مفهوم الوسطيَّة في الدين وحدودها

السؤال
أسأل عن حدود الوسطيَّة ومفهومها؛ لأن من الناس مَن يذمُّ التمييع والتساهل، ويهرب طالبًا الوسطيَّة، وإذا هو يسقط مع الجانب الآخر، وهو جانب التنطُّع والغلو والتشدُّد، ومنهم بالعكس مَن يذمُّ التنطُّع والغلو، ويهرب طالبًا الوسطيَّة، ثم يسقط مع جانب التسهيل والتيسير، فما حدود الوسطيَّة ومفهومها؟
الجواب

الوسطيَّة هي سِمَة هذا الدين، وهي سِمَة أهل السنة والجماعة، فالدين وسط بين الأديان، وأهل السنة والجماعة وسط بين المذاهب، وشيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- أبدع في تقرير مذهب أهل السنة والجماعة في (الواسطية)، حينما شرح طرفي النقيض في كل مسألة من مسائل الاعتقاد، ثم قال: وأهل السنة وسط في باب كذا بين كذا وكذا، وأهل السنة وسط في باب كذا بين كذا وكذا...إلى آخره.

فالوسط هو أن تتقي الله -جل وعلا-، وتسأله الإعانة والتوفيق والتسديد، وأن تعمل الواجبات وتترك المحرمات، فإذا أُمرتَ بشيء فبادر إلى العمل به، وإذا نُهيتَ عن شيء فبادر إلى الانتهاء عنه، «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» [البخاري: 7288 / ومسلم: 1337]، و«الدِّين يُسر، ولن يُشادَّ الدِّين أحدٌ إلا غلبه» [البخاري: 39]، «يسِّرا ولا تُعسِّرا، وبشِّرا ولا تُنفِّرا» [البخاري: 3038]، فالمقصود أن دين الله وسط بين الغالي والجافي، ولا شك أن التكاليف إلزامٌ فيه كلفة على النفس، فالواجبات فيها كلفة على النفس، وترك المحرمات ورغبات النفوس فيها كلفة على النفس، فلا يعني كون الدين وسطًا ويُسرًا أننا نتفلَّت من الواجبات، ونرتكب المحرَّمات، فالله -جل وعلا- الذي قال: إن رحمته وسعتْ كلَّ شيء، هو شديد العقاب أيضًا، فأنت مأمورٌ منهيٌّ، فعليك أن تأتمر بقدر طوقك واستطاعتك، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]، وعليك أيضًا أن تنتهي، فالجنة حُفَّتْ بالمكاره؛ لأن بعض الناس يستغل مثل هذه النصوص في التنصُّل من الدين بالكلية، وهذا مسلك سلكه بعض المبتدعة، إلى أن وصلوا إلى حدٍّ تزندقوا فيه، وخرجوا من الدين بالكلية.

فالدين عبارة عن أوامر ونواهٍ، والجنة حُفَّتْ بالمكاره، فأنت استفتِ قلبك، وإذا عُرض عليك أمر، فإن كنتَ من أهل النظر والاستدلال، وعندك من الدليل ما يدعوك إلى الإقدام عليه فأقدم، أو عندك من الدليل ما يدعوك إلى الإحجام عنه فأحجم، وإذا لم تكن من أهل النظر ففرضك التقليد، وسؤال أهل العلم، فاسأل من تبرأ الذمة بتقليده، من أهل العلم وأهل الدين وأهل الورع.

وليسَ في فتواهُ مُفْتٍ مُتَّبَعْ
 

 

ما لمْ يُضِفْ للعلمِ والدينِ الورعْ
 

فالمسألة دائرة بين أمرين، والناس اثنان:

أحدهما: صاحب علم ونظر، فمثل هذا فرضه النظر، فينظر في النصوص على أنها دين لا على أنها اتباع شهوات؛ لأن بعض الناس ينظر في المذاهب ولا ينظر في النصوص، ويقول: (النبي -عليه الصلاة السلام-: «ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما» [البخاري: 3560]، وأبو حنيفة يقول كذا، ومالك يقول كذا، إذن أبو حنيفة أسهل، أو مالك أسهل، والإمام مالك نجم السنن، أو أبو حنيفة الإمام الأعظم)، وكلاهما من الأئمة، وكلاهما على العين والرأس؛ لكن ما معنى هذا؟ معناه أنك تتَّبع هواك وما تتَّبع الدين، والواجب أن تنظر في أدلة هؤلاء وأدلة هؤلاء، ثم إذا ترجَّح عندك قول، فاعمل بما تدين الله به، واترك عنك بنيَّات الطريق، ولو كثُر الكلام، ولو كثُر مَن يخرج في القنوات، ويُقلِّل من شأن الدين والمتدينين، ويريد أن يُخرِج الناس من أديانهم بالفتاوى المائعة، التي لا تعتمد لا على عقل ولا على نقل، فعلى الإنسان إن كان من أهل النظر أن يعمل بما يدين الله به من خلال الدليل الصحيح.

وثانيهما: مَن لم يكن من أهل النظر، فعليه أن يُقلِّد مَن تبرأ الذمة بتقليده، والله المستعان.