ما ورد عن السلف مِن ختمهم القرآن كلَّ يوم

السؤال
هذا سؤال عمَّا جاء ذكره عن حال السلف من أنهم كانوا يقرؤون القرآن كلَّ يوم، وهذا مستفيض عنهم، ويكثر السؤال عنه.
الجواب

قراءة القرآن عند الماهر ممكنة في اليوم الواحد، ومع ذلك بإمكانه أن يتدبَّر، وقد رأينا مَن يقرأ القرآن كلَّ يوم مع أن الدموع تنهمر من عينيه، فليس بمستحيل، وليس بصعب، وهو موجود إلى الآن، والنبي -عليه الصلاة والسلام- ثبت عنه أنه قال لعبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: «اقرأ القرآن في سبعٍ ولا تزد» [البخاري: 5054]، ومثل هذا الكلام منه -عليه الصلاة والسلام- إنما هو علاج للمندفع، فالمندفع يُعالَج بمثل هذا الكلام، وابن عمرو أراد أن يقرأ القرآن ليل نهار، ويترتب على هذا تضييع بعض الحقوق، فأراد النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يَحدَّ من هذا الاندفاع، فقال له: «اقرأ القرآن في كل شهر»، قال قلتُ: يا نبي الله، إني أُطيق أفضل من ذلك، قال: «فاقرأه في كل عشرين»، قال قلتُ: يا نبي الله، إني أُطيق أفضل من ذلك، قال: «فاقرأه في كل عشر»، قال قلتُ: يا نبي الله، إني أُطيق أفضل من ذلك، قال: «فاقرأه في كل سبعٍ، ولا تزد على ذلك» [البخاري: 5054 / ومسلم: 1159]، فإذا كان النهي من أجل الرفق بالمنهي، فتُنظر بالنسبة لغيره النصوص الأخرى، ففي كل حرف من القرآن عشر حسنات، وجاء في الحديث عند أبي داود وغيره أنه: «لا يفقه مَن قرأ القرآن في أقل من ثلاث» [أبو داود: 1394]، والعلماء يقرِّرون أن القراءة في أقل من ثلاث ممكنة، وقد يفقه، لكن هذا النفي بالنسبة لمن لديه أعمال أخرى، وانشغال بأمور دنياه، فمثل هذا لا يفقه، لكن لو قال لنا شخص: (أنا أقرأ خمسة أجزاء بعد صلاة الصبح، وخمسة أجزاء بعد صلاة الظهر، وخمسة أجزاء بعد صلاة العصر، وأستطيع أن أقرأ القرآن في يومين)، هل نقول له: إنك لا تفقه، فلا تقرأ بعد صلاة الظهر؛ لأجل أن تفقه؟ وهل لهذا المنع من القراءة في وقتٍ من هذه الأوقات أثر على الفقه؟ لكن غالب الناس إذا قرأ عشرة أجزاء في اليوم لا يفقه، فهو محمول على الغالب، ومنهم مَن يرى كابن رجب -رحمه الله- وغيره أن هذا في الأوقات العادية، أما في الأوقات الفاضلة فتُغتنم هذه الأوقات، ولا مانع أن يختم القرآن في رمضان في كل ليلة.

وذكر العلماء -وهذا لا بد من التنبيه عليه- أن منهم مَن يختم بالنهار ختمةً، وبالليل ختمةً، ومنهم مَن يختم بالنهار ختمتين وبالليل ختمتين، وذكر الحافظ ابن كثير والنووي -رحمهما الله- عن ابن الكاتب الصوفي أنه كان يختم أربعًا بالليل وأربعًا بالنهار، وهذا ليس بالمقدور، والوقت لا يستوعب، وذكر القسطلاني -رحمه الله- عن شخصٍ أنه كان يقرأ القرآن في أسبوع، فقلنا: في أسبوع ممكن، ثم قال: (وقيل: في شوط)! فعرفنا أن مراده بالأسبوع: الطواف بالبيت سبعًا، وهذا لا يمكن، ولا شك أن هذا من تلبيس الشيطان على بعض الناس، بحيث يُريه أنه قرأ وهو في الحقيقة لم يقرأ.

والقراءة التي تترتَّب عليها آثارها لا شك أنها إذا كانت على الوجه المأمور به: بالترتيل، والتدبر، وبنية الانتفاع من القرآن. وشيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- يقول: وقراءة القرآن على الوجه المأمور به تورث القلب من العلم والعمل والإيمان والطمأنينة والراحة ما لا يُدركه إلا من جرَّب. وابن القيم -رحمه الله تعالى- يقول:

فتدبَّرِ القرآنَ إن رُمتَ الهدى
 

 

فالعلمُ تحتَ تدبُّرِ القرآنِ
 

وأما قراءة الهذِّ من غير ترتيل ولا تدبر فلا شك أن أثرها في النفس ضعيف، لكن إذا أُخرجت الحروف من مخارجها، ونَطق بها الإنسان نطقًا كاملًا، فلا شك أن أثرها في تحصيل الحسنات المرتبة على مجرد القراءة -أي: بكل حرف عشر حسنات- يثبت -إن شاء الله تعالى-، وجاء عند الدارمي وأحمد بإسنادٍ جيد أنه يقال لقارئ القرآن: «اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها، فهو في صعودٍ ما دام يقرأ، هذًّا كان أو ترتيلًا» [مسند أحمد: 22950 / وسنن الدارمي: 3434]. لكن العلم والإيمان والطمأنينة التي تورثها القراءةُ لا تكون مع هذا الهذِّ، والمسألة على التعوُّد، فإذا تعوَّد الإنسان أن يقرأ بهذٍّ فلا يستطيع أن يتريَّث، بل يكون نظره إلى آخر السورة.

وعلى كل حال علينا أن نُعنى بكتاب الله -جل وعلا-، ففيه العلوم كلها، وفيه الخير كله، ومَن قام يقرؤه فكأنما يخاطب الرحمن مباشرة؛ لأنه كلامه.

هو الكتابُ الذي مَنْ قامَ يَقرؤُهُ
 

 

كأنَّما خاطبَ الرحمنَ بالكَلمِ
 

وبعض الناس إذا انتهى من دوامه وارتاح بعد العصر، يجعل ما بعد المغرب للجرائد والمجلات، وما بعد العشاء للسهرات، وليس لكتاب الله -جل وعلا- منه نصيب. ومع الأسف أن بعض طلاب العلم لا يعرف القرآن، إلَّا إن تقدَّم قبل الصلاة بدقائق فإنه يفتح المصحف، وإلَّا فلا يعرفه، وهذا خلل، فإذا لم نُعنَ بكتاب الله فكيف نُعنى بكلام البشر؟ فالقرآن هو الغاية، والسنة مفسِّرة للقرآن، وقد جاء فيها قوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3-4]، فالسنة أيضًا غاية، فعلينا أن نُعنى بالوحيين، وما يُعين على فهمهما، بحيث إذا تعارض النظر في غيرهما مع النظر فيهما قُدِّم النظر فيهما، إلا إذا قدَّمنا الوسائل على المقاصد لفهم المقاصد، وأما إذا عرفنا الوسائل فيكون اهتمامنا منصبًّا على هذه الغايات، والله أعلم.