الحاجة إلى بعث الرسل وإنزال الكتب؛ لهداية الناس ودلالتهم إلى الصراط المستقيم أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب، لماذا؟ لأن اتباع الرسل بعد معرفة ما جاؤوا به وإجابتهم إلى ما طلبوا من توحيد الله وعبادته فيه النجاة في الآخرة، وفيه السعادة الأبدية، وأما الحاجة إلى الطعام والشراب فهي لِقوام العيش في هذه الحياة، وما نسبة هذه الحياة -مهما طالت- إلى الحياة والسعادة الأبدية في الآخرة؟ لا نسبة.
وهذا السائل يقول: (نظرًا لأن كثيرًا من الناس في عالمنا اليوم لم يسمعوا عن الرسل ولا يعلمون عنهم شيئًا)، هل نَظر في واقع هؤلاء القوم الذين لم يسمعوا عن الرسل في حياتهم الدنيا، فضلًا عمَّا ينتظرهم في الآخرة؟ تجد هؤلاء في شقاء، بخلاف من اتبع الرسل وعمِل بما جاؤوا به، فتجد الإنسان ممن استجاب للرسل واتَّبعهم وعبَد الله –جلَّ وعلا- على مراده في سعادةٍ وإن كان في ظاهر أمره أنه لا مال له، أو لا أهل له، أو لا مأوى له، فشقاؤه في الظاهر وسعادته في الباطن، وهذه هي السعادة الحقيقية، ففي الحديث «يُؤتى بأشدِّ الناس بؤسًا في الدنيا، من أهل الجنة، فيُصبغ صبغةً في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيتَ بؤسًا قط؟ هل مرَّ بك شدةٌ قط؟ فيقول: لا، والله يا ربِّ، ما مرَّ بي بؤسٌ قط، ولا رأيتُ شدةً قط» [مسلم: 2807]، نسي كلَّ ما حصل له في هذه الدنيا، ولذلك مَن يُبتلى بالفقر والشدائد والأمراض المؤلمة ينسى كلَّ هذا إذا خُتِم له بخير ودخل جنات النعيم؛ لأن الدنيا ولو طالت بالإنسان وعاش مائة سنة -مثلًا- كــــلا شيءٍ بالنسبة للآخرة.
وجاء في الحديث «من نفَّس عن مؤمنٍ كربةً من كُرب الدنيا، نفَّس الله عنه كُربةً من كُرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة» [مسلم: 2699]، ففي التيسير على المعسر قال: «يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة»، بينما في الجملة الأولى في تنفيس الكُرَب قال: «نفَّس الله عنه كُربةً من كُرب يوم القيامة»، ولم يذكر الدنيا (من كُرب الدنيا والآخرة)، لماذا؟ لأن كُرَب الدنيا مهما اشتدتْ ومهما طالتْ كـــلا شيءٍ بالنسبة لكُرب يوم القيامة، والله المستعان.
وشواهد الأحوال ظاهرة، ففي البلدان المتقدِّمة المتحضِّرة التي ضربتْ بحظٍّ وافرٍ من أمور الدنيا ومُتعِها تجد فيهم الشقاء، ويَكثر فيهم الانتحار، بخلاف كثيرٍ من الدول الإسلامية الفقيرة فلا يُوجد فيهم شيءٌ من هذا مع ما يعيشونه من شدائد وضيق وأمراض وغير ذلك، فالنظر إلى الدنيا بهذا المنظار يجعل الإنسان يَغيب عنه التصوُّر الصحيح، ويَلهث وراء الحضارة المادية التي فيها الشقاء والتعاسة -كما يُعبرون عن أنفسهم-، بينما كثيرٌ من بلدان المسلمين الذين لم يعرفوا هذه الحضارة، ولم يتطلَّعوا إليها عاشوا في سعادة، ولو كانوا في قِلَّةٍ من ذات اليد أو لديهم شيء من الأمراض أو نقص في أمور الدنيا، والله المستعان.