معنى قول الله تعالى: {فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا}

السؤال
ما معنى قول الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا}؟ ومن المُخاطب في هذه الآية؟
الجواب

لما خرج النبي –صلى الله عليه وسلم- إلى أُحد رجع ناسٌ ممن خرج معه، وكان أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- قد اختلفوا وافترقوا إلى فئتين: فرقة تقول: نُقاتلهم، وفرقة تقول: لا نقاتلهم، فنزلت الآية {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88]، وهذا الخطاب للصحابة –رضوان الله عليهم-؛ لأن السائل يقول: (من المخاطب في هذه الآية؟)، الصحابة اختلفوا إلى قولين أو افترقوا فرقتين: فرقة تقول: نقاتل هؤلاء الذين رجعوا بعد أن خرجوا معه -صلى الله عليه وسلم- إلى أُحد، وفرقة تقول: لا نقاتلهم.

يُقاتلون باعتبارهم مُخذِّلين؛ لأن الذي يرجع عن الجماعة يُخذِّل غيره، ويُشجِّعه على الرجوع والتخاذل، فاجتهد بعض الصحابة وقالوا: نُقاتلهم، وقال الآخرون: نُقاتل العدو المقصود بالغزوة ونترك هؤلاء. والنبي –عليه الصلاة والسلام- لما قيل له في قتل بعض المنافقين، قال: «لا»، وعلَّل بأن: «لا يتحدَّث الناس أن محمدًا يقتل أصحابَه» [البخاري: 4905]، فمثل هذه مصلحة راجحة ومرعيَّة في أن يقول الناس: إن محمدًا يقتل أصحابَه، فينْصَد من يُريد الدخول في الإسلام، وهذه مصلحةٌ أرجح مِن قتْل منافقٍ قال كلمةً أو فعل فعلةً. على كل حال المُخاطب الصحابة، والسبب ما ذكره أهل العلم.

وفي (البخاري) وغيره عن زيد بن ثابت –رضي الله عنه- قال: لما خرج النبي –صلى الله عليه وسلم- إلى أُحدٍ رجع ناسٌ ممن خرج معه، وكان أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- فرقتين: فرقة تقول: نقاتلهم، وفرقةٌ تقول: لا نقاتلهم، فنزلت {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا}، وقال –أي: النبي عليه الصلاة والسلام-: «إنها طيبة، تنفي الذنوب، كما تنفي النار خَبَثَ الفضة» [البخاري: 4050]، والمدينة كما جاء في الحديث تنفي خبثها، فلا يستقرُّ فيها خبيث، وعمر بن عبد العزيز لما انتقل من المدينة إلى الشام ليتولى الخلافة التفت إلى صاحبٍ خرج معه من المدينة، فقال له: أترانا من الخبث الذي نفتْه المدينة؟ عمر بن عبد العزيز الخليفة العادل، الزاهد، الورِع! يقول هذا الكلام من باب التواضع، ومن خشيته على نفسه، بينما كثير من المفرِّطين لا يقولون مثل هذا الكلام، من باب الغرور بالنفس وبالعمل.

يقول ابن كثير –رحمه الله تعالى-: (يقول تعالى منكرًا على المؤمنين في اختلافهم في المنافقين على قولين، واختُلف في سبب ذلك، فقال الإمام أحمد: حدَّثنا بهزٌ، حدَّثنا شُعبة، قال عدي بن ثابت: أخبرني عبد الله بن يزيد، عن زيد بن ثابتٍ أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- خرج إلى أُحد، فرجع ناسٌ خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فيهم فرقتين: فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا، فأنزل الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «إنها طيبة، وإنها تنفي الخَبَثَ، كما تنفي النار خَبَثَ الفضة»، أخرجاه في الصحيحين من حديث شُعبة. وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في وقعة أُحد أن عبد الله بنَ أُبي بنَ سلول –بنصب (ابن) الثانية؛ لأن (ابن) الأولى وكذلك الثانية وصفٌ لعبد الله المنصوب، فأُبي أبوه، وسلول أمه، ولو كان سلول جدَّه لكان المقتضى أن تُجَر (ابن) الثانية؛ لأنها وصف لمجرور، لكنها وصفٌ للمنصوب، فكلاهما وصفٌ لعبد الله- رجع يومئذٍ بثُلث الجيش، رجع بثلاثمائة، وبقي النبي –صلى الله عليه وسلم- في سبعمائة).

قد يقول قائل: الحديث في الصحيحين، والحافظ ابن كثير عزاه في البداية إلى (مُسند الإمام أحمد) بقوله: (فقال الإمام أحمد)، وعزاه في الأخير إلى الصحيحين، نقول: الحافظ ابن كثير –رحمه الله تعالى- يعتني بـ(المسند) عناية فائقة، ويحفظه عن ظهر قلب، ويعتبره جامعًا لكتب السُّنَّة كلها، فيُخرِّج منه أولًا، ثم يُفرِّع بعد ذلك على من وافق الإمام أحمد، وهذه عناية من مُحدِّث، والإمام أحمد معروفٌ أنه الإمام المتبوع المعروف، والحافظ ابن كثير شافعي المذهب، لكنه مُؤثِرٌ للحق مُنصفٌ –رحمه الله تعالى-، والشافعي إمام كبير، وهو من أهل السُّنَّة، ومن أهل الحديث أيضًا، لكن انظر إلى الاتجاه الذي اتَّجهه الحافظ ابن كثير –رحمه الله- مع أنه ليس تابعًا له في التقليد، ومع ذلك آثره من باب الإنصاف، وأن هذا الكتاب –أعني: (مسند الإمام أحمد)- من أكبر دواوين الإسلام التي تحوي جملةً كبيرة جدًّا من السُّنَّة، ورآه أصلًا لهذه الكُتب الستة بما في ذلك الصحيحان؛ لأنه أقْدم، فهو في طبقة شيوخهم، ومع ذلك حوى جملةً كبيرة قُدِّرتْ بأربعين ألف حديث، أو ثلاثين ألف حديث بعد الترقيم، وهذا من فقهه وإنصافه –رحمه الله تعالى-، وإلا فعامة أهل العلم يُقدِّمون ما في الصحيحين، حتى في التخريج يُقدَّم الصحيحان؛ لأنهما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى.

وقال ابن كثير: (وقوله: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} أي: ردَّهم وأوقعهم في الخطأ، قال ابن عباس: {أَرْكَسَهُمْ} أي: أوقعهم، وقال قتادة: أهلكهم، وقال السُّدي: أضلهم. وقوله: {بِمَا كَسَبُوا} أي: بسبب عصيانهم ومخالفتهم للرسول –صلى الله عليه وسلم- واتباعهم الباطل)، والله أعلم.