الطريقة الصحيحة في التدرُّج في طلب علم الحديث

السؤال
ما الطريقة الصحيحة في التدرُّج في طلب علم الحديث والاستفادة من الصحيحين؟
الجواب

التدرُّج في طلب علم الحديث أولًا: على الجادة المعروفة عند أهل العلم يحفظ طالب العلم (الأربعين النووية)؛ لأنها أحاديث جوامع وقواعد كلية تدور عليها الشريعة، فلا بد من حفظها وفهمها وقراءة شروحها وسماع ما سُجِّل عليها وحضور الدروس إن كانت لخدمتها، ثم يحفظ (عمدة الأحكام) للحافظ عبد الغني المقدسي في أحاديث الأحكام، وكلها أحاديث صحيحة من الصحيحين، ثم بعد ذلك يحفظ (بلوغ المرام) لابن حجر أو (المحرر) على حدٍّ سواء، نعم (المحرر) أمتن و(البلوغ) أكثر خدمة؛ لأن طالب العلم قد يُشكل عليه بعض الأشياء ثم لا يجد مَن يحلها له، و(البلوغ) مخدوم، فالمفاضلة بينهما تحتاج إلى وقت، ثم بعد أن يحفظ (البلوغ) أو (المحرر) ويدرس أحاديث هذين الكتابين دراسة، لا أقول مجرد حفظ، بل يحتاج إلى فهم، وإلى استنباط، وإلى بحث مسائل، وحضور دروس، وقراءة شروح، وتفريغ أشرطة، والحمد لله الأمور ميسورة، فبإمكان الإنسان وهو في بيته أن يسمع ويقرأ كل هذا، من الدروس المكتوبة والمسموعة -الحيَّة والمسجلة-، فيحفظ القدر المطلوب حفظه، ويراجع عليه الشرح، ويحضر الدرس، ويناقش ما يُشكل عليه، ويعرف الأحكام المستنبطة من هذه الأحاديث، ويعرف أقوال أهل العلم بأدلتها، فيتخرَّج طالبَ علم.

ثم بعد ذلك ينتقل إلى الإفادة من الأصول، وما الأصول؟ الكتب الأصلية المسندة في هذا الفن، وأنا أتكلم عن علم الحديث، وطريقةُ الإفادة من كل علم من العلوم سُجِّلتْ في أشرطة وسمِّيتْ (كيف يبني طالب العلم مكتبته)، وفيها العلوم كلها، لكن الكلام الآن مخصَّص في الحديث، فإذا انتهى من المتون المعروفة عند أهل العلم في الحديث يصعد إلى الكتب المسندة الأصلية، وبعضهم يقول: نكتفي بالمختصرات: (مختصر البخاري) و(مختصر مسلم) و(الجمع بين الصحيحين) و(زوائد مسلم على البخاري)، نقول: هذه طريقة طيبة، ومَن يسعفه الحفظ ويريد أن يحفظ أكبر قدر ممكن في مدة وجيزة فالله يقويه، وهذه طريقة -ولله الحمد- بُعثتْ من جديد بعد أن أيس الناس من الحفظ، نسأل الله -جل وعلا- أن يكتب أجر هذه السنة لمن سنَّها. فأقول: يرتقي إلى قراءة الأصول المسندة كما ألَّفها مؤلفوها، ولتكن عنايته بـ(صحيح البخاري)، والدهلوي في كتاب له في تحصيل العلوم والفنون يقول: يبدأ بـ(سنن أبي داود) و(الترمذي)؛ لأن الفائدة منهما قريبة لطالب العلم، فلا يوجد فرق كبير بينهما وبين (البلوغ) و(المحرر) و(المنتقى) وغيرها، إلا وجود الأسانيد والتكرار، فيُفيد منهما طالب العلم قبل الصحيحين، لا سيما (صحيح البخاري) الذي فيه إشكالات كبيرة على طالب العلم. وأقول: يبدأ طالب العلم بـ(صحيح البخاري)، ويكون محور البحث عنده (صحيح البخاري)، فيقرأ الحديث الأول وينظر في ترجمة الإمام البخاري التي هي فقه الإمام البخاري، وهو من الفقه النادر الثمين، فقه السلف المبني على النصوص، فالبخاري يترجم بحكم شرعي، ثم يَدعم هذا الحكم الشرعي بما أُثر عن الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين، ثم يورد الحديث الأصلي الذي عليه المدار، فيقرأ الطالب الترجمة، ويقرأ الآثار حول هذه الترجمة التي تُبيِّن له كيف رجَّح البخاري هذا الحكم، ثم بعد ذلك يقرأ الحديث بإسناده ومتنه، ويربط بين الحديث والترجمة، وأحيانًا يُذهَل الإنسان كيف أورد البخاري هذا الحديث تحت هذه الترجمة، فيتعوَّد طالب العلم على كيفية الاستنباط على طريقة السلف من المصادر الأصلية، وهناك -كما ذكرنا- أمور مذهلة، ولو أردنا أن نضرب أمثلة من (صحيح البخاري) فيمكن ألَّا يستوعبها كثير من الناس، وهي أمور غريبة جدًّا، فكيف استنبطها البخاري؟! الإمام البخاري من الأئمة الفقهاء الكبار الذين فقههم مبني على الأصل مباشرة، فيفعل الطالب هذه الطريقة في الحديث الأول، فالحديث الأول خُرِّج -مثلًا- في (البخاري) في سبعة مواضع، فيرجع إلى هذه المواضع السبعة، وينظر إلى تراجم البخاري على هذا الحديث، وهذه فوائد هذا الحديث، فهو ترجم عليه سبع تراجم، إذن استنبط البخاري من هذا الحديث سبعة أحكام، ونربط بين فقه البخاري ومأخذه من الحديث وبين فقه غيره من الأئمة، ثم بعد ذلك نعود إلى هذا الحديث وننظر مَن خرَّجه من الأئمة، فنجده مخرجًّا عند مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي -مثلًا-، فنرجع إلى هذه المصادر وننظر في تراجم الأئمة على هذا الحديث، وبعد ذلك ننظر إن كان هناك زيادةُ فائدةٍ أو لطيفةُ إسنادٍ أو زيادةُ جملةٍ في الحديث فندوِّنها عندنا، ونؤشِّر إشارة إلى أن هذا الحديث في (صحيح مسلم) قد روجع مع الحديث الأول في (صحيح البخاري)، ونمسح عليه؛ لأننا خلاص انتهينا منه، ثم نعود إلى (أبي داود) ونفعل به مثلما فعلنا، وكذلك (الترمذي) و(النسائي)، وهكذا، ونجعل كل ما يتعلَّق بالحديث الأول في الكتب الستة في كراس مستقل، ونكون بذلك اختصرنا الكتب بطريقتنا، فأنا لن أراجع هذا الحديث في (صحيح مسلم) ولا في (سنن أبي داود) ولا في (جامع الترمذي) ولا في (سنن النسائي)، لكني عرفتُ كل ما يدور حول الحديث في الكتب الستة بسنده ومتنه. ثم نأتي إلى الحديث الثاني من (البخاري) ونفعل به مثلما فعلنا في الحديث الأول، وهكذا. وإذا انتهينا من (البخاري) بهذه الطريقة نكون قد انتيهنا من أكثر من نصف (صحيح مسلم) مع (البخاري)، ويبقى عندنا (زوائد مسلم على البخاري)، ونفعل فيها مثلما فعلنا في (البخاري)، ونقارن بها الكتب الأخرى، ثم إذا انتهينا من (زوائد مسلم) ننظر إلى الأحاديث التي أشرنا إليها في (سنن أبي داود) فنتركها؛ لأنه سبق بحثها، ونأخذ منه الزوائد، ويكون قد سقط عنا قسم كبير من أحاديث (أبي داود)، وهكذا نفعل ببقية الكتب. والمسألة تحتاج إلى وقت وجهد واهتمام.

وقد يقول قائل: (هذه الطريقة تحتاج إلى خمس سنين)، تحتاج إلى خمس سنين فكان ماذا؟ أيش معجِّلك؟ إذا انتهيتَ في خمس سنين من الكتب الستة على هذه الطريقة صرتَ إمامًا من أئمة المسلمين، لكن أخلص عملك لله -جل وعلا-.

ثم بعد ذلك يكون علمك بما حذفتَ من هذه الكتب كعلمك بما أبقيتَ؛ لأنك إذا اعتمدتَ على اختصارات الناس ما تدرك شيئًا يا أخي، فهم يحذفون في المختصرات أشياء أنت بأمسِّ الحاجة إليها، فأنت محتاج -مثلًا- إلى باب من أبواب الدِّين، وهو من أهم المهمات عندك في (صحيح البخاري) كأحاديث الفتن، والأيام هذه أيام فتن، فتروح إلى (المختصر) فكم تجد فيه من أحاديث الفتن؟ ما فيه ولا خُمس ما في (صحيح البخاري)، لماذا؟ لأنها تقدَّمتْ في أبواب أخرى، وأنت يا أخي بأمسِّ الحاجة إلى هذه الأحاديث، وما قاله البخاري فيها، وما استنبطه منها، وما ذكره من آثار الصحابة والتابعين تدعم هذه الأحاديث وتعينك على فهمها، فتفهم السنَّة بفهم السلف، فهذه طريقة ناجحة، نعم تحتاج إلى تعب وإلى وقت طويل، لكن إذا انتهيتَ من الكتب الستة فهات واحدًا يدانيك ممن حفظ الكتب كلها بهذه الطريقة، فهذه طريقة يُنصح بها طالب العلم. والذين يعتمدون على المختصرات على خير كبير وعظيم، وهو أحسن من لا شيء، لكن إذا طبَّقتَ هذه الطريقة صار علمك بما حذفتَه واختصرتَه ومسحتَه كعلمك بما أبقيتَ؛ لأن كل إنسان له مزاج، وله نظرة خاصة في الاختصار، فقد يختصر شيئًا يرى أن طالب العلم قد لا يحتاجه، لكن أنت مضطر إليه، فأنت بهذه الطريقة تعرف ماذا حذفتَ. وقد يقول قائل: (إن طلاب العلم ليسوا على مستوى واحد من الأهلية والكفاءة)، هذه الطريقة لا يعجز عنها أحد، قد يحتاج إلى شيء من المعاناة في أول حديث، وثاني حديث، وعشرة أحاديث، ومائة حديث، ثم يسلك وينتهي، ويصير عالمًا بهذه الطريقة. فهذه الطريقة باختصار نافعة لا سيما في علم الحديث.

أيضًا كيفية فهم كلام الله -جل وعلا-، فالحفظ له كيفية وله مكان يختلف عن مكان الفهم، وله أيضًا طريقة مناسبة تختلف عن طريقة الفهم والاستيعاب، وبالنسبة للقرآن يحتاج إلى شيء من البسط في كيفية فهمه والتدرُّج في تحصيله، وقد شُرحتْ في بعض المناسبات، ولعله أن يتاح فرصة لبيانها وبسطها.

وأيضًا في كيفية التفقُّه على كتاب من كتب الفقه، فقد يكون طالب العلم بأمس الحاجة إلى هذه الطريقة؛ لأن بعض الإخوان يتخبَّط ويستمر سنين وهو يريد أن يتفقَّه وهو في مكانه جالس، فيصير مثل المُنبَت، يريد أن يجمع العلم كلَّه، وقد تؤثِّر عليه بعض الدعاوى التي تصده عن تحصيل هذا العلم العظيم -أعني: علم الفقه-، وطريقةُ وكيفية التفقُّه بواسطة كتاب من مختصرات الفقه المتينة المعروفة عند أهل العلم شُرحتْ أيضًا في أكثر من مناسبة، و(كيف يبني طالب العلم مكتبته) فيه إشارات إلى شيء من هذا، فلا نريد أن نُطيل بمثل هذا.

وكذلك كيف نأخذ علم الأصول، وعلم العربية، فلها أيضًا طريقة، وكذلك علم الرجال، فتجد طالب العلم في الرجال إما شاطًّا إلى اليمين أو إلى اليسار، ولا يُدرك شيئًا، فلهذا العلم طريقة في كيف يؤخذ من أبوابه وعن أهله.