الموقظة في علم مصطلح الحديث (11)

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

قال المؤلف- رحمه الله تعالى-:

فصل الثقة من وثقه كثير ولم يضعَّف، ودونه من لم يوثق ولا ضُعِّف، فإن خرج حديث هذا في الصحيحين فهو موثق بذلك، وإن صحح له مثل الترمذي وابن خزيمة فجيّد أيضًا، وإن صحح له كالدارقطني والحاكم فأقل أحواله حسن حديثه، وقد اشتهر عند طوائف من المتأخرين إطلاق اسم الثقة على من لم يُجرَح مع ارتفاع الجهالة عنه، وهذا يسمى مستورًا، ويسمى محله الصدق، ويقال فيه: شيخ، وقولهم: مجهول، لا يلزم منه جهالة عينه، فإن جهل عينه وحاله فأولى ألا يحتجوا به، وإن كان المنفرد عنه من كبار الأثبات فأقوى لحاله، ويحتج بمثله جماعة كالنسائي وابن حبان، وينبوع معرفة الثقات تاريخ البخاري وابن أبي حاتم وابن حبان وكتاب تهذيب الكمال."

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الثقة، تقدم الحديث عنه، وهو أنه من جمع بين صفتي العدالة والضبط، من وثَّقه كثير ولم يضعَّف، يعني وثَّقه كثير من الأئمة ولم يضعَّف هذا لا إشكال في حديثه إذا وثقه كثير من أهل العلم، ولم يوجد فيه تضعيف، هذا لا إشكال في قبول حديثه، وهو شرط الصحيح. دونه من لم يوثَّق ولا ضعِّف بناءً على أن الأصل في المسلمين العدالة، هذا دون من صُرِّح بتوثيقه، هذا الراوي الذي لم يصرَّح بتوثيق ولا تضعيف إن خرج حديثه في الصحيحين فهو موثق؛ لأن تخريج البخاري ومسلم توثيق عملي للراوي، ويقول أهل العلم: إن من خرج له البخاري ومسلم فقد قفز القنطرة، هذا التوثيق العملي لاسيما إذا كان ممن يدور عليه الحديث، إذا كان الحديث يدور عليه هذا لا إشكال في توثيقه، بل تخريج البخاري ومسلم من أعلى درجات التوثيق إذا كان الحديث مما يدور عليه.

 فإن خرج حديث هذا في الصحيحين فهو موثق بذلك، وإن صحح له مثل الترمذي وابن خزيمة فجيد أيضًا، صحح له الترمذي هذا الراوي ما فيه لا جرح ولا تعديل، ووجد في جامع الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح، أو صحح له ابن خزيمة حديثه جيد، لكن دون الصحيح وفوق الحسن، وإن كان الذهبي وغيره نصوا على أن الترمذي متساهل، نصوا على أن الترمذي متساهل في التصحيح، وابن خزيمة وجد في صحيحه ما دون الصحيح، بل قد يوجد بعض الضعيف. على كل حال إذا لم يوثَّق ولم يجرح، وخرج له الترمذي وابن خزيمة وصححا له، فيقوى أمره بهذا. والشيخ أحمد شاكر يرد على الذهبي في دعواه أن الترمذي متساهل، بل يقول: تصحيح الترمذي معتبر وتصحيحه توثيق لرجاله، تصحيحه للحديث توثيق لرواة هذا الحديث.

 على كل حال الترمذي إمام من أئمة المسلمين وجهبذ من جهابذة المحدثين، ولكن لا يعني أن كل ما يقوله هو الصواب؛ لأنه ضبط عليه بعض الأحاديث التي تساهل في تصحيحها وضعفها غيره، وإن كان الأصل أنه إمام قوله معتبَر كقول غيره، ومن يعرى من الخطأ والنسيان؟

 وإن صحح له كالدارقطني والحاكم وهم دون من تقدمهم دون الترمذي وابن خزيمة في الاعتدال هم أشد تساهلًا يقول: فأقل أحواله حسن حديثه؛ لأنهم يعتنون، الدارقطني إمام ناقد والحاكم ينتقي، لكن لا يعني أنه يوافَق على كل ما يقوله، بل صحح أحاديث ضعيفة حكم بصحتها وهي ضعيفة، لكن ضعيفة مما ينص العلماء على ضعف رواتها، يعني سبب ضعفها أن العلماء نصوا على ضعف رواتها، والمسألة مفترضة التي معنا مسألة مفترضة في أيش؟ فيمن لم يوثَّق ولم يضعَّف، أنت إذا قال لك الحاكم: هذا حديث صحيح ثم قال الذهبي: هذا الكلام ليس بصحيح؛ لأن فيه فلانًا ضعيف جدًّا يدخل في كلام الذهبي هنا؟

 ما يدخل، لماذا؟ لأن المسألة مفترضة في راوٍ لم يوثَّق ولم يضعف، أما إذا ضعف انتهى الإشكال، إذا ضعف الراوي انتهى الإشكال، ضعف ما يصححه الحاكم بسبب ضعف راويه، ضعف ما يصحح الترمذي بسبب ضعف راويه، ضعف ما يخرجه ابن خزيمة بسبب ضعف راويه، والمسألة مفترضة في راوٍ لم يضعف ولم يوثَّق.

 يقول: وقد اشتهر عند طوائف من المتأخرين إطلاق اسم الثقة على من لم يجرح مع ارتفاع الجهالة عنه، وهذا يسمى مستورًا يعني ارتفاع جهالة العين بمعنى أنه روى عنه أكثر من واحد ولا جرح، ما عرف فيه جرح، بعضهم يتساهل ويطلق اسم الثقة عليه ولو بقيت جهالة الحال، هذا يسمى مستورًا، والمستور يطلق ويراد به مجهول الحال وإن عرفت عينه برواية أكثر من راو عنه، ويطلق ويراد به المجهول بجميع أنواعه، ويطلق ويراد به مجهول الحال باطنًا لا ظاهرًا، فالمستور له عدة إطلاقات، وهنا صرح بأنه مع ارتفاع الجهالة عنه، والمراد بالجهالة جهالة العين برواية أكثر من راوٍ، فإذا لم يجرح مثل هذا فهو ثقة عند بعضهم، ولا شك أن هذا تساهل، وهو أيضًا مذهب ابن حبان؛ لأن الأصل الحكم على الظاهر عنده فمن لم يجرح وروى عنه أكثر من واحد فهو ثقة عندهم.

 وقولهم: مجهول، ويسمى مستورًا، ويسمى محله الصدق، ومحله الصدق دون قولهم: فلان صدوق، ويقال فيه: شيخ، شيخ هذه توثيق للراوي أو تضعيف؟ هي محتمِلة، لكنها إلى التضعيف أقرب وقولهم: مجهول لا يلزم منه جهالة عينه، يعني قد ترتفع جهالة العين برواية أكثر من واحد، إذا روى عنه اثنان فأكثر ارتفعت عنهم جهالة العين، تبقى جهالة الحال التي لا ترتفع إلا بالتنصيص على توثيقه، فإن جهل عينه وحاله فأولى ألا يحتج به، ما وجد قول لأحد من أهل العلم ينص على أنه ثقة أو مقبول على أقل الأحوال، ومع ذلك لم يرو عنه إلا واحد فهو مجهول العين، فأولى ألا يحتجوا به، طيب إذا روى عنه أقل من واحد ماذا يصير؟ إذا روى عنه واحد فقط قلنا: مجهول العين، إذا روى عنه أكثر من واحد قلنا: مجهول الحال ولم يوثَّق، إذا روى عنه أقل من واحد لا يوجد في الرواة، يصير ليس براوٍ هذا، كيف يصير راويًا وهو ما روى عنه أحد، فأولى ألا يحتجوا به.

 وإن كان المنفرد عنه من كبار الأثبات من كبار الثقات لاسيما أهل التحري الذين لا يحتج الواحد منهم ولا يروي إلا عن ثقة إذا كان لا يروي إلا عن ثقة فأقوى لحاله أقوى لحاله إن كان ممن يروي عن الثقات وغير الثقات، لكنه متثبت ثقة، هذا الراوي عنه ثقة أقوى لحاله ممن يروي عنه غير الثقة، إذا كان الراوي عنه لا يروي إلا عن ثقة أقوى لحاله، ويكون حينئذ قريبًا من التنصيص على توثيقه إلا أنه أقل من إطلاق القواعد العامة إذا قيل: مالك لا يروي إلا عن ثقة، هل هو مثل قول مالك: فلان ثقة؟ مثله؟ لا، ما هو مثله ويحتج بمثله جماعة كالنسائي وابن احبان.

 وينبوع معرفة الثقات يعني المصادر التي يوجَد فيها أسماء الثقات تاريخ البخاري وابن أبي حاتم، وهذان الكتابان جمعا أكثر الرواة، ولا يستغني عنهما طالب علم، ينصون على التوثيق والتضعيف، وأحيانًا يسكتون عن الراوي، فإذا سكت البخاري لم يذكر في الراوي جرحًا ولا تعديلًا ومثله ابن أبي حاتم، فهذا أمارة على أنهما لم يجدا فيه جرحًا ولا تعديلاً، خلافًا لمن يقول: إن سكوت البخاري وابن أبي حاتم توثيق، توثيق للراوي، وكثيرًا ما يقول الشيخ أحمد شاكر: ذكره البخاري وابن أبي حاتم ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلاً فهو ثقة، وأحيانًا يقول، وهذه أمارة توثيقه، لكن هذا قول مرجوح؛ لأن ابن أبي حاتم ذكر في مقدمة الجرح والتعديل أنه ذكر بعض الرواة ولم يذكر فيهم جرحًا ولا تعديلًا رجاء أن يقف فيهم على جرح أو تعديل، فهذا دليل على أنه بيَّض له .. إلى أن يجد، عرف الاسم، لكن ما عرف حاله، فكيف نقول: إن هذا توثيق؟

 تاريخ البخاري وابن أبي حاتم وابن حبان في الثقات، وكتاب تهذيب الكمال، وقبله الكمال للحافظ عبد الغني المقدسي، وتهذيبه المشار إليه هنا للحافظ المزي، وتهذيب تهذيبه للحافظ ابن حجر، وتقريبه له، وتذهيب التهذيب للحافظ الذهبي، والكاشف له أيضًا هذه كتب تعنى بالرجال وتبين أحوالهم، فلا غنى لطالب العلم عنها.

 قولهم: مجهول يعني مسألة يمكن أن يشار إليها على عجل وهي الجهالة، إذا قيل: فلان مجهول، هل معنى هذا أنه قدح في الراوي؟ أو عدم علم بحاله، يعني إذا قال أبو حاتم في الراوي: مجهول، ونحن ذكرنا ترجمة راوٍ، وذكرنا من عدَّله ومن ضعفه، إذا قال أبو حاتم: مجهول نجعله فيمن ضعف؟

 نقول: قولهم: فلان مجهول إلى آخره يحتمل أن يراد به تضعيف الراوي، وهذا مقتضى صنيع من يجعل المجهول في مراتب التجريح، يعني لو نظرنا إلى مراتب التعديل والتجريح وجدنا (مجهول) في مراتب التجريح، لفظ من ألفاظ الجرح، وإذا قلنا: مجهول بمعنى أن من جهله وحكم عليه بالجهالة لا يعرفه، وكونه لا يعرفه نجعله مع المعدلين أو المضعفين؟ لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، ولذا يقول الحافظ بالنخبة: ومن المهم معرفة أحوال الرواة تعديلاً أو تجريحًا أو جهالة، فليست من التعديل ولا من التجريح عدم معرفة بحاله، وكثيرًا ما يقول أبو حاتم: فلان مجهول، أي لا أعرفه، والاصطلاح عند المتأخرين استقر على أن الجهالة جرح.

"قال المؤلف- رحمه الله تعالى-:

فصل: من أخرج له الشيخان أو أحدهما على قسمين: أحدهما ما احتجا به في الأصول، وثانيهما من خرجا له متابعة وشهادة واعتبارًا، فمن احتجا به أو أحدهما ولم يوثق ولا غمز فهو ثقة، حديثه قوي، ومن احتجا به أو أحدهما وتكلم فيه، فتارة يكون الكلام فيه تعنتًا، والجمهور على توثيقه، فهذا حديثه قوي أيضًا، وتارة يكون الكلام في تليينه وحفظه له اعتبار، فهذا حديثه لا ينحط عن مرتبة الحسن التي قد نسميها من أدنى درجات الصحيح، فما في الكتابين -بحمد الله- رجل احتج به البخاري أو مسلم في الأصول ورواياته ضعيفة بل حسنة أو صحيحة، ومن خرج له البخاري أو مسلم في الشواهد والمتابعات ففيهم من في حفظه شيء وفي توثيقه تردد، فكل من خُرِّج له في الصحيحين فقد قفز القنطرة، فلا معدِل عنه إلا ببرهان بيِّن.

 نعم الصحيح مراتب، والثقات طبقات، فليس من وثق مطلقًا كمن تكلم فيه، وليس من تكلم في سوء حفظه واجتهاده في الطلب كمن ضعفوه، ولا من ضعفوه ورووا له كمن تركوه، ولا من تركوه كمن اتهموه وكذبوه، فالترجيح يدخل عند تعارض الروايات، وحصر الثقات في مصنف كالمتعذِّر، وضبط عدد المجهولين مستحيل، فأما من ضعف أو قيل فيه أدنى شيء فهذا قد ألَّفت فيه مختصرًا سميته بالمغني، وبسطت فيه مؤلفًا سميته بالميزان."

يقول المؤلف- رحمه الله تعالى-: فصل: ومن أخرج له الشيخان أو أحدهما على قسمين؛ لأن ما في الصحيحين ما هو أصول يعتمد عليها الشيخان في تقرير الحكم، ومنها ما يُذكَر على سبيل المتابعة والاستشهاد، ولا شك أن الأصول التي يُعتمد عليها إنما ُيطلب لها الثقات من الرواة، ويتساهلون ويتسامحون في باب الاستشهاد والمتابعات، فيخرِّجون لمن نزل عن شرطهم، وعلى كل حال من خرِّج له في الصحيح أما في الأصول فلا إشكال، وأما في الشواهد فأقل أحواله أن يكون ممن حديثه حسن، يعني لا يخرجون لمن تُكُلِّم فيه بكلام قوي، إنما قد يكون مُسَّ بضرب من التجريح الخفيف، والغالب أنه يكون مما يعود إلى حفظه لا إلى عدالته، وكونه في الشواهد والمتابعات ينجبر بما ذكر قبله أو بعده من الأصول.

 وثانيهما: من خرج له متابعة وشهادة واعتبارًا، فمن احتجا به أو أحدهما ولم يوثق ولا غمز فهو ثقة حديثه قوي، نعم يكفيه أنه من رجال البخاري أو من رجال مسلم، كتابان تلقتهما الأمة بالقبول، وجزم جمع من الحفاظ بأنه لو حلف شخص، وبعضهم قال: لو حلف بالطلاق شخص أن جميع ما في البخاري صحيح لما حنث، ومن احتجا به أو أحدهما وتكلم فيه، فتارة يكون الكلام فيه تعنتًا، يعني بدون مستند يتكلم فيه بعض العلماء بدون مستند، بل مجرد التعنت والجمهور على توثيقه، فهذا حديثه قوي أيضًا يعني وجود هذا الكلام مثل عدمه، وتارة يكون الكلام في تليينه وحفظه له اعتبار، خرجا له في الأصول وتكلم بعضهم في تليينه من جهة حفظه، يعني له اعتبار حفظ عليه بعض الأخطاء خالف بعض الثقات فله اعتبار هذا الكلام يقول: فهذا حديثه لا ينحط عن مرتبة الحسن التي قد نسميها أدنى درجات الصحيح.

 ولنعلم أن البخاري ومسلم لا يخرجان لمثل هذا إلا على سبيل الانتقاء من أحاديثهم، ما يخرجون أي حديث يرويه مثل هذا، إنما ينتقون من أحاديثهم ما يجزمون بثبوته وصحته، فما في الكتابين -بحمد الله- رجل احتج به البخاري أو مسلم في الأصول ورواياته ضعيفة بل حسنة أو صحيحة. ومن خرج له البخاري أو مسلم في الشواهد والمتابعات ففيهم من في حفظه شيء، وهذا الشيء الذي في حفظه ينجبر بروايات الآخرين من الثقات الأثبات، وفي توثيقه تردد، فكل من خُرج له في الصحيحين فقد قفز القنطرة، فقد قفز القنطرة، لا شك أن تخريج البخاري أو مسلم لراوٍ من الرواة ولو كان ممن تكلم فيه أنه يدل على قوة هذا الراوي، والكلام فيه إما أن يكون لا أصل له، بل يكون مجرد تعنت، أو يكون من قبل حفظه الذي ينجبر بروايات الآخرين، فلا معدل عنه إلا ببرهان بيِّن إلا ببرهان بين.

 نعم الصحيح مراتب يعني معنى قولنا: إن كل ما في البخاري صحيح أن أحاديث صحيح البخاري كلها على مرتبة واحدة أو منها ما هو في أعلى درجات الصحيح، ومنها ما هو في المرتبة الوسطى من الصحيح، ومنها ما هو دون ذلك من مراتب الصحيح، والجميع يشمله كلمة الصحيح. الصحيح مراتب، والثقات طبقات، فليس من وثق مطلقًا، يعني الأئمة كلهم على توثيقه كمن تكلم فيه، يعني شخص ينقل فيه توثيق عشرين عالمًا هل هو مثل من ينقل فيه توثيق تسعة عشر عالمًا ورقم عشرين غمزه بشيء؟ لا شك أنه لا، وإن كان المعتمد توثيقه. وليس من تكلم فيه، من تكلم في سوء حفظه واجتهاده في الطلب كمن ضعفوه، يعني سوء حفظه، ضبط عليه مخالفة للثقات، ضبط عليه أنه أخطأ في حديث أو حديثين، أو مثلاً حفظ عنه أنه غير ملازم للشيوخ، اجتهاده في الطلب يعني ما عنده ملازمة للشيوخ، مثل هذا الذي يغمز بمثل هذا هل هو مثل من نص العلماء على ضعفه في ديانته مثلاً؟ ليس هذا مثل هذا أبدًا.

 ولا من ضعفوه ورووا له كمن تركوه؛ لأن الضعف أيضًا متراتب كالتوثيق، الثقات مراتب والضعفاء أيضًا مراتب؛ لأن هذا ضعيف، وهذا متروك، وهذا متهم، وهذا كذاب يعني الضعف مراتب كما أن التوثيق مراتب، ويدل على ذلك تصنيفهم ألفاظ الجرح والتعديل إلى مراتب، مراتب للتعديل ومراتب للتجريح، فليس راوي المرتبة الأولى من مراتب التعديل كراوي المرتبة الأخيرة من مراتب التعديل، وأيضًا راوي المرتبة الأولى من مراتب التجريح ليس كمثل راوي المرتبة الأخيرة من مراتب التجريح.

 ولا من تركوه كمن اتهموه وكذبوه يعني من قيل فيه: ضعيف مثل من يقال فيه: متهم بالكذب أو يقال فيه: متروك؟ لا، والمتروك والمتهم بالكذب ليس كمن صرح بأنه كذاب، ولذا أحاديثهم متفاوتة، حديث الكذاب موضوع، حديث الكذاب موضوع، حديث المتهم بالكذب متروك، حديث الضعيف ضعيف، وهكذا، فالأحاديث مراتب تبعًا لمراتب رواتها.

 فالترجيح يدخل عند تعارض الروايات أنت وجدت رواية لراوٍ من رواة الصحيح، لكن ليس من الدرجة العليا ترده أو تقبله؟ تقبله، هذا الحديث خرج له البخاري في الشواهد، وبحثنا عن حاله إذا تضعيفه إما تعنت أو مرجوح، وخرج له في سنن أبي داود ترد مرويه أو ما ترده؟ تقبل مرويه، لكن متى تحتاج إلى مثل هذا الكلام إذا تعارض حديثه مع حديث من هو أوثق منه فترجح عليه حديث من هو أوثق منه وإن كان في الأصل مقبول الرواية، ولذا يقول: فالترجيح يدخل عند تعارض الروايات.

 وحصر الثقات في مصنف كالمتعذر يعني ابن حبان حشد جمعًا هائلًا من الثقات، لكن فاته خلائق، البخاري ابن أبي حاتم جميع الكتب التي ألفت في الرجال فاتها جمع كبير، لاسيما من بعد الكتب الستة، تبحث عن كثير من الرواة فلا تجد، فتحتاج إذا أردت راويًا من رواة البيهقي راويًا من الرواة الطبراني راويًا من رواة الحاكم وهكذا تحتاج إلى أن تراجع كتب التواريخ؛ تاريخ بغداد، تاريخ نيسابور، تاريخ أصبهان، تاريخ دمشق وغيرها، تحتاج إلى أن تراجع سير أعلام النبلاء، تحتاج إلى أن تراجع كثيرًا من الكتب لتظفر بترجمة راوٍ من هؤلاء الرواة المتأخرين؛ لأن جمع الرواة كلهم من أولهم إلى آخرهم شبه المتعذر، يعني هنا برامج حقيقة آلية من الكمبيوترات وغيرها جمعت أكبر قدر من الرواة، يعني كم في برنامج جامع السنة؟ قالوا فيه: ما أدري والله يعني على حسب تكرار الأسانيد وغيرها ثلاثة ملايين أو ما أدري كيف، لكن أعداد هائلة لكن بالمكررات بمكررات الأسانيد بأسانيدهم هم التي أدخلوها، وإذا بحثنا في تقريب التهذيب أو تهذيب التهذيب أو أصله وجدنا عشرة آلاف أو اثني عشر ألفًا، وقل مثلها من تاريخ البخاري وابن أبي حاتم وغيرها، تقف على عشرين أو ثلاثين ألف راوٍ. فالرواة المتأخرون لاسيما رواة البيهقي وبعض رواة الدارقطني الحاكم الطبراني فيها شيء من المشقة وتحتاج.

 والأمة معصومة بكاملها من أن تفرط بشيء من دينها، يعني ما يمكن أن يكون شيء متوقف عليه أمر ديني أن يضيع على الأمة بكاملها هذا مستحيل؛ لأن الدين محفوظ، تكفل الله بحفظه، يعني لا يقول قائل: والله نحن فرطنا الآن ما عندنا ولا عشرة ولا عشرين بالمائة من الرواة أين الباقي؟ البخاري يحفظ مائة ألف حديث، وهذا ستمائة ألف، وهذا سبعمائة ألف، ضيعت الأمة. لا، ما ضيعت أبدًا، وهذا مبسوط في مواضعه.

 فالترجيح يدخل عند تعارض الروايات، فحصر الثقات في مصنف كالمتعذر، يعني حكمه حكم المستحيل، وضبط عدد المجهولين مستحيل، عدد المجهولين أشد من ضبطهم من الثقات؛ لأن هؤلاء فيهم كثيرة، وإذا تصورنا في الجرح والتعديل فقط أكثر من ألف وخمسمائة راوٍ قال أبو حاتم: مجهول، وقل مثلهم قال فيهم أبو حاتم: لا أعرفه، فهذا في كتاب واحد ألوف، فكيف بغيره من الكتب؟ يقول: فأما من ضعف أو قيل فيه أدنى شيء من ضعف أو قيل فيه أدنى شيء، ولو كان هذا القول ليس بصحيح، قول مرجوح لا يلتفت إليه يقول: قد ألفت فيه مختصرًا سميته بالمغني، المغني في الضعفاء يعني من ضُعف بحق أو بغير حق أدخله في المغني، وهذا مختصر، طبع في مجلدين صغيرين، وأبسط منه وأوسع مؤلف سماه الحافظ الذهبي الميزان ميزان الاعتدال في نقد الرجال، وهذا خاص في الرواة المتكلم فيهم بحق أو بغير حق وقبل الكامل لابن عدي والضعفاء للعقيلي والضعفاء لغيره وغيره المجروحين لابن حبان، المقصود أن الضعفاء اهتم بهم أهل العلم كما اهتموا بالثقات، فلا معدل عنه إلا ببرهان بين.

 هي لها مفهوم عنده لها مفهوم.

طالب: ...........

نعم، لكن ينبغي أن ينظر فيهم بميزان العدل، ونستصحب الأصل أن الصحيح تلقته الأمة بالقبول، وإلا فالدارقطني تكلم في بعض الرواة، وغيره تكلم في بعض الرواة، والإجابة عن بعضهم فيه صعوبة، يعني ما استدرك على الصحيحين من الرواة ومن الأحاديث موجود، تكلم الدارقطني في بعض الأحاديث وفي بعض الرواة، لكن الأصل أن الصواب مع الشيخين، ولنستصحب هذا الأصل؛ حماية للدين، وصيانة للصحيحين، ولا نفتح مجالًا لمن يريد أن يتلاعب بالدين بسبب مثل هذا الكلام.

 إذا قلنا: إن الجهالة قدح في الراوي كما هو مقتضى صنيع المتأخرين فالمجهول مجروح، وغير المعروف ينظر فيه يبحث عنه، يطلب مزيد بحث، يعني إذا درست إسناد حديث ووجدت فلان بن فلان ثقة وفلان بن فلان ثقة وفلان صدوق وفلان مجهول فلان ثقة، النتيجة هل تقول: ضعيف؛ لأن فيه فلانًا مجهول أو تقول: أتوقف في الحكم عليه حتى يتبين لي حال فلان الذي قيل فيه: مجهول؟ هذه فائدة الخلاف.

"قال المؤلف- رحمه الله تعالى-:

فصل: ومن الثقات الذين لم يخرَّج لهم في الصحيحين خلق، منهم من صحح لهم الترمذي وابن خزيمة، ثم من روى لهم النسائي وابن حبان وغيرهما، ثم لم يضعفهم أحد، واحتج هؤلاء المصنفون بروايتهم، وقد قيل في بعضهم: فلان ثقة، فلان صدوق، فلان لا بأس به، فلان ليس به بأس، فلان محله الصدق، فلان شيخ، فلان مستور، فلان روى عنه شعبة أو مالك أو يحيى، وأمثال ذلك كفلان حسن الحديث، فلان صالح الحديث، فلان صدوق إن شاء الله، فهذه العبارات كلها جيدة ليست مضعفة لحال الشيخ، نعم ولا مرقية لحديثه إلى درجة الصحة الكاملة المتفق عليها، لكن كثير ممن ذكرنا متجاذب بين الاحتجاج به وعدمه، وقد قيل في جماعات: ليس بالقوي واحتج به، وهذا النسائي قد قال في عدة: ليس بالقوي ويخرِّج لهم في كتابه فإن قولنا: ليس بالقوي ليس بجرح مفسِد، والكلام في الرواة يحتاج إلى ورع تام وبراءة من الهوى والميل وخبرة كاملة بالحديث وعلله ورجاله، ثم نحن نفتقر إلى تحرير عبارات التعديل والجرح وما بين ذلك من العبارات المتجاذبة، ثم أهم من ذلك أن نعلم بالاستقراء التام عرف ذلك الإمام الجهبذ واصطلاحه ومقاصده بعباراته الكثيرة، أما قول البخاري: سكتوا عنه فظاهرها أنهم ما تعرضوا له بجرح ولا تعديل، وعلمنا مقصده بها بالاستقراء أنها بمعنى تركوه، وكذا عادته إذا قال: فيه نظر، بمعنى أنه متهم أو ليس بثقة، فهو عنده أسوأ حالاً من الضعيف. وبالاستقراء إذا قال أبو حاتم: ليس بالقوي يريد بها أن هذا الشيخ لم يبلغ درجة القوي الثبت، والبخاري قد يطلق على الشيخ ليس بالقوي ويريد أنه ضعيف، ومن ثم قيل: تجب حكاية الجرح والتعديل، فمنهم من نفسه حاد في الجرح، ومنهم من هو معتدل، ومنهم من هو متساهل، فالحاد فيهم يحيى بن سعيد وابن معين وأبو حاتم وابن خراش وغيرهم، والمعتدل فيهم أحمد بن حنبل والبخاري وأبو زرعة، والمتساهل كالترمذي والحاكم والدارقطني في بعض الأوقات.

 وقد يكون نفس الإمام فيما وافق مذهبه أو في حال شيخه ألطف منه فيما كان بخلاف ذلك، والعصمة للأنبياء والصديقين وحكام القسط، ولكن هذا الدين مؤيَّد محفوظ من الله تعالى، لم يجتمع علماؤه على ضلالة لا عمدًا ولا خطأً، فلا يجتمع اثنان على توثيق ضعيف ولا على تضعيف ثقة، وإنما يقع اختلافهم في مراتب القوة أو مراتب الضعف، والحاكم منهم يتكلم بحسب اجتهاده وقوة معارفه، فإن قُدِّر خطؤه في نقد فله أجر واحد، والله الموفِّق، وهذا فيما إذا تكلموا في نقد شيخ ورد شيء في حفظه وغلطه، فإن كان كلامهم فيه من جهة معتقده فهو على مراتب: فمنهم من بدعته غليظة، ومنهم من بدعته دون ذلك، ومنهم الداعي إلى بدعته، ومنهم الكاف وما بين ذلك، فمتى جمع الغِلَظ والدعوة تُجنِّب الأخذ عنه، ومتى جمع الخفة والكف أخذوا عنه وقبلوه، فالغلظ كغلاة الخوارج والجهمية والرافضة، والخفة كالتشيع والإرجاء.

 وأما من استحل الكذب نصرًا لرأيه كالخطابية فبالأولى رد حديثه، قال شيخنا ابن وهب: العقائد أوجبت تكفير البعض للبعض أو التبديع، وأوجبت العصبية، ونشأ من ذلك الطعن بالتكفير والتبديع، وهو كثير في الطبقة المتوسطة من المتقدمين، والذي تقرر عندنا أنه لا تعتبر المذاهب في الرواية، ولا نكفِّر أهل القبلة إلا بإنكار متواتر من الشريعة، فإذا اعتبرنا ذلك، وانضم إليه الورع والضبط والتقوى فقد حصل معتمد الرواية، وهذا مذهب الشافعي- رضي الله عنه- حيث يقول: أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرواف،ض قال شيخنا: وهل تقبل رواية المبتدع فيما يؤيد به مذهبه؟ فمن رأى رد الشهادة بالتهمة لم يقبل، ومن كان داعية متجاهرًا ببدعته فليترك؛ إهانة له وإخمادًا لمذهبه، اللهم إلا أن يكون عنده أثر تفرد به فنقدم سماعه منه.

 ينبغي أن تتفقد حال الجارح مع من تكلم فيه باعتبار الأهواء.."

يقول المؤلف- رحمه الله تعالى-: فصل: ومن الثقات الذين لم يخرج لهم أو لم يخرّج لهم في الصحيحين خلق نعم خرج أصحاب السنن والمسانيد وغيرهم لجمع من الثقات؛ لأن الثقات أعم من أن يكونوا رواة الصحيحين وغيرهم، فلم يشترط الشيخان استيعاب جميع أحاديث الثقات، بل ولا أحاديث من خرجوا لهم إنما خرجا أحاديث رأيا أنها من أعلى درجات الصحيح، من الثقات الذين لم يخرج أو لم يخرّج لهم في الصحيحين خلق، منهم من صحح لهم الترمذي وابن خزيمة، وهذا تقدم الكلام فيهم، ثم من روى لهم النسائي وابن حبان وغيرهما، ثم لم يضعفهم أحد، يعني ما خرج لهم عند هؤلاء ولم يضعفهم أحد، واحتج هؤلاء المصنفون برواياتهم، منهم من صحح له الترمذي وابن خزيمة، وهذا توثيق عملي، ثم من روى لهم النسائي وابن حبان وغيرهما مع احتياط النسائي في نقد الرواة واشتراط ابن حبان الصحة في كتابه، وإن لم يكن كاشتراط الشيخين، ثم من لم يضعفهم أحد، يعني راوٍ ما ضعفه أحد، وأدخلوه في مصنفاتهم مثل هؤلاء هم على القبول في الجملة.

 وقد قيل في بعضهم: فلان ثقة، فلان صدوق يعني مراتب أو ألفاظ للتعديل وألفاظ للجرح، وهناك مراتب لهذه الألفاظ؛ لأنها متفاوتة، وألفاظ الجرح والتعديل من أهم ما ينبغي لطالب العلم أن يعنى به، وتمنى الحافظ ابن حجر وبعده السخاوي أن لو اعتنى بارع بتتبع جميع الألفاظ الواردة عن الأئمة في الرواة والكلام عليها من حيث اللغة والعرف الاصطلاحي، وترتيب هذه الألفاظ من حيث القوة والضعف، لكن دون ذلك خرط القتاد؛ لأنها تحتاج بالفعل إلى بارع؛ لأن من الألفاظ ما يفهمه بعض الناس على أنه تعديل، ومنها ما يفهمه بعضهم على أنها تجريح؛ لأنها تحكي العصر الذي قيلت فيه، وقد يكون استعمالها بعد ذلك العصر بعكس ما أطلقه المؤلف، فهي تحتاج إلى دراسة ما يدور في ذلك العصر من الألفاظ.

 فقول أبي حاتم في جبارة بن المغلِّس: بين يدي عدل، الحافظ العراقي يقول: هذا تعديل، بين يدي عدل إذًا هو عدل، لكن أشكل على الحافظ ابن حجر أنه كيف يقول في هذا الراوي الأئمة كلهم على تضعيفه وأبو حاتم المعروف بالتشديد يقول بين يدي عدل فيعدله لا، ما يمكن، فأوجس خيفة، الحافظ ابن حجر فبحث في الكتب كلها حتى وصل إلى كتب الأدب فوجد قصة في كتاب الأغاني، هذا الكتاب الماجن السافل وجد فيه قصة يقول: إن القائد طاهر على مأدبة طعام ومعه بعض أولاد الرشيد، فجاء واحد من أولاد الرشيد صغير اسمه إبراهيم، فأخذ هندباة إما قرعة أو كوسة أو شيء أو باذنجان أخذها وضرب بها عين طاهر، طاهر أعور، وضرب أيش؟ ضرب السليمة، فشكاه إلى أبيه وقال: هذا ابنك فعل ما فعل، ضرب السليمة، والأخرى بين يدي عدل كيف بين يدي عدل؟ يعني عمياء تالفة، إذًا بين يدي عدل، الآن ابن حجر مسك طرف الحبل بين يدي عدل تدل على أنها تالفة؛ لأن التي لا ترى هي التي بين يدي عدل، ثم زاد في البحث وبحث عن العدل، وما العدل، فذكر ابن قتيبة في أدب الكاتب أن العدل كان على شرطة تُبَّع رئيس الشرطة، تُبَّع هذا الذي في اليمن قديم، كان على شرطته فإذا أراد تُبَّع أن يقتل أحدًا قال: خذه يا عدل فقالوا: بين يدي عدل، يعني هلك انتهى. فاستدلوا بها على أن قول أبي حاتم: بين يدي عدل أنه هالك ضعيف شديد الضعف.

 فأقول مثل هذه الأمور تحتاج بالفعل إلى بارع، ما يقوم بها كل شخص، فهي بحاجة إلى استقراء وتتبع تام لجمعها، هذه مرحلة أولى جمع، ثم الكلام علياه من حيث اللغة والاصطلاح، ثم ترتيبها من حيث القوة والضعف.

وقد قيل في بعضهم: فلان ثقة، فلان صدوق، فلان لا بأس به، فلان ليس به بأس، فلان محله الصدق، فلان شيخ، فلان مستور، هذه مرتَّبة، فالثقة أقوى من الصدوق، ولو كان معنا وقت عرفنا كيف احتج الأئمة، كيف احتج من يقول بأن رواية الصدوق مقبولة، وكيف قال بعضهم: إن رواية الصدوق غير مقبولة. طيب هذه الألفاظ متفاوتة فالثقة فوق الصدوق، وقولهم: صدوق فوق لا بأس به، ولا بأس به فوق قولهم: ليس به بأس، ودونه محله الصدق، ودونه شيخ، ودونه مستور، ودونه فلان روى عنه شعبة؛ لأن شعبة من أهل التحري والتثبت أو مالك أو يحيى بن سعيد القطان، وهؤلاء قيل فيهم: إنهم لا يروون إلا عن الثقات، وأمثال ذلك كفلان حسن الحديث، وفلان صالح الحديث، وفلان صدوق إن شاء الله، والمسألة تحتاج إلى بسط وتوضيح، لكن الوقت ما يسعف، فهذه العبارات كلها جيدة ليست مضعِّفة لحال الشيخ، نعم ولا مرقية لحديثه إلى درجة الصحة الكاملة المتفق عليها.

 لكن كثيرًا ممن ذكرنا متجاذب بين الاحتجاج به وعدمه، فإذا كان الصدوق مختلفًا في الاحتجاج به فما دونه من باب أولى، وقد قيل في جماعات: ليس بالقوي الصدوق الذي لا يحتج به يقول: إن هذا اللفظ لا يشعر بشريطة الضبط، والذي يحتج به يقول: إنه استحق صيغة المبالغة صدوق؛ لأنه ملازم للصدق، فلا يقع الكذب ولا الخطأ في كلامه، هذه الحجة يعني بسرعة تامة. وقد قيل في جماعات: ليس بالقوي واحتُج به، وهذا النسائي قد قال في عدة ليس بالقوي ويخرج لهم في كتابه، نعم كتابه مع أنه من أهل التحري والتثبت في نقد الرواة إلا أن كتابه فيه الصحيح والضعيف والحسن، فإن قولنا: ليس بالقوي ليس بجرح مفسِد، يعني يقتضي رد رواية الرواية جملة، واحتمال أن تكون اللفظة مفسَّر، ليس بجرح مفسَّر بدل مفسِد، احتمال هذا، والجرح إذا لم يكن مفسَّرًا يحتاج إلى نظر قوي فيه.

 والكلام في الرواة يحتاج إلى ورع تام وبراءة من الهوى والميل وخبرة كاملة بالحديث وعلله ورجاله، هذه شروط من يتصدى لنقد الرجال، فإذا كانت هذه الشروط فيمن يتصدى لنقد من يجب نقده من رواة الحديث، نقد الرواة واجب؛ لأنه لا يتم التصحيح والتضعيف إلا به، فإذا كان هذه شروط من يجب عليه الكلام، فكيف بمن لا يجب عليه الكلام فيمن يتصدى لنقد الناس وفلان وعلان والشيخ الفلاني وفلان قال كذا، هذا إذا كان يجب عليك النقد عليك شروط، فكيف إذا كان الأمر لم يتعين عليك ولم يجب عليك، إذًا عليك أن تحتاط أكثر.

 ثم نحن نفتقر إلى تحرير عبارات التعديل والجرح وما بين ذلك من العبارات المتجاذَبة كما ذكرنا قبل قليل، ثم أهم من ذلك أن نعلم بالاستقراء التام عرف ذلك الإمام الجهبذ واصطلاحه ومقاصده بعباراته الكثيرة؛ لأن ابن معين قد يقول: ليس بثقة، وقد يقول: لا بأس به، ويطلق لا بأس به غير إطلاق أحمد بن حنبل، وإطلاق أحمد بن حنبل غير ما يريد أبو حاتم، وغير ما يريد البخاري، فنحتاج بالاستقراء التام عرف كل إمام من الأئمة، وهذا يسهل المهمة أو يصعِّب؟ يصعب المهمة، يعني ما نأخذ من كتب المتأخرين قال: لا بأس به، والإمام الفلاني جمع بين أكثر من إمام قال لا بأس، ولا نفرق بين قول يحيى بن معين وقول أحمد بن حنبل مشكلة هذي، فالمسألة تحتاج إلى بارع بالفعل، ما هو أدنى شباب يتطاول على السنة ويصحح ويضعف بمجرد أنه عرف قواعد يسيرة لتوصله لا تسمنه ولا تغنيه.

 أما قول البخاري: سكتوا عنه طيب لو قال: سكتوا عنه ماذا يفعل به ذا هذا الطالب المبتدئ وما يعرف صحيح البخاري؟ أما قولهم: سكتوا عنه فظاهرها أنهم ما تعرضوا له بجرح ولا تعديل، وعلمنا مقصده بالاستقراء بمعنى أنه تركوه، البخاري صاحب ورع وصاحب تحرٍّ، يعني راوٍ تركه الناس، ما رووا عنه شديد الضعف، لكن أهم ما عليه نفسه يا أخي، فما يقول: تركوه ولا يقول: فلان كذاب ولا يقول.. يقول: سكتوا عنه؛ ليبرأ من عهدته، ليبين للناس أنه ما يحتج به، لكن بأسلوب مناسب وكانت عادته إذا قال: فيه نظر بمعنى أنه متهم إذا قال فيه نظر يعني فيه نظر يسير في عرف الناس، لكن البخاري إذا قال: فيه نظر وهو من أهل التحري والتثبت ويريد براءة ذمته، بمعنى أنه متهم يعني شديد الضعف أو ليس بثقة فهو عنده أسوأ حالاً من الضعيف، لكنه من الورع بحيث لا يطلق لسانه بكلام يدان به يوم القيامة. فالمسألة مسألة أعراض الناس هذه ليست بالسهلة.

 يقول المؤلف- رحمه الله تعالى-: وبالاستقراء يعني بالتتبع التام، ما هو استقراء ناقص لا يؤدي إلى نتائج صحيحة، بالاستقراء إذا قال أبو حاتم: ليس بالقوي، يريد بها أن هذا الشيخ لم يبلغ درجة القوي الثبت، والبخاري قد يطلق على الشيخ ليس بالقوي ويريد أنه ضعيف، فالبخاري سهل العبارة، لكنه إذا تكلم في أحد بالعبارة السهلة اقتضى ضعفه، أبو حاتم على العكس يعطي عبارات في التوثيق، وهو في أعلى درجات الثقة عند غيره لا تسمح نفسه  إلا بشيء خفيف، البخاري قال عنه: صدوق، أبو حاتم قال عن البخاري: صدوق، فهو على النقيض من صنيع الإمام البخاري، والبخاري قد يطلق على الشيخ ليس بالقوي، ويريد أنه ضعيف، ومن ثم قيل: تجب حكاية ألفاظ الجرح والتعديل بفصها، ما نفهم ونعبِّر، نفهم كلام البخاري ونعبِّر عنه، لا، نأتي به بلفظه؛ لأنه قد يأتي من يفهم كلام البخاري على غير فهمنا، ويوفَّق للصواب، ونحن نجتهد فنخطئ، فنحكيها بفصها.

 فمنهم من نفسه حادّ في الجرح، يصير خسَّافًا، يعني مثل ابن حبان إذا جرح انتهى الشخص، يروي الموضوعات عن الأثبات، ويقلب الأسانيد ويفعل، منهم من نفسه حاد في الجرح، ومنهم من هو معتدل، ومنهم من هو متساهل، لا شك أن الناس طبقات، وهذا موجود في كل نواحي الحياة، تجد المتشدد، تجد المتساهل، تجد المتوسط. في أمور المال مثلاً تجد الشحيح تجد المتوسط تجد المبذِّر. في أمور التعامل مع الناس تجد هذا صعبًا، وهذا سهلًا، وهذا متوسطًا. في الكلام على الرجال، يعني تجد في المجالس إذا ذكر شخص، شخص يرفعه للنجوم، وواحد يتوسط في أمره، وشخص ينزله الحضيض..

 الناس أجناس، وكل له طريقته، منهم متوسط، ومنهم معتدل، ومنهم متساهل، فالحاد فيهم يعني شديد بحيث إذا وثق عض على توثيقه بالنواجذ مثل يحيى بن سعيد القطان ومثل يحيى بن معين ومثل أبي حاتم وابن خراش، هؤلاء إذا وثقوا لا تبحث عن غيرهم، والمعتدل فيهم أحمد بن حنبل والبخاري وأبو زرعة، هؤلاء هم أهل الاعتدال، فيهم المتساهل كالترمذي والحاكم والدارقطني في بعض الأوقات.

 وقد يكون نفس الإمام فيما وافق مذهبه أو في حال شيخه ألطف منه فيما إذا كان بخلاف ذلك، والعصمة للأنبياء والصديقين وحكام القسط، يعني لا يتصوَّر في هؤلاء الأئمة أنهم معصومون لا يخطؤون، الإنسان قد يُذكر له شيء في ظرف معيَّن، في ظرف من الظروف يقول كلامًا لا يقوله في حال السعة، لا شك أنهم بشر، قد يخطؤون، قد يتشددون في حق بعض الرواة، قد يتساهلون. لكن مع ذلك الأمة بمجموعها معصومة، لا تجد العلماء كلهم يتفقون على توثيق ضعيف أو تضعيف ثقة، بل قال بعضهم: إنه لا يجتمع اثنان على ما سيأتي، فلا يجتمع اثنان على توثيق ضعيف ولا تضعيف ثقة، قد يحتج واحد من الأئمة ويضعف ثقة، لكن لا يوافق على هذا، وهذا من حفظ الله- جل وعلا- لهذا الدين. ولكن هذا الدين مؤيَّد محفوظ من الله تعالى، لم يجتمع علماؤه على ضلالة لا عمدًا ولا خطأً، فلا يجتمع اثنان على توثيق ضعيف ولا على تضعيف ثقة.

 وإنما يقع اختلافهم في مراتب القوة أو مراتب الضعف، كلهم اتفقوا على توثيق هذا الراوي، لكن بعضهم قال: ثقة ثقة أكَّد، وبعضهم قال: إليه المنتهى في التثبت، وبعضهم قال: فلان لا يُسأل عنه، وبعضهم قال: ثقة هذا أقلهم، تفاوتوا في درجات الثقة، وكلهم يتفقون على توثيقه، وقل مثل هذا في التضعيف، وإنما يقع اختلاف في مراتب القوة والضعف ومراتب الضعف، والحاكم منهم الإمام الذي يحكم بين هؤلاء الرواة يتكلم بحسب اجتهاده وقوة معارفه، والمسألة مفترضة في علماء أتقياء، لكنهم بالمقابِل غير معصومين، والحاكم منهم يتكلم بحسب اجتهاده وقوة معارفة، فمن قدر خطؤه في نقده فله أجر واحد، يعني يكفيه أنه اجتهد، فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، والله الموفِّق.

 وهذا فيما إذا تكلموا في نقد شيخ ورَدَ شيء في حفظه وغلطه، فإن كان كلامهم من جهة معتقده فهو على مراتب، نعم المبتدعة ورواية المبتدع والكلام فيها كثير، البدع متفاوتة، منها البدع المغلظة، منها البدع الخفيفة، منها البدع المكفرة، منها البدع المفسقة، منهم المقلد في بدعته، منهم المجتهد في بدعته، منهم الداعي إلى بدعته، منهم من يروي ما يؤيد بدعته، ولذا اختلف أهل العلم في رواية المبتدِع، يقول: فمنهم من بدعته غليظة، ومنهم من بدعته دون ذلك، ومنهم الداعي إلى بدعته، ومنهم الكاف، ومنهم ما بين ذلك، فمن جمع الغلظ، يعني بدعته غليظة ودعا إلى بدعته هذا تجنب الأخذ عنه الأئمة، تُجنُّب الأخذ عنه، ما يروى عنه، بدعته غليظة ويدعو إلى بدعته، هذا لا يُقبَل، مع أن من أهل العلم من يرى رد رواية المبتدِع مطلقًا؛ لأنه ما معنى مبتدِع؟ فاسق فسق اعتقاد، والفاسق لا تقبل روايته، إذًا المبتدع لا تقبل روايته، ورد رواية المبتدع لا شك أنه إطفاء لذكره وإخماد لبدعته، وهذا موجود عند بعض أهل العلم.

 لكن يبقى أن كتب السنة بما فيها الصحيحان خرج فيها لبعض المبتدعة، فماذا نفعل بهؤلاء؟! ماذا نصنع في تخريج البخاري لعمران بن حطان وغيره من المبتدعة، وتخريج مسلم وتخريج غيره من الأئمة، لا بد أن نقبل رواية المبتدع، لكن لا بد أن يكون هناك ضوابط وقيود يقول: فمن جمع الغلظ والدعوة تجنب الأخذ عنه، ومنهم من جمع الخفة والكف أخذوا عنه وقبلوه، يعني في مقابل الأول فالغلاة كغلاة الخوارج والجهمية والرافضة الذين قيل بكفرهم الخوارج كفرهم جمع من الأئمة، الجهمية كفرهم خمسمائة عالم، الرافضة كفرهم جمع من الأئمة، والخفة كالتشيع يعني لم يصل إلى حد الرفض، يعني يفضِّل عليًّا على أبي بكر وعمر، لكن لا يكفِّر أبا بكر وعمر، هذا تشيع من التشيع الخفيف، أن يفضل عليًّا على عثمان مثلاً، هذا قول موجود لبعض أهل السنة، هذا تشيع، لكنه خفيف، الإرجاء يوجد في بعض الفقهاء من الأئمة من اعتنق مثل هذا المذهب وليس بالإرجاء التام إرجاء الجهمية لا، الذي يقول: إن إيمان أفسق الناس مثل إيمان جبريل، أو أنه لا يضر مع الإيمان معصية، هذا لا يقول به أحد ممن يعتد بقوله.

 وأما من استحل الكذب؛ نصرًا لرأيه كالخطابية فبالأولى رد حديثه؛ لأن مدار الرواية على الصدق، فإذا كان يستحل الكذب فكيف تقبل خبره، يرى أن الكذب حلال، كيف يقبل خبره، مثل هذا لا يقبل خبره ألبتة، فبالأولى رد. حديثه قال شيخنا ابن وهب: العقائد أوجبت تكفير البعض للبعض، فتجد مثلاً الجهمي يكفِّر كذا، المعتزلي يكفِّر كذا، الرافضي يكفِّر النواصب، النواصب يكفرون الروافض، وهكذا، بعضهم يكفر بعضًا. يقول: قال شيخنا ابن وهب- وعرفنا أن ابن وهب هو ابن دقيق العيد-: العقائد أوجبت تكفير البعض للبعض أو التبديع، يعني السني يقول: الأشعري مبتدع، الأشعري يقول: السني مجسِّم، وهكذا، يعني كل واحد يرمي الثاني ببدعة، والحق واحد الحق واحد وواضح وبيِّن لم يلتبس على المحققين من علماء هذه الأمة، أو التبديع وأوجبت العصبية ونشأ من ذلك الطعن بالتكفير والتبديع، وهو كثير في الطبقة المتوسطة من المتقدمين؛ لوجود وانتشار البدع وقوتها وثورانها أوجبت مثل هذا، والذي تقرر عندنا- يقوله ابن دقيق العيد- ألا تعتبر المذاهب في الرواية، ولا نكفِّر أهل القبلة إلا بإنكار متواتر من الشريعة، يعني إذا أنكر أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة، وإذا أنكر أمرًا قد يخفى على بعض الناس نتوقَّف في تكفيره، إلا بإنكار متواتر من الشريعة.

 فإذا اعتبرنا ذلك، وانضم إليه الورع، يعني أنكر شيئًا لم يتواتر ولم يعلم من الدين بالضرورة، وارتكب أمرًا فيه بدعة، وانضم إليه الورع والضبط والتقوى فقد حصل معتمَد الرواية، وهذا مذهب الشافعي -رضي الله عنه- حيث يقول: أقبل شهادة أهل الأهواء يعني المبتدعة إلا الخطابية من الروافض. قال شيخنا: وهل تقبل رواية المبتدع فيما يؤيد بدعته فيما يؤيد مذهبه، مرجئ روى حديثًا يؤيد مذهب المرجئة، رافضي روى حديثًا يؤيد مذهب الرافضة، جهمي روى حديثًا يؤيد مذهب الجهمية يقول: فمن رأى رد الشهادة بالتهمة، يعني إذا كنا نرد شهادة الولد لوالده؛ لأنه متهم، وإن كان من أتقى الناس، ونرد شهادة الوالد لولده؛ لأنه متهم، وإن كان من أتقى الناس، فلأن نرد مثل شهادة هؤلاء الذين يروون ما يؤيد مذاهبهم من باب أولى، فمن رأى رد الشهادة بالتهمة لم يقبل.

 ومن كان داعية متجاهرًا ببدعته فليُترك؛ إهانة له وإخمادًا لمذهبه إلا أن يكون عنده أثر انفرد به، يعني ما يوجد عند غيره، تبحث عن هذا الحديث ما تجده إلا عند هذا الشخص، فنقدم سماعه منه، يقول: فنقدم سماعه منه، والبخاري خرَّج لعمران بن حطان وهو داعية من دعاة الخوارج، أجاب عنه ابن حجر بأنه أولاً الحديث في الشواهد وهذا كافٍ في الرد، منهم من يقول: إنه خرج عنه ما رواه قبل تلبُّسه بالبدعة، ومنهم من قال: خرج عنه ما تُحمِّل عنه بعد توبته، والخوارج معروف أنهم من أصدق الناس لهجة؛ لأنهم يرون تحريم الكذب، ويرونها كبيرة من كبائر الذنوب، ويكفر بارتكاب الكبيرة، إذًا هم لا يكذبون، يقول: ما المانع من قبول روايته وقد عُرف الخوارج بصدق اللهجة؟ هذا كلام مَن؟ كلام ابن حجر.

 لكن العيني ماذا قال وهو يرد على ابن حجر؟ قال: يقول: أي صدق في لهجة مادح قاتل علي- رضي الله عنه وأرضاه- يمكن يصدق في اللهجة وهو مادح قاتل علي؟! نقول: يمكن؛ لأن هذا دين، يراه دينًا، يرى أن قتل علي ديانة، ويمدح قاتله، ويرى أن الكذب حرام فلا يكذب في الرواية، فالجهة فيها انفكاك.

"ينبغي أن تتفقد حال الجارح مع من تكلم فيه باعتبار الأهواء، فإن لاح لك انحراف الجارح ووجدت توثيق المجروح من جهة أخرى فلا تحفل بالمنحرف وبغمزه المبهم، وإن لم تجد توثيق المغموز فتأنَّ وترفق، قال شيخنا ابن وهب- رحمه الله-: ومن ذلك الاختلاف الواقع بين المتصوفة وأهل العلم الظاهر، فقد وقع بينهم تنافر أوجب كلام بعضهم في بعض، وهذه غمرة لا يخلص منها إلا العالم الوافي بشواهد الشريعة، ولا أحصر ذلك في العلم بالفروع، فإن كثيرًا من أحوال المحقين من الصوفية لا يفي بتمييز حقه من باطله علم الفروع، بل لا بد من معرفة القواعد الأصلية، والتمييز بين الواجب والجائز والمستحيل عقلاً والمستحيل عادة، وهو مقام خطير؛ إذ القادح في محق الصوفية داخل في حديث داخل في حديث: «من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة»، والتارك لإنكار الباطل مما سمعه من بعضهم تارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن ذلك الكلام بسبب الجهل بمراتب العلوم، فيحتاج إليه في المتأخرين أكثر، فقد انتشرت علوم للأوائل وفيها حق كالحساب والهندسة والطب وباطل كالقول في الطبيعيات وكثير من الإلهيات وأحكام النجوم، فيحتاج القادح أن يكون مميزًا بين الحق والباطل، فلا يكفر من ليس بكافر أو يقبل رواية الكافر، ومنه الخلل الواقع بسبب عدم الورع والأخذ بالتوهم والقرائن التي قد تتخلف قال -صلى الله عليه وسلم-: «الظن أكذب الحديث» فلا بد من العلم والتقوى في الجرح، فلصعوبة اجتماع هذه الشرائط في المزكين عظم خطر الجرح والتعديل.

 المؤتلف والمختلف فن واسع مهم، وأهمه ما تكرر وكثر، وقد يندر كأجمد بن عجيان وآبي اللحم وابن أتش الصنعاني ومحمد بن عَبادة الواسطي العجلي أو محمد بن حبان الباهلي وشعيب بن محرر، والله أعلم."

يقول المؤلف- رحمه الله تعالى-: ينبغي أن تُتَفقَّد حال الجارح مع من تَكلم فيه، يعني تتحسس هل الذي انتقد وضعَّف بينه وبينه مشكلة، أو يختلف معه في مذهب، بحيث يحمله هذا الاختلاف إلى الطعن فيه، لا بد أن تتفقد حال الجارح مع من تكلم فيه باعتبار الأهواء يعني العقائد المختلفة، فإن لاح لك انحراف الجارح، يوجَد سبب يجعل بين المتكلِّم والمتكلَّم فيه اختلافًا عقديًّا، فإن لاح لك انحراف الجارح ووجدت توثيق المجروح من جهة أخرى فلا تحفل بالمنحرف وبغمزه المبهم، يعني لا تأخذ بقول من جرحه لوجود الخلاف، خذ بقول من عدله، وإن لم تجد توثيق المغموز فتأنَّ وترفق، تثبت يا أخي لا تأخذ كل كلام تسمعه قيل في فلان، انظر السبب لمَ تكلم في فلان؟

 قال شيخنا ابن وهب، وهو ابن دقيق العيد- رحمه الله تعالى-: ومن ذلك الاختلاف الواقع بين المتصوفة وأهل العلم الظاهر يعني أهل المتصوفة أهل العبادة الذين منهم من هو على الحق، من يعبد الله على بصيرة، ومنهم من يحمله حبه للعبادة أن يتجاوز المحدود، فيتعبد على جهل، هؤلاء المتصوفة أهل العلم الظاهر يعني الفقهاء ينالون من هؤلاء المتصوفة؛ لأنهم يتعبدون على جهل، والمتصوفة أيضًا يقذفون الفقهاء ويتهمونهم بأنهم ليسوا أهل عمل، يعني عندهم علم لكن لا يعملون، فقد وقع بينهم تنافر أوجب كلام بعضهم في بعض، وهذه غمرة لا يخلص منها إلا العالم الوافي بشواهد الشريعة، يعني إن أردت تنزل الناس منازلهم هذا عالم عالم، عنده علم، علمه قال الله وقال رسوله، قصر في عمله يؤاخذ بقدر تقصيره، هذا أيضًا عابد بقدر ما امتثل من نصوص الشريعة يحتفظ له ويشهد له بالخير، لكن إن تعبد على جهل ودخل من خلال جهله إلى بدع وتشريع أمور لم يشرعها الله -جل وعلا- يؤاخذ على قدر بدعته. ولا أحصر ذلك في العلم بالفروع، فإن كثيرًا من أحوال المحقين من الصوفية يعني العباد الذين يتعبدون على بصيرة وإن كان أكثرهم أكثر عملهم وديدنهم العبادة لا يفي بتمييز حقه من باطله علم الفروع، يعني هذا يتعبد على بصيرة، وعنده أدلته، وعنده كذا، قد يكون انتقاد الفقيه له ليس له وجه لاسيما مع اختلاف المذاهب، يتعبد على طريقة على نصوص أثبتها أحمد، وعمل بها أحمد، فقيه حنفي ينتقد هذا المتعبد؛ لأنه تعبد بأحاديث لم تبلغه لا يفي يقول لا يفي بتمييز حقه من باطله علم الفروع، بل لا بد من معرفة القواعد الأصولية، يعني المسائل التي تبنى عليها مسائل الاعتقاد، والتمييز بين الواجب والجائز والمستحيل عقلاً والمستحيل عادة، وهذا مقام خطر؛ إذ القادح في مُحِق الصوفية هو يتجاوز يقول صوفية يعني هو يقصد العباد الأولياء، أما الصوفية فغلب إطلاقه على من يتعبد على جهل ونوع انحراف ونوع بدعة، إذ القادح في مُحِق الصوفية داخل في حديث «من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة» هذا أمر خطير، والتارك لإنكار الباطل مما سمعه من بعضهم تارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا بد أن تتثبت إذا أردت أن تنكر على أحد لا بد أن يكون عندك دليل ثم بعد ذلك تفاهم معه، قل: أنت فعلت كذا ما دليلك؟ إن أثبت دليلًا فالدليل هو الحكم، إذا لم يثبت دليلًا فقل له: «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد» «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» فلا بد أن تنكر المنكر لكن بالأسلوب المناسب.

 ومن ذلك الكلام بسبب الجهل بمراتب العلوم، فيحتاج إليه في المتأخرين أكثر، فقد انتشرت علوم للأوائل، الأوائل عندهم علوم خمدت مدة قرون ثم بُعِثَت من جديد، فيحتاج في المتأخرين إليه في المتأخرين أكثر فقد انتشرت علوم للأوائل وفيها حق كالحساب يحتاج إليه الفقيه يحتاج إلى الحساب، كيف يقسم المسائل الفرضية ولا يعرف الحساب؟ الهندسة كيف يعرف أطوال الأراضي ومشاكل الأراضي وهو ما يعرف الهندسة؟ الطب طب الأبدان لا بد أن يكون الفقيه على معرفة بهذه الأمور وباطل كالقول في الطبيعيات التي لا تدركها عقول البشر، ويبنى عليها نتائج باطلة تبعًا لبطلان أصلها، وكثير من الإلهيات وأحكام النجوم، وكثير ضل بإغراقه في هذه العلوم الفارابي ابن سينا الرازي أيضًا في بعض بحوثه ضل بسببه عدم تمييزه بين هذه العلوم، فيحتاج القادح أن يكون مميزًا بين الحق والباطل، فلا يكفِّر من ليس بكافر لا يجوز أن يكفَّر المسلم بحال «إذا قال المسلم لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما»، إذا كان لعن المسلم كقتله، فكيف بإطلاق الكفر عليه؟ أو يقبل رواية الكافر فلا بد من النظر بدقة وحذر، ومنه الخلل الواقع بسبب عدم الورع والأخذ بالتوهم والقرائن التي قد تتخلف، قد يغلب على ظنه شيء، قد يذهب يسبق إلى فهمه شيء، لكن على الإنسان أن يستعمل الورع فيما يأتي وفيما يذر، قال -صلى الله عليه وسلم-: «الظن أكذب الحديث» أنت تتوقع أن فلانًا عنده كذا ثم بعد ذلك تبني على هذا التوقع شيئًا لا يجوز؛ لأن هذا مبني على ظن، لم يبنَ على حق، فلا بد من العلم والتقوى في الجرح، فلصعوبة اجتماع هذه الشرائط في المُزَكِّيْن عظم خطر الجرح والتعديل، لا بد أن يكون على بينة؛ لأن لك أن تسكت يا أخي، الأصل أن تسكت إذا كنت على بينة وجدت منكرًا تنكر منكرًا، وإلا فلا تتكلم إلا بحق.

 بعد هذا المؤتلف والمختلف، يقول المؤلف: فن واسع مهم بلا شك مهم؛ لأنك تجد في الرواة من اسمه أجمد فتأتي لتمسح هذه النقطة، تمسحها تأتي بالطامس وتزيل النقطة، لماذا؟ لأنك ما تعرف إلا أحمد، لأنك ما تعرف أن فيه شيئًا اسمه مؤتلف ومختلف، ففن واسع مهم، وأهم ما تكرر وكثر وقد يندر نادر أجمد بن عجيان، تقول: أجمد خطأ أكيد تقول: خطأ، تبادر وتمسح النقطة لا لا، هو اسمه أجمد بالجيم تقول: كيف سماه أبوه أجمد؟ ضاقت الأسماء؟ أجمد بن عجيان على وزن عثمان، ومنهم من يشدده فيقول: عجيّان على وزن عليَّان. آبي اللحم آبي اللحم، هذا شخص ترك اللحم فسموه آبي اللحم، يعني تركه يأباه ولا يقبله ولا يأكله قيل له: آبي اللحم. وابن أتَش الصنعاني هذا نادر مثل هذه التسمية، لكن أَتَش تقول: لا، هذا أنس، لكن زادت هذه النقط.. فتأكد يا أخي. محمد بن عَبادة بالفتح تقول: لا، الصواب عُبادة، بعض الناس يهجم، ما أسهل أن يحضر القلم ويعدِّل ويضبط، ما هو بصحيح؛ لأن الكلام في الرواة مزلق خطير؛ لأن الرواة إنما هي بالتلقي، يعني لا يستدل عليها بما قبلها وما بعدها من السياق، لا هي بالتلقي من ألفاظ الشيوخ، ولا بد من مراجعة كتب الضبط.

 الواسطي والعجلي ومحمد بن حُبَّان، حُبَّان تريد أن تمسح الضمة، وتكسرها حِبان، الأصل أو حَبان مثل حبان بن منقذ، أما حُبان هذا ما هو بصحيح، لا لا، صحيح يا أخي لا تستعجل. وشُعَيْث، شُعَيْث تقول: لا، هذه النقط زائدة، اسمه شُعَيْب، لا تستعجل اسمه شُعَيْث بن محرر. والله أعلم. وقد تمت هذه المقدمة الموقِظَة.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"