تقديم اليدين أو الركبتين في السجود

مسألة: ماذا يقدم إذا سجد؟ هل يقدم يديه أو ركبتيه؟ هذه المسألة كثر فيها الكلام، وهي في غاية الأهمية.

فقد جاء في حديث وائل بن حجر: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه. وهذا الحديث مخرج في السنن، ومصحح أيضًا، صححه بعض أهل العلم.

وقوله: (وضع ركبتيه قبل يديه) رجح به جمع من أهل العلم، تقديم الركبتين على اليدين، وانتصر له ابن القيم.

لكن روى أبو داود والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه» وهذا عكس الحديث السابق، وأقوى منه، إذ ذكر الحافظ ابن حجر بأن له شاهدًا من حديث ابن عمر، صححه ابن خزيمة، وذكره البخاري معلقًا موقوفًا.

فهذه المسألة تحتاج إلى بسط، وتحتاج إلى توضيح، فعندنا حديثان متضادان في الظاهر، فمن يرجح تقديم الركبتين -كما في حديث وائل-، يحكم على الحديث الثاني بأنه ضعيف؛ لأنه مقلوب، ومن يرجح تقديم اليدين على الركبتين، لأنه أقوى من حيث الصناعة وله شواهد، حكم على الحديث الثاني بأنه ضعيف.

فابن القيم -رحمه الله تعالى- قال: إن الحديث الثاني حديث أبي هريرة مقلوب، إذ لو تأملنا في قوله: «فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه» يقول ابن القيم: البعير يقدم يديه في بروكه قبل ركبتيه، وهذا تناقض، فهو مقلوب، ولو أخذناه على ظاهره صرنا متناقضين، هكذا قرر ابن القيم، وأطال -رحمه الله تعالى- في تقرير القلب في هذا الحديث، وأجلب على هذه المسألة بكل ما أوتي من قوة وبيان وسعة اطلاع، ليقرر أن الحديث مقلوب.

وبعضهم يرى أن ركبتي البعير في يديه، وينقل ذلك عن بعض كتب أهل اللغة. لكن لو افترضنا أن ركبتي البعير في يديه، فلن يُحل الإشكال؛ لأن المصلي إذا قدم يديه شابه بروك البعير في الصورة.

أما شيخ الإسلام -رحمه الله- فيرى أن الصورتين كلاهما صحيحتان وجائزتان، سواء قدم الإنسان يديه أو قدم ركبتيه سيان، هذه ثابتة من فعله -عليه الصلاة والسلام-، وهذه ثابتة من أمره: «وليضع يديه قبل ركبتيه» واللام لام الأمر.

وهذه المسألة تحتاج إلى دقة في الفهم، فأنا أقول: الحديث الثاني حديث أبي هريرة ليس بمقلوب، ولم يطعن أحد من الأئمة المتقدمين في الحديث بأنه مقلوب، ولن تخفى هذه العلة عليهم، لأنها واضحة، وما أدركه ابن القيم يمكن أن يدركه آحاد الناس، إذ كل إنسان يرى البعير يقدم يديه قبل ركبتيه، ومن تكلم في الحديث من الأئمة إنما تكلم في إسناده، ولم يتكلم في متنه.

ولكي نفهم الحديث لا بد أن نفهم معنى البروك، إذ يقال برك البعير: إذا نزل على الأرض بقوة، وأثار الغبار وفرَّق الحصى؛ وكذلك المصلي إذا برك على يديه بقوة، وأثار الغبار وفرَّق الحصى، وخلخل البلاط -كما يفعل بعض الناس- يكون قد برك كما يبرك البعير، وإذا قدم يديه قبل ركبتيه، ووضعهما على الأرض مجرد وضع، لا يكون بهذا قد برك مثل بروك البعير، بل امتثل قوله -عليه الصلاة والسلام-: «وليضع يديه قبل ركبتيه».

وكذلك في الحديث الأول، فلو قدم الإنسان ركبتيه على يديه ونزل على الأرض بقوة، فهذا لم يفعل مثل ما فعل النبي -عليه الصلاة والسلام-، بل هذا برك كما يبرك الحمار، يقدم ركبتيه لكن بقوة، وقد نهينا عن مشابهة الحيوانات.

وحينئذٍ لا يكون هناك تعارض بين أول الحديث ولا آخره، ولا نحتاج إلى ترجيح بين الحديثين، فنرجح حديث أبي هريرة على حديث وائل، أو حديث وائل على حديث أبي هريرة.

وشيخ الإسلام -رحمه الله- لحظ مسألة وضع ورفق وهدوء في الصلاة، سواء قدم الإنسان يديه أو قدم ركبتيه.

فالملاحَظ في هذا مجرد الوضع، أما النزول على الأرض بقوة، بحيث يُسمَع لنزوله صوت، كما يُسمَع من بعض الناس صوت البلاط يتخلل، فهذا بروك مثل بروك البعير.

وكذلك هناك فرق بين وضْع المصحف على الأرض –وهذا جائز عند أهل العلم- وبين رمي المصحف على الأرض وإلقاؤه، فهذا خطر عظيم، وبعض أهل العلم يفتي بكفر من يفعل هذا، إذا فعله استخفافًا.