التعليق على تفسير القرطبي - سورة سبأ (03)

بسم الله الرحيم الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلِّ الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

 قال الإمام القرطبي –رحمه الله تعالى-: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ}  لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ آلِهَتَهُمْ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الرَّبُّ قَرَّرَ ذَلِكَ فَقَالَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْمُشْرِكِينَ {مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَيْ مَنْ يَخْلُقُ لَكُمْ هَذِهِ الْأَرْزَاقَ الْكَائِنَةَ مِنَ السَّمَاوَاتِ، أَيْ عَنِ الْمَطَرِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَمَا فِيهما مِنَ الْمَنَافِعِ. {وَالْأَرْضِ} أَيِ الْخَارِجَةِ مِنَ الْأَرْضِ عَنِ الْمَاءِ وَالنَّبَاتِ أَيْ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا هَذَا فِعْلُ آلِهَتِنَا فَيَقُولُونَ: لَا نَدْرِي، فَقُلْ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ذَلِكَ الَّذِي يَعْلَمُ مَا فِي نُفُوسِكُمْ وَإِنْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُنَا فَقَدْ تَقَرَّرَتِ الْحُجَّةُ بِأَنَّهُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعْبَدَ".

لأنهم إذا سُئلوا هذا السؤال فإما أن يقولوا: آلهتنا، الذي يرزقهم آلهتهم، وهذا يعلمون جميعًا أنها ليست كذلك، وإما أن يقولوا: لا ندري، أو يعترفوا بأن الله هو الرازق، لأن الخالق هو الرازق وهو المدبر وهو المحيي، وهو المميت فيُلزمون بعبادته، ونبذ عبادة أصنامهم وآلهتهم، وهذه من أساليب القرآن في الإلزام بالحجة، الحجة الملزمة التي لا مفر للخصم منها.

"{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} هَذَا عَلَى وَجْهِ الْإِنْصَافِ فِي الْحُجَّةِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: أَحَدُنَا كَاذِبٌ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ صَادِقٌ وَأَنَّ صَاحِبَهُ كَاذِبٌ. وَالْمَعْنَى: مَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ، بَلْ عَلَى أَمْرَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، وَأَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ مُهْتَدٍ وَهُوَ نَحْنُ وَالْآخَرُ ضَالٌّ وَهُوَ أَنْتُمْ".

الحق لا يتعدد في مسألة واحدة الحق لا يتعدد، بل لا بد أن يكون الحق مع أحد الطرفين، فأحدهما مصيب، والآخر مخطئ، فلا بد من أحد الاحتمالين؛ لأنهما متضادان، ف{إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى}، نحن على هدى، أو أنتم على هدى، وأنتم على ضلال، أو نحن على ضلال، ف{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}، وهذا على سبيل التنزُّل، وإلا فالمعلوم أن النبي -عليه الصلاة والسلام- هو الذي على الهدى، والمشركون هم الذين على الضلال.

"فَكَذَّبَهُمْ بِأَحْسَنَ مِنْ تَصْرِيحِ التَّكْذِيبِ".

لأنه لو قال لهم: نحن صادقون، ونحن على الهدى، وأنتم في ضلال، وأنتم كاذبون، في نفس الدعوة، فلا تُقبل حجة، فإذا قال لهم ذلك ردوا عليه، قالوا مثل ما قالوا أولاً ساحر، كاذب، كذاب، شاعر. على كل حال من أبدع الأساليب الملزمة للخصم مثل هذا العرض، أحدُنا صادق والثاني كاذب، فيه احتمال غير هذا؟ ما فيه احتمال غير هذا.

"وَالْمَعْنَى: أَنْتُمُ الضَّالُّونَ حِينَ أَشْرَكْتُمْ بِالَّذِي يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. {أَوْ إِيَّاكُمْ} مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ (إِنَّ) وَلَوْ عُطِفَ عَلَى الْمَوْضِعِ لَكَانَ (أَوْ أَنْتُمْ) وَيَكُونُ".

نعم، على اسم إن؛ لأن اسم إن منصوب، وإذا عُطف عليه الضمير جيء بضمير النصب، ولو عُطف على محله الرفع، الأصل أنه مبتدأ، اسم إن أصله مبتدأ مرفوع، ونُصب لدخول إن، فلفظه منصوب، ومحله الرفع، فعُطف على اسم إن المنصوب، وإلا لو عُطف على محله الرفع لجيء بضمير رفع أنتم ما قال: إياكم.

"وَيَكُونُ لَعَلَى هُدًى لِلْأَوَّلِ لَا غَيْرَ وَإِذَا قُلْتَ".

إذا قلت: {لَعَلَى هُدًى} لأول لا غيره فيكون من باب اللف والنشر المرتب، {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}، وإنا على هدى، وأنتم في ضلال مبين، نعم.

 "وَإِذَا قُلْتَ: {أَوْ إِيَّاكُمْ} كَانَ لِلثَّانِي أَوْلَى، وَحُذِفَتْ مِنَ الْأَوَّلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْأَوَّلِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُبَرِّدِ".

ويجوز مادامت {أَوْ} هذه الإبهام على ما يذكر يجوز أن تكون {أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى}، يعني أنتم على هدى، ويكون خبر إن حُذف لدلالة خبر المبتدأ الثاني عليه، وإنا لعلى هدى، أو إياكم لعلى هدى، أو جمعينا في ضلال مبين، لكن التقسيم أولى هما قسمان: قسم مهتدٍ، وقسم ضال. لكنه لا على سبيل التعيين، وإنما على سبيل الإبهام لأن، أو تأتي للإبهام.

 خَيّر أَبِحْ قَسِّمْ بَأَوْ وأَبْهِم.

"قَالَ: وَمَعْنَاهُ مَعْنَى قَوْلِ الْمُسْتَبْصِرِ لِصَاحِبِهِ عَلَى صِحَّةِ الْوَعِيدِ وَالِاسْتِظْهَارِ بِالْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ: أَحَدُنَا كَاذِبٌ، قَدْ عُرِفَ الْمَعْنَى، كَمَا تَقُولُ: أَنَا أَفْعَلُ كَذَا وَتَفْعَلُ أَنْتَ كَذَا وَأَحَدُنَا مُخْطِئٌ، وَقَدْ عُرِفَ أَنَّهُ هُوَ الْمُخْطِئُ، فَهَكَذَا  {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}. وَ{أَوْ} عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ عَلَى بَابِهَا، وَلَيْسَتْ لِلشَّكِّ، وَلَكِنَّهَا عَلَى مَا تَسْتَعْمِلُ الْعَرَبُ فِي مِثْلِ هَذَا إِذَا لَمْ يُرِدِ الْمُخْبِرُ أَنْ يُبَيِّنَ وَهُوَ عَالِمٌ بِالْمَعْنَى".

نعم، وحينئذٍ تكون للإبهام، للإبهام، أو هذه للإبهام.

"وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ: هِيَ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَتَقْدِيرُهُ: وَإِنَّا عَلَى هُدًى وَإِيَّاكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَقَالَ جَرِيرٌ:

أَثَعْلَبَةَ الْفَوَارِسَ أَوْ رِيَاحًا
 

عَدَلْتَ بِهِمْ طُهَيَّةَ وَالرَّبَابَا
  

يَعْنِي أَثَعْلَبَةً وَرِيَاحًا".

نعم، وربما عاقبت الواو، أو هذه يقول ابن مالك: وربما عاقبت الواو، لكن شريطة أن يؤمن اللبس، إذا أُمن اللبس تأتي بمعنى الواو.

"وَقَالَ آخَرُ:

فَلَمَّا اشْتَدَّ أَمْرُ الْحَرْبِ فِينَا
 

تَأَمَّلْنَا رِيَاحًا أَوْ رِزَامَا
  

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا} أَيِ اكْتَسَبْنَا، وَلَا نُسْأَلُ نَحْنُ أَيْضًا عَمَّا تَعْمَلُونَ أَيْ إِنَّمَا أَقْصِدُ بِمَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ الْخَيْرَ لَكُمْ، لَا أَنَّهُ يَنَالُنِي ضَرَرُ كُفْرِكُمْ، وَهَذَا كَمَا قَالَ: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}[الكافرون:6] وَاللَّهُ مُجَازِي الْجَمِيعِ. فَهَذِهِ آيَةُ مُهَادَنَةٍ وَمُتَارَكَةٍ، وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ بِالسَّيْفِ. وَقِيلَ: نَزَلَ هَذَا قَبْلَ آيَةِ السَّيْفِ".

هذا في أول الأمر قبل الأمر بالقتال قبل الأمر بجهادهم، ولا فرق بين قوله منسوخة بالسيف، وقيل نزل هذا قبل آية السيف، يعني هي نسخت بآية السيف.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا} يُرِيدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} أَيْ يَقْضِي فَيُثِيبُ الْمُهْتَدِيَ وَيُعَاقِبُ الضَّالَّ. {وَهُوَ الْفَتَّاحُ} أَيِ الْقَاضِي بِالْحَقِّ {الْعَلِيمُ} بِأَحْوَالِ الْخَلْقِ، وَهَذَا كُلُّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ} يَكُونُ {أَرُونِي} هُنَا مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، فَيَكُونُ {شُرَكَاءَ} الْمَفْعُولَ الثَّالِثَ".

لأن رأى القلبية تتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، والبصرية إلى مفعول واحد، والعلمية إلى مفعولين.

"أَيْ عَرِّفُونِي الْأَصْنَامَ وَالْأَوْثَانَ الَّتِي جَعَلْتُمُوهَا شُرَكَاءَ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَهَلْ شَارَكَتْ فِي خَلْقِ شَيْءٍ، فَبَيِّنُوا مَا هُوَ، وَإِلَّا فَلِمَ تَعْبُدُونَهَا؟ وَيجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ، فَيَكُونُ {شُرَكَاءَ} حَالًا. {كَلَّا} أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمْتُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ {كَلَّا} رَدٌّ لِجَوَابِهِمُ الْمَحْذُوفِ، كَأَنَّهُ قَالَ: { قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ}، قَالُوا: هِيَ الْأَصْنَامُ، فَقَالَ: {كَلَّا}، أَيْ لَيْسَ لَهُ شُرَكَاءُ، {بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً}".

{الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} هذان الاسمان من الأسماء الحسنى ينفيان أن يكون له شريكًا، ولذا عُقِّبت الآيات بهما، عزيز لا يحتاج إلى أحد، فهو المتفرد خلقه وأفعاله، {الْحَكِيمُ}؛ الذي لا يحتاج إلى من يساعده في الرأي، فمادام هذان الاسمان ثابتين له فليس بحاجة إلى شريك.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} أَيْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا لِلنَّاسِ كَافَّةً أَيْ عَامَّةً، فَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا جَامِعًا لِلنَّاسِ بِالْإِنْذَارِ وَالْإِبْلَاغِ، وَالْكَافَّةُ بِمَعْنَى الْجَامِعِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَافًّا لِلنَّاسِ، تَكُفُّهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَتَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ، وَقِيلَ: أَيْ إِلَّا ذَا كَافَّةٍ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ، أَيْ ذَا مَنْعٍ لِلنَّاسِ مِنْ أَنْ يَشِذُّوا عَنْ تَبْلِيغِكَ".

الهاء للمبالغة مثل ما يقال: فلان راوية، نعم، وفلان فهامة، فلان دراكة، كل هذا هاء المبالغة.

 "أَوْ ذَا مَنْعٍ لَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ، وَمِنْهُ: كَفٌّ الثَّوْبَ".

كفَّ الثوبَ.

"كفَّ الثوبَ؛ لِأَنَّهُ ضَمَّ طَرَفَيْهِ".

فكفَّ الثوب يقال: كُفة، كُفة الثوب؛ لأنها مستطيلة، بينما كِفة الميزان بكسر الكاف، يفرقون بين المستطيل والمستدير، فكل مستدير كِفَّة، وكل مستطيل كُفَّة عندهم ، نعم.

"{بَشِيرًا} أَيْ بِالْجَنَّةِ لِمَنْ أَطَاعَ. {وَنَذِيرًا} مِنَ النَّارِ لِمَنْ كَفَرَ. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} مَا عِنْدَ اللَّهِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَكَانُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَكْثَرَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَدَدًا. {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} يَعْنِي مَوْعِدَكُمْ لَنَا بِقِيَامِ السَّاعَةِ، {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} فقال الله تعالى: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ {لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ} فَلَا يَغُرَّنَّكُمْ تَأْخِيرُهُ. {وَالْمِيعَادُ} الْمِيقَاتُ. وَيَعْنِي بِهَذَا الْمِيعَادِ وَقْتَ الْبَعْثِ. وَقِيلَ وَقْتَ حُضُورِ الْمَوْتِ، أَيْ لَكُمْ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ تَمُوتُونَ فِيهِ فَتَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ قَوْلِي، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهَذَا".

تموتون فيه أفرادًا وجماعات، أفراد بموت كل واحد منهم موتًا عاديًّا، وجماعات في الحروب إلى أن يأتي الموت الجماعي في قيام الساعة، فإذا حضر الأجل {لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} إذا حضر، وأما قبل حضوره {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ}[الرعد:39]، فواصل الرحم يُزاد في عمره بخلاف القاطع.

 "وَقِيلَ: أَرَادَ بِهَذَا الْيَوْمِ".

وعلى خلاف بين أهل العلم منهم من يقول: حقيقيًّا الذي عند الله -جل وعلا- لا يتغير، وإنما الذي بأيدي الحفظة والملائكة يتغير، وقابل للزيادة {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ}، ومنهم من يقول: إنها معنوية بالبركة، فكم من شخص عاش خمسين عامًا فقط، أو أربعين، عمر بن عبد العزيز أربعين سنة، والبركة في ولايته ظاهرة، والناس عاشوا مئات السنين في وقته، النووي كذلك عاش قريبًا، الشيخ حافظ الحكمي أقل، ومع ذلك نفعوا نفعًا عظيمًا، ومن الناس من يعيش المائة، وكأنه ما وطئ على الأرض.

 "وَقِيلَ: أَرَادَ بِهَذَا الْيَوْمِ يَوْمَ بَدْرٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ".

بدل أو بيان، نعم.

 "لِأَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَانَ مِيعَادَ عَذَابِهِمْ فِي الدُّنْيَا فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَجَازَ النَّحْوِيُّونَ (مِيعَادُ يَوْمُ)".

ميعادٌ يومٌ.

 "(مِيعَادٌ يَوْمٌ) عَلَى أَنَّ (مِيعَادٌ) ابْتِدَاءٌ وَ(يَوْمٌ) بَدَلٌ مِنْهُ، وَالْخَبَرُ (لَكُمْ). وَأَجَازُوا (مِيعَادٌ يَوْمًا) يَكُونُ ظَرْفًا، وَتَكُونُ الْهَاءُ فِي (عَنْهُ) تَرْجِعُ إِلَى (يَوْمًا)، وَلَا يَصِحُّ {مِيعَادُ يَوْمَ لَا تَسْتَأْخِرُونَ} بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وَإِضَافَةُ (يَوْمٍ) إِلَى مَا بَعْدَهُ إِذَا قُدِّرْتِ الْهَاءُ عَائِدَةٌ عَلَى الْيَوْمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ مِنْ أَجْلِ الْهَاءِ الَّتِي فِي الْجُمْلَةِ. وَيَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ لِلْمِيعَادِ لَا لِلْيَوْمِ".

{مِيعَادُ يَوْمَ} يعني ترك التنوين في ميعاد كأنه لإضافته إلى الجملة، وإلا فالأصل أنه منون، ومضاف إلى الجملة، ويوم مضاف إلى ما بعده، وعلى كل حال هذا التقدير لا يصح؛ لما ذكر؛ لأن الهاء تعود إلى اليوم نفسه، فتكون من باب إضافة الشيء إلى نفسه.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا}  يُرِيدُ كُفَّارَ قُرَيْشٍ. {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}  قَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: {وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} مِنَ الْكُتُبِ وَالْأَنْبِيَاءِ- عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-".

يعني من قبله، يريد بذلك من قبله من الكتب، والأنبياء.

"وَقِيلَ: مِنَ الْآخِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ".

يعني ما بعده، نعم.

"وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَائِلُ ذَلِكَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ. وَقِيلَ: إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَالُوا لِلْمُشْرِكِينَ صِفَةُ مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِنَا فَسَلُوهُ، فَلَمَّا سَأَلُوهُ فَوَافَقَ مَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ} وَلَا بِالَّذِي أُنْزِلَ قَبْلَهُ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بَلْ نَكْفُرُ بِالْجَمِيعِ".

نعم؛ لأن التوراة والإنجيل متضمنان لصفته -عليه الصلاة والسلام-، ومادام كفروا به كفروا بما جاء به، وما جاء عنه.

"وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يُرَاجِعُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِمْ، فَظَهَرَ بِهَذَا تَنَاقُضُهُمْ وَقِلَّةُ عِلْمِهِمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْ حَالِهِمْ فِيمَا لَهُمْ فَقَالَ: وَلَوْ تَرَى يَا مُحَمَّدُ {إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أَيْ مَحْبُوسُونَ فِي مَوْقِفِ الْحِسَابِ، يَتَرَاجَعُونَ الْكَلَامَ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِاللَّوْمِ وَالْعِتَابِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا أَخِلَّاءَ مُتَنَاصِرِينَ. وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ، أَيْ لَرَأَيْتَ أَمْرًا هَائِلًا فَظِيعًا".

{وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ}[إبراهيم:42].

"ثُمَّ ذَكَرَ أَيَّ شَيْءٍ يَرْجِعُ مِنَ الْقَوْلِ بَيْنَهُمْ فقَالَ: {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا}  فِي الدُّنْيَا مِنَ الْكَافِرِينَ {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} وَهُمُ الْقَادَةُ وَالرُّؤَسَاءُ  {لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} أَيْ أَنْتُمْ أَغْوَيْتُمُونَا وَأَضْلَلْتُمُونَا. وَاللُّغَةُ الْفَصِيحَةُ لَوْلَا أَنْتُمْ وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ: (لَوْلَاكُمْ) حَكَاهَا سِيبَوَيْه،ِ تَكُونُ (لَوْلَا) تَخْفِضُ الْمُضْمَرَ وَيَرْتَفِعُ الْمُظْهَرُ بَعْدَهَا بِالِابْتِدَاءِ وَيُحْذَفُ خَبَرُهُ. وَمُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ يَقُولُ".

المبرد، محمد بن يزيد أبو العباس المبرد.

"يَقُولُ: لَا يَجُوزُ (لَوْلَاكُمْ)؛ لِأَنَّ الْمُضْمَرَ عَقِيبَ الْمُظْهَرِ، فَلَمَّا كَانَ الْمُظْهَرُ مَرْفُوعًا بِالْإِجْمَاعِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُضْمَرُ أَيْضًا مَرْفُوعًا.

 {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ}  هُوَ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، أَيْ مَا رَدَدْنَاكُمْ نَحْنُ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ، وَلَا أَكْرَهْنَاكُمْ  {بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ} أَيْ مُشْرِكِينَ مُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ.  {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}  الْمَكْرُ أَصْلُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الِاحْتِيَالُ وَالْخَدِيعَةُ، وَقَدْ مَكَرَ بِهِ يَمْكُرُ فَهُوَ مَاكِرٌ وَمَكَّارٌ. قَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ: هَذَا مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْمَعْنَى- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- بَلْ مَكْرُكُمْ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، أَيْ مُسَاوَاتُكُمْ إِيَّانَا وَدُعَاؤُكُمْ لَنَا إِلَى الْكُفْرِ حَمَلَنَا عَلَى هَذَا".

يدل على أن دعاة الباطل مصرون على دعوتهم، يزاولونها ليلاً ونهارًا، وفي كل وقت، وفي كل ظرف، وفي كل حين.

"وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: بَلْ عَمَلُكُمْ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَار. قَتَادَةُ:  بَلْ مَكْرُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ صَدَّنَا، فَأُضِيفَ الْمَكْرُ إِلَيْهِمَا لِوُقُوعِهِ فِيهِمَا".

نعم، الإضافة للظرفية.

 "وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ} فَأَضَافَ الْأَجَلَ إِلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً} إِذْ كَانَ الْأَجَلُ لَهُمْ".

نعم، يُسند الفعل إلى الفاعل حقيقةً، وإلى المتسبِّب فيه، وإلى المتصف به، مثل ما تقول: توفي زيد، وتقول: مات زيد، {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ}[الزمر:42]، و{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}[الزمر:30]، فهو يموت ومات، والله يتوفاهم، فالفاعل الحقيقي هو الله- جل وعلا-، ويكون ذلك بواسطة رسله، توفته رسلنا، ويموت هو يضاف إليه الفعل حقيقة؛ لأنه متصل به.  

"وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ قَوْلِكَ: لَيْلُهُ قَائِمٌ وَنَهَارُهُ صَائِمٌ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَيْ بَلْ مَكْرُكُمُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: نَهَارُهُ صَائِمٌ وَلَيْلُهُ قَائِمٌ. وَأَنْشَدَ لِجَرِيرٍ".

والمراد أنه في نهاره صائم، وفي ليله قائم، نعم.  

"وَأَنْشَدَ لِجَرِيرٍ:

لَقَدْ لُمْتِنَا يَا أُمَّ غَيْلَانَ فِي السُّرَى
 

وَنِمْتِ وَمَا لَيْلُ الْمَطِيِّ بِنَائِمِ
  

وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:

فَنَامَ لَيْلِي وَتَجَلَّى هَمِّي
  



أَيْ نِمْتُ فِيهِ. وَنَظِيرُهُ: {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا}. وَقَرَأَ قَتَادَةُ: (بَلْ مَكْرٌ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) بِتَنْوِينٍ (مَكْرٌ) وَنَصْبِ (اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ)، وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ مَكْرٌ كَائِنٌ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَحُذِفَ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ  (بَلْ)".

مكرُّ

"(بَلْ مَكَرُّ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَشَدِّ الرَّاءِ بِمَعْنَى الْكُرُورِ".

يعني تعاقب الليل والنهار، الكرور هو تعاقب ومجيء هذا بعد هذا، وهذا بعد هذا، نعم.

"بِمَعْنَى الْكُرُورِ، وَارْتِفَاعُهُ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ} كَأَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا لَهُمْ: أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى قَالُوا: بَلْ صَدَّنَا مَكَرُّ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ".

يعني تعاقب الليل والنهار، نعم.

وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ قَالَ: مَرَّ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ عَلَيْهِمْ فَغَفَلُوا".

نعم مع طول المدة إذا طال الأمد قست القلوب كما هو شأن الأمم السابقة {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ}[الحديد:16]، معناه أنه تكرر عليهم الليل والنهار، وطال بهم الأمد، وطالت المدة، فصارت هذه هي العاقبة، واحتجوا بهذا، ولا حجة لهم به؛ لأنه جاءهم التجديد، تجديد الدعوة إلى الله –جل وعلا- على يد نبيه –عليه الصلاة والسلام-.

"وَقِيلَ: طُولُ السَّلَامَةِ فِيهِمَا كَقَوْلِهِ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ. وَقَرَأَ رَاشِدٌ: (بَلْ مَكْرَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) بِالنَّصْبِ، كَمَا تَقُولُ: رَأَيْتُهُ مَقْدَمَ الْحَاجِّ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ هَذَا فِيمَا يُعَرَّفُ، لَوْ قُلْتَ: رَأَيْتُهُ مَقْدَمَ زَيْدٍ، لَمْ يَجُزْ".

نعم؛ لأنه ماذا يدريهم عن مقدم زيد؟ لكن مقدم الحاج يعرفونه، كما تقول: رأيت ليلة البدر، وقت معروف، لكن ما تقول: رأيت ليلة الهلال، الهلال أيام كثيرة، لكن البدر ليلة واحدة ليلة الست بعد ثمان.

 "ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. {إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا} أَيْ أَشْبَاهًا وَأَمْثَالًا وَنُظَرَاءَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: فُلَانٌ نِدُّ فُلَانٍ، أَيْ مِثْلُهُ. وَيُقَالُ نَدِيدٌ، وَأَنْشَدَ:

أَيْنَمَا تَجْعَلُونَ إِلَيَّ نِدًّا
 

وَمَا أَنْتُمْ لِذِي حَسَبٍ نَدِيدِ
  

وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي (الْبَقَرَةِ). {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ} أَيْ أَظْهَرُوهَا، وَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ يَكُونُ بِمَعْنَى الْإِخْفَاءِ وَالْإِبْدَاءِ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

تَجَاوَزْتُ أَحْرَاسًا وَأَهْوَالَ مَعْشَرٍ
 

عَلَيَّ حِرَاصًا لَوْ يُسِرُّونَ مَقْتَلِي
  

وَرُوِيَ (يُشِرُّونَ)".

يشرون بالمعجمة، الشين المعجمة، ومعناه يظهرون، يعني خلاف يسرون يبطنون، ويشرون يظهرون.

" وَقِيلَ: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ} أَيْ تَبَيَّنَتِ النَّدَامَةُ فِي أَسْرَارِ وُجُوهِهِمْ. قِيلَ: النَّدَامَةُ لَا تَظْهَرُ، وَإِنَّمَا تَكُونُ فِي الْقَلْبِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ مَا يَتَوَلَّدُ عَنْهَا".

يريد أن يجعل {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ} كأنهم أعلنوها، وأسرَّ من الأضداد يأتي بالإخفاء، ويأتي بالإعلان، أسروها في نفوسهم، وظهرت علاماتها على وجوههم، لكن الندامة سر، التي أسروها سر، وعلاماتها ليست هي، غيرها، يعني كمن استتر بمعصية، أو أسرَّ طاعة فظهرت آثار المعصية على أفعاله، أو ظهرت آثار الطاعة على أفعاله، لا يقال: إنه أظهر الطاعة، أو أسر المعصية.

 "وَإِنَّمَا تَكُونُ فِي الْقَلْبِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ مَا يَتَوَلَّدُ عَنْهَا، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ (يُونُسَ، وَآلِ عِمْرَانَ). وَقِيلَ: إِظْهَارُهُمُ النَّدَامَةَ قَوْلُهُمْ:  {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}  وَقِيلَ: أَسَرُّوا النَّدَامَةَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَلَمْ يَجْهَرُوا الْقَوْلَ بِهَا، كَمَا قَالَ: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى}.  {وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} الْأَغْلَالُ جَمْعُ غُلٍّ، يُقَالُ: فِي رَقَبَتِهِ غُلٌّ مِنْ حَدِيدٍ. وَمِنْهُ قِيلَ لِلْمَرْأَةِ السَّيِّئَةِ الْخُلُقَ: غُلٌّ قَمِلٌ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْغُلَّ كَانَ يَكُونُ مِنْ قِدٍّ وَعَلَيْهِ شَعْرٌ فَيَقْمَلُ".

لأن الشعر مرتع للقمل، الشعر مرتع القمل، وهل كل شعر يكون مرتعًا ولو أبين عن الجسد؟ كأن كلامه يدل على ذلك، يقول: وَأَصْلُهُ أَنَّ الْغُلَّ يَكُونُ مِنْ قِدٍّ وَعَلَيْهِ شَعْرٌ فَيَقْمَلُ، القد؛ هو الجلد إذا يبس فيقمل، أو هو إنما يكون على شعر الحي من إنسان، أو غيره على كلامه يشمل.

" وَغَلَلْتُ يَدَهُ إِلَى عُنُقِهِ، وَقَدْ غُلَّ فَهُوَ مَغْلُولٌ، يُقَالُ: مَا لَهُ أُلَّ وَغُلَّ. وَالْغُلُّ أَيْضًا وَالْغُلَّةُ: حَرَارَةُ الْعَطَشِ، وَكَذَلِكَ الْغَلِيلُ، يُقَالُ مِنْهُ: غُلَّ الرَّجُلُ يُغَلُّ غَلَلًا فَهُوَ مَغْلُولٌ، عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، عَنِ الْجَوْهَرِيِّ. أَيْ جُعِلَتْ الْجَوَامِعَ فِي أَعْنَاقِ التَّابِعِينَ وَالْمَتْبُوعِينَ".

يعني فرق بين الغليل والعليل، الغليل العطشان، والعليل المريض، فالعليل يحتاج إلى شفاء والغليل يحتاج إلى ري، ولذا جاء إرواء الغليل، وشفاء العليل، والعكس ليس بصحيح.

 "قِيلَ مِنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الْفَرِيقَيْنِ، وَقِيلَ يَرْجِعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَيْهِمْ، وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ".

طالب: الكلامُ أم الكلامَ؟

الكلامُ.

 "وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: {لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَعْنَاقِ سَائِرِ الْكُفَّارِ. {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فِي الدُّنْيَا.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا}  قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ أَغْنِيَاؤُهَا وَرُؤَسَاؤُهَا وَجَبَابِرَتُهَا وَقَادَةُ الشَّرِّ لِلرُّسُلِ: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا} أَيْ فُضِّلْنَا عَلَيْكُمْ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكُمْ رَاضِيًا بِمَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ وَالْفَضْلِ لَمْ يُخَوِّلْنَا ذَلِكَ. وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ؛ لِأَنَّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ فَلَا يُعَذِّبُهُ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ وَمَا احْتَجُّوا بِهِ مِنَ الْغِنَى فَقَالَ لِنَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} أَيْ يُوَسِّعُهُ {وَيَقْدِرُ} أَيْ يُقَتِّرُ".

لمن شاء، يعني ممن يحب ومن لا يحب، ممن يحب ومن لا يحب، فليس غنى الإنسان دليلٌ على أن الله يحبه، ولا أن فقره وحاجته وفاقته دليلٌ على أن الله لا يحبه، بل من الناس مَن الفقر إحسان إليهم؛ إذ لو أغناه الله لأفسده الغنى، ومن الناس من الغنى إحسانٌ إليهم؛ إذ لو افتقر لاحتاج إلى أن يتخطى ما أمر به، ويتجاوز بسرقة، أو نهبة، أو ما أشبه ذلك، فلا يُحسن حاله إلا الغنى.

 طالب: أحسن الله إليك، أن يقتر، إطلاق التقتير على الله

يقدر يعني..

طالب: يُقتر إطلاق اللفظ على الله -عز وجل-؟

على سبيل الإخبار لا على سبيل الاسم ولا الوصف.

 "أَيْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُفَاضِلُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي الْأَرْزَاقِ؛ امْتِحَانًا لَهُمْ، فَلَا يَدُلُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا فِي الْعَوَاقِبِ، فَسَعَةُ الرِّزْقِ فِي الدُّنْيَا لَا تَدُلُّ عَلَى سَعَادَةِ الْآخِرَةِ، فَلَا تَظُنُّوا أَمْوَالَكُمْ وَأَوْلَادَكُمْ تُغْنِي عَنْكُمْ غَدًا شَيْئًا. وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ هَذَا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَأَمَّلُونَ. ثُمَّ قَالَ تَأْكِيدًا: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ قُرْبَى، وَالزُّلْفَةُ الْقُرْبَةُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَيْ إِزْلَافًا، وَهُوَ اسْمُ الْمَصْدَرِ، فَيَكُونُ مَوْضِعُ (قُرْبَى) نَصْبًا كَأَنَّهُ قَالَ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا تَقْرِيبًا".

نعم، فالمصدر الإزلاف، واسم المصدر الزُلفى، أزلف يُزلف إزلافًا، مثل أنبت ينبت إنباتًا، هذا المصدر، ونباتًا اسم المصدر؛ {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا}[نوح:17] اسم المصدر.  

"وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ الَّتِي تَكُونُ لِلْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ جَمِيعًا، وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي إِسْحَاقَ الزَّجَّاجِ، يَكُونُ الْمَعْنَى: وَمَا أَمْوَالُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا، وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى".

فيكون ترك الإخبار عن الأول من باب الاكتفاء، من باب الاكتفاء.

"ثُمَّ حُذِفَ خَبَرُ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ. وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:

نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا
 

عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
  

 وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ: بِاللَّتَيْنِ وَبِاللَّاتِي وَبِاللَّوَاتِي وَبِاللَّذَيْنِ وَبِالَّذِينَ، لِلْأَوْلَادِ خَاصَّةً أَيْ لَا تَزِيدُكُمُ الْأَمْوَالُ عِنْدَنَا رِفْعَةً وَدَرَجَةً، وَلَا تُقَرِّبُكُمْ تَقْرِيبًا. {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا}  قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْمَعْنَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَنْ يَضُرَّهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ فِي الدُّنْيَا. وَرَوَى لَيْثٌ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ، وَجَنِّبْنِي الْمَالَ وَالْوَلَدَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ فِيمَا أَوْحَيْتَ {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا}.

قُلْتُ: قَوْلُ طَاوُس". 

نعم، المال والولد فتنة {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ}[الأنفال:28]، لكن مع ذلك هي {زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46]، ولا تكمل الحياة الدنيا إلا بهما،  فعلى الإنسان أن يسعى في تحصيلهما تحصيل المال، وتحصيل الولد، مما يحقق له الهدف الذي من أجله خُلقوا، وهو العبودية لله –جل وعلا-، ويستعمل المال، والولد فيما يرضي الله –جل وعلا-، ويبذل، وينصح، ويوجه، وما عدا ذلك ليس بيده.

طالب:............

لا ليس بمناسل، مأمور بالمكاثرة، التكاثر، و«نعم المال الصالح للرجل الصالح»، لكن إذا حُرمهما فليصبر وليحتسب، وإذا أُعطيهما يستعملهما فيما يرضي الله –جل وعلا-.

طالب:.............

نعم؛ لأنه فتنة، لأنه فتنة، والغالب أن الإنسان ما يتخلص، يعني كثير من الناس عدم الغنى أحسن له، أنفع له في دينه، وكثير من الناس أيضًا أولاده ضرر ونقص عليه، وفي وقتنا الحاضر بعد يظهر فيه الأمر جليًّا في الأمرين.

"قُلْتُ: قَوْلُ طَاوُسٍ فِيهِ نَظَرٌ، وَالْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ: جَنِّبْنِي الْمَالَ وَالْوَلَدَ الْمُطْغِيَيْنِ أَوِ اللَّذَيْنِ لَا خَيْرَ فِيهِمَا، فَأَمَّا الْمَالُ الصَّالِحُ وَالْوَلَدُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ فَنِعْمَ هَذَا! وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي (آلِ عِمْرَانَ وَمَرْيَمَ، وَالْفُرْقَانِ). وَ{مَنْ} فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، أَيْ لَكِنْ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِيمَانُهُ وَعَمَلُهُ يُقَرِّبَانِهِ مِنِّي. وَزَعَمَ الزَّجَّاجُ أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْكَافِ وَالْمِيمِ الَّتِي فِي {تُقَرِّبُكُم}. قال النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْقَوْلُ غَلَطٌ؛ لِأَنَّ الْكَافَ وَالْمِيمَ لِلْمُخَاطَبِ، فَلَا يَجُوزُ الْبَدَلُ، وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ: رَأَيْتُكَ زَيْدًا. وَقَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ هَذَا هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ إِلَّا أَنَّ الْفَرَّاءَ لَا يَقُولُ بَدَلٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ لَفْظِ الْكُوفِيِّينَ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ يَئُولُ إِلَى ذَلِكَ".

يعني الكوفيون بينهم ألفاظ يتداولونها بينهم لا توجد عند البصريين والعكس، عند البصريين ألفاظ يتداولونها لا توجد عند الكوفيين، فمثلًا: الجر عند البصريين والخفض عند الكوفيين، والبدل عند البصريين، وغيره مما يرادفه عند الكوفيين، التمييز عند البصريين، والتفسير عند غيرهم البغداديين وغيرهم، المقصود أنه يتداول في بعض المدارس ما لا يتداول في مدارس أخرى.

"وَزَعَمَ أَنَّ مِثْلَهُ {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}  يَكُونُ مَنْصُوبًا عِنْدَهُ بِ(يَنْفَعُ). وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنْ يَكُونَ مَنْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِمَعْنَى: مَا هُوَ إِلَّا مَنْ آمَنَ، كَذَا قَالَ، وَلَسْتُ أُحَصِّلُ مَعْنَاهُ"

يقول: أنا ما أدركت معناه من كلامهم هذا.

"{فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا} يَعْنِي قَوْلَهُ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} فَالضِّعْفُ الزِّيَادَةُ، أَيْ لَهُمْ جَزَاءُ التَّضْعِيفِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ. وَقِيلَ: لَهُمْ جَزَاءُ الْأَضْعَافِ، فَالضِّعْفُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَإِضَافَةُ الضِّعْفِ إِلَى الْجَزَاءِ كَإِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ، نَحْوُ: حَقُّ الْيَقِينِ، وَصَلَاةُ الْأُولَى. أَيْ لَهُمُ الْجَزَاءُ الْمُضَعَّفُ، لِلْوَاحِدِ عَشَرَةٌ إِلَى مَا يُرِيدُ اللَّهُ مِنَ الزِّيَادَة".

إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، حق اليقين حق العلم اليقين، وصلاة الأولى صلاة الجماعة الأولى، وما أشبه ذلك. 

"وَبِهَذِهِ الْآيَةِ اسْتَدَلَّ مَنْ فَضَّلَ الْغِنَى عَلَى الْفَقْرِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ غَنِيًّا تَقِيًّا أَتَاهُ اللَّهُ أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ بِهَذِهِ الْآيَةِ".

على خلاف بين أهل العلم أيهما أفضل الغني الشاكر أو الفقير الصابر، والكلام في هذا طويل لأهل العلم، وخلاصته أن ما قاله شيخ الإسلام: أن الفضل، والتفاضل إنما هو بالتقوى، فمن كان لله أتقى فهو أفضل، غنيًّا كان أو فقيرًا.

{وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}  قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ: {جَزَاءُ الضِّعْفِ} بِالْإِضَافَةِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَيَعْقُوبُ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ :(جَزَاءً) مُنَوَّنًا مَنْصُوبًا (الضِّعْفُ) رَفْعًا، أَيْ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الضِّعْفُ جَزَاءً، عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ. وَجَزَاءُ الضِّعْفِ عَلَى أَنْ يُجَازَوُا الضِّعْفَ. وَ(جَزَاءٌ الضِّعْفُ) مَرْفُوعَانِ، (الضِّعْفُ) بَدَلٌ مِنْ (جَزَاءٌ). وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَيْضًا فِي الْغُرُفَاتِ عَلَى الْجَمْعِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ؛ لِقَوْلِه: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا}. قال الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقُرِئَ فِي الْغُرُفَاتِ بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا وَسُكُونِهَا. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ وَخَلَفٌ: (فِي الْغُرْفَةِ) عَلَى التَّوْحِيدِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} وَالْغُرْفَةُ قَدْ يُرَادُ بِهَا اسْمُ الْجَمْعِ وَاسْمُ الْجِنْسِ.

لا فرق بين المفرد، والجمع؛ لأن الجمع يُراد به المتعدد، والمفرد يُراد به الجنس، جنس الغرفة، فيؤول المعنى إلى شيء واحد.

طالب:...........

كيف؟

طالب: غُرفة.

ماذا فيها؟

طالب: لها أكثر من معنى .....

غَرفة هذه، وغُرفة أيضًا، تأتي بغُرفة، الغَرفة المرة من الغَرفات، والغُرفة المغروف يعني {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ}[البقرة:249].

"قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ غُرَفٌ مِنْ يَاقُوتٍ وَزَبَرْجَدٍ وَدُرٍّ. وَقَدْ مَضَى بَيَانُ ذَلِكَ، {آمِنُونَ} أَيْ مِنَ الْعَذَابِ وَالْمَوْتِ وَالْأَسْقَامِ وَالْأَحْزَانِ. {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا} فِي إِبْطَالِ أَدِلَّتِنَا وَحُجَّتِنَا وَكِتَابِنَا. (مُعَاجِزِينَ) مُعَانِدِينَ، يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يَفُوتُونَنَا بِأَنْفُسِهِمْ. {أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} أَيْ فِي جَهَنَّمَ تُحْضِرُهُمُ الزَّبَانِيَةُ فِيهَا.

قَوْلُهُ تَعَالَى".

{فَلْيَدْعُ نَادِيَه سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ}[العلق: 17-18]، يأتي بعشيرته، وقومه، وقبائله، وكل من يعرفه {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ}، ولا يقوم جميع من على الأرض في وجه واحد من الزبانية، والله المستعان.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ}  كَرَّرَ تَأْكِيدًا {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُغْتَرِّينَ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ إِنَّ اللَّهَ يُوَسِّعُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَيُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، فَلَا تَغْتَرُّوا بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، بَلْ أَنْفِقُوهَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ مَا أَنْفَقْتُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فَهُوَ يُخْلِفُهُ. وَفِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ فَهُوَ يُخْلِفُهُ عَلَيْكُمْ، يُقَالُ: أَخْلَفَ لَهُ، وَأَخْلَفَ عَلَيْهِ، أَيْ يُعْطِيكُمْ خَلَفَهُ وَبَدَلَهُ، وَذَلِكَ الْبَدَلُ إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا وَمَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَأَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا»، وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِي: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ» الْحَدِيثَ. وَهَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْخَلَفِ فِي الدُّنْيَا بِمِثْلِ الْمُنْفَقِ فِيهَا إِذَا كَانَتِ النَّفَقَةُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. وَقَدْ لَا يَكُونُ الْخَلَفُ فِي الدُّنْيَا فَيَكُونُ كَالدُّعَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ  سَوَاءٌ فِي الْإِجَابَةِ أَوِ التَّكْفِيرِ أَوِ الِادِّخَارِ، وَالِادِّخَارُ هَاهُنَا مِثْلُهُ فِي الْأَجْرِ".

نعم؛ لأنه ما من داعٍ أن يدعو –جل وعلا- يعني مع توافر الأسباب، وانتفاء الموانع إلا أُجيب {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، لكن هذه الإجابة قد تكون بما دعا، وقد تكون بما يُدَّخر له بما هو أعظم في القيامة، وقد يكون برد ما كُتب عليه من بلاء ونحوه، يدفع عنه من الشر ما هو أعظم منه، ومثله النفقة.  

"مَسْأَلَةٌ: رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَأَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْهِلَالِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَة، وَمَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ كُتِبَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا وَقَى بِهِ الرَّجُلُ عِرْضَهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ مِنْ نَفَقَةٍ فَعَلَى اللَّهِ خَلَفُهَا إِلَّا مَا كَانَ مِنْ نَفَقَةٍ فِي بُنْيَانٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ»". 

يعني البنيان ليست نفقته مخلوفة، كل شيء يُخلف على الإنسان إلا ما يضعه في التراب، إلا ما يضعه في التراب، ومن باب أولى إذا كان في معصية فإنه يأثم بها فضلًا عن كونها تُخلف عليه، الله المستعان.

 لكن في قوله: «وَمَا وَقَى بِهِ الرَّجُلُ عِرْضَهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ» يقي به الرجل عرضه إن اقترن بذلك النظر إلى ما عند الله –جل وعلا- من الثواب، مخلصًا في ذلك لله –جل وعلا-، مع  كونه يقي عرضه، هذا يؤجر، لكن إذا كان لمجرد وقاية العرض؛ لأن بعض الناس ما يستحضر الثواب، ولا يُخلص لله –جل وعلا- في كثير من أعماله، تجده إذا ذهب لفلان قال: يا الله سترك، لو ما نذهب افتضحنا، وإذا قيل: لمَ تذهب لفلان؟ قال: لنقطع لسانه، وهكذا، مثل هذا إذا لم يستحضر شيئًا من ثواب الله –جل وعلا- وجزائه فإنه لا يؤجر عليه، قد يأثم إذا كان يفعل الفعل مما ظاهره أنه عمل صالح مما يُتقرب به، ثم يفعله لغير الله –جل وعلا-.

ماذا قال عن الحديث؟

طالب: أخرجه الدارقطني بإسناد ضعيف.

نعم، هذا مظنته الدارقطني وابن عدي، الضعف إذا تفردوا دون غيرهم من المشاهير.

 "قَالَ عَبْدُ الْحَمِيد: قُلْتُ لِابْنِ الْمُنْكَدِرِ: (مَا وَقَى الرَّجُلُ عِرْضَهُ)؟ قَالَ: يُعْطِي الشَّاعِرَ وَذَا اللِّسَانِ. عَبْدُ الْحَمِيدِ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ. 

قُلْتُ: أَمَّا مَا أَنْفَقَ فِي مَعْصِيَةٍ".

طالب: ................

نعم؟

طالب: ....... الناس إذا ذمت فيما بعد؟

لا، وأحيانًا إذا كان لمجرد وقاية العرض يأثم، يأثم، يقال: لمَ زرت عمك ورحت تعايد عمك؟ قال: يا الله سترك، من يسلم من لسانه؟ صحيح هذا يقوله كثيرٌ من الناس.

 "قُلْتُ: أَمَّا مَا أَنْفَقَ فِي مَعْصِيَةٍ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ غَيْرُ مُثَابٍ عَلَيْهِ وَلَا مَخْلُوفٌ لَهُ. وَأَمَّا الْبُنْيَانُ فَمَا كَانَ مِنْهُ ضَرُورِيًّا يُكِنُّ الْإِنْسَانُ وَيَحْفَظُهُ فَذَلِكَ مَخْلُوفٌ عَلَيْهِ وَمَأْجُورٌ بِبُنْيَانِهِ".

ومأمورٌ به أيضًا، ومأمورٌ به أيضًا؛ ليقي نفسه، ويقي من تحت يده من حر الشمس، والبرد، وما أشبه ذلك فهو مأمور به؛ لأنه من وقاية النفس والولد، وأما ما زاد على ذلك فلا يؤجر عليه، لا يؤجر عليه، فالناس يتباهون في مثل هذا، وقد كانت الأسر تسكن في مائة متر، عشرة بعشرة يكفي أسرًا، وليس أسرة، حجرات صغيرات، كل غرفة فيها أسرة، ثم بعد ذلك توسّعوا، بيوت الصالحية على سبعين مترًا، المساحة سبعون مترًا رأيناها، بيوت الصالحية، وبيوت أم القرى رأيناها، رأينا هذه البيوت المجالس التي يجتمع بها أهل القرية في المناسبات ما تقدر تمد رجلك، يعني أنت والذي قدامك تكفي أرجلكم بالكاد، رأيناها عيانًا في القرى المجاورة للرياض وغيرها والأجصاص أجصاص التمر بين الواحدة والثانية خمسة أمتار؛ لأن السيول هدمت البيوت، وما بقي قائمًا إلا أجصاص التمر، الجصة هذي حصى، ما تُهدم بسبب السيل، وبين كل واحد والثاني خمسة أمتار، والمجزوم به والمقطوع به أن كل واحدة في بيت.

 ثم بعد ذلك توسّعوا، صاروا يطلعون إلى مائتي مترًا، شرقوا قليلًا، الخالدية وكذا، مائتي متر، ثم بعد ذلك خرجوا إلى أربعمائة متر، صارت القطع ما تُفسح إلا أربعمائة متر، ثم صارت هذه قبورًا خرجوا منها إلى القصور بالألوف يسكنونها، وكل شيء له ضريبته، شخص فاتورة الكهرباء كانت ثلاثين ريالًا، ثم طلع إلى بيت أكبر صارت ثلاثمائة، إلى أن صارت ثلاثة آلاف الآن، كل شيء له ضريبته في هذه الدنيا، والمسألة مسألة عبر، ليست مقرًّا، ممر، في الحديث الصحيح يقول النبي –عليه الصلاة والسلام- لعبد الله بن عمر: «كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل»، فكان يقول: كان ابن عمر يقول: (إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح)، وبنى بيته ابن عمر بنفسه بيده في أقل من أسبوع، الناس يعمِّرون بالسنين، هذا يأخذ سنتين وثلاثًا يعمر بيتًا، ويتدين ديونًا ما يسددها ولا بعد وفاته، كل هذا سببه التوسُّع والمباهاة بين الناس، عندهم أحواش، وعندهم سعة، وعندهم، والله المستعان.

طالب:............

نعم، لكن واسعة ما وسعها؟ وسعها تقدر تمد رجليك وكذا ما يوقفك شيء هذه واسعة، السعة نسبية يا أخي.

طالب:...........

نسبية نعم، نسبية، لكن السعة أن تترك لك مساحات يحتاجها الناس، وأنت لست بحاجتها.

طالب:..........

ناس يتجولون في بيوتهم بالسيارات، ودواوير، ودنيا، وأسفلت، رأيناها هذي، والله المستعان، والأمر هين إذا كان بين أهل الدنيا، المشكلة إذا كان بين أهل الآخرة أهل العلم، إذا وجد فهذا مشكلة.

"وَكَذَلِكَ كَحِفْظِ  بِنْيَتِهِ وَسَتْرِ عَوْرَتِهِ، قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَيْسَ لِابْنِ آدَمَ حَقٌّ فِي سِوَى هَذِهِ الْخِصَالِ، بَيْتٌ يَسْكُنُهُ، وَثَوْبٌ يُوَارِي عَوْرَتُهُ، وَجِلْفُ الْخُبْزِ وَالْمَاءِ»، وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي (الْأَعْرَافِ) مُسْتَوْفًى".

خرجه؟ خرج عندكم؟

طالب: ................

نعم.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} لَمَّا كَانَ يُقَالُ فِي الْإِنْسَانِ: إِنَّهُ يَرْزُقُ عِيَالَهُ وَالْأَمِيرُ جُنْدَهُ، قَالَ: {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}".

يُضاف إليه؛ لأنه سبب، هو المتسبب في رزق عياله.

"وَالرَّازِقُ مِنَ الْخَلْقِ يَرْزُقُ، لَكِنَّ ذَلِكَ مِنْ مَالٍ يُمْلَكُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ يَنْقَطِعُ".

{وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}[النور:33]، نعم.

"وَاللَّهُ تَعَالَى يَرْزُقُ مِنْ خَزَائِنَ لَا تَفْنَى وَلَا تَتَنَاهَى، وَمَنْ أَخْرَجَ مِنْ عَدَمٍ إِلَى الْوُجُودِ فَهُوَ الرَّازِقُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، كَمَا قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58].

  قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ}. أَيْ لَوْ تَرَاهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَرَأَيْتَ أَمْرًا فَظِيعًا. وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْمُرَادُ هُوَ وَأُمَّتُهُ. ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ تَرَاهُمْ أَيْضًا {يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} الْعَابِدِينَ وَالْمَعْبُودِينَ أَيْ نَجْمَعُهُمْ لِلْحِسَابِ".

يعني الآية التي أدخلها الطابع في الكتاب مشى على القراءة المعروفة {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} والمفسر مشى على قراءته التي اعتمدها وهي قراءة نافع {نَحْشُرُهُمْ}.

"أَيْ نَجْمَعُهُمْ لِلْحِسَابِ {ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} قَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: هَذَا اسْتِفْهَامٌ، كَقَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لِعِيسَى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116] قَالَ النَّحَّاسُ: فَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ -صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- إِذَا كَذَّبَتْهُمْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَبْكِيتٌ لَهُمْ، فَهُوَ اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ لِلْعَابِدِينَ {قَالُوا سُبْحَانَكَ} أَيْ تَنْزِيهًا لَكَ. {أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} أَيْ أَنْتَ رَبُّنَا الَّذِي نَتَوَلَّاهُ وَنُطِيعُهُ وَنَعْبُدُهُ وَنُخْلِصُ فِي الْعِبَادَةِ لَهُ. {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} أَيْ يُطِيعُونَ إِبْلِيسَ وَأَعْوَانَهُ، وَفِي التَّفَاسِيرِ: أَنَّ حَيًّا يُقَالُ لَهُمْ بَنُو مُلَيْحٍ" .

بني، ماذا عندك؟

مليح.

 بني أم بنو؟

بنو.

"أَنَّ حَيًّا يُقَالُ لَهُمْ بَنُو مُلَيْحٍ مِنْ خُزَاعَةَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الْجِنَّ تَتَرَاءَى لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ، وَأَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات:158]".

هذا على أن المراد بالجِنة الذين هم الشياطين، الصنف الثاني من أصناف المكلفين: الجن فيما يقابل الإنس، والذي يقول: إن المراد بالجنة {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا}، الجِنة، هم الملائكة؛ لأنهم يجتنون، ويختفون عن الأبصار لا يُرون إلا أذا جاءوا على صفة إنسان.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا} أَيْ شَفَاعَةً وَنَجَاةً. {وَلَا ضَرًّا} أَيْ عَذَابًا وَهَلَاكًا. وَقِيلَ: أَيْ لَا تَمْلِكُ الْمَلَائِكَةُ دَفْعَ ضَرٍّ عَنْ عَابِدِيهِمْ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ.

 {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ لَهُمْ أَوِ الْمَلَائِكَةُ: ذُوقُوا.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ}  يَعْنِي الْقُرْآنَ".

لكن الظاهر ونقول: القائل هو الله –جل وعلا-، فالله يقول، ويتكلم بصوت، وحرف يُسمع.

"{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} يَعْنِي الْقُرْآنَ. {قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ} يَعْنُونَ مُحَمَّدًا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. {يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} أَيْ أَسْلَافُكُمْ مِنَ الْآلِهَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا. {وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى} يَعْنُونَ الْقُرْآنَ، أَيْ مَا هُوَ إِلَّا كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} فَتَارَةً قَالُوا: سِحْرٌ، وَتَارَةً قَالُوا: إِفْكٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ سِحْرٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِفْكٌ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا}  أَيْ لَمْ يَقْرَءُوا فِي كِتَابٍ أُوتُوهُ بُطْلَانَ مَا جِئْتَ بِهِ، وَلَا سَمِعُوهُ مِنْ رَسُولٍ بُعِثَ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ:  {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} فَلَيْسَ لِتَكْذِيبِهِمْ وَجْهٌ يُتَشَبَّثُ بِهِ، وَلَا شُبْهَةُ مُتَعَلِّقٍ، كَمَا يَقُولُ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَإِنْ كَانُوا مُبْطِلِينَ: نَحْنُ أَهْلُ كِتَابٍ وَشَرَائِعَ، وَمُسْتَنِدُونَ إِلَى رُسُلٍ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ، ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِقَوْلِهِ الْحَقِّ: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}".

نعم، أهل الكتاب لما كان لديهم من الشُبه ما يتمسكون به قال النبي –عليه الصلاة والسلام- لمعاذ لما بعثه إلى اليمن قال: «إنك تأتي قومًا أهل كتاب»، يعني اهتم لهم، لا بد من العناية بشأنهم، ولا بد من سماع كلامهم وشُبههم، والرد عليهم، بخلاف المشركين الذين ليس لديهم كتاب، هؤلاء خام، ما عندهم شُبه، ولا عندهم شيء، ولذا أخشى ما يُخشى المنافق إذا كان عليم اللسان، هذا الذي يورد من الشُبه ما يورد، وهو الذي يحتاج إلى مقارعة، ومناقشة، ومناظرة، إذا لم يوجد من يرده، ويردعه فهذا هو الذي بحاجة، وأما غوغاء الناس، وعامتهم وأشباه العوام فهؤلاء ما عندهم مشكلة بكلمة يُردون، لكن الإشكال المنافق إذا كان عليم اللسان، يستعمل المتشابه، ويستعمل الوجوه، والاحتمالات التي تحتملها النصوص، ثم بعد ذلك يبرز للمناظرة، والمناقشة، وقد يضعف خصمه أمامه، فتحل المشكلة والمصيبة، ويقتدي به الناس، ويأخذون أقواله، كما هو حاصل الآن في هذه القنوات، في هذه المناظرات تضرر بها كثير من عامة الناس، يبرز للناس منافق عليم اللسان لديه اطلاع، أو عنده من يلقنه الحجج الباطلة، أو يتلقف هذه الشبهات، ويعرضها على المسلمين، ويظن أنه عنده علم، لكنه من أهل الزيغ -نسأل الله العافية-.

طالب:...........

والله إذا خُشي ضرره فلا بد من التنبيه عليه، إذا خُشي ضرره فلا بد من التنبيه، أولًا يُبيَّن القول، وأنه خطأ يُبطل بالأدلة، والحجج، ويُردع صاحبه إن أمكن، وإن لم يمكن يُنفَّر منه، ويُحذَّر منه.

طالب:.........

نعم؛ لأنه الرسول –عليه الصلاة والسلام- ما فيه أحد يجابه، ولا فيه أحد يواجه، إذا قال الرسول –عليه الصلاة والسلام- كلمة انتهى، لكن الآن يقول هو كلمة، وأكبر العلماء يقول كلمة ولا يُلتفت إليه، لا بد من ردعه، هذا من أعظم المنكرات، ولا بد من تغييره.

 "{وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أَيْ كَذَّبَ قَبْلَهُمْ أَقْوَامٌ كَانُوا أَشَدَّ مِنْ هَؤُلَاءِ بَطْشًا وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَأَوْسَعَ عَيْشًا، فَأَهْلَكْتُهُمْ كَثَمُودَ وَعَادٍ، وَمَا بَلَغُوا أَيْ مَا بَلَغَ أَهْلُ مَكَّةَ {مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} تِلْكَ الْأُمَمَ. وَالْمِعْشَارُ وَالْعُشْرُ سَوَاءٌ، لُغَتَانِ. وَقِيلَ: الْمِعْشَارُ عُشْرُ الْعُشْرِ. قال الْجَوْهَرِيُّ: وَمِعْشَارُ الشَّيْءِ عُشْرُهُ".

عشره معشار الشيء عشره.

"قال الْجَوْهَرِيُّ: وَمِعْشَارُ الشَّيْءِ عُشْرُهُ، وَلَا يَقُولُونَ هَذَا فِي شَيْءٍ سِوَى الْعُشْرِ. وَقَيلَ: مَا بَلَغَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ".

ما يقال: مخماس، ولا مسداس، ولا مسباع.

"وَقَيلَ: مَا بَلَغَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِعْشَارَ شُكْرِ مَا أَعْطَيْنَاهُمْ، حَكَاهُ النَّقَّاشُ. وَقِيلَ: مَا أَعْطَى اللَّهُ تَعَالَى مَنْ قَبْلَهُمْ مِعْشَارَ مَا أَعْطَاهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ وَالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَيْسَ أُمَّةٌ أَعْلَمَ مِنْ أُمَّتِهِ، وَلَا كِتَابٌ أَبْيَنَ مِنْ كِتَابِهِ. وَقِيلَ: الْمِعْشَارُ هُوَ عُشْرُ الْعَشِيرِ، وَالْعَشِيرُ هُوَ عُشْرُ الْعُشْرِ، فَيَكُونُ جُزْءًا مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ. قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّقْلِيلِ.

{فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أَيْ عِقَابِي فِي الْأُمَمِ، وَفِيهِ مَحْذُوفٌ، وَتَقْدِيرُهُ: فَأَهْلَكْنَاهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِي؟".

نعم، {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}[ق:45]، أصله وعيدي، نكيري، لكن لمراعاة رؤوس الآي تُحذف الياء.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ} تَمَّمَ الْحُجَّةَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: إِنَّمَا أَعِظُكُمْ أَيْ أُذَكِّرُكُمْ وَأُحَذِّرُكُمْ سُوءَ عَاقِبَةِ مَا أَنْتُمْ فِيهِ. {بِوَاحِدَةٍ} أَيْ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى جَمِيعِ الْكَلَامِ، تَقْتَضِي نَفْيَ الشِّرْكِ وَإِثْبَاتَ الْإِلَهِ قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ".

هي كلمة التوحيد، نعم. {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ }[آل عمران:64].

"وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: بِطَاعَةِ اللَّهِ. وَقِيلَ: بِالْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ كُلَّ الْمَوَاعِظِ. وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ بِخَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} فَتَكُونُ (أَنْ) فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ (وَاحِدَةٍ)، أَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ هِيَ {أَنْ تَقُومُوا}. وَمَذْهَبُ الزَّجَّاجِ أَنَّهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِمَعْنَى لِأَنْ تَقُومُوا. وَهَذَا الْقِيَامُ مَعْنَاهُ الْقِيَامُ إِلَى طَلَبِ الْحَقِّ لَا الْقِيَامُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْقُعُودِ، وَهُوَ كَمَا يُقَالُ: قَامَ فُلَانٌ بِأَمْرِ كَذَا، أَيْ لِوَجْهِ اللَّهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ. وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ}[النساء:127] {مَثْنَى وَفُرَادَى} أَيْ وُحْدَانًا وَمُجْتَمِعِينَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقِيلَ: مُنْفَرِدًا بِرَأْيِهِ وَمُشَاوِرًا لِغَيْرِهِ، وَهَذَا قَوْلٌ مَأْثُورٌ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: مُنَاظِرًا مَعَ غَيْرِهِ وَمُفَكِّرًا فِي نَفْسِهِ، وَكُلُّهُ مُتَقَارِبٌ. وَيَحْتَمِلُ رَابِعًا أَنَّ الْمَثْنَى عَمَلُ النَّهَارِ وَالْفُرَادَى عَمَلُ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّهُ فِي النَّهَارِ مُعَانٌ، وَفِي اللَّيْلِ وَحِيدٌ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ".

وهذا لما كانت الأمور على أصل الفطرة، والخلقة، وأن النهار معاش وانتشار، والليل سكن وقرار، الليل ما يجتمع فيه أحد، وأما في النهار فهو محل اللقاءات والاجتماعات، الآن لا فرق بين الليل والنهار، ولو قيل: إن كثيرًا من الناس عندهم عكس لما بعُد.

 "وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ: {مَثْنَى وَفُرَادَى}؛ لِأَنَّ الذِّهْنَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ وَهُوَ الْعَقْلُ، فَأَوْفَرُهُمْ عَقْلًا أَوْفَرُهُمْ حَظًّا مِنَ اللَّهِ، فَإِذَا كَانُوا فُرَادَى كَانَتْ فِكْرَةً وَاحِدَةً، وَإِذَا كَانُوا مَثْنَى تَقَابَلَ الذِّهْنَانِ فَتَرَاءَى مِنَ الْعِلْمِ لَهُمَا مَا أُضْعِفَ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

 {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ}  الْوَقْفُ عِنْدَ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ عَلَى {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا}، وَقِيلَ: لَيْسَ هُوَ بِوَقْفٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى: ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا هَلْ جَرَّبْتُمْ عَلَى صَاحِبِكُمْ كَذِبًا، أَوْ رَأَيْتُمْ فِيهِ جِنَّةً، أَوْ فِي أَحْوَالِهِ مِنْ فَسَادٍ، أَوِ اخْتَلَفَ إِلَى أَحَدٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الْعِلْمَ بِالسِّحْرِ، أَوْ تَعَلَّمَ الْأَقَاصِيصَ وَقَرَأَ الْكُتُبَ، أَوْ عَرَفْتُمُوهُ بِالطَّمَعِ فِي أَمْوَالِكُمْ، أَوْ تَقْدِرُونَ عَلَى مُعَارَضَتِهِ فِي سُورَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِذَا عَرَفْتُمْ بِهَذَا الْفِكْرِ صِدْقَهُ، فَمَا بَالُ هَذِهِ الْمُعَانَدَةِ؟".

وكلهم يعترفون بنقيض ما اتهموه به.

{إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}[الشعراء:214] وَرَهْطَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلِصِينَ «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا فَهَتَفَ: يَا صَبَاحَاهُ؟ فَقَالُوا: مَنْ هَذَا الَّذِي يَهْتِفُ!؟ قَالُوا: مُحَمَّدٌ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا بَنِي فُلَانٍ، يَا بَنِي فُلَانٍ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ فَقَالَ أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قَالُوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا. قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ. قَالَ: فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ! أَمَا جَمَعْتَنَا إِلَّا لِهَذَا؟ ثُمَّ قَالَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}»، كَذَا قَرَأَ الْأَعْمَشُ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ}  أَيْ جُعْلَ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ فَهُوَ لَكُمْ أَيْ ذَلِكَ الْجُعْلُ لَكُمْ إِنْ كُنْتُ سَأَلْتُكُمُوهُ،  {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد} أَيْ رَقِيبٌ وَعَالِمٌ وَحَاضِرٌ لِأَعْمَالِي وَأَعْمَالِكُمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فَهُوَ يُجَازِي الْجَمِيعَ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} أَيْ يُبَيِّنُ الْحُجَّةَ وَيُظْهِرُهَا. قَالَ قَتَادَةُ: بِالْحَقِّ بِالْوَحْيِ. وَعَنْهُ: الْحَقُّ الْقُرْآنُ. وَقَال َابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ يَقْذِفُ الْبَاطِلَ بِالْحَقِّ {عَلَّامُ الْغُيُوبِ}. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: عَلَّامُ الْغُيُوبِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ".

يعني من ربي بدل من ربي المنصوب بإن.

"أَيْ قُلْ إِنَّ رَبِّي عَلَّامُ الْغُيُوبِ يَقْذِفُ بِالْحَقِّ. قَال َالزَّجَّاجُ: وَالرَّفْعُ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ رَفْعٍ".

يعني قبل دخول (إِنَّ) رَبِّي مرفوع فمحله الرفع، ونصب لفظه بدخول إن؛ لأنه صار اسم إن منصوبًا.

 "أَوْ عَلَى الْبَدَلِ مِمَّا فِي يَقْذِفُ. قال النَّحَّاسُ: وَفِي الرَّفْعِ وَجْهَانِ آخَرَانِ: يَكُونُ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَيَكُونُ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ".

الخبر الأول {يَقْذِفُ بِالْحَقِّ}، والثاني {عَلَّامُ الْغُيُوبِ}، نعم.

"وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ الرَّفْعَ فِي مِثْلِ هَذَا أَكْثَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِذَا أَتَى بَعْدَ خَبَرِ (إِنَّ) وَمِثْلُهُ  {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص:64]". 

يعني استكملت (إن) الخبر، استكملت الجملة الاسم، والخبر يجوز الرفع، ويجوز النصب ولو كان معطوفًا عليه، أو مبدلًا منه يعني تابعًا له،

وجائز رفعك معطوفًا على
 

منصوب إن بعد أن تستكملاً
  

يعني إذا استكملت الخبر وأما قبل ذلك فلا.

"وَقُرِئَ: (الْغُيُوبِ) بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ، فَالْغُيُوبُ كَالْبُيُوتِ، وَالْغَيُوبُ كَالصَّبُورِ، وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي غَابَ وَخَفِيَ جِدًّا.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ}  قَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: يُرِيدُ الْقُرْآن. قال النَّحَّاسُ: وَالتَّقْدِيرُ جَاءَ صَاحِبُ الْحَقِّ أَيِ الْكِتَابِ الَّذِي فِيهِ الْبَرَاهِينُ وَالْحُجَجُ. {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ} قَالَ قَتَادَةُ: الشَّيْطَانُ، أَيْ مَا يَخْلُقُ الشَّيْطَانُ أَحَدًا {وَمَا يُعِيدُ} فَ(مَا) نَفْيٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا بِمَعْنَى أَيِّ شَيْءٍ، أَيْ جَاءَ الْحَقُّ، فَأَيُّ شَيْءٍ بَقِيَ لِلْبَاطِلِ حَتَّى يُعِيدَهُ وَيُبْدِئَهُ؟ أَيْ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ، كَقَوْلِهِ: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ}[الحاقة:8] أَيْ لَا تَرَى.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا تَرَكْتَ دِينَ آبَائِكَ فَضَلَلْتَ. فَقَالَ لَهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ، إِنْ ضَلَلْتُ كَمَا تَزْعُمُونَ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ: ضَلَلْتَ بِفَتْحِ اللَّامِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَغَيْرُهُ: (قُلْ إِنْ ضَلِلْتُ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِ الضَّادِ مِنْ (أَضَلُّ)، وَالضَّلَالُ وَالضَّلَالَةُ ضِدُّ الرَّشَادِ. وَقَدْ ضَلَلْتُ (بِفَتْحِ اللَّامِ) أَضِلُّ (بِكَسْرِ الضَّادِ)، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} فَهَذِهِ لُغَةُ نَجْدٍ وَهِيَ الْفَصِيحَةُ. وَأَهْلُ الْعَالِيَةِ يَقُولُونَ: (ضَلِلْتُ) بِالْكَسْرِ (أَضِلُّ)، أَيْ إِثْمُ ضَلَالَتِي عَلَى نَفْسِي. {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْبَيَانِ {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} أَيْ سَمِيعٌ مِمَّنْ دَعَاهُ قَرِيبُ الْإِجَابَةِ. وَقِيلَ: وَجْهُ النَّظْمِ: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ وَيُبَيِّنُ الْحُجَّةَ، وَضَلَالُ مَنْ ضَلَّ لَا يُبْطِلُ الْحُجَّةَ، وَلَوْ ضَلَلْتُ لَأَضْرَرْتُ بِنَفْسِي، لَا أَنَّهُ يُبْطِلُ حُجَّةَ اللَّهِ، وَإِذَا اهْتَدَيْتُ فَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ؛ إِذْ ثَبَّتَنِي عَلَى الْحُجَّةِ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ}  ذَكَرَ أَحْوَالَ الْكُفَّارِ فِي وَقْتٍ".

من ضل فإنما يضل على نفسه، ولا يضر إلا نفسه، ومن اهتدى فالله –جل وعلا- هو الذي هداه، فله المنة على كل حال، والمستفيد هو، «ولو كان على أفجر قلب رجل ما ضر من ملك الله شيء، وما نقص من ملك الله شيئًا، ولو كان على أتقى قلب رجل، ما زاد ذلك في ملك الله شيئاً»، وإنما النفع والضر إنما يعود على المخلوق.

"ذَكَرَ أَحْوَالَ الْكُفَّارِ فِي وَقْتٍ مَا يُضْطَرُّونَ فِيهِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ. وَالْمَعْنَى: لَوْ تَرَى إِذَا فَزِعُوا فِي الدُّنْيَا عِنْدَ نُزُولِ الْمَوْتِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِمْ، رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قال الْحَسَنُ: هُوَ فَزَعُهُمْ فِي الْقُبُورِ مِنَ الصَّيْحَةِ. وَعَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ الْفَزَعَ إِنَّمَا هُوَ إِذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ، وَقَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ ابْنُ مُغَفَّلٍ: إِذَا عَايَنُوا عِقَابَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

هناك نفخة، نفخة يقال: نفخة الفزع {يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [النمل:87]، الجميع، ولكن هذا فزع خاص بهؤلاء الكفار -نسأل الله العافية-؛ لأنهم هم الذين يفزعون؛ لأنهم تيقنوا ما أمامهم من الأهوال، والله المستعان.

"قال السُّدِّيُّ: هُوَ فَزَعُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ ضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ بِسُيُوفِ الْمَلَائِكَةِ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا فِرَارًا وَلَا رُجُوعًا إِلَى التَّوْبَةِ. وقال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الْجَيْشُ الَّذِي يُخْسَفُ بِهِ فِي الْبَيْدَاءِ فَيَبْقَى مِنْهُمْ رَجُلٌ فَيُخْبِرُ النَّاسَ بِمَا لَقِيَ أَصْحَابُهُ فَيَفْزَعُونَ، فَهَذَا هُوَ فَزَعُهُمْ. {فَلَا فَوْتَ} فَلَا نَجَاةَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وقال مُجَاهِدٌ: فَلَا مَهْرَبَ. {وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} أَيْ مِنَ الْقُبُورِ. وَقِيلَ: مِنْ حَيْثُ كَانُوا، فَهُمْ مِنَ اللَّهِ قَرِيبٌ لَا يَعْزُبُونَ عَنْهُ وَلَا يَفُوتُونَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي ثَمَانِينَ أَلْفًا يَغْزُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ الْكَعْبَةَ لِيُخَرِّبُوهَا، وَكُلَمَّا يَدْخُلُونَ الْبَيْدَاءَ يُخْسَفُ بِهِمْ، فَهُوَ الْأَخْذُ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ.

قُلْتُ: وَفِي هَذَا الْمَعْنَى خَبَرٌ مَرْفُوعٌ عَنْ حُذَيْفَةَ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ، قَال:  قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَذَكَرَ فِتْنَةً تَكُونُ بَيْنَ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ: فَبَيْنَما هُمْ كَذَلِكَ إِذْ خَرَجَ عَلَيْهِمُ السُّفْيَانِيُّ مِنَ الْوَادِي الْيَابِسِ فِي فَوْرَةِ ذَلِكَ حَتَّى يَنْزِلَ دِمَشْقَ فَيَبْعَثُ جَيْشَيْنِ، جَيْشًا إِلَى الْمَشْرِقِ، وَجَيْشًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَيَسِيرُ الْجَيْشُ نَحْوَ الْمَشْرِقِ حَتَّى يَنْزِلُوا بِأَرْضِ بَابِلَ فِي الْمَدِينَةِ الْمَلْعُونَةِ وَالْبُقْعَةِ الْخَبِيثَةِ  يَعْنِي مَدِينَةَ بَغْدَاد قَالَ: فَيَقْتُلُونَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ وَيَفْتَضُّونَ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ امْرَأَةٍ وَيَقْتُلُونَ بِهَا ثَلَاثَمِائَةِ كَبْشٍ مِنْ وَلَدِ الْعَبَّاسِ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ مُتَوَجِّهِينَ إِلَى الشَّامِ فَتَخْرُجُ رَايَةُ هُدًى مِنَ الْكُوفَةِ فَتَلْحَقُ ذَلِكَ الْجَيْشَ مِنْهَا عَلَى لَيْلَتَيْنِ فَيَقْتُلُونَهُمْ لَا يُفْلِتُ مِنْهُمْ مُخْبِرٌ، وَيَسْتَنْقِذُونَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ السَّبْيِ وَالْغَنَائِمِ، وَيَحُلُّ جَيْشُهُ الثَّانِي بِالْمَدِينَةِ فَيَنْتَهِبُونَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا، ثُمَّ يَخْرُجُونَ مُتَوَجِّهِينَ إِلَى مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْبَيْدَاءِ بَعَثَ اللَّهُ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَيَقُولُ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ فَأَبِدْهُمْ فَيَضْرِبُهَا بِرِجْلِهِ ضَرْبَةً يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ}  فَلَا يَبْقَى مِنْهُمْ إِلَّا رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا بَشِيرٌ، وَالْآخَرُ نَذِيرٌ، وَهُمَا مِنْ جُهَيْنَةَ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الْقَوْلُ: وَعِنْدَ جُهَيْنَةَ الْخَبَرُ الْيَقِينُ، وَقِيلَ: {أُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} أَيْ قُبِضَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَمَاكِنِهَا فَلَمْ يُمْكِنْهُمُ الْفِرَارُ مِنَ الْمَوْتِ. وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: هَذَا الْفَزَعُ عِنْدَ النَّزْعِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنَ الْفَزَعِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْإِجَابَةِ، يُقَالُ: فَزِعَ الرَّجُلُ أَيْ أَجَابَ الصَّارِخَ الَّذِي يَسْتَغِيثُ بِهِ إِذَا نَزَلَ بِهِ خَوْفٌ. وَمِنْهُ الْخَبَرُ إِذْ قَالَ لِلْأَنْصَارِ". 

يعني إذا أجابه بسرعة، إذا أجاب الصارخ بسرعة فزع، وفزع إليه، وأنجده، وأغاثه، نعم.

الخبر الطويل السابق؟

طالب: يقول بعضهم: أخرجه الطبري من حديث حذيفة، وأشار إلى وهنه، وأما ابن كثير فقال في تفسيره: خرج الطبري هنا حديثًا موضوعًا ... وهذا عجيب غريب من... فيه روّاد بن الجراح حدث عن سفيان بالمناكير ...

نعم، على كل حال الخبر السابق ليس بصحيح.

طالب: حديث حذيفة؟

نعم، حديث حذيفة.

"وَمِنْهُ الْخَبَرُ إِذْ".

إذ أم إذا؟

إذ. وتقدم هذا، إذ قال.

إذ قال.

"وَمِنْهُ الْخَبَرُ إِذْ قَالَ لِلْأَنْصَارِ: إِنَّكُمْ لَتَقِلُّونَ عِنْدَ الطَّمَعِ وَتَكْثُرُونَ عِنْدَ الْفَزَع. وَمَنْ قَالَ: أَرَادَ الْخَسْفَ أَوِ الْقَتْلَ فِي الدُّنْيَا كَيَوْمِ بَدْرٍ قَالَ: أُخِذُوا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذُوا فِي الْآخِرَةِ. وَمَنْ قَالَ: هُوَ فَزَعُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَالَ: أُخِذُوا مِنْ بَطْنِ الْأَرْضِ إِلَى ظَهْرِهَا. وَقِيلَ: {أُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ}  مِنْ جَهَنَّمَ فَأُلْقُوا فِيهَا.

 قَوْلُهُ تَعَالَى:  {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ}  أَيِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِاللَّهِ -عَزَّ وَجَلّ-. وقال الْحَسَنُ: بِالْبَعْثِ. وقال قَتَادَةُ: بِالرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".

ولا تناقض ولا تنافر، هذا اختلاف تنوُّع، {آمَنَّا بِهِ} أي بالله -جل وعلا-،  وبما جاء عنه من القرآن أو النبي -عليه الصلاة والسلام-.

  "{وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}  قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: التَّنَاوُشُ الرَّجْعَةُ، أَيْ يَطْلُبُونَ الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا لِيُؤْمِنُوا، وَهَيْهَاتَ مِنْ ذَلِكَ! وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

تَمَنَّى أَنْ تَئُوبَ إِلَيَّ مَيٌّ
 

وَلَيْسَ إِلَى تَنَاوُشِهَا سَبِيلُ
  

وَقَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ التَّوْبَةُ، أَيْ طَلَبُوهَا وَقَدْ بَعُدَتْ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا تُقْبَلُ التَّوْبَةُ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: التَّنَاوُشُ التَّنَاوُلُ، قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ:  يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا تَنَاوَلَ رَجُلًا لِيَأْخُذَ بِرَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ: نَاشَهُ يَنُوشُهُ نَوْشًا".

لاسيما إذا كان فيه بُعد عنه، يعني فيه بُعد فتناوله إياه يكون بمشقة.

" وَأَنْشَدَ:

فَهِيَ تَنُوشُ الْحَوْضَ نَوْشًا مِنْ عَلَا
 

نَوْشًا بِهِ تَقْطَعُ أَجْوَازَ الْفَلَا
  

أَيْ تَتَنَاوَلُ مَاءَ الْحَوْضِ مِنْ فَوْقٍ، وَتَشْرَبُ شُرْبًا كَثِيرًا، وَتَقْطَعُ بِذَلِكَ الشُّرْبِ فَلَوَاتٍ فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى مَاءٍ آخَرَ. قَالَ: وَمِنْهُ الْمُنَاوَشَةُ فِي الْقِتَالِ، وَذَلِكَ إِذَا تَدَانَى الْفَرِيقَانِ. وَرَجُلٌ نَوُوشٌ أَيْ ذُو بَطْشٍ. وَالتَّنَاوُشُ. التَّنَاوُلُ: وَالِانْتِيَاشُ مِثْلُهُ. قَالَ الرَّاجِزُ:

كَانَتْ تَنُوشُ الْعُنُقَ انْتِيَاشًا
  

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}  يَقُولُ لهم: أَنَّى لَهُمْ تَنَاوُلُ الْإِيمَانِ فِي الْآخِرَةِ وَقَدْ كَفَرُوا فِي الدُّنْيَا. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ: (وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاؤُشُ) بِالْهَمْز. قال  النَّحَّاسُ: وَأَبُو عُبَيْدَةَ يَسْتَبْعِدُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ؛ لِأَنَّ (التَّنَاؤُشُ) بِالْهَمْزِ الْبُعْدُ، فَكَيْفَ يَكُونُ".

مثل التنائي، المقصود به البعد.

 "فَكَيْفَ يَكُونُ: وَأَنَّى لَهُمُ الْبُعْدُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ". 

لا يحتاج إلى وصف كونه من مكان بعيد إذا كان المقصود التَّنَاؤُشُ، هو البعد لا يحتاج أن يقال: من مكان بعيد.

  "قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْقِرَاءَةُ جَائِزَةٌ حَسَنَةٌ، وَلَهَا وَجْهَانِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلَا يُتَأَوَّلُ بِهَا هَذَا الْمُتَأَوَّلُ الْبَعِيدُ. فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ غَيْرَ مَهْمُوزٍ، ثُمَّ هُمِزَتِ الْوَاوُ؛ لِأَنَّ الْحَرَكَةَ فِيهَا خَفِيَّةٌ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَفِي الْمُصْحَفِ الَّذِي نَقَلَتْهُ الْجَمَاعَةُ عَنِ الْجَمَاعَةِ  {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} وَالْأَصْلُ (وُقِّتَتْ)".

الذي كتبه عثمان، وأرسله إلى الأمصار.

 "لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَقْتِ. وَيُقَالُ فِي جَمْعِ دَارٍ: أَدْؤُرٌ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ ذَكَرَهُ أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: يَكُونُ مُشْتَقًّا مِنَ النَّئِيشِ، وَهُوَ الْحَرَكَةُ فِي إِبْطَاءٍ، أَيْ مِنْ أَيْنَ لَهُمُ الْحَرَكَةُ فِيمَا قَدْ بَعُدَ، يُقَالُ: نَأَشْتُ الشَّيْءَ أَخَذْتُهُ مِنْ بُعْدٍ، والنَّئِيشُ: الشَّيْءُ الْبَطِيءُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: التَّنَاؤُشُ (بِالْهَمْزِ) التَّأَخُّرُ وَالتَّبَاعُدُ. وَقَدْ نَأَشْتُ الْأَمْرَ أَنْأَشُهُ نَأْشًا أَخَّرْتُهُ، فَانْتَأَشَ. وَيُقَالُ: فَعَلَهُ نَئِيشًا أَيْ أَخِيرًا؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

تَمَنَّى نَئِيشًا أَنْ يَكُونَ أَطَاعَنِي
 

وَقَدْ حَدَثَتْ بَعْدَ الْأُمُورِ أُمُورُ
  

وَقَالَ آخَرُ:

قَعَدْتُ زَمَانًا عَنْ طِلَابِكَ لِلْعُلَا
 

وَجِئْتَ نَئِيشًا بَعْدَمَا فَاتَكَ الْخَبَرُ"
  

الخُبر

"وَجِئْتَ نَئِيشًا بَعْدَمَا فَاتَكَ الخُبر"
  

الخُبر والخَبر، الخَبر معروف، والخُبر حقيقة الشيء.

"وَقَالَ الْفَرَّاءُ :الْهَمْزُ وَتَرْكُ الْهَمْزِ فِي التَّنَاؤُشِ مُتَقَارِبٌ، مِثْلُ: ذِمْتُ الرَّجُلَ وَذَأَمْتُهُ أَيْ عِبْتُهُ. {مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} أَيْ مِنَ الْآخِرَةِ. وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ التَّمِيمِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَأَنَّى لَهُمْ قَالَ: الرَّدُّ، سَأَلُوهُ وَلَيْسَ بِحِينِ رَدٍّ".

يعني الرد إلى الدنيا ليعمل صالحًا، لكن هذا ليس متاحًا، خلاص، مع أن الله –جل وعلا- قال: {ولو ردوا لعادوا} من الرد، ثم يعودون إلى ما كانوا يعملونه قبل الموت، نعم.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ}  أَيْ بِاللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-. وَقِيل:  بِمُحَمَّدٍ {مِنْ قَبْلُ} يَعْنِي فِي الدُّنْيَا. {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ} الْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ بِمَا لَا يَحُقُّهُ: هُوَ يَقْذِفُ وَيَرْجُمُ بِالْغَيْبِ".

يعني بالظن لا يتحقق من هذا الأمر بل يهرف به، وهو لا يعرفه هذا يقذف بالغيب، نعم.

 "مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ عَلَى جِهَةِ التَّمْثِيلِ لِمَنْ يَرْجُمُ وَلَا يُصِيبُ".

كمن يرمي من بُعد هذا في الغالب أنه لا يصيب.

"أَيْ يَرْمُونَ بِالظَّنِّ فَيَقُولُونَ: لَا بَعْثَ وَلَا نُشُورَ وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ، رَجْمًا مِنْهُمْ بِالظَّنِّ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: (يَقْذِفُونَ) أَيْ يَرْمُونَ فِي الْقُرْآنِ فَيَقُولُونَ: سِحْرٌ وَشِعْرٌ وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَقِيلَ: فِي مُحَمَّدٍ، فَيَقُولُونَ: سَاحِرٌ شَاعِرٌ كَاهِنٌ مَجْنُونٌ. {مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} أَيْ أَنَّ اللَّهَ بَعَّدَ لَهُمْ أَنْ يَعْلَمُوا صِدْقَ مُحَمَّدٍ. وَقِيلَ: أَرَادَ الْبُعْدَ عَنِ الْقَلْبِ، أَيْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ عَنْ قُلُوبِهِمْ.

وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: (وَيُقْذَفُونَ بِالْغَيْبِ) غَيْرَ مُسَمَّى الْفَاعِلِ، أَيْ يُرْمَوْنَ بِهِ. وَقِيلَ: يَقْذِفُ بِهِ إِلَيْهِمْ مَنْ يُغْوِيهِمْ وَيُضِلُّهُمْ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ}. 

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} قِيلَ: حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ. وَقِيلَ: حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ، وَمَذْهَبُ قَتَادَةَ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَهُونَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُمْ أَنْ يُطِيعُوا اللَّهَ -جَلَّ وَعَزَّ-، وَيَنْتَهُوا إِلَى مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ اللَّهُ، فَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ زَالَتْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَالْأَصْلُ (حُوِلَ) فَقُلِبَتْ حَرَكَةُ الْوَاوِ عَلَى الْحَاءِ، فَانْقَلَبَتْ يَاءً، ثُمَّ حُذِفَتْ حَرَكَتُهَا لِثِقَلِهَا. {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ}  الْأَشْيَاعُ جَمْعُ شَيْعٍ، وَشِيَعٌ جَمْعُ شِيعَةٍ. {مِنْ قَبْلُ} أَيْ".

يعني بأمثالهم ونظرائهم، نعم.

"{مِنْ قَبْلُ} أَيْ بِمَنْ مَضَى مِنَ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ الْكَافِرَةِ. {إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ} أَيْ مِنْ أَمْرِ الرُّسُلِ وَالْبَعْثِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وقِيلَ: فِي الدِّينِ وَالتَّوْحِيدِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. {مُرِيبٍ} أَيْ يُسْتَرَابُ بِهِ، يُقَالُ: أَرَابَ الرَّجُلُ أَيْ صَارَ ذَا رِيبَةٍ، فَهُوَ مُرِيبٌ. وَمَنْ قَالَ هُوَ مِنَ الرَّيْبِ الَّذِي هُوَ الشَّكُّ وَالتُّهْمَةُ قَالَ: يُقَالُ شَكٌّ مُرِيبٌ، كَمَا يُقَالُ: عَجَبٌ عَجِيبٌ وَشِعْرُ شَاعِرٍ، فِي التَّأْكِيد".  

بقية سورة فاطر، وتحتاج إلى درسين فإما أن يكون في الاثنين القادم عصر الاثنين، وعصر الخميس؛ لأن الجمعة عندنا سفر، أو يكون في مغرب السبت، والأحد فالرؤية الأفضل اختاروا.

طالب: المغرب ما يكفي.

ما يكفي عصر الاثنين، وعصر الخميس.

طالب: ................

نعم.