المعاناة من الوسوسة عند الغُسل والوضوء في بعض الأعضاء

السؤال
أنا شخص متعرِّض للوسوسة، وعندي بعض العلم البسيط، ولكن بعض الأشياء التي اختلف العلماء في وجوب غسلها في الوضوء تُرهقني، وهي:
أولًا: غسل البياض بين العذار والأذن، فلا أعرف كيف أغسله، ولا يمكن ذلك إلا بطريقةٍ صعبة، وإنما يمكن مسحه، وأرى غالب الناس لا يغسلونه.
ثانيًّا: لا يصل الماء عند مسح الرأس إلى كل الشعر.
ثالثًا: عند تخليل الشعر في غُسل الجنابة لا يصل الماء إلى البشرة إلا بمشقةٍ شديدة.
أرجو نصيحتي فإني في مشقة شديدة؟
الجواب

السائل ذكر أن عنده نوع وسواس، ولكنه ليس بوسواسٍ مُطبق، إنما عنده تحرٍّ شديد، وقد يُوصله ذلك إلى الوسواس فيما بعد، فنصيحتي له ألَّا يسترسل مع هذا، وأن يقتصر على القدر المُجزئ المسقط للطلب؛ حتى يكون شخصًا سويًّا يعمل بما أوجب الله عليه من غير زيادة؛ لأن هذا الوسواس قد يجره إلى الزيادة على ما شرع الله، فيدخل في حيِّز البدعة، لكن لا يُقال له: فرِّط فيما أوجب الله عليك، وإنما بدلًا من أن تصل إلى درجة الكمال وغسل العضو ثلاث مرات اقتصِر في أول الأمر على مرة واحدة؛ حتى تتعافى من هذا الوسواس.

وأما قول بعضهم: إن هذا من باب الاحتياط؛ حتى يتيقَّن براءة ذمته، فليس هذا من باب الاحتياط؛ لأنه يجر إلى الوسواس الذي تكون نهايته ترك الوضوء وترك الصلاة؛ لأنه يصل إلى حدٍّ لا يطيقه، قال بعض أهل العلم -وهو ممن اشتهر بالعلم، لكنه عنده نوعٌ من الوسواس-: (ليس بوسواس، وإنما هو من باب الاحتياط)، نقول له: إذا أدَّى الاحتياط بأن غَسَل العضو أكثر من ثلاث مرات، فقال شيخ الإسلام: (إن الاحتياط في ترك هذا الاحتياط).

فعلى الإنسان أن يُعالج هذا النوع إذا لم يستفحل ويستشرِ بالإعراض عنه، وإذا قال له الشيطان: إنك ما نويتَ، يقول: بلى نويتُ، ما الذي أتى به إلى محل الوضوء إلَّا النية، وإذا قال له في الصلاة: ما نويتَ أَعِد، ما الذي جاء به إلى أن وقف مستقبل القبلة وكبَّر إلَّا النية والدخول في الصلاة!

فهذه الأمور يَرِدُنَا فيها أسئلة من بعض الناس مشافهةً، وتُشفِق عليهم من التعب والمشقة، وبعضهم يأتي بعد صلاة الصبح يسأل عن صلاة العشاء هل هي صحيحة أو ليست بصحيحة؟ وهو في هذه المدة كلها يحاول أن يتوضأ ويصلي! فعلاجه الاقتصار على المُجزئ في أول الأمر، ولو بقي في نفسه شيء لا يلتفت إليه، المهم أنه يسقط الطلب ويُبرئ ذمته بالقدر الواجب، وهذه طريقة مُجرَّبة.

يقول السائل: (لا يمكن أن يصل إلى بعض المواضع إلا بمشقةٍ شديدة)، غسل البياض بين العذار والأذن -أي: بين شعر اللحية والأذن- مثل هذا يختلف فيه أهل العلم: هل هو من الوجه، أو من الرأس فيأخذ حكم الأذنين، هذه مسألة خلافية، واللحية من الوجه، والأذن من الرأس، وما بينهما محل خلاف، وبعضهم في اللحية يفرِّقون بين ما أقبل منها وما أدبر، وبعضهم في الأذن كذلك، لكن المعتمد أن الأذن من الرأس، واللحية من الوجه، فتُغسل اللحية، وتُخلل إذا كانت كثيفة ما لم تشق، وإذا كانت خفيفة فيصل إليها الماء بمجرد الغسل من غير تخليل.

وما يشقُ الوصول إلى اليقين فيه كالبشرة التي تحت شعر الرأس –مثلًا- قال العلماء: الاعتبار فيه بغلبة الظن؛ لأن اعتبار اليقين حرجٌ ومشقة، وفي الحديث الصحيح من حديث عائشة –رضي الله عنها-: " ثم اغتسل، ثم يخلل بيده شعره، حتى إذا ظنَّ أنه قد أروى بشرته، أفاض عليه الماء ثلاث مرات" [البخاري: 248]، والظن يختلف الشُّراح فيه: هل المراد به غلبة الظن كما هو الاصطلاح، أو أنه يُطلق كما يُطلق بإزاء العلم، فلا بُد من وصول الماء إلى البشرة.

وعلى كل حال لو قلنا: إنه لا بُد أن يتيقَّن من وصول الماء إلى البشرة، مع أن كلام الفقهاء معروف أنه يكفي في هذا غلبة الظن، ففي (القواعد والفوائد الأصولية) لابن اللحام: (المذهب أنه يكفي فيه الظن في الإسباغ)، وفي (الكشاف): (ويكفي الظن في الإسباغ)، وفي (فتح المُعِين): (ولا يجب تيقن عموم الماء في جميع العضو، بل يكفي غلبة الظن)، وفي (منار السبيل): (والظن كافٍ).

على كل حال الأكثر على أن غلبة الظن -وهو نص الحديث من قول عائشة رضي الله عنها- كافٍ، فيكفي لا سيما في مثل حال السائل الذي إن قيل له: لا بُد من أن تتيقَّن، يمكن أن يتحرَّج من ذلك ويشق عليه، فَيُفتَى بهذا القول، وهو قولٌ معتبر ومعتمد عند أهل العلم، وإن كان اللفظ مُحتملًا لأن يكون غلبة الظن كما هو اللفظ، ويُحتمل -كما أنه يُطلق العلم على الاحتمال الراجح- أن يُطلق أيضًا بإزاء العلم، ومنه قول الله -جلَّ وعلا-: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46]، فلا يكفي في هذا غلبة الظن، بل لا بُد من اليقين والعلم.

وعلى كل حال المسألة المسؤول عنها مِن قِبل هذا السائل الذي عنده وسوسة يُفتى بأدنى ما يُجزئ؛ ليتخلص من الوسواس، والعلماء على أن مثل هذه الأمور يكفي فيها غلبة الظن، والله أعلم.