أهلها إلى عبادة الأصنام، وكان بها سبعة أحداثٍ يعبدون الله سرًّا، فرفع خبرهم إلى الملك وخافوه فهربوا ليلاً، ومروا براعٍ معه كلب، فتبعهم، فأووا إلى الكهف، فتبعهم الملك إلى فم الغار، فوجد أثر دخولهم، ولم يجد أثر خروجهم، فدخلوا، فأعمى الله أبصارهم فلم يروا شيئًا، فقال الملك: سدوا عليهم باب الغار حتى يموتوا فيه جوعًا وعطشًا.

وروى مجاهد عن ابن عباس أيضًا أن هؤلاء الفتية كانوا في دين ملكٍ يعبد الأصنام، ويذبح لها، ويكفر بالله، وقد تابعه على ذلك أهل المدينة، فوقع للفتية علمٌ من بعض الحواريين-حسبما ذكر النقاش أو من مؤمني الأمم قبلهم- فآمنوا بالله، ورأوا ببصائرهم قبيح فعل الناس، فأخذوا نفوسهم بالتزام الدين وعبادة الله، فرفع أمرهم إلى الملك وقيل له: إنهم قد فارقوا دينك، واستخفوا آلهتك وكفروا بها، فاستحضرهم الملك إلى مجلسه وأمرهم بإتباع دينه والذبح لآلهته، وتوعَّدهم على فراق ذلك بالقتل، فقالوا له فيما روي: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} إلى قوله: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ}[الكهف:14-16].

 وروي أنهم قالوا نحو هذا الكلام وليس به، فقال لهم الملك: إنكم شبانٌ أغمار لا عقول لكم، وأنا لا أعجل بكم، بل أستأني، فاذهبوا إلى منازلكم، ودبروا رأيكم وارجعوا إلى أمري، وضرب لهم في ذلك أجلاً، ثم إنه سافر خلال الأجل فتشاور الفتية في الهروب بأديانهم، فقال لهم أحدهم: إني أعرف كهفًا في جبل كذا، كان أبي يدخل فيه غنمه، فلنذهب فلنختفِ فيه حتى يفتح الله لنا، فخرجوا- فيما روي- يلعبون بالصولجان والكرة، وهم يدحرجونها إلى نحو طريقهم؛ لئلا يشعر الناس بهم. وروي أنهم كانوا مثقفين، فحضر عيدٌ خرجوا إليه فركبوا في جملة الناس، ثم أخذوا باللعب بالصولجان والكرة حتى خلصوا بذلك.

 وروى وهب بن منبه أن أول أمرهم إنما كان حواريٌ لعيسى ابن مريم جاء إلى مدينة أصحاب الكهف يريد دخولها، فأجَّر نفسه من صاحب حمار وكان يعمل فيه".

صاحب الحمّام.

فرأى صاحب الحمام؟

الحمّام.

"فأجَّر نفسه من صاحب الحمام، وكان يعمل فيه، فرأى صاحب الحمام في أعماله بركة عظيمة، فألقى إليه بكل أمره".

على كل حال هذه كلها متلقاه عن أهل الكتاب، وليس عندنا من خبرهم ما يزيد على ما في القرآن، والقصة في القرآن واضحة، ومكان ومحل العبرة منها ظاهر، ولا نحتاج إلى مثل هذه الأخبار، والمؤلف -رحمه الله- استرسل كغيره من المفسرين في ذكر ما يتعلق بهم مما هو متلقّى من أهل الكتاب، وإن كان -رحمه الله- قد أخذ على نفسه عهدًا أن لا يذكر من خبر أهل الكتاب إلا ما تدعو الحاجة إليه، لكنه خالف هذا الشرط، وذكر بعض الأشياء التي لا داعي لها، ولا حاجة إليها.

كما سيأتي في أسماء أهل الكلب، وفي لون الكلب، وفي اسم الكلب.

"وعرف ذلك الرجل فتيانٌ من المدينة فعرفهم الله تعالى، فآمنوا به، واتبعوه على دينه، واشتهرت خلطتهم به، فأتى يومًا إلى ذلك الحمام ولد الملك بامرأةٍ أراد الخلوة بها، فنهاه ذلك الحواري فانتهى، ثم جاء مرة أخرى فنهاه فشتمه، وأمضى عزمه في دخول الحمام مع البغي، فدخل فماتا فيه جميعًا، فاتهم ذلك الحواري وأصحابه بقتلهما، ففروا جميعًا حتى دخلوا الكهف. وقيل في خروجهم غير هذا.

وأما الكلب فروي أنه كان كلب صيد لهم، وروي أنهم وجدوا في طريقهم راعيًا له كلب فاتبعهم الراعي على رأيهم وذهب الكلب معهم، قاله ابن عباس. واسم الكلب حمران، وقيل: قطمير.

وأما أسماء أهل الكهف فأعجمية، والسند في معرفتها واهٍ. والذي ذكره الطبري هي هذه: مكسلمينا وهو أكبرهم والمتكلم عنهم، ومحسيميلنينا ويمليخا، وهو الذي مضى بالورق إلى المدينة عند بعثهم من رقدتهم، ومرطوس وكشوطوش ودينموس ويطونس وبيرونس. قال مقاتل: وكان الكلب لمكسلمينا، وكان أسنّهم وصاحب غنم.

الثانية: هذه الآية صريحة في الفرار بالدين وهجرة الأهل والبنين والقرابات والأصدقاء والأوطان والأموال خوف الفتنة وما يلقاه الإنسان من المحنة. وقد خرج النبي-صلى الله عليه وسلم- فارًّا بدينه، وكذلك أصحابه، وجلس في الغار حسبما تقدم في سورة "النحل".

وثبت في الحديث الصحيح للبخاري وغيره: «يوشك أن يكون خيرًا عن المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال، يفر بدينه من الفتن»، فإذا خشي الإنسان على دينه يفر؛ لأن الدين هو رأس المال، كل شيءٍ له عوض إلا الدين، فإذا خشي الإنسان على دينه يفر به.

 كثيرًا ما يُسأل في مثل هذه الظروف عن العزلة والخلطة وكُتِب فيها الكثير، ورجح كثيرٌ من أهل العلم في القرن الثامن فما دونه العزلة، يعني من قرون، من ستة قرون وأهل العلم يرجحون العزلة، يقولون: لاستحالة خلو أهل المحافل من المعاصي؛ لأن المحافل ومجامع الناس لا تخلو من المعاصي من ذلك الوقت، والإنسان الذي يرى منكرًا، ولا يستطيع تغييره لا يجوز له أن يذهب إليه، فإذا كانت المحافل بالناس ومجامعهم مشتملة على المنكرات، والإنسان لا يستطيع التغيير، ولا يستطيع أن يؤثر في الناس فمثل هذا يعتزل.

 وعلى كل حال كل إنسانٍ بحسبه، فمن خشي على نفسه، وخشي على دينه أن يتأثر بما عليه الناس، وأثره في الناس ضعيف فمثل هذا تتعيَّن العزلة في حقه، بينما من يؤثِّر في الناس، وتأثُّره بهم ضعيف فهذا يتعين عليه الخلطة. وإذا كانت المسألة سجالًا تأثيره وتأثره على حدٍّ سواء فمثل هذا السلامة لا يعدلها شيء، يُرجح في حقه العزلة، والله المستعان.

"وقد نص الله- تعالى- على ذلك في "براءة" وقد تقدم. وهجروا أوطانهم وتركوا أرضهم وديارهم وأهاليهم وأولادهم وقراباتهم وإخوانهم، رجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين".

لكن ليس الأمر بالسهل على النفوس، ولذا نجد كثيرًا من الناس أُشرِب قلبه حبّ الخلطة، والروحات والجيئات، تجده إذا جلس في بيته ساعة فكأنه مسجون، لا بد أن يذهب إلى فلان وإلى علان، ويغشي المحافل، وليجتمع بالأقوام، فهل هذه الاجتماعات نافعة؟ مجتمعات على خير، على ذكر، على تعلُّم علمٍ، على قراءة قرآن، أو في قيل وقال لا مصلحة فيها؟ فضلًا على أن تكون غيبة ونميمة، واجتماع على شرور وآثام؟ والله المستعان.

"فسكنى الجبال ودخول الغيران، والعزلة عن الخلق والانفراد بالخالق، وجواز الفرار من الظالم هي سنة الأنبياء -صلوات الله عليهم- والأولياء. وقد فضَّل رسول الله-صلى الله عليه وسلم- العزلة، وفضَّلها جماعة من العلماء ولاسيما عند ظهور الفتن وفساد الناس، وقد نص الله تعالى عليها في كتابه فقال: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ}[الكهف:16].

قال العلماء: الاعتزال عن الناس يكون مرةً في الجبال والشعاب، ومرةً في السواحل والرباط، ومرةً في البيوت. وقد جاء في الخبر: إذا كانت الفتنة فأخفِ مكانَك وكفَّ لسانك. ولم يخص موضعًا من موضع. وقد جعلت طائفة من العلماء العزلة اعتزال الشر وأهله بقلبك وعملك، إن كنت بين أظهرهم. وقال ابن المبارك في تفسير العزلة: أن تكون مع القوم فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم، وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت".

لكن إذا خاضوا في غير ذلك اتركهم، يعني يكفي السكوت إذا كان خوضهم في مباح، لكن إذا كان خوضهم في محرم فالمتعين الإنكار عليهم، وهجرهم وتركهم.

"وروى البغوي عن ابن عمر، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «المؤمنُ الذي يخالطُ الناس ويصبرُ على أذاهم أفضلُ من المؤمن الذي لا يخالطُهم ولا يصبرُ على أذاهم». وروي عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «نعم صوامعُ المؤمنين بيوتُهم». من مراسل الحسن وغيره. وقال عقبة بن عامر لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما النجاة يا رسول الله؟ فقال: يا عقبة أمسكْ عليك لسانَك، وليسَعْك بيتُك، وابكِ على خطيئتك». وقال -صلى الله عليه وسلم-: «يأتي على الناس زمانٌ يكون خيرُ مال الرجل المسلم الغنمَ يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن». خرجه البخاري. وذكر علي بن سعد عن الحسن بن واقد قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:«إذا كانت سنة ثمانين ومائة فقد حلت لأمتي العزبة والعزلة والترهب في رءوس الجبال»".

خرجه؟

طالب: ......

ماذا؟

طالب:......

واضح، واضح، نعم.

 "وذكر أيضًا علي بن سعد عن عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن يرفعه إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «يأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فر بدينه من شاهقٍ إلى شاهق، أو حجرٍ إلى حجر، فإذا كان ذلك لم تنل المعيشة إلا بمعصية الله، فإذا كان ذلك حلت العزبة. قالوا: يا رسول الله، كيف تحل العزبة وأنت تأمرنا بالتزويج؟ قال: إذا كان ذلك كان فساد الرجل على يدي أبويه، فإذا لم يكن له أبوان كان هلاكه على يدي زوجته، فإن لم تكن له زوجةٌ كان هلاكه على يدي ولده، فإن لم يكن له ولد كان هلاكه على يدي القرابات والجيران. قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: يعيرونه بضيق المعيشة، ويكلفونه ما لا يطيق، فعند ذلك يورد نفسه الموارد التي يهلك فيها»".

ما يثبت، في الغالب مثل هذه الألفاظ قد لا تثبت، نعم صح في العزلة أحاديث، وصح في الخلطة أحاديث، وكلٌّ من أحاديث الطرفين تُنزَّل منازلها، تُنَزَّل منازلها، لا شك أن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، وينفعهم بما يستطيع، بحيث لا يتضرر هو بنفسه فهذا أفضل من العزلة، هذه الخلطة أفضل من العزلة، لكن إذا خشي الإنسان على دينه فلا شك أن العزلة أفضل في حقه.

"قلت: أحوال الناس في هذا الباب تختلف، فرُبّ رجل تكون له قوة على سكنى الكهوف والغيران في الجبال، وهي أرفع الأحوال؛ لأنها الحالة التي اختارها الله لنبيِّه -صلى الله عليه وسلم- في بداية أمره، ونصّ عليها في كتابه مخبرًا عن الفتية، فقال: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف:16]. ورُبّ رجل تكون العزلة له في بيته أخف عليه وأسهل، وقد اعتزل رجالٌ من أهل بدرٍ فلزموا بيوتهم بعد قتل عثمان -رضي الله عنه- فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم. ورُبّ رجلٍ متوسطٍ بينهما فيكون له من القوة ما يصبر بها على مخالطة الناس وأذاهم، فهو معهم في الظاهر، ومخالف لهم في الباطن. وذكر ابن المبارك: حدثنا وهيب بن الورد قال: جاء رجلٌ إلى وهب بن منبه فقال: إن الناس وقعوا فيما فيه وقعوا، وقد حدَّثت نفسي ألا أخالطهم. فقال: لا تفعل إنه لا بد لك من الناس، ولا بد لهم منك".

نعم الإنسان مدني بالطبع، لا يمكن أن يستقل بنفسه، لا بد من الاستعانة بغيره، والاستعانة بغيره لا بد أن ينفع وينتفع، لا يمكن أن يستقل الإنسان بجميع الوجوه، نعم يمكن أن يتقلَّل ويتخفَّف ويرضى بالشيء اليسير، لكن كونه يستقل استقلالًا تامًّا بنفسه، فهذا شبه مستحيل؛ فالإنسان كما قرر ابن القيم: مدني بالطبع، وقبله من قبله، وكرَّرها ابن خلدون، ونظَّر عليها، وبنى عليها قواعد، المقصود أن الإنسان لا يمكن أن يستقل بكل وجه، وكم من شخص وُجد ميتًا في بيته لما أراد الاستقلال وجد ميتًا في بيته، أراد أن يستقل استقلالًا تامًّا عن الناس، وما يمكن، لا بد أن يستفيد من الآخرين، ويستفيدوا منه، وهذه هي سنة الحياة التي جبلنا الله عليها، لكن التقلّل بقدر الإمكان هذا هو المطلوب وهو الأسلم.

"ولك إليهم حوائج، ولهم إليك حوائج، ولكن كن فيهم أصم سميعًا، أعمى بصيرًا، سكوتًا نطوقًا. وقد قيل: إن كل موضعٍ يبعد عن الناس فهو داخلٌ في معنى الجبال والشعاب; مثل الاعتكاف في المساجد".

الكهوف، والجبال، والشعاب ليست مقصودة لذاتها، ليست مقصودة لذاتها، بل إذا اعتزل الإنسان في كهفٍ من الكهوف يعتقد أن هذا الكهف لذاته أفضل من غيره؛ لأنه كهف فهذا ابتداع، لكن من قصد أن يختفي بهذا الكهف عن أنظار الناس الذين يؤذونه فهذا قصده صحيح، كما اختفى-الرسول-عليه الصلاة والسلام-، لكن إن زعم أن عبادته في الغار أفضل من عبادته في غيره مع عدم الضرر في غيره ابتداع.

"ولزوم السواحل للرباط والذكر، ولزوم البيوت فرارًا عن شرور الناس. وإنما جاءت الأحاديث بذكر الشعاب والجبال وإتباع الغنم -والله أعلم-؛ لأن ذلك هو الأغلب في المواضع التي يعتزل فيها، فكل موضعٌ يبعد عن الناس فهو داخل في معناه، كما ذكرنا، والله الموفق وبه العصمة. وروى عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «يعجب ربك من راعي غنمٍ في رأس شظية الجبل يؤذن بالصلاة»".

المقصود المكان الذي يتحقق فيه الهدف، لكن لو قال شخص: أعتزل الناس وأذهب إلى الشواطئ، كيف تعتزل الناس وتذهب إلى الشواطئ؟ المقصود المكان الذي يتحقق فيه الهدف، لماذا اعتزلت الناس؟ خشيةً من شرهم، ليس المقصود أن تعتزل أناسًا معينين، وتنتقل إلى آخرين هم مثلهم في الشرور أو أشد منهم، لا. نعم مطلوب منك أن تعتزل ما فيه شر، فإذا وُجد من فيه خير يعينك على تحقيق ما خلقت من أجله من عبادة الله - جل وعلا - فهو أفضل من العزلة، أفضل من العزلة. لا شك أن البلدان التي ليس فيها أخيار فهذه البقاء فيها ضرر محض على الإنسان، حتى قرر أهل العلم تحريم البقاء في بلدٍ ليس فيه عالم يفتي الناس ويوجِّههم، ويرشدهم إلى الخير، ويبيِّن لهم ما يلزمهم من أحكام دينهم، المقصود أن العزلة في ذاتها ليست مقصودة، ليست مطلوبة شرعًا.

"ويصلي فيقول الله-عز وجل-: انظروا إلى عبدي يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني، قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة». خرجه النسائي.

الثالثة: قوله تعالى: {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}[الكهف:10]، لما فروا ممن يطلبهم اشتغلوا بالدعاء ولجئوا إلى الله-تعالى- فقالوا:{رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً}[الكهف:10]، أي مغفرةً ورزقًا.

{وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}[الكهف:10]، توفيقًا للرشاد. وقال ابن عباس: مخرجًا من الغار في سلامة. وقيل: صوابًا. ومن هذا المعنى أنه-عليه السلام- كان إذا حزبه أمرٌ فزع إلى الصلاة".

وجاء الأمر بذلك: {واستعينوا بالصبر والصلاة}.

"قوله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا}[الكهف:11]، عبارةٌ عن إلقاء الله-تعالى- النوم عليهم. وهذه من فصيحات القرآن التي أقرت العرب بالقصور عن الإتيان بمثله. قال الزجاج: أي منعناهم عن أن يسمعوا; لأن النائم إذا سمع انتبه. وقال ابن عباسٍ: ضربنا على آذانهم بالنوم، أي سددنا آذانهم عن نفوذ الأصوات إليها. وقيل: المعنى فضربنا على آذانهم أي فاستجبنا دعاءهم، وصرفنا عنهم شر قومهم، وأنمناهم. والمعنى كله متقارب. وقال قطرب: هذا كقول العرب: ضرب الأمير على يد الرعية إذا منعهم الفساد، وضرب السيد على يد عبده المأذون له في التجارة إذا منعه من التصرف. قال الأسود بن يعفر وكان ضريرًا:

ومن الحوادث لا أبا لك أنني          ضربت علي الأرض بالأسداد

وأما تخصيص الآذان بالذكر فلأنها الجارحة التي منها عظم فساد النوم، وقلما ينقطع نوم نائمٍ إلا من جهة أذنه".

نعم؛ لأنه ينتبه بالصوت، إنما يستيقظ النائم بالصوت، الأذن التي هي محل السمع منها ينفذ الصوت الذي به ينتبه النائم ويفسد عليه نومه.

 "ولا يستحكم نومٌ إلا من تعطل السمع. ومن ذكر الأذن في النوم قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ذاك رجلٌ بال الشيطان في أذنه»، خرجه الصحيح. أشار-عليه السلام- إلى رجلٌ طويل النوم، لا يقوم الليل. وعددًا نعتٌ للسنين، أي معدودة، والقصد به العبارة عن التكثير; لأن القليل لا يحتاج إلى عددٍ لأنه قد عرف. والعد المصدر، والعدد اسم المعدود كالنفض والخبط. وقال أبو عبيدة: عددًا نصب على المصدر. ثم قال قومٌ: بين الله تعالى  عدد تلك السنين من بعد فقال: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا}[الكهف:25].

قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا}[الكهف:12]، قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ}[الكهف:12] أي من بعد نومهم. ويقال لمن أحيي أو أقيم من نومه مبعوث; لأنه كان ممنوعًا من الانبعاث والتصرف.

قوله تعالى: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا}[الكهف:12]، لنعلم عبارة عن خروج ذلك الشيء إلى الوجود ومشاهدته".

أما العلم، العلم الإلهي هو شامل لما كان وما يكون، في الماضي والحاضر والمستقبل وما لم يكن لو كان كيف يكون، العلم والإحاطة، إحاطة الله –جل وعلا- وعلمه بالأشياء دقيقها وجليلها، كلياتها وجزئياتها لا يقف دونه شيء، أما قوله: "لنعلم" ليقع ذلك في عالم الشهود، ولذا وُجد الميزان، وجد الميزان من أجل أن يوجد التفاضل بين الناس في عالم الشهود، وإلا فالله -جل وعلا- يعلم، ويسأل الله-جل وعلا- الملائكة عما عمل فلان، وعما عمل هؤلاء وهو بهم أعلم-جل وعلا-.

 "وهذا على نحو كلام العرب، أي لنعلم ذلك موجودًا، وإلا فقد كان الله-تعالى- علم أي الحزبين أحصى الأمد. وقرأ الزهري: "ليُعلم" بالياء. والحزبان الفريقان، والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم الفتية إذ ظنوا لبثهم قليلاً. والحزب الثاني أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم، حين كان عندهم التاريخ لأمر الفتية. وهذا قول الجمهور من المفسرين. وقالت فرقةٌ: هما حزبان من الكافرين، اختلفا في مدة أصحاب الكهف. وقيل: هما حزبان من المؤمنين. وقيل غير ذلك مما لا يرتبط بألفاظ الآية. وأحصى فعلٌ ماضٍ. وأمدًا نصبٌ على المفعول به، قاله أبو علي. وقال الفراء: نصبٌ على التمييز. وقال الزجاج: نصبٌ على الظرف".

فيكون أحصى أفعل تفضيل، أحصى: أفعل، وقول الله – تعالى - هنا فعلٌ ماضٍ أحصى.

وقال: نُصبت على التمييز وهي في الأصل أفعل تفضيل، أشد إحصاءًا.

"أي الحزبين أحصى للبثهم في الأمد، والأمد الغاية. وقال مجاهد: أمدًا معناه عددًا، وهذا تفسير بالمعنى على جهة التقريب. وقال الطبري: أمدًا منصوبٌ بـلبثوا. وقال ابن عطية: وهذا غير متجه، وأما من قال: إنه نصب على التفسير فيلحقه من الاختلال".

التفسير الذي هو التمييز، نصب على التفسير يعني على التمييز.

"فيلحقه من الاختلال أن أفعل لا يكون من فعل رباعي إلا في الشاذ، وأحصى فعل رباعي. وقد يحتج له بأن يقال: إن أفعل في الرباعي قد كثر; كقولك: ما أعطاه للمال، وآتاه للخير. وقال في صفة حوضه - صلى الله عليه وسلم-: «ماؤه أبيض من اللبن». وقال عمر بن الخطاب: فهو لما سواها أضيع.

قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}[الكهف:13]

 قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ}[الكهف:13].

نحن نقص عليك نبأهم بالحق لما اقتضى قوله تعالى لنعلم أي الحزبين أحصى اختلافًا وقع في أمد الفتية، عقب بالخبر عن أنه -عز وجل- يعلم من أمرهم بالحق الذي وقع.

وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ}[الكهف:13] أي شبابٌ وأحداث حكم لهم بالفتوة حين آمنوا بلا واسطة، كذلك قال أهل اللسان: رأس الفتوة الإيمان. وقال الجنيد: الفتوة بذل الندى وكف الأذى وترك الشكوى. وقيل: الفتوة اجتناب المحارم واستعجال المكارم. وقيل غير هذا. وهذا القول حسنٌ جدًّا; لأنه يعم بالمعنى جميع ما قيل في الفتوة.

قوله تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}[الكهف:13]، أي يسرناهم للعمل الصالح، من الانقطاع إلى الله-تعالى-، ومباعدة الناس، والزهد في الدنيا".

والفتوة اصطلاح صوفي، يستعمله الصوفية، ويحيدون به عما جاء في النصوص، يستعملونه في مرحلة من مراحل السير إلى الله –جل وعلا-؛ فعندهم المريد والفتوة والمشيخة، عندهم من هذا الشيء الكثير، وعندهم من المخالفات ما لا يخفى، لكن الفتوة هنا إنهم فتية، يعني أحداث. شباب، شبابٌ أهل طاعة، وأهل خير، هربوا من الشرك وأهله، هربوا بدينهم، فروا بدينهم من الفتنة، لكن هل الفتوة وهي مرحلة من مراحل السن يُمدَح بها أم أنها ظرفٌ للقوة في العمل الصالح، والحزم في البعد عن العمل غير الصالح، هي من هذه الحيثية تُمدح، لكن هذه الفتوة، وهذه القوة، وهذا السن إنما يُمدح بما يوضع فيه، كما أنه يُذم بما يوضع فيه، فهو ظرف، ظرف زمان يوضع فيه الأعمال الصالحة، وقد يوضع فيه الأعمال السيئة.

"وهذه زيادةٌ على الإيمان. وقال السدي: زادهم هدى بكلب الراعي حين طردوه ورجموه مخافة أن ينبح عليهم وينبه بهم، فرفع الكلب يديه إلى السماء كالداعي فأنطقه الله، فقال: يا قومي لم تطردونني، لم ترجمونني، لم تضربونني؟ فو الله لقد عرفت الله قبل أن تعرفوه بأربعين سنة، فزادهم الله بذلك هدى".

الله-جل وعلا- زادهم هدى على ما كانوا عليه قبل فرارهم بدينهم، لما فروا زادهم هدى؛ لأن الفرار من أعظم الأعمال الصالحة، والهدى والإيمان يزيد بكثرة الأعمال الصالحة، وهذا منها، وهو من أدلة الجمهور، جمهور أهل السنة؛ لأن الإيمان يزيد وينقص.

"قوله تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}[الكهف:14].

قوله تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ}[الكهف:14] عبارةٌ عن شدة عزمٍ وقوة صبر، أعطاها الله لهم حتى قالوا بين يدي الكفار: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}[الكهف:14]. ولما كان الفزع وخوَر النفس يشبه بالتناسب الانحلال حسن في شدة النفس وقوة التصميم أن يشبه الربط; ومنه يقال: فلانٌ رابط الجأش، إذا كان لا تفرُق نفسه عند الفزع والحرب وغيرها. ومنه الربط على قلب أم موسى. وقوله تعالى: {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ}[الأنفال:11]، وقد تقدم".

نعم، الله -جل وعلا- ربط على قلوبهم بحسن صنيعهم وثبَّتهم، وعلى هذا ينبغي أن تكون وظيفة أهل العلم، وأهل الإصلاح الربط على قلوب الناس في أوقات الفتن والفزع والهلع، يربطون على قلوب الناس ويثبتونهم ويصبرونهم ويبصرونهم، يعلمونهم بحقيقة دينهم وحقيقة دنياهم. وإنما يهلع الإنسان ويفزع ويخاف إذا آثر الدنيا على الدين، أما إذا كان دينه هو رأس ماله، والدنيا إنما تطلب لإقامة الدين، إنما تطلب الدنيا لإقامة الدين، فإذا عرف أن الدين هو رأس ماله فالدنيا لا أسف عليها، النبي-عليه الصلاة والسلام- هذا شأنه في أمته حتى في حال الحروب يقول لعلي-رضي الله عنه-: «أنفذ على رسلك»، حينئذٍ لا تعجب في الأمر حتى في مثل هذه الظروف، ولذا يصاب كثيرٌ من العوام بالفزع والهلع وسوء الظن بالله -جل وعلا- في ظروف الفتن، لكن وظيفة أهل العلم تثبيت الناس، والربط على قلوبهم.

 أدركتم ما حصل لما دخل العراق إلى الكويت لما فزع الناس وهلعوا وفروا من بلدانهم، وتركوا بيوتهم، وادخروا الأموال والأطعمة، واقتنوا ما كانوا يسخرون من إقتنائه، كل هذا من زيادة الخوف والهلع، لكن لو قام أهل العلم بواجبهم بتثبيت الناس والربط على قلوبهم، وعرفوهم بحقيقة دنياهم، وأن المحافظة على الأصل على رأس المال الذي هو الدين، فإذا مضى الإنسان إلى سبيله كان هذا الخير، ثم إذا فزع وهلع وأصابه الذعر، ولم يغير من واقعه شيئًا، ثم جاء ما يأتيه، هل يرد هذا مما يأتيه من قدر الله شيئًا؟ لا يرد شيئًا مما هو من القدر، المُقدَّر كائن لا محالة.

 نعم الأخذ بالأسباب والاحتياط أمر شرعي، أمرنا باتخاذ الأسباب، لكن الاعتماد على الأسباب هذا هو المشكل، تعرفون ما حصل من التلصيق على النوافذ والمكيفات والشبابيك، وقد يُؤتى الإنسان من شدة حرصه، وقد وجدت أسرة بكاملها ميتة في بيتها، في البيت، لصقوا الملصقات وعلى النوافذ فناموا بليل، دخل عليهم بعد صلاة العصر موتى، مثل هذه الأمور لا تُجدي، نعم هي أسباب، لكن بقدرها، نأخذ منها بقدرها، بقدر ما يحفظ الصحة والحياة؛ من أجل تحقيق الهدف، وليست الحياة هي الهدف أبدًا، إنما الحياة إنما تُطلب من أجل تحقيق الهدف الذي هو عبادة الله -جل وعلا-، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، هذه الحياة وما جعلها الله -جل وعلا- من غريزة في قلوب الناس، من طلبها والمحافظة عليها إنما هو من أجل تحقيق هذا الهدف الشرعي، والله المستعان.

"قوله تعالى : {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا} [الكهف:14] فيه مسألتان:

الأولى: قوله تعالى: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا} [الكهف:14] يحتمل ثلاثة معانٍ: أحدها: أن يكون هذا وصف مقامهم بين يدي الملك الكافر- كما تقدم، وهو مقامٌ يحتاج إلى الربط على القلب حيث خالفوا دينه، ورفضوا في ذلك هيبته.

والمعنى الثاني فيما قيل: إنهم أولاد عظماء تلك المدينة، فخرجوا واجتمعوا وراء تلك المدينة من غير ميعاد، فقال أسنهم: إني أجد في نفسي أن ربي رب السماوات والأرض. فقالوا ونحن كذلك نجد في أنفسنا. فقاموا جميعًا فقالوا: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:14]. أي لئن دعونا إلها غيره فقد قلنا إذًا جورًا ومحالاً.

والمعنى الثالث: أن يعبر بالقيام عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله تعالى ومنابذة الناس، كما تقول: قام فلان إلى أمر كذا، إذا عزم عليه بغاية الجد.

الثانية: قال ابن عطية: تعلَّقت الصوفية في القيام والقول بقوله: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}[الكهف:14].

 قلت: وهذا تعلقٌ غير صحيح، هؤلاء قاموا فذكروا الله على هدايته، وشكروا لما أولاهم من نعمه ونعمته، ثم هاموا على وجوههم منقطعين إلى ربهم خائفين من قومهم، وهذه سنة الله في الرسل والأنبياء والفضلاء والأولياء. أين هذا من ضرب الأرض بالأقدام والرقص بالأكمام وخاصةً في هذه الأزمان عند سماع الأصوات الحسان من المرد والنسوان؟ هيهات بينهما والله ما بين الأرض والسماء. ثم هذا حرامٌ عند جماعة العلماء، على ما يأتي بيانه في سورة لقمان إن شاء الله تعالى".

وفي قوله -جل وعلا-: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان:6] يحلف ابن مسعود وغيره أنه الغناء.

"وقد تقدم في "سبحان" عند قوله: ولا تمش في الأرض مرحًا ما فيه كفاية. وقال الإمام أبو بكر الطرسوسي، وسئل عن مذهب الصوفية فقال: وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري، لما اتخذ لهم عجلًا جسدًا له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون، فهو دين الكفار وعباد العجل، على ما يأتي.

قوله تعالى: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}[الكهف:15].

قوله تعالى: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [الكهف:15] أي قال بعضهم لبعض: هؤلاء قومنا أي أهل عصرنا وبلدنا، عبدوا الأصنام؛ تقليدًا من غير حجة.

{لَوْلا} [الكهف:15] أي هلا.

{يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف:15]، أي بحجةٍ على عبادتهم الصنم. وقيل: عليهم راجعٌ إلى الآلهة، أي هلا أقاموا بينةً على الأصنام في كونها آلهة، فقولهم لولا تحضيضٌ بمعنى التعجيز، وإذا لم يمكنهم ذلك لم يجب أن يلتفت إلى دعواهم.

قوله تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا}[الكهف:16].

قوله تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ}[الكهف:16] قيل: هو من قول الله لهم. أي وإذ اعتزلتموهم فأووا إلى الكهف. وقيل: هو من قول رئيسهم تمليخًا، فيما ذكر ابن عطية. وقال الغزنوي: رئيسهم مكسلمينا، قال لهم ذلك، أي إذ اعتزلتموهم واعتزلتم ما يعبدون. ثم استثنى وقال: {إِلَّا اللَّهَ} [الكهف:16]، أي إنكم لم تتركوا عبادته، فهو استثناءٌ منقطع. قال ابن عطية: وهذا على تقدير: إن الذين فر أهل الكهف منهم لا يعرفون الله، ولا علم لهم به، وإنما يعتقدون الأصنام في ألوهيتهم فقط. وإن فرضنا أنهم يعرفون الله كما كانت العرب تفعل، لكنهم يشركون أصنامهم معه في العبادة فالاستثناء متصل; لأن الاعتزال وقع في كل ما يعبد الكفار إلا في جهة الله. وفي مصحف عبد الله بن مسعود: "وما يعبدون من دون الله". قال قتادة هذا تفسيرها".

إذا كانوا لا يعبدون الله -جل وعلا- فالاستثناء منقطع؛ لأن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، وإن كانوا يعبدون الله -جل وعلا-، ويعبدون معه غيره فالاستثناء متصل؛ لأن عندهم من جنس المستثنى، المستثنى منه فيه شوبٌ من المستثنى، فهو متصلٌ من هذه الحيثية.

"قلت: ويدل على هذا ما ذكره أبو نعيم الحافظ عن عطاء الخراساني في قوله تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [الكهف:16] قال: كان فتيةٌ من قومٍ يعبدون الله ويعبدون معه آلهة فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم تعتزل عبادة الله. قال ابن عطية: فعلى ما قال قتادة تكون إلا بمنزلة "غير"، وما من قوله: {وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [الكهف:16] في موضع نصبٍ، عطفًا على الضمير في قوله: {اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} [الكهف:16]. ومضمن هذه الآية أن بعضهم قال لبعض: إذا فارقنا الكفار وانفردنا بالله - تعالى- فلنجعل الكهف مأوىً، ونتكل على الله; فإنه سيبسط لنا رحمته، وينشرها علينا، ويهيئ لنا من أمرنا مرفقًا. وهذا كله دعاءٌ بحسب الدنيا، وعلى ثقةٍ كانوا من الله في أمر آخرتهم. وقال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين -رضي الله عنه-".

الباقر.

طالب: ......

الباقر نعم.

"كان أصحاب الكهف صياقلة، واسم الكهف حيوم.

مرفقًا قرئ بكسر الميم وفتحها، وهو ما يرتفق به، وكذلك مرفق الإنسان ومرفقه، ومنهم من يجعل "المرفق" بفتح الميم وكسر الفاء من الأمر والمرفق من الإنسان، وقد قيل: المرفق بفتح الميم الموضع كالمسجد وهما لغتان".

لغتان كالمجلس وكالمنبر، كالمنبر وكالمجلس.

هذا يكفي؛ لأن الآية طويلة.

طالب: عفى الله عنك يا شيخ.

طويلة الآية، نعم.

اللهم صلِّ على محمد، وعلى آله وصحبه.