العمل باللطائف المستنبطة من آيات القرآن الكريم

السؤال
الفوائد واللطائف غير المقصودة بالنص المستنبطة من آيات القرآن الكريم ما حكم العمل بها؟ وهل يُنكر على من يعمل بها كمثل قولهم: (الإيمان في أطراف المدن) استنباطًا من قوله تعالى: {وَجَاء مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى}، فهل يُشرع للإنسان أن يتعمد السكن في طرف المدينة عملًا بهذه الفائدة؟
الجواب

العلماء يذكرون في الدلالات النصية ما هو دلالة أصلية، وما هو دلالة فرعية، فالدلالة الأصلية التي هي نص في الباب أو في المسألة، وسيق النص من أجلها، وما قرب من ذلك، والدلالة الفرعية التي يمكن أن تُستنبط من النص مع بُعدها عن المراد، ومن الأمثلة على ذلك استدلال الحنفية على أن وقت الظهر أطول من وقت العصر، وأنه يمتد إلى أن يصير ظل الشيء مثليه بحديث «إنما مثلكم ومثل من قبلكم كمثل رجل استأجر أجيرًا إلى منتصف النهار -يعني إلى الزوال- بقيراط ثم استأجر آخر إلى وقت العصر بقيراط، ثم استأجر إلى غروب الشمس بقيراطين» فاحتج أهل الكتاب -الذين مثلهم في الأجير الأول والثاني- على المؤجِّر بأن قالوا: (نحن أكثر عملًا وأقل أجرًا) [البخاري: 2268]، فالطائفة الأولى التي عملت إلى الزوال لا شك أنها أكثر عملًا، والطائفة الثانية التي عملت من وقت الظهر إلى وقت العصر قالوا: (نحن أكثر عملًا وأقل أجرًا من وقت العصر)، مفهومه أن وقت الظهر أطول من وقت العصر، فيمتد إلى مصير ظل كل شيء مثليه! نقول: الحديث للدلالة على فضل هذه الأمة ولم يُسق لبيان الأوقات، فالدلالة بعيدة، ولا يمكن أن يُستدل بهذا الحديث على استمرار وقت الظهر إلى مصير ظل كل شيء مثليه، وهذا على سبيل التنزُّل وإلا فوقت الظهر أطول من وقت العصر حتى على القول الصحيح أنه يمتد إلى مصير ظل كل شيء مثله، فالحديث لم يُسق لبيان الأوقات، فالدلالة عليها دلالة تبعية وليست دلالة أصلية، ومع ذلك دلالتها على المراد من المستدل بها ليست صحيحة، فوقت الظهر أطول من وقت العصر حتى على القول بأنه ينتهي بمصير ظل كل شيء مثله، والتقويم شاهد بذلك في كل زمان ومكان، والمسألة ظاهرة، هذه من الدلالات التبعية التي يستدل بها الحنفية على أن وقت الظهر يمتد إلى مصير ظل كل شيء مثليه، ويقابلون به النص الصحيح الصريح وهو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنهما- المخرَّج في (صحيح مسلم) «وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله، ما لم يحضر العصر» [612]، فمثل هذه الدلالة لا يُلتفت إليها، وهي دلالة تبعية، فلم يُسق الحديث من أجل بيان الأوقات.

وقل مثل هذا فيمن يستدل على أن الحائض تقرأ القرآن بقوله -عليه الصلاة والسلام- «افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت» [البخاري: 305]، والحاج يقرأ القرآن! هذه دلالة تبعية لم يُسق الحديث من أجلها، فالاستدلال بها في غاية البعد، ومثل هذا كثير.

ومن الغرائب أني سمعت مرةً طالب علم يستدل على أنه يجوز أن يكون بين المصلي والذي بجانبه في الصف قدر أربعة أصابع، قلت ما الدليل على ذلك؟ فاستدل بحديث الأطيط وفيه «ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله» [الترمذي: 2312]، هل هذا فيه دليل؟! أولًا: حديث الأطيط ضعيف، ثانيًا: دلالته على ما ذُكر لا قريبة ولا تبعية، بل ولا بعيدة، فالاسترسال في مثل هذه الاستدلالات لا شك أنه يوقع في مخالفات وإشكالات، بل يوقع فيما هو أشكل من ذلك إذا كان يُعارِض نصًّا مثلما قلنا في حديث المواقيت، مع أن الاستدلال به على الوقت وإن كان له حظ من النظر إلا أنه معارَض بنص صحيح صريح، فكيف بمن يستدل بحديث ضعيف ولا دلالة فيه؟! يسترسل بعض الناس في مثل هذه الأمور ويضيعون الأدلة الأصلية التي دلالتها أصلية وسيق من أجلها الخبر بمثل هذا.

نعود إلى المثال الذي ذكره السائل، يقول: (كقولهم: (الإيمان في أطراف المدن) استنباطًا من قوله تعالى: {وَجَاء مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس: ٢٠])، أين منزل النبي -عليه الصلاة والسلام- في المدينة؟! ألم يكن في مركزها ووسطها عند مسجده -عليه الصلاة والسلام-؟! وما دلالة قوله تعالى: {وَجَاء مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} على أن الإيمان في الأطراف؟ هذا مسكن هذا الرجل في أقصى المدينة، وقد وقع له هذا اتفاقًا. يقول السائل: (فهل يُشرع للإنسان أن يتعمد السكن في طرف المدينة؟)، لا يُشرع له أن يقصد ذلك استنادًا إلى هذه الآية، بل يسكن حيث ما تيسر له واستطاع. نعم إذا كان سكنه بعيدًا –مثلًا_ عن المسجد وأراد أن يقرب من المسجد؛ لتتيسر له الصلاة مع الناس في كل وقت فهذا مقصد حسن، وإذا كان عنده من الإيمان واليقين ما يجعله يحافظ على الصلوات ولو بَعُد فكما في الحديث «دياركم تكتب آثاركم» [مسلم: 665]، فلا أثر لهذا الذي ذكره السائل من جهة أن السكن في أقصى المدينة أفضل أخذًا من هذه الآية، فالآية لا تدل على ذلك، وأيضًا هو مخالَف بسكنه -عليه الصلاة والسلام- في مركز المدينة ووسطها.