معنى قول الله تعالى: {ولولا أن ثبتناك لقد كدتَ تركن إليهم شيئًا قليلًا}

السؤال
ما معنى قول الله تعالى في سورة الإسراء: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا}؟ وهل المخاطَب بذلك هو نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-؟
الجواب

قبل هذه الآية قوله -جل وعلا-: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} [الإسراء: 73]، والخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم-، يعني: لو وافقتَ على هذه الفتنة ما صار بينك وبينهم خلاف، بل صار بينكم وفاق وخُلَّة، ولذا العدو دائمًا يريد موافقته من المسلمين، ولا يرضيه إلَّا أن يكونوا مثله في الملَّة، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120].

ثم قال -جل وعلا-: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا . إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء: 74-75].

فالله -جل وعلا- يُخبر عن تأييد رسوله -صلوات الله وسلامه عليه-، وتثبيته وعصمته وسلامته عن شر أولئك وكيدهم، وأنه -جل وعلا- هو المتولِّي لأمره ونصره، وأنه لا يَكله إلى أحد من خلقه، بل هو وليُّه وحافظه وناصره ومؤيده، ومظهر دينه على من عاداه وخالفه وناوأه في مشارق الأرض ومغاربها -صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين-، كذا قال ابن كثير.

وفي (تفسير الطبري): (يقول تعالى ذكره: ولولا أن ثبتناك يا محمد)، وفي السؤال: (هل المخاطب بذلك هو نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-؟)، نعم، يقول الطبري إمام المفسرين: (ولولا أن ثبتناك يا محمد بعصمتنا إيَّاك عمَّا دعاك إليه هؤلاء المشركون من الفتنة، -{كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ}-: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا}، يقول: لقد كدتَ تميل إليهم وتطمئن إليهم شيئًا قليلًا، وذلك ما كان -صلى الله عليه وسلم- همَّ به من أن يفعل بعض الذي كانوا سألوه فعلَه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما ذُكِر حين نزلتْ هذه الآية، ما حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا سليمان، قال: حدثنا أبو هلال عن قتادة في قوله: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا}، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تكلني إلى نفسي طرفة عين»).

واختلف العلماء في تأويل الفتنة والمراد بها، قال ابن جرير: (والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذِكره أخبر عن نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن المشركين كادوا أن يفتنوه عما أوحاه الله إليه ليعمل بغيره، وذلك هو الافتراء على الله)، لكن الله عصمه من ذلك.

وهذا فيه تحذير للأمة وأن يكونوا على حذر شديد من هذا الخطر؛ لأن العدو يأتي بأساليب، يخدع بها المسلم، وبعض الدعاة من باب تيسير أمور الدعوة والدخول إلى قلوب الناس فيما يزعم يستجيب لبعض مطالبهم فيما فيه خطر عليه، فيَفتَتِن وهو لا يشعر، قد لا يفتتن في المرة الأولى ولا في الثانية، لكن مع ذلك على المسلم أن يقف عند ما حدَّه الله -جل وعلا- ولا يتعدَّاه، ولا يسترسل مع الأعداء؛ لأن بعضهم يقول: (من مصلحة الدعوة أن نتنازل عن كذا وعن كذا وكذا)، نعم المجاملة والمداراة مطلوبة إذا كان فيها مصلحة للدعوة، لكن المداهنة هذه محرمة بكل حال، {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9]، فالعدو لا يُرضيه إلَّا أن تكون مثله وعلى ملَّته، فلا تتنازل عن شيءٍ من دينك، لا تترك واجبًا، ولا ترتكب محرمًا، ولو كان في ذلك في بادئ الأمر مصلحة ودخول إلى قلوبهم، فهم لن يرضوا عنك بحال، فلو تنازلتَ ما رضوا حتى تتبع ملتهم كما قال الله -جل وعلا-، والله أعلم.