كيفية التلذُّذ بالبلاء بعد مجاهدة النفس على الصبر عليه

السؤال
أن يصبر الإنسان على البلاء هذه نعمة، وتحتاج مجاهدة، لكن كيف يتلذَّذ بهذا البلاء في ذات الله كما نسمع عن بعض السلف، أم أنها قصصٌ؛ لتحفيزنا فقط، وليست من الواقع؟
الجواب

الصبر جاء في تسعين موضعًا من كتاب الله كما ذُكِر عن الإمام أحمد، ولا شك أنه في غاية الأهمية في حياة المسلم، ولولا الصبر ما استقام الأمر، فكيف يتعبَّد بالمأمورات وهو لا يصبر عليها؟! وكيف يتخلَّى عن المحرمات وهو لا يصبر عنها؟! وكيف تستقيم أحواله إذا حصلتْ له مصيبة فجزع، وشق الجيب، ولطم الخد إلى آخر ما جاء في هذا الباب من لزوم الصبر، فالصبر لا بُد منه. وهذه مرحلة أو مرتبة «مَن رضي فله الرضا، ومَن سخط فله السخط» [الترمذي: 2396]، لكن هناك مسألة الرضا بالمقدور، فالإنسان يرضى بما قدَّر الرحمن كما قال ابن عبد القوي -رحمه الله-:

كنْ صابرًا للفقرِ وادَّرِعِ الرضا
 

 

بما قدَّر الرحمنُ واشْكُرْهُ واحْمَدِ
   

 

فالرضا بالقدر لا بُد منه، لكن الرضا بالمقدور هذه مسألة أخرى وهو أنه يفرح بهذه المصيبة، ويرضى بها، هذا عند جمع من أهل العلم ليس بواجب، ولكن التلذُّذ الذي يَذكره بهذا البلاء في ذات الله كما ذُكِر عن بعضهم أنه لما مات ابنه ضحك، مثل هذا خلاف السُّنَّة، فالنبي –عليه الصلاة والسلام- وهو أكمل الخلق لما مات ابنه إبراهيم بكى، وقال –عليه الصلاة والسلام-: «إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يَرضى ربُّنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» [البخاري: 1303]، فالحزن اليسير الذي لا يصل إلى حدِّ الجزع، وحدِّ الضرب للخد وشق الجيب، وما يتبعه مما جاء تحريمه في الأحاديث، والبكاء من غير صوت: لا يضر، وهذا هديه –عليه الصلاة والسلام-، وهو أكمل هدي، فالذي ضحك عند المصيبة عمله خلاف هدي النبوَّة، والأكمل أن يستطيع أن يُوفِّق في هذا المضيق بين الرضا التام، وبين الحزن اليسير والبكاء المأثور عنه –عليه الصلاة والسلام-، وأما الإنسان الذي لا يستطيع أن يُوفِّق في مثل هذه المضائق إن لم يَضحك جَزِع وضَرَب وما أشبه ذلك، هذا وإن كان ضحك وهو في هذه المصيبة يدل على شيءٍ من التسليم لأمر الله –جلَّ وعلا-، لكنه خلاف هدي النبي -عليه الصلاة والسلام-.

ويبقى أن التلذُّذ بالطاعات، والتلذُّذ بالمصائب، وأيضًا الفرح بالبُعد عمَّا يُغضب الله –جلَّ وعلا- هذه من المنازل العالية في الدِّين، فالرسول –عليه الصلاة والسلام- يقول: «يا بلال أرحنا بالصلاة» [أبو داود: 4986]، وقال بعض السلف: (كابدنا قيام الليل عشرين سنة -يعني: مع المشقة-، ثم تلذَّذنا به عشرين سنة)، فالمسلم لا بُد أن يُجاهِد، ولا بُد أن يَمُر بمرحلة المجاهدة حتى يصل إلى مرحلة التلذُّذ، وهي منزلةٌ عالية قد يصل إليها الإنسان وقد لا يصل، فقد يموت وهو يُجاهد، لكنه على خير.

وبعض العلماء يقول: إن هذه المجاهدة يكون فيها أجر العبادة وأجر المجاهدة، أجر العبادة –أصله-، وأجر المجاهدة، وليس بأكثر أجرًا ممن يتلذَّذ بالعبادة كالنبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن هذه مرحلة بعد تجاوز مرحلة المجاهدة.

ولا شك أن بعض الناس يُيسَّر له العبادات البدنية، وبعضهم العبادات المالية، وبعضهم تُيسَّر له الصلاة، وبعضهم يُحبَّب إليه الصيام، وبعضهم يتردَّد على البيت الحرام وهو مسرور ومرتاح، وهكذا. ومن نِعم الله –جلَّ وعلا- تنوُّع هذه العبادات؛ لكي يَغنم المسلم على كل حال، فإذا صعب عليه شيء وسهل عليه شيءٌ آخر يلزمه فيكون خفيفًا على قلبه، ويُجاهد نفسه في أداء ما أوجب الله عليه في الأبواب الأخرى. فعلى كل حال الحمد لله على نِعمه، ومنها تنوُّع العبادات، والله أعلم.