شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (060)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحبًا بكم إلى حلقة جديدة في برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

نرحب مع بداية حلقتنا هذه بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، ونشكر لفضيلته شرح هذا الكتاب فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله وبارك فيكم.

المقدم: لا زلنا في حديثين اثنين، وهما تحت باب: باب علامة المنافق، وقد أشرتم -أحسن الله إليكم- إلى شيء من ألفاظ الحديثين في حلقة مضت، ولعلنا نستكمل ما تبقى منهما في هذه الحلقة.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبق الكلام في الحلقة السابقة عن الخصلة الأولى من خصال النفاق والمنافقين «إذا حدَّث كذب».

وأما الخصلة الثانية: «إذا وعد أخلف» فقد قال صاحب المُحْكَم: يقال: وعدته خيرًا ووعدته شرًا، فإذا أسقطوا الفعل يعني الموعود قالوا في الخير وعدته، وفي الشر أوعدته، وحكى ابن الأعرابي في نوادره: أوعدته خيرًا بالهمزة أيضًا، فالمراد بالوعد في الحديث الوعد بالخير، وأما الشر فيستحب إخلافه، وقد يجب ما لم يترتب على ترك إنفاذه مفسدة.

قد يجب الإيعاد بالشر، متى يجب ترك الإيعاد بالشر؟ إذا لم يكن للشر مبرر، إذا لم يكن سبب مبرر، بل هو مجرد ظلم وعدوان يجب تركه، أما إذا أوعد بالشر شخصًا يستحق هذا الإيعاد فلا يجب تركه، إنما يندب تركه، وقد لا يجوز ترك مثل هذا الإيعاد بالشر إذا ترتب عليه مفسدة، تمادي مثل هذا الشخص الذي أُوْعِد بالشر بسببه، بسبب أمر وقع فيه.

وفي إرشاد الساري: قوله: «إذا وعد أخلف» هو من عطف الخاص على العام؛ لأن الوعد نوع من التحديث، وكان داخلاً في قوله: «وإذا حدث كذب» ولكنه أُفرد بالذكر معطوفًا تنبيهًا على زيادة قبحه، فإن قلت: الخاص إذا عطف على العام لا يخرج من تحت العام، وحينئذٍ تكون الآية ثنتين لا ثلاثًا، أجيب بأن لازم الوعد الذي هو الإخلاف الذي قد يكون فعلاً، ولازم التحديث الذي هو الكذب الذي لا يكون فعلاً متغايرًا، متغايرًا من حيث اللازم، فبهذا الاعتبار قد كان الملزومان متغايرين، على أنه يحصل الكذب بالقول والفعل، وخُلْف الوعد لا يقدح، كما قرر أهل العلم، إلا إذا كان العزم عليه مقارنًا للوعد، يكون العزم على الخلف مقارنًا للوعد، أما لو كان عازمًا على الوفاء ثم عرض له مانع، أو بدا له رأي فهذا لم يوجد منه صورة النفاق.

وفي حديث الطبراني ما يشهد له، حيث قال: «إذا وعد وهو يحدِّث نفسه أنه يخلف» وكذا قال في باقي الخصال، وإسناده لا بأس به، وهو عند الترمذي وأبي داود مختصرًا بلفظ: «إذا وعد الرجل أخاه وينوي أن يفي له فلم يَفِ له فلا جناح عليه» لكن ينبغي أن يكون مثل هذا الإخلاف وإن كان طارئًا أن يكون له سبب ومبرر.

قال الترمذي: هذا حديث غريب وليس إسناده بالقوي، لا يعرف أبو النعمان، ولا أبو وقاص، وهما مجهولان، على كل حال حديث الطبراني إسناده جيد، لا بأس به، ويشهد له هذا الحديث الذي عند الترمذي وأبي داود.

الخصلة الثالثة: «وإذا اؤتمن خان» إذا اؤتمن على صيغة المجهول من الائتمان، خان بأن تصرف في الأمانة على خلاف الشرع، والأمانة شأنها عظيم، والخيانة ضررها جسيم، قال الله -جل وعلا-: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [سورة النساء 58] قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى-: هذا يعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان من حقوق الله -عز وجل- على عباده من الصلوات والزكوات والكفارات والنذور والصيام وغيرها مما هو مؤتمن عليه مما لا يطلع عليه العباد، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض كالودائع وغير ذلك مما يَأْتَمِنُون به بعضهم على بعض من غير اطلاع بينة على ذلك، فأمر الله -عز وجل- بأدائها، فمن لم يفعل ذلك في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة، كما ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- قال: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء» في صحيح مسلم، والخيانة في الأموال أمرها عظيم جدًّا، وأعظم منها الخيانة في الأعراض -نسأل الله السلامة والعافية-، وقد سمى الله -سبحانه وتعالى- النظرة المحرمة خيانة، كما قال -جل وعلا-: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [سورة غافر 19] فكيف بما فوقها مما النظرة وسيلة إليها، فكيف بالغاية، نسأل الله السلامة والعافية، والله المستعان.

أما الخصلة الرابعة: «إذا عاهد غدر» إذا عاهد من المعاهدة، وهي المحالفة والمواثقة يقول الراغب في المفردات: العهد حفظ الشيء ومراعاته حالاً بعد حال، وسمى الله -سبحانه وتعالى- الموثَّق الذي يلزم مراعاته عهدًا كما قال: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [سورة الإسراء 34] أي أوفوا بحفظ الأيمان.

قال: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [سورة البقرة 124] أي: لا أجعل عهدي لمن كان ظالما، وقال: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ} [سورة التوبة 111] وعهد فلان إلى فلان يعهد، أي ألقى إليه العهد، وأوصاه بحفظه، قال -جل وعلا-: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ} [سورة طـه 115] وقال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} [سورة يــس 60] {إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا} [سورة آل عمران 183] {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ} [سورة البقرة 125] وعهْد الله تارة يكون بما ركزه في عقولنا، يعني بما فطرنا الله عليه، وتارة يكون بما أمرنا به بكتابه وبألسنة رسله، وتارة ما نلتزمه من تلقاء أنفسنا، مما هو ليس بلازم في الأصل في أصل الشرع كالنذور، وما يجري مجراها، وعلى هذا قوله: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ} [سورة التوبة 75] {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْدًا} [سورة البقرة 100] {عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ} [سورة الأحزاب 15] ويسوق الآيات كذا وراء بعض من غير فواصل.

والمعاهد في عرف الشرع يختص بمن يدخل من الكفار في عهد المسلمين، وكذلك ذو العهد، وهذا في المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني.

وفي الدر النثير للسيوطي تلخيص نهاية ابن الأثير: العهد اليمين والأمانة والذمة والحفاظ ورعاية الحرمة والوصية، ولا تخرج الأحاديث الواردة فيه عن أحد هذه المعاني «وأنا على عهدك» أي مقيم على ما عاهدتك عليه من الإيمان والإقرار بوحدانيتك، وحسن العهد من الإيمان، يريد الحفاظ ورعاية الحرمة، وتمسكوا بعهد ابن مسعود، أي ما يوصيكم به ويأمركم، وعَهِد إليَّ أوصى، هذه معاني العهد.

وفي التهذيب للأزهري: العهد الميثاق، ومنه قوله -جل وعز-: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ} [سورة النحل 91] وأخبرني المنذري عن أبي الهيثم أنه قال: العهد جمع العهدة، وهو الميثاق واليمين التي تَسْتَوْثِق بها ممن يعاهدك، قال: والعهد والعهدة واحد، تقول: برئت إليك من عهدة هذا العهد.

وغدر من الغدر، وهو ترك الوفاء، قال الجوهري: غدر به فهو غادر، وغُدَر أيضًا، وأكثر ما يستعمل هذا في النداء بالشتم، يعني إذا قيل: يا غُدَر، وفي المُحْكَم غَدَرَه وغَدَرَ به يَغْدِر غَدْرًا، ورجل غادر وغدَّار وغَدُوْر وكذلك الأنثى بغير هاء، يعني يقال: غَدُوْر فلانة غَدُوْر ولا يقال: غَدُوْرَة، وغُدَر أيضًا، وفي المُجْمَل: الغَدْر نقض العهد وتركه، ويقال: أصله من الغَدِيْر، وهو الماء الذي يغادره السيل، أي يتركه، يقال: غادرت الشيء إذا تركته، فكأنك تركت ما بينك وبينه من العهد، انتهى.

وتقدم في شرح حديث هرقل أن النبي -عليه الصلاة والسلام- لا يغدر، وفيه -في حديث هرقل- قال هرقل لأبي سفيان: وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر، فالغدر خلق ذميم، من سمات المنافقين.

الخصلة الخامسة: «وإذا خاصم فجر» يقول الكرماني: أصل الفجور الميل عن القصد والشَّق، فمعنى فَجَر مال عن الحق وقال الباطل، أو شَقَّ ستر الديانة، والمخاصمة كما في عمدة القاري المجادلة.

فإذا خاصم الإنسان أحدًا لِحَظِّه أو لِحَظِّ غيره فعليه بالقصد والإنصاف، إذا خاصم الإنسان أحدًا لِحَظِّه بأن كان أصيلاً عن نفسه يطالب بحقوقه فعليه بالإنصاف، ومن باب أولى إذا طالب وخاصم لِحَظِّ غيره بأن كان وكيلاً أو محاميًا عن أحد، فعليه بالقصد والإنصاف.

فليتقِ الله -سبحانه وتعالى- أولئك الذين يلبسون على القضاة إذا خاصموا لأنفسهم أو لِمُوَكِّليهم وسعوا بكل ما أوتوا من بيان وخبرة لحَرْف الحكم عن مساره الصحيح إلى غيره، والقاضي بَشَر يقضي على نحو ما يسمع، كما في الحديث الصحيح عن أم سلمة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سمع جَلَبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم، فقال: «ألا إنما أنا بشر، وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحْسِب أنه صادق فأقضي له، فمن قضيت له في حق مسلم فإنما هي قطعة من نار، فليحملها أو يذرها» ففي هذا الحديث تهديد شديد، ووعيد أكيد على من أخذ أموال الناس بالدعاوى الكاذبة، والحِيَل المحرمة، فالأمر هنا: «فليحملها» أمر تهديد، كما في قوله -جل وعلا-: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [سورة فصلت 40] فمن معاني الأمر التهديد وهذا منه.

يقول النووي: اعلم أن هذا الحديث عدَّه جماعة من العلماء مُشْكلاً من حيث إن هذه الخصال قد توجَد في المسلم المصدق الذي ليس فيه شك، وقد أجمعت الأمة على أن من كان مصدقًا بقلبه ولسانه، وفعل هذه الخصال لا يُحكَم بكفره، ولا هو منافق يخلَّد في النار؛ قالوا: وقد جمعت إخوة يوسف -عليه السلام- هذه الخصال، وكذا وجد لبعض الناس من المسلمين والمؤمنين، بل من الخاصة بعض هذه الخصال، وليس في الحديث إشكال، إخوة يوسف حدَّثوا وكذبوا ووعدوا أباهم وأخلفوا، وعاهدوا وإلى آخره، كما نص على ذلك النووي وغيره، جمعت إخوة يوسف -عليه السلام- هذه الخصال، لا شك أن هذه معاصي ومنكرات، بل كبائر، لكن تجُبُّها التوبة.

إخوة يوسف يقرر جمع من أهل العلم أنهم أنبياء، وإن قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- إنه لا يعرف في النصوص ما يدل على أنهم أنبياء.

على كل حال إذا وُجدَت هذه الخصال من شخص هل يُحكَم بكفره أو لا؟ أهل العلم مجمعون على أن من كان مصدقًا بلقبه ولسانه ولو فعل هذه الخصال فإنه لا يُحكَم بكفره، ولا هو منافق مخلَّد في النار.

يقول النووي: وليس في الحديث الإشكال الذي زعمه هؤلاء، بل هو واضح صحيح المعنى ولله الحمد، لكن اختلف العلماء في معناه، فالذي قاله المحققون والأكثرون وهو الصحيح المختار: معناه أن هذه خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال، ومتخلق بأخلاقهم، فإن النفاق إظهار ما يبطن خلافه، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال، ففيه شبه من المنافقين، لكن هذا الكلام يرده «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا» إذا قلنا: إنه ليس بمنافق، لكنه شبيه بالمنافقين؛ لماذا لا نقول: هو منافق خالص؟ لكن يبقى أن النفاق اعتقادي وعملي، هذا منافق نفاقًا عمليًّا، لا نقول: شبيه بالمنافقين نقول: هو منافق، كما قرر النبي -عليه الصلاة والسلام-، «أربع من كن فيه كان منافقًا» لماذا نقول: شبيه بالمنافقين والرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: منافق؟

قال القسطلاني: فإن قلت: إذا وجدت هذه الخصال في مسلم فهل يكون نافقًا؟ أجيب بأنها خصال نفاق لا نفاق، فهو على سبيل المجاز، أو المراد نفاق العمل لا نفاق الكفر، أو مراده من اتصف بها وكانت له ديدنًا وعادة، يعني هذا ديدنه، لا يمكن أن يصدق، لا يمكن أن يفي بالعهود، ويفجر في كل خصومة، ويغدر في كل عهد، إذا كان هذا ديدنه إذا كانت هذه عادته يُجزَم بأنه منافق، أو المراد نفاق العمل لا نفاق الكفر، أو مراده من اتصف بها وكانت له ديدنًا وعادة، ويدل عليه التعبير بـ(إذا) المفيدة لتكرار الفعل، أو هو محمول على من غلبت عليه هذه الخصال، وتهاون بها، واستخف بأمرها، فإن مَن كان كذلك كان فاسد الاعتقاد غالبًا، لأنه لا يمكن أن يجتمع الإيمان الصحيح المقبول مع من كان هذا ديدنه.

أو مراده الإنذار والتحذير، يعني جاء الحديث سيق مساق التحذير، فيُجرَى على ظاهره من غير تأويل كأحاديث الوعيد، أو مراده الإنذار والتحذير عن ارتكاب هذه الخصال، وأن الظاهر غير مراد، أو الحديث في رجل معين كان منافقًا في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام-، ولم يصرِّح به -عليه الصلاة والسلام- على عادته الشريفة في كونه لا يواجههم بصريح القول، بل يشير إشارة كقوله: «ما بال أقوام؟» ونحوه، أو المراد المنافقون الذين كانوا في الزمن النبوي، كأنه يشرح واقع هذه الخصال وجدت في المنافقين الذين في عهده، لكن النبي -عليه الصلاة والسلام- إنما يقرر قاعدة «آية المنافق» إذا كان يشرح واقع المنافقين الذين في عهده فما الفائدة مِن...؟! هذا يلغي فائدة الحديث، إذا كان يشرح حال أناس اتصفوا بالنفاق الاعتقادي، ولا ينطبق هذا على غيرهم، ولو اتصفوا بالخصال كلها، هذا يلغي فائدة الحديث.

وعلى كل حال الاتصاف بهذه الخصال كلها أمر شنيع، وشأنه عظيم؛ لأنه حينئذٍ يكون منافقًا خالصًا، ويخشى أن يجره هذا النفاق العملي إلى النفاق الاعتقادي، كما أن الحسنات تقول: أختي أختي، فالسيئات كذلك يجر بعضها إلى ما هو أعظم، يعاقب الإنسان على السيئة بسيئة أعظم منها، نسأل الله السلامة والعافية.

الحديث الأول: حديث أبي هريرة خرَّجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في أربعة مواضع:

الأول: في كتاب الإيمان هنا، باب علامة المنافق، قال الإمام -رحمة الله عليه-: حدثنا سليمان أبو الربيع والمعروف بالزهراني، أبو الربيع الزهراني، قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر قال: حدثنا نافع بن مالك بن أبي عامر أبو سهيل عن أبيه عن أبي هريرة فذكره، وتقدمت مناسبته للباب، ومناسبة الباب للكتاب.

الموضع الثاني: في كتاب الشهادات، باب من أمر بإنجاز الوعد.

قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر عن أبيه عن أبي هريرة فذكره بتقديم «إذا اؤتمن خان» على «وإذا وعد أخلف».

عندنا هنا «إذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» هناك قال: «إذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف» أقول: لا إشكال في هذا؛ لأن هذه الجمل معطوفة على بعضها بالواو، والواو لا تقتضي الترتيب.

ووجه المناسبة بين الحديث والباب من أُمر بإنجاز الوعد ظاهرة، حيث عُدَّ في الحديث إخلاف الوعد من النفاق، فعلى هذا يكون إخلاف الوعد منهيًّا عنه؛ لأنه من خصال المنافقين، فإنجازه مأمور به؛ لأن النهي عن الشيء أمر بضده كما هو معلوم، ووجه تعلُّق هذا الباب بأبواب الشهادات أن وعد المرء كالشهادة على نفسه، وعد المرء لغيره كالشهادة على نفسه، قاله الكرماني.

الموضع الثالث: في كتاب الوصايا، باب قول الله -عز وجل-: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [سورة النساء 11] من يخطر بباله أن هذا الحديث له علاقة بكتاب الوصايا؟! باب قول الله -عز وجل-: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [سورة النساء 11] مَن يخطر بباله؟!

المقدم: صحيح بعيد.

مَن سيبحث هذا الحديث في كتاب الوصايا؟!

يقول الإمام -رحمه الله تعالى-: حدثنا سليمان بن داود أبو الربيع قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر قال: حدثنا نافع بن مالك بن أبي عامر أبو سهيل عن أبيه عن أبي هريرة على ترتيب الموضع الذي سبقه، يعني بتقديم «إذا اؤتمن خان» على «وإذا وعد أخلف».

انظر المناسبة، يقول ابن حجر: أراد المصنِّف، والله أعلم بهذه الترجمة الاحتجاج بما اختاره من جواز إقرار المريض بالدَّين مطلقًا، سواء كان المقَر له وارثًا أو أجنبيًا، ووجه الدلالة أنه -سبحانه وتعالى- سوى بين الوصية والدين في تقديمهما على الميراث ولم يفصِّل، فخرجت الوصية للوارث بالدليل، وبقي الإقرار بالدَّين على حاله، ووجه تعلق الحديث بالترجمة من حيث أنه دال على ذم الخيانة، فلو ترك ذكر ما عليه من الحق وكتمه لكان خائنًا للمستحق، فلزم من وجوب ترك الخيانة وجوب الإقرار؛ لأنه إذا كتم صار خائنًا، وجوب الإقرار والاعتراف بماذا؟ وجوب الإقرار والاعتراف...

المقدم: بهذه الوصية.

بهذه الوصية، إذا أوصى بأن عليه دينًا لفلان.

المقدم: ما يُنظَر إلى نيته أن يمنع الوارث مثلاً يحرمه كما يقال؟

لا شك أن الأمور بمقاصدها، لكن يبقى أنه إذا لم يوصِ له بدينه صار خائنًا له من هذه الحيثية، ومثل ما ذكرنا أن المأخذ بعيد جدًّا، يعني مَن يخطر على باله أن يبحث عن هذا الحديث في كتاب الوصايا من صحيح البخاري.

الموضع الرابع: في كتاب الأدب، باب قول الله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [سورة التوبة 119] وما ينهى عن الكذب.

قال: حدثنا ابن سلاَم أو ابن سلاَّم على خلاف في ذلك، قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر عن أبيه عن أبي هريرة فذكره، بترتيب حديث الباب، يعني بتقديم: «إذا وعد أخلف» على «إذا اؤتمن خان».

ومناسبة الأمر بالصدق والنهي عن الكذب لكتاب الأدب ظاهرة، الأمر بالصدق: {وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [سورة التوبة 119] وما ينهى عن الكذب مناسبته لكتاب الأدب ظاهرة؛ لأن الكذب مخالف للأدب، إذًا الصدق موافق للأدب، ومناسبة الحديث للباب ظاهرة من حيث ذكر فيه الكذب، وأنه من خصال المنافقين، والحديث أيضًا أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- فهو متفق عليه.

والحديث الثاني: حديث عبد الله بن عمرو أخرجه الإمام -رحمه الله تعالى- في ثلاثة مواضع:

الأول: هنا في كتاب الإيمان، باب علامة المنافق:

حدثنا قبيصة بن عقبة قال: حدثنا سفيان عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن عمرو أن النبي –عليه الصلاة والسلام- قال فذكره، وتقدم ذكر مناسبته مع سابقه.

الموضع الثاني: في كتاب المظالم، بابٌ إذا خاصم فجر.

قال: حدثنا بشر بن خالد قال: أخبرنا محمد بن جعفر عن شعبة عن سليمان عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن عمرو فذكره، والمناسبة ظاهرة، كتاب المظالم، إذا خاصم فجر، وهذه جملة موجودة في الحديث في حديث عبد الله: «وإذا خاصم فجر» ومناسبة الفجور في الخصومة للمظالم ظاهرة، مناسبة الفجور في الخصومة لكتاب المظالم ظاهرة؛ لأنه حينئذٍ يظلم خصمه.

الموضع الثالث: في كتاب الجزية والموادَعة، باب إثم من عاهد ثم غدر.

قال: حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا جرير عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أربع خلال من كن فيه» فذكرهن، وهنا: «أربع من كن فيه» وفي بعض الروايات: «أربع خصال» فالخصال والخلال والأوصاف والنعوت كلها معانيها متقاربة.

«أربع خلال من كن فيه» فذكرهن، ومناسبة الباب لكتاب الجزية والموادَعة ظاهرة؛ لماذا؟ لأن الكتاب في المعاهَدين والذميين، الجزية والموادَعة لمَن؟ بإزاء مَن تكون الجزية والموادَعة؟ في المعاهدين والذميين، والغدر أعم من أن يكون فيهم أو مع غيرهم، يعني قد يكون الغدر مع هؤلاء المعاهَدين، قد يكون الغدر مع أولئك الذميين فيدخل المعاهَد بالنص، ومناسبة الحديث للترجمة حيث ذكر فيه الغدر من خلال المنافقين، ففيه الإثم، باب إثم من عاهد ثم غدر، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

السائل: شيخنا -أحسن الله إليكم- ألا يستفاد من هذه الخلال أنه يحصل للمتصف بما أشبهها نوع نفاق، فيكون الحصر غير مرادٍ، ويُشعِر بهذا اختلاف الروايات في تعدادها، فمثلا الاحتداد في النقاش، أو المراوغة وعدم الوضوح في الكلام، يكون من جنس هذه الصفات التي يُنهى عنها؟

النهي عن هذه الصفات نهي عنها وما يوقع فيها من باب منع الوسائل المفضية إلى المحرمات، فإذا نهى الشارع عن أمر وجزم بمنعه وتحريمه أوصد الأبواب الموصلة إلى هذا الباب المنهي عنه، أوصد الأبواب كلها إلى هذا المحرم الذي نُهِي عنه، فهذه الخصال قد تكون كليات وورائها أمور جزئية؛ لأن الحديث جاء بالحصر: «ثلاث» «وآية المنافق ثلاث» «أربع من كن فيه» وعلى كل حال ما يجر إليها يدخل في حكمها، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المقدم: أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم.

أيها الإخوة والأخوات، كنا وإياكم في هذه الحلقة مع صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.

شكر الله له، شكرًا لكم أنتم، شكرًا للإخوة الحضور معنا، نلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة وأنتم على خير.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.