شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (287)

المُقَدِّم: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين، أيُّها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا بكم إلى لقاء جديد في برنامجكم "شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح".

مع بداية هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ.

حياكم الله وبارك فيكم، وفي الإخوة المستمعين.

المُقَدِّم: لازلنا مع حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- توقفنا عند قوله: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أمَّا بعد،

ففي حديث ابن عباس لمَّا وضع الوضوء للنبي- عليه الصلاة والسلام- سأل، قال- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ وَضَعَ هَذَا؟ فأُخبر»، تقدم أنَّ المخبر هي خالة ابن عباس ميمونة بنت الحارث، كما تقدم في كتاب العلم، فمن باب المكافأة «ومن صنع إليكم معروفًا فكافؤوه» دعا له النبي- عليه الصلاة والسلام- فقال: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»، وتقدم في باب قول النبي-عليه الصلاة والسلام-: «اللهم علمه الكتاب» عن ابن عباس قال: ضمني رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.

المُقَدِّم: عليه الصلاة والسلام.

قال: «اللهم علمه الكتاب»، ضمني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقال: «اللهم علمه الكتاب» يقول ابن حجر: يستفاد منه، جواز احتضان الصبي القريب على سبيل الشفقة، والمراد بالكتاب القرآن؛ لأنَّ العرف الشرعي عليه، «اللهم علمه الكتاب» العرف الشرعي، لماذا لم يقل العرف فقط؟

المُقَدِّم: لأنَّ العرف الكتاب ما هو لازم القرآن.

يعني تعارف أهل اللغة.

المُقَدِّم: يعني أطلق.

على أنَّ الكتاب كتاب سيبويه.

المُقَدِّم: نعم.

نعم، هو الكتاب عندهم.

المُقَدِّم: نعم.

إذا ذكر في الكتاب، وشواهد الكتاب، كذا الكتاب، يعني كتاب سيبويه، وهنا قال: والمراد بالكتاب القرآن؛ لأنَّ العرف الشرعي عليه.

المُقَدِّم: نعم.

والمراد بالتعليم، يعني «اللهم علمه الكتاب» ما هو أعم من حفظه والتفهم فيه، المراد بالتعليم «علمه الكتاب» ما هو أعم من حفظه والتفهم فيه، فلا شك أنَّ حفظ القرآن من أهم المهمات بالنسبة لطالب العلم، لكن المراد ما هو أعم من ذلك.

المُقَدِّم: علم الكتاب.

علم الكتاب «علمه الكتاب» يعني بجميع ما تحتمله هذه الكلمة، من حفظ، وتعلم، وعمل.

المُقَدِّم: صحيح.

لأنَّ من مقتضيات العلم العمل، وهذه طريقة الصحابة والسلف- رضوان الله عليهم-.

المُقَدِّم: نعم.

كانوا لا يتجاوزون السورة أو العشر آيات حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قد يقول قائل: أنا والله من أهل العناية بالكتاب، أقرأ القرآن باستمرار، ديدني قراءة القرآن، لكني حاولت الحفظ وعجزت، ديدني كثرة القراءة في القرآن، وتعلم القرآن، ومراجعة كلام أهل العلم عن القرآن، وحضور دروس التفسير، وأتدبر القرآن، هل نقول: إنَّ هذا من أهل القرآن وهو لم يحفظ؟

يقول ابن القيم- رحمه الله-: وأهل القرآن هم أهل العناية به.

المُقَدِّم: نعم.

هم أهل العناية به، في تعلمه والعمل به وإدامة النظر فيه ولو لم يحفظوه، لئلا ييأس من..

المُقَدِّم: لم يستطع الحفظ.

ابتلي بسوء الحافظة، لا سيما إذا بذل، أمَّا إذا فرط يقول: أنا والله حفظي ضعيف، ولا حاول، مثل هذا لا شك أنَّه يلام، ولا يستحق أن يعد من أهل القرآن، لكن إذا حاول وبذل وعجز، ثم اتجه إلى قرائته وتدبره والنظر فيه وتعلمه وتعليمه والاستنباط منه والعمل به فهذا لا شك أنَّه من أهل القرآن كما قال ابن القيم- رحمه الله-، ولا يعني هذا أن نفتح المجال لمن يقول إنَّه من أهل القرآن وهو لم يحفظ القرآن، نقول: شريطة أن يكون قد حاول، وبذل قدر جهده واستطاعته فلم يستطع، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ومر بنا مرارًا أنَّ الحفظ لا شك أنَّه من أعظم وسائل التحصيل، ومعه بل لا يقل عنه في الأهمية الفهم، فلابد من الحفظ والفهم.

المُقَدِّم: صحيح.

لابد أن يجتمعا، لكن من كانت حافظته تسعف، وفهمه أقل هذا يعوض بكثرة..

المُقَدِّم: الحفظ.

ومراجعة ما حفظ.

المُقَدِّم: نعم.

من كلام أهل العلم يحاول جاهدًا أن يفهم، ويسأل عما يشكل عليه، والثاني الذي رزق الفهم ولم يرزق الحفظ يعاني العلم، ما معنى يعاني العلم؟ يعني يتعب في تحصيله، يعني يردد ما أراد فهمه ويكتبه مرارًا حتى يثبت ويرسخ فيه، ويشرحه إن كان مختصرًا، ويختصره إن كان مطولًا، وبهذا يثبت فيه ولو كانت حافظته ضعيفة، وإذا علم الله- جلَّ وعلا- صدق النية من هذا أو ذاك أعان، وإلا فكم في عموم المسلمين من لديه الحافظة القوية، ولديه الفهم الثاقب، ومع ذلك لم يكتب له شيء من العلم حتى في صفوف طلاب العلم يوجد هذا، لكن على الإنسان أن يبذل ما يستطيع، قدر استطاعته، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [سورة البقرة: 286].

يقول: وقع في رواية مسدد الحكمة، يقول ابن حجر: وقع في رواية مسدد الحكمة بدل الكتاب.

المُقَدِّم: «اللهم علمه الحكمة»

نعم، بدل الكتاب، فيُحمل على أنَّ المراد بالحكمة أيضًا القرآن، فيكون بعضهم رواه بالمعنى، يعني جاء في نصوص الكتاب والحكمة، وفسرت الحكمة في هذه النصوص.

المُقَدِّم: بالكتاب.

بالسُّنَّة؛ لأنَّ الكتاب هي عطفت على الكتاب.

المُقَدِّم: إذا جمعتا.

إذا جمعا أريد بالكتاب القرآن، وبالحكمة السُّنَّة، لكن هنا في رواية مسدد «اللهم علمه الحكمة» يدل بدل الكتاب يُحمل على أنَّ المراد بالحكمة القرآن، فيكون بعضهم رواه بالمعنى، لماذا قلنا هنا الحكمة القرآن، ولم نقل السُّنَّة؟

المُقَدِّم: لأنَّها جاءت مفردة.

لماذا وهي مفردة أيضًا؟ لماذا اضطررنا أن نفسرها بالقرآن؟ لأنَّ الروايات الأخرى تدل على..

المُقَدِّم: على القرآن.

على الكتاب، والسُّنة يفسر بعضها بعضًا.

المُقَدِّم: لكن لمَّا جمعتا أردنا بهذا الكتاب القرآن، والحكمة السُّنَّة؟

نعم.

المُقَدِّم: لمَّا جمعتا في لفظ واحد.

نعم؛ لأنَّه لا يُمكن أن يراد باللفظين شيء واحد.

المُقَدِّم: جميل.

نعم، وللنسائي والترمذي من طريق عطاء عن ابن عباس قال: دعا لي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن أوتى الحكمة مرتين، فيحتمل تعدد الواقعة، لكن التي عندنا في هذا الباب «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»، وهناك في كتاب العلم «اللهم علمه الكتاب» هي واقعة واحدة في مبيته عند...

المُقَدِّم: خالته ميمونة.

خالته ميمونة، فيحتمل تعدد الواقعة، فيكون المراد بالكتاب القرآن والحكمة السُّنة.

فقال: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» الفقه الفهم، يقال: فقه بالضم إذا صار الفقه له سجية، فَقُه إذا صار الفقه له سجية، وفَقَه بالفتح إذا سبق غيره إلى الفهم، وفقِه بالكسر إذا فهم، فقِه، وفقَه إذا سبق غيره إلى الفهم، وفقُه إذا صار الفقه...

المُقَدِّم: سجية.

له سجية، والمراد بالدين «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» كما تقدم في حديث معاوية «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» المراد بالدين جميع أبوابه، جميع أبواب الدين، يفسر ذلك حديث جبريل في سؤاله عن الإسلام والإيمان والإحسان، ثم قال النبي- عليه الصلاة والسلام-: «هذا جبريل».

المُقَدِّم: «أتاكم يعلمكم دينكم».

«جاءكم يعلمكم دينكم»، فالمراد بالدين ما يشمل الإسلام، والإيمان، والإحسان، لا خصوص الأحكام، وإن كانت منه؛ لأنَّه صار الفقه العرفي خاصًّا بالأحكام العملية.

المُقَدِّم: صحيح.

وإن كانت منه، وقد خصه لاستعمال العرف بها- يعني بالأحكام- وإلا فالعقائد هي..

المُقَدِّم: الدين.

هي الفقه الأكبر كما هو معلوم، قال ابن المنير: مناسبة الدعاء لابن عباس بالتفقه فيه على وضعه الماء من جهة أنَّه تردد بين ثلاثة أمور، ابن عباس يريد أن يضع الماء للنبي- عليه الصلاة والسلام-، يريد أن يخدم النبي- عليه الصلاة والسلام-، لكنه تردد بين ثلاثة، ماذا يصنع؟

إمَّا أن يدخل بالماء إلى الخلاء، أو يضعه على الباب ليتناوله من قرب، أو لا يفعل شيئًا، وهذا في حالة ما إذا دخل الخلاء وانتهى، يعني وجد في الخلاء، ماذا يصنع؟

يقول لو لم يدخل لأحضرت له الماء، لكن أنا لا أستطيع هذا، فإمَّا أن يترك بهذه العلة، أو يدخل ويترتب على هذا الاطلاع على العورة.

المُقَدِّم: على العورة.

لأنَّ هذا مكان كشف العورة، الضرورة تقتضي ذلك، أو يجعله عند باب الخلاء، مكان الخلاء.

المُقَدِّم: ويتناوله النبي.

فيتناول من قرب، يعني هذا محسوس.

المُقَدِّم: صحيح.

يعني من أراد أن يخدم مثل هذه الخدمة يتردد بين هذه الأمور فيكون أقرب الأمور ما فعله ابن عباس، فتردد ابن عباس بين ثلاثة أمور، إمَّا أن يدخل بالماء إلى الخلاء، أو يضعه على الباب ليتناوله من قرب، أو لا يفعل شيئًا، فرأى الثاني أوفق؛ لأنَّ في الأول تعرضه للاطلاع، يعني الاحتمال الأول يدخل بالماء إلى الخلاء يتعرض للاطلاع، لكن قد يقول قائل: لماذا لا يدخل ويغمض عينيه؟ أو مثلًا افترض أنَّ المكان مظلم بليل، على كل حال هو عرضة للاطلاع سواء اطلع على نفس العورة، أو اطلع على ما لا ينبغي الاطلاع عليه. المقصود أنَّ هذا الاحتمال ضعيف، والثالث يستدعي مشقة في طلب الماء، افترض أنَّه ما جاء به عند الباب يحتاج إلى أن يدعو.

المُقَدِّم: من يحضره.

من يحضر له الماء، يستدعي مشقة في طلب الماء، والثاني أسهلها، ففعله يدل على ذكائه، فناسب أن يُدعى له بالتفقه في الدين؛ ليحصل به النفع وكذا كان.

يعني العالم أو الأب مثلًا بين أبنائه إذا توسم في أحدهم، في أحد الطلاب بعد أبنائه النجابة، وفي غيره من هو أقل وفي قسم ثالث من لا توجد فيهم المقومات يعتني بأي الأقسام؟

المُقَدِّم: يعتني بالأول.

الأول النجيب، هذا الذي يعني التعب عليه..

المُقَدِّم: مضمون.

مفيد أيضًا، يعني له مردوده؛ يعني ولذلك لمَّا توسم فيه النجابة استدل على ذكائه؛ .. من مناسبات كثيرة ما يلزم أن يكون من هذه، لكن هذه واحدة منها، فناسب أن يُدعى له بالتفقه في الدين؛ ليحصل به النفع وكذا كان.

يعني افترضنا أنَّ أبًا عنده خمسة أولاد، واحد توسم فيه الذكاء والنجابة، الثاني توسم فيه الجلد والقوة في البدن، والثالث توسم فيه التصرف، وحسن التصرف مع الناس والدخول والخروج وكذا، المطلوب من هذا الأب بعد دراسته لمواهب أولاده أن يهيئ لكل واحد ما يناسبه، فمثل هذا النجيب دعه ولا تكلفه بشيء، دعه لطلب العلم، ويسر له أسباب الطلب، وهذا القوي النشيط دعه لأعمال تليق به وهيئ له أيضًا من الأسباب ما يعينه على ذلك، والثالث أيضًا دعه أيضًا ويسر له ما يعينه على تحقيق ما يحسنه وهكذا، أمَّا أن يُعامل الأولاد كلهم معاملة واحدة، العدل يقتضي هذا، لكن هناك أمور لا شك أنَّ مردودها على الإنسان قبل غيره أفضل من الأمور الأخرى، لكن لو كلفت واحدًا، لو واحد نجيب، طالب توسم فيه النجابة، وأخوه أقل بكثير، بل طلبه للعلم تعب ليس فيه إلا مجرد سلوك الطريق مع أنَّه ينتج في أمور أخرى، ينفع في النفع العام للمسلمين، هل يُقال إنَّه من العدل أن تيسر له من الأسباب الواحدة ما يعينهم على ذلك؟

لا شك أنَّ العدل مطلوب، لكن ينبغي أن تدرس أحوال وقدرات الناس.

كما أنَّ العالم إذا توسم أو لمح من بعض طلابه أنَّ هذا عنده من الحفظ ما يتميز به، والثاني عنده من الفهم ما يتميز به، يوجه هذا إلى ما ينبغي حفظه، ويوجه هذا إلى ما ينبغي فهمه، يوجه هذا عنده طاقة في الكتابة، وهذا طاقة.. عنده قدرة على بحث المسائل العلمية يوجهه إلى هذا.

المُقَدِّم: يبدو أنَّ هذا هو سبيل أو دائمًا هو فعل النبي- صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه.

اللهم صلِّ عليه، هذا الحاصل.

المُقَدِّم: يعني عندما قال لأبي: «أي آية في كتاب الله» لم يقلها لغيره، وعندما قال: «إنكم تظلمون خالدًا»؛ لأنَّ خالدًا هكذا مجاله في الجهاد، «أفرض أمتي زيد، أعلم أمتي بالحلال والحرام..»، فتقسيمه- صلى الله عليه وسلم- للصحابة دليل على معرفته بمواهبهم.

ولذلك أجوبته- عليه الصلاة والسلام- المختلفة عن سؤال واحد.

المُقَدِّم: بحسب الحال.

أفضل الأعمال، فلان يقول أفضل الأعمال يجاهد في سبيل الله، فلان يقول الصلاة على وقتها، فلان يقول كذا، تختلف الأجوبة باعتبار..

المُقَدِّم: السائل.

أنَّه يجيب كل واحد بما يناسبه- عليه الصلاة والسلام-.

يقول الكرماني: فيه أنَّه يجوز أن يُخدم العالم بغير أمره، وفيه دليل قاطع على إجابة دعاء الرسول- صلى الله عليه وسلم-؛ لأنَّه صار فقيهًا وأي فقيه- رضي الله عنه وأرضاه-، لكن مسألة هل أجيب- عليه الصلاة والسلام- في كل ما طلب، هذه مسألة أخرى؛ لأنَّه دعا فأجيب بكذا، ومنع من كذا كما دلت على ذلك النصوص.

يقول ابن بطال: معلوم أن وضع الماء عند الخلاء إنَّما هو للاستنجاء به عند الحدث، وفيه رد قول من أنكر الاستنجاء بالماء وقال: إنَّما ذلك وضوء النساء، وقال إنَّما كان يتمسحون بالحجارة.

نعم في عهده- عليه الصلاة والسلام- يعني الصحابة في شح في موارد المياه، فكان أكثر صنيع، أكثر عملهم الاستنجاء، وأيضًا ليس عندهم من الأماكن المعدة لقضاء الحاجة، وإنَّما كانوا يخرجون إلى البراز، إلى الخلاء، فأقرب ما عندهم في هذا الظرف الحجارة، فهذا أكثر أحوالهم، وقال: إنَّما كانوا يتمسحون بالحجارة، لكن النبي- عليه الصلاة والسلام- ثبت ثبوتًا قطعيًّا أنَّه استنجى بالماء، فلا وجه لرد من قول..، لقول من أنكر الاستنجاء بالماء.

قال أبو الزناد: دعا له النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يفقهه الله تعالى سرورًا منه بانتباهه إلى وضع الماء وهو من أمور الدين، وفيه المكافأة بالدعاء لمن كان منه إحسان أو عون أو معروف.

في عمدة القاري نقل ابن التين عن مالك أنَّه- صلى الله عليه وسلم- لم يستنج عمره بالماء، وهو عجيب منه، وقد عقد البخاري قريبًا بابًا للاستنجاء بالماء، وذكر فيه أنَّه- عليه الصلاة والسلام- استنجى، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وفي صحيح ابن حبان من حديث عائشة- رضي الله عنها- قالت: « ما رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خرج من غائط قط إلا مس ماءً»، وفي جامع الترمذي من حديثها أيضًا أنَّها قالت: مرن أزواجكن أن يغسلوا أثر الغائط والبول، فإنَّه- عليه الصلاة والسلام- كان يفعله، ثم قال: هذا حديث حسن صحيح، وفي صحيح ابن حبان أيضًا من حديث أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- «أنَّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قضى حاجته ثم استنجى من تور»، وكره قوم من السلف الاستنجاء بالماء، وزعم بعض المتأخرين أنَّ الماء من المطعوم فكرهه، وزعم بعض المتأخرين أنَّ الماء نوع من المطعوم فكرهه، يعني إذا كان العظم لا يجوز الاستنجاء به، الروث لا يجوز الاستنجاء به، لماذا؟ العظم زاد الجن.

المُقَدِّم: والروث زاد دوابهم.

والروث زاد دوابهم، إذًا ماذا عن الماء الذي هو زاد الإنس؟ يعني من باب..

المُقَدِّم: أولى.

أولى من وجهة نظر بعض المتأخرين؛ لأنَّه كره قوم من السلف الاستنجاء بالماء، وزعم بعض المتأخرين أنَّ الماء نوع من المطعوم فكرهه لأجل ذلك. وكان بعض القراء يكره الوضوء في مشارع المياه الجارية، لماذا؟

المُقَدِّم: ينقل الأذى.

لا، ليس لهذا، وكان يستحب أن يؤخذ له الماء في ركوة ونحوها؛ لأنَّه لم يبلغه أنَّ النبي- عليه الصلاة والسلام- توضأ على نهر أو مشرع من ماء جارٍ، النبي- عليه الصلاة والسلام- لمَّا لم يتوضأ من نهر، هل لأنَّ الوضوء من النهر مكروه؟ يعني يتناول تناولًا كما قال أبو هريرة، هل مثل هذا مكروه؟ لماذا لم يفعله النبي- عليه الصلاة والسلام-؟

المُقَدِّم: ما عنده نهر؟

نعم، هم قالوا إنَّه يكره، كره بعض القراء الوضوء في المشارع المياه الجارية، وكان يستحب أن يؤخذ له الماء في ركوة ونحوها؛ لأنَّه لم يبلغه أنَّ النبي- عليه الصلاة والسلام- توضأ على نهر أو مشرع من ماء جارٍ، وهذا من أجل أنَّه لم يكن بحضرته المياه الجارية والأنهار، فأمَّا من كان بين ظهراني مياه جارية فأراد أن يشرع فيها ويتوضأ منها كان له ذلك من غير حرج.

يعني الأمور التي يتداولها الناس الآن من المباحات لو قيل: النبي- عليه الصلاة والسلام- ما ركب سيارة نحن ما نركب سيارة، هل في هذا دليل مستمسك؟

المُقَدِّم: لا.

ما وجدت في عصره- عليه الصلاة والسلام-.

يقول النووي في شرح مسلم: اختلف الناس في هذه المسألة، مسألة الاستنجاء بالماء واستحبابه ورجحانه على الاقتصار على الحجر، فالذي عليه الجماهير من السلف والخلف وأجمع عليه أهل الفتوى من أئمة الأمصار أنَّ الأفضل أن يجمع بين الماء والحجر، يقول: فالذي عليه الجماهير من السلف والخلف وأجمع عليه أهل الفتوى، يعني هل تأتي كلمة جماهير مع أجمع؟ لأنَّ الإجماع قول الكل، فكيف يقول الجماهير من السلف والخلف، وأجمع عليه أهل الفتوى، يعني هل نقول: إنَّ هناك من أهل العلم من يرى هذا الرأي من السلف والخلف ممن ليسوا من أهل الفتوى؟

المُقَدِّم: لا، ما يُمكن.

يعني عالم دون منزلة الفتوى، فقال مثل هذا القول، ويخالف، شذ عن هؤلاء الجماهير، وخرق إجماع أهل الفتوى؛ لأنَّ الجمع بين الجماهير والإجماع فيه قلق، الحافظ العراقي يقول: أجمع جمهور أئمة الأثر والفقه في قبول ناقل الخبر، يعني الجمع بين لفظين أحدهما يقتضي الجميع، والآخر يقتضي الأكثر فيه قلق؛ ولذلك يقول: فالذي عليه الجماهير من السلف والخلف وأجمع عليه أهل الفتوى من أئمة الأمصار أنَّ الأفضل أن يجمع بين الماء والحجر، فيستعمل الحجر أولًا لتخف النجاسة وتقل مباشرتها بيده، ثم يستعمل الماء، فإن أراد الاقتصار على أحدهما جاز الاقتصار على أيهما شاء سواءً وجد الآخر أو لم يجده، فيجوز الاقتصار على الحجر مع وجود الماء، ويجوز عكسه، فإن اقتصر على أحدهما فالماء أفضل من الحجر؛ لأنَّ الماء يطهر المحل طهارة حقيقية، وأمَّا الحجر فلا يطهره، يعني طهارة حقيقة، وإن كان يطهره طهارة حكمية، نعم، يطهره طهارة حكمية، وأمَّا الحجر فلا يطهره، وإنَّما يخفف النجاسة.

 ولذلك حينما يقولون في علامة طهارة المحل في الاستنجاء يقولون: عود خشونة المحل، بمعنى أنَّ الأثر زال بالكلية، وفي الاستجمار يقولون أن لا يبقى إلا أثر لا يزيله إلا الماء، فدل على أنَّه يبقى أثر، لكن هذا الأثر معفو عنه، بدليل أن النبي- عليه الصلاة والسلام- في مناسبات كثيرة اقتصر على الاستجمار، وأمَّا الحجر فلا يطهره وإنَّما يخفف النجاسة ويبيح الصلاة مع النجاسة المعفو عنها.

يعني هل قوله: يبيح الصلاة مع النجاسة المعفو عنها قوله: فلا يطهره، الصواب أنَّه يطهر، لكن هذه الطهارة وإن لم تكن حقيقية إلا أنَّها حكمية، وعلى هذا يرتفع حكمه بالكلية، فلا نقول: إنَّه مبيح بمعنى أنَّه يبيح إلى أن يجد الماء مثلما قالوا في التيمم، لا، يختلف الحكم.

وبعض السلف ذهبوا إلى أنَّ الأفضل هو الحجر، وربما أوهم كلام بعضهم أنَّ الماء لا يجزئ. وقال ابن حبيب المالكي: لا يجزىء الحجر إلا لمن عدم الماء، وهذا خلاف ما عليه السلف، ما عليه العلماء من السلف والخلف، وخلاف ظواهر النصوص المتظاهرة.

روى أبو داود في سننه بسنده عن أبي هريرة عن النبي- عليه الصلاة والسلام- قال: «نزلت هذه الآية في أهل قباء {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [سورة التوبة: 108] قال: كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية» والحديث جيد، وفي سنن ابن ماجة عن أبي أيوب الأنصاري وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك أنَّ هذه الآية نزلت { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [سورة التوبة: 108] ، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:« يا معشر الأنصار، إنَّ الله قد أثنى عليكم في الطهور فما طهوركم؟ قالوا: نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة ونستنجي بالماء، فهو ذاك فعليكموه»، قال: « فهو ذاك فعليكموه»، وهذا أيضًا جيد.

مسألة في المسجد الذي أسس على التقوى والخلاف في ذلك هل هو المسجد النبوي أو مسجد قباء؟ يعني جاء الحديث الصحيح أنَّه المسجد النبوي، سئل النبي- عليه الصلاة والسلام- عن المسجد الذي أسس على التقوى، نعم، فأخذ كبة من حصباء فرماها في مسجده، فقال: «هذا»، وهذه النصوص تدل على أنَّ المسجد الذي أسس على التقوى...

المُقَدِّم: مسجد قباء.

مسجد قباء، لا شك أنَّ الأولية المطلقة لمسجد قباء؛ لأنَّه بني قبل المسجد..

المُقَدِّم: النبوي.

النبوي، بناه النبي- عليه الصلاة والسلام- فالمجزوم به أنَّه على التقوى، لكن لئلا، وهذه تظهر أحيانًا في أوقات النزاع، لئلا تظهر مسألة تنقص جهة أو رفع جهة فوق منزلتها حينئذٍ يرفع شأن..

المُقَدِّم: مسجد قباء.

ما يُظن تنقصه كالمفاضلة كالتفضيل بين الأنبياء «لا تفضلوا بين الأنبياء»، «لا تفضلوني على يونس بن متى» وهكذا، وإلا فالأصل أنَّ النبي- عليه الصلاة والسلام-.

المُقَدِّم: أفضل.

أفضل الخلق.

 أطراف الحديث سبق ذكرها عند شرحه في كتاب العلم، باب قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم علمه الكتاب».

المُقَدِّم: جزاكم الله خيرًا، وأحسن إليكم، ونسأل الله تعالى أن يفقهنا وإيَّاكم في الدين، ويعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا جميعًا علمًا وعملًا.

 

 أيُّها الإخوة والأخوات بهذا نصل وإيَّاكم إلى ختام هذه الحلقة، لنا بكم لقاء بإذن الله تعالى في حلقة قادمة، وأنتم على خير، شكرًا لطيب المتابعة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.