شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (265)
المُقَدِّم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أيُّها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا بكم إلى لقاء جديد في برنامجكم" شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح". مع بداية حلقتنا يسرنا أن نرحب بضيف اللقاء، صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلًا بكم فضيلة الشيخ.
حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.
المُقَدِّم: لتذكير الإخوة والأخوات نحن في كتاب الوضوء من هذا الكتاب، الحديث مائة وإحدى عشر بحسب المختصر، مائة وستة وثلاثين بحسب الأصل، سوف نستكمل بإذن الله ما تبقى من ألفاظ هذا الحديث حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- في قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ» توقفنا عند هذه العبارات، نستكمل -أحسن الله إليكم- يا شيخ.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
في آخر الحلقة السابقة ذكرنا كلام الزركشي في شرحه على البخاري، تعليق يسير على البخاري على بعض الألفاظ سموه:" التنقيح".
قوله: «غُرًّا مُحَجَّلِينَ» يقول الزركشي: فيه وجهان، أحدهما: أنَّه مفعول ليدعون، على تضمنه يسمون، وثانيهما: حالٌ، أي يدعون إلى يوم القيامة وهم بهذه الصفة، إمَّا أن يكون معناه يسمون، نعم، فيكون« غُرًّا» مفعول، أو يكون« يُدْعَوْنَ» بمعنى ينادون، وثانيهما: حالٌ، أي يدعون أي ينادون إلى يوم القيامة وهم بهذه الصفة، فيتعدى يدعون في المعنى بالحرف، كقوله: {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} [آل عمران:23]، وتعقبه الدماميني بأنَّ حذف مثل هذا الحرف ونصب المجرور بعد حذفه غير مقيس، ولنا مندوحة عن ارتكابه بأن نجعل يوم القيامة ظرفًا، أي يدعون فيه غرًّا محجلين، نقله القسطلاني.
وقال القسطلاني: فإن قلت: الغرة والتحجيل في الآخرة صفات لازمة غير منتقلة، يعني يرد على إعراب غرًّا محجلين حال، يعني حال كونهم غرًّا محجلين وهو الظاهر، يقول: فإن قلت: الغرة والتحجيل في الآخرة صفات لازمة غير منتقلة، فكيف يكونان حالين؟ والأصل في الحال أن يكون منتقلًا، يعني ليست صفة ثابتة، وهذه الصفة ثابتة لهم. وأجيب بأنَّ الحال تكون منتقلة أو في حكم المنتقلة، إذا كانت وصفًا ثابتًا مؤكدًا نحو قوله تعالى: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا}[البقرة:91] ومنه خلق الله الزرافة يديها أطولَ من رجليها، يعني أطولَ منتقلة، يعني صفة طارئة، أو ثابتة؟
المُقَدِّم: ثابتة.
ليست منتقلة، فـ أطولَ حالٌ لازم غير منتقلة، لكنها في حكم المنتقلة؛ لأنَّ المعلوم من سائر الحيوانات استواء القوائم الأربع، فلا يُخبر بهذا الأمر إلا من يعرفه. انحل الإشكال؟
المُقَدِّم: نوعًا ما.
يقول في المثال ومنه، خلق الله الزرافة يديها أطولَ من رجليها، فـ أطولَ حالٌ لازم غير منتقلة، لكنها في حكم المنتقلة؛ لأنَّ المعلوم من سائر الحيوانات استواء القوائم الأربع، فلا يُخبر بهذا الأمر إلا من يعرفه.
يعني أنت لمَّا تقول: خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها، تبين حال الزرافة، وأنَّها خلقت على هذا، ويقول: هذا في حكم المنتقلة؛ لأنَّه لا يُخبر بهذا الأمر إلا من يعرفه، لكن إذا أُخبر به من لا يعرف.
المُقَدِّم: هل المراد يُخْبَر، ولا يُخْبِر يا شيخ؟ لو كانت يُخبِر يمكن يستقيم المعنى أقوى.
لكن يُمكن أن يُخبِر من لا يعرف؟
المُقَدِّم: قد يقولها هكذا، إذا كان الأصل هو استواء القوائم، هذا هو الأصل.
هذا هو الأصل.
المُقَدِّم: نعم، فجاءنا شخص وجاء بهذا الخبر وهو لا يعلم.
كيف لا يعلم؟
المُقَدِّم: يعني قالها هكذا، ما تأتِي.
لا، لا.
المُقَدِّم: لأنَّ أطول هنا تستقيم في هالحالة إذا كان يعلم هو، فجعلها مكان الحال المنتقلة.
يعني جعلها في مكان الحال التي تطرأ وتزول، كيف يجعل؟
المُقَدِّم: الذي يعرف لا يجعلها، الذي يُخبِر الأخرين بأنَّ قوائم الزرافة الأمامية أطول يكون يعرف في هذا الحال فلا يجعلها.
لا، هو الآن لمَّا يُخبِر وهو يعرف، ويُخبِر من يعرف، ما الفائدة من هذا الخبر؟
المُقَدِّم: يمكن أن يكون الانتقال عن الأصل لاستواء القوائم.
الآن ما الفائدة من هذا الخبر؛ لأنَّ هناك فائدة الخبر، وهناك ما يُسمَّى بلازم الفائدة، يعني تُخبِر شخص يجهل هذا الخبر، هذه فائدة الخبر.
المُقَدِّم: هذه فائدة، معروفة.
لكن تُخبِر شخصًا يعرف هذا الخبر هذا لازم الفائدة، وليست بالفائدة؛ لأنَّه يدري، يعرف الخبر. فأنت إذا أخبرته وهو يعرف هذا الخبر؛ ولذلك يقول: فلا يُخبَر بهذا الأمر إلا من يعرفه، وكذلك هنا المعلوم في سائر الخلق عدم الغرة والتحجيل، فلمَّا جعل الله ذلك لهذه الأُمَّة دون سائر الأمم صارت في حكم المنتقلة. تلك في حكم المنتقلة يديها أطول من رجليها، أنَّها توجد في بعض الحيوانات دون بعض وهي الزرافة.
المُقَدِّم: وهذه في حكم المنتقلة؛ لأنَّها توجد في أُمَّة.
ليست منتقلة هي، هي ثابتة بالنسبة للزرافة، لكنَّها بالنسبة لعموم الحيوانات.
المُقَدِّم: منتقلة.
منتقلة.
المُقَدِّم: وبالنسبة للأُمَّة.
بالنسبة لجميع الأمم، هي في الأُمَّة ثابتة، لكن إذا نظرنا إليها بالعموم كأنَّها منتقلة، يعني توجد في شخص دون شخص، نعم، من هذه الحيثية، فلمَّا جعل الله ذلك لهذه الأُمَّة دون سائر الأمم صارت في حكم المنتقلة بهذا المعنى، ويحتمل أن تكون هذه علامة لهم في الموقف، وعند الحوض، ثم تنتقل عنهم عند دخولهم الجنة، فيكون الانتقال على حقيقته، يعني تطرؤ وتزول، يعني كانت غير موجودة، مع أن نور الطاعة التي منها الوضوء والصلاة لا شك أنَّه يظهر على وجه المؤمن، وإن لم يظهر لجميع الناس. على كل حال يقول: يحتمل أن تكون هذه علامة لهم في الموقف، وعند الحوض، ثم تنتقل عنهم عند دخولهم الجنة، فتكون منتقلة بهذا المعنى، لكن ابن مالك في ألفيته يقول عن الحال:
وكونه منتقلًا مشتقًا يغلب |
|
لكن ليس مستحقًا |
يعني الغالب أن يكون منتقلًا ومشتقًّا، لكن لا يلزم أن يكون مستحقًّا لازمًا دائمًا، يعني ليس هذا مطَّردًا.
يقول ابن عقيل في شرح الألفية: الأكثر في الحال أن تكون منتقلة مشتقة، ومعنى الانتقال أن لا تكون ملازمة للمتصف بها، نحو جاء زيدٌ راكبًا، فراكبًا وصف منتقل؛ لجواز انفكاكه عن زيد، وانفكاك زيد عنه بأن يجيء ماشيًا، وقد تجيء الحال غير منتقلة أي وصفًا لازمًا نحو، دعوت الله سميعًا، الحال صاحب الحال، من صاحب الحال؟
المُقَدِّم: فاعل.
لا، سميعًا من السميع؟
المُقَدِّم: الله سبحانه وتعالى.
أي، إذًا الحال يبين هيئة الرب- جلَّ وعلا-، نعم، لكن لو قال دعوت الله متضرعًا.
المُقَدِّم: صارت حاله هو.
لأنَّ الحال إمَّا أن يبين هيئة الفاعل، أو يبين هيئة المفعول، سميعًا، هذه منتقلة أم غير منتقلة؟ ثابتة لله- جلَّ وعلا-، ثم جاء ابن عقيل بنفس المثال: وخلق الله الزرافة يديها أطولَ من رجليها، نعم، وقوله:
فجاءت به سبط العظام كأنَّما |
|
عمامته بين الرجال لواء |
فسميعًا، وأطول، وسبط أحوال وهي أوصاف لازمة، يعني على كلام ابن مالك ما نحتاج إلى هذه التخريجات كلها التي ذكرها القسطلاني، ما نحتاجها، لماذا؟ لأنَّها من غير الغالب، ظاهر أم ليس بظاهر؟
المُقَدِّم:لا، ظاهر.
«غُرًّا » كما في شرح الكرماني جمع أغر، أي ذو غرة وهو بالضم، بياض في جبهة الفرس فوق الدرهم، والأغر الأبيض، ورجل أغر أي شريف، وفلان غرة قومه أي سيدهم، قلتُ: ومنه غرة الشهر أوله لتقدمه على باقيه كما أنَّ السيد متقدم على غيره، وفي المصباح: الغرة بالضم من الشهر وغيره أوله والجمع غرر، مثل غرفة وغرف، والغرر ثلاث ليالٍ من أول الشهر، والغرة عبد أو أَمَة، والمراد بتطويل الغرة في الوضوء غسل مقدم الرأس مع الوجه، يعني غسل مقدم الرأس مع الوجه، قدر زائد على ما يتم به غسل الوجه؛ لأنَّ غسل الوجه لا يتم إلا بغسل من الرأس؛ لأنَّ هذا مما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب عند أهل العلم ويمثلون بهذا، فالغرة قدر زائد على هذا المغسول من الرأس لتحقق غسل الوجه.
والتحجيل كما في الكرماني أيضًا: بياض في قوائم الفرس، أو في ثلاث منها أو في رجلين قلَّ أو كثر بعد أن يجاوز الأرساغ ولا يجاوز الركبتين، والعرقوبين، وإذا كان البياض في قوائمه الأربع فهو محجل أربع، وإن كان في الرجلين فهو محجل الرجلين، وإن كان في إحدى رجليه فهو محجل الرجل اليمنى أو اليسرى، وإن كان في ثلاث قوائم دون رجل أو يد فهو محجل ثلاث، ولا يكون التحجيل واقعًا بيد أو بيدين ما لم يكن معهما أو معها رجل أو رجلان، يعني إذا كان التحجيل باليد فقط أو باليدين ما يسمى تحجيلًا حتى يكون شيء منه في الرجل. ومعناه أنَّهم إذا دعوا على رؤوس الأشهاد أو إلى الجنة كانوا على هذه العلامة أو أنهم يسمون بهذا الاسم لم يُر عليهم من آثار الوضوء.
يقوا ابن حجر: محجلين، بالمهملة والجيم من التحجيل وهو بياض يكون في ثلاث قوائم من قوائم الفرس، وأصله من الحجل بكسر المهملة، وهو الخلخال، والمراد به هنا أيضًا النور. إذا كان أصله من الحِجل وهو الخلخال اتجه قول أنَّه لا يمكن أن يُسمى تحجيلًا، وهو في اليدين فقط؛ لأنَّ الخلخال يكون بالرجلين.
« مِنْ آثارِ الْوُضُوءِ» يعني لأجل آثار الوضوء، والآثار جمع أثر، وأثر الشيء بقيته، ومنه أثر الجرح، والوضوء بضم الواو ويجوز فتحها أيضًا. يقول ابن دقيق العيد: أي من آثار الماء المستعمل في الوضوء، فإنَّ الغرة والتحجيل نشآ عن الفعل بالماء، فيجوز أن يُنسب إلى كل منهما، ابن دقيق العيد في شرح العمدة يقول: من آثار الوضوء يجوز الضم والفتح، الوُضوء والوَضوء؛ لأنَّه من آثار الماء، ومن آثار استعماله، يقول ابن دقيق: "أي من آثار الماء المستعمل في الوضوء، فإنَّ الغرة والتحجيل نشآ عن الفعل بالماء، فيجوز أن يُنسب إلى كل منهما".
و«مِنْ» يجوز أن تكون للسببية، أي بسبب آثار الوضوء، ومثله قول الله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} [نوح:25] أي بسببها، وحرف الجر متعلق بـ «مُحَجَّلِين» أو بـ«يُدْعَوْنَ» على الخلاف في باب التنازع بين البصريين والكوفيين، ويجوز أن تكون «مِنْ» هنا لابتداء الغاية، يجوز أن تكون هنا لابتداء الغاية، يعني منذ أن بدؤوا يطيلون هذه الغرة.
«فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ» أي فليطل الغرة والتحجيل، يقول ابن دقيق العيد في شرح العمدة: اقتصر فيه على لفظ الغرة هنا دون التحجيل، عندك في الحديث «فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ» ما فيه وتحجيله، يقول: اقتصر فيه على لفظ الغرة هنا دون التحجيل، وإن كان الحديث يدل على طلب التحجيل أيضًا، وكأنَّ ذلك من باب التغليب لأحد الشيئين على الآخر إذا كان بسبيل واحد، وقد استعمل الفقهاء ذلك أيضًا، وقالوا: يستحب تطويل الغرة وأرادوا الغرة والتحجيل، وتطويل الغرة في الوجه بغسل جزء من الرأس، وفي اليدين بغسل بعض العضدين، وفي الرجلين بغسل بعض الساقين، وليس في الحديث تقييد ولا تحديد لمقدار ما يُغسل من العضدين والساقين. وَقد اسْتعْمل أَبُو هُرَيْرَة الحَدِيث على إِطْلَاقه، وَظَاهره في طلب إطالة الْغرَّة فَغسل إِلَى قريب من الْمَنْكِبَيْنِ.
المُقَدِّم: الذي هو أبو هريرة.
نعم، وَقد اسْتعْمل أَبُو هُرَيْرَة الحَدِيث على إِطْلَاقه وَظَاهره في طلب إطالة الْغرَّة فَغسل إِلَى قريب...
المُقَدِّم: العضدين.
من الْمَنْكِبَيْنِ. نعم، وَلم ينْقل ذَلِك عَن النَّبِي- صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- وَلَا كثر اسْتِعْمَاله فِي الصَّحَابَة -رضي الله عنهم-، فَلذَلِك لم يقل بِهِ كثير من الْفُقَهَاء، وَرَأَيْت بعض النَّاس قد ذكر أَن حد ذَلِك نصف الْعَضُد ونصف الساق.
وفي فتح الباري يقول: اقتصر على إحداهما يعني على الغرة دون التحجيل، اقتصر على إحدهما لدلالتها على الأخرى، نحو {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل:81]، وَاقْتصر على ذكر الْغرَّة وَهِي مُؤَنّثَة دون التحجيل وَهُوَ مُذَكّر؛ لِأَن مَحل الْغرَّة أشرف الأَعْضَاء، أعضاء الْوضُوء وَأول مَا يَقع عَلَيْهِ النّظر من الْإِنْسَان، على أنَّ في رواية مسلم من طريق عمارة بن غزيَّة ذكر الأمرين، ولفظه: « فليطل غرته وتحجيله».
يقول ابن بطال في شرحه، قال أبو الزناد، قوله: «فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ» فإنَّه كنى بالغرة عن الحجلة؛ لأنَّ أبا هريرة كان يتوضأ إلى نصف ساقيه، والوجه لا سبيل إلى الزيادة في غسله، فكأنَّه- والله أعلم- أراد الحجلة فكنى بالغرة عنها.
قال ابن حجر: وفيما قاله نظر؛ لأنَّه يستلزم قلب اللغة، يعني تطلق الغرة ويراد التحجيل؟ وفيما قاله نظر؛ لأنَّه يستلزم قلب اللغة، وما نفاه ممنوع؛ لأنَّ الإطالة ممكنة في الوجه بأن يغسل إلى صفحة العنق مثلًا، ونقل الرافعي عن بعضهم أنَّ الغرة تطلق على كل من الغرة والتحجيل.
ويقول العيني: ثمَّ اعْلَم أَن هَذَا كُله على تَقْدِير أَن يكون قَوْله: فَمن اسْتَطَاعَ مِنْكُم إِلَى آخِره من الحَدِيث؛ لِأَن الْمَرْفُوع مِنْهُ إلى قَوْله: « من آثَار الْوضُوء» وَبَاقِي ذَلِك من قَول أبي هُرَيْرَة أدرجه فِي آخر الحَدِيث، وَقد أنكر ذَلِك بعض الشَّارِحين فَقَالَ وَفِي هَذِه الدَّعْوَى بعد عِنْدِي. قلت: لَيْسَ فِيهَا بعد، كَيف وَقد رَوَاهُ أَحْمد- رَحمَه الله- من طَرِيق فليح عَن نعيم وَفِي آخِره: قَالَ نعيم: لَا أَدْرِي قَوْله: « من اسْتَطَاعَ» إِلَى آخِره من قَول- النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- أَو من قَول أبي هُرَيْرَة- رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ-، وَقد روى هَذَا الحَدِيث عشرَة من الصَّحَابَة، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة وَاحِد مِنْهُم هَذِه الْجُمْلَة، وَكَذَا رَوَاهُ جمَاعَة عَن أبي هُرَيْرَة، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة واحد مِنْهُم غير مَا وجد فِي رِوَايَة أبي نعيم فَهَذَا كُله أَمارَة الإدراج، وَالله أعلم.
ابن حجر قال هذا الكلام قبل العيني، فكأنَّه مال إلى أنَّها مدرجة، ثم قال ابن حجر بعد أن ذكر ما تقدم فيما نقلناه عن العيني، اختلف في القدر المستحب من التطويل في التحجيل، فقيل إلى المنكب والركبة، وقد ثبت عن أبي هريرة رواية ورأيًا. وعن ابن عمر- رضي الله عنهما- من فعله أخرجه ابن أبي شيبة وأبو عبيد بإسناد حسن، وقيل: المستحب الزيادة إلى نصف العضد والساق، وقيل إلى ما فوق ذلك.
في شرح ابن بطال: وقوله: «فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ» تأوَّله أبو هريرة على الزيادة على حد الوضوء، فكان يتوضأ إلى نصف ساقيه وإلى منكبيه ويقول: إني أحب أن أطيل غرتي، فربما قال هذا موضع الحلية، وهذا شيء لم يثب عليه أبو هريرة، والمسلمون مجمعون على أنَّه لا يُتعدى بالوضوء ما حدَّ الله ورسوله، وقد كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو أبدر الناس إلى الفضائل، وأرغبهم فيها لم يجاوز قط موضع الوضوء فيما بلغنا، ويحتج على قول أبي هريرة- رضي الله عنه- بقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:1]، وروى سفيان عن موسى بن أبي عائشة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنَّ رجلًا سأل النبي- صلى الله عليه وسلم- عن الوضوء، فدعا بماء فتوضأ ثلاثًا ثلاثًا، وقال: «هكذا الوضوء، فمن زاد على ذلك فقد تعدى وظلم»، ويُحمل قوله: «فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ» يعني يديمها.
يعني كأنَّ ابن بطال رد الإطالة والزيادة على المشروع، رد الزيادة على ما جاء في صريح الكتاب والسُّنة، فلا داعي لهذه الإطالة؛ لأنَّها تعدي لحد الله الذي حده في كتابه وعلى لسان نبيه- عليه الصلاة والسلام-، إلى الكعبين، إلى المرفقين، نعم، وقال: إنَّ الأُمَّة مجمعة على أنَّه لا يُتعدى بالوضوء ما ذُكر، ولا يُعرف عن النبي- عليه الصلاة والسلام- أنَّه زاد، هكذا قال.
وذكر حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنَّ رجلًا سأل النبي- صلى الله عليه وسلم- عن الوضوء، فدعا بماء فتوضأ ثلاثًا ثلاثًا، وقال: « هكذا الوضوء فمن زاد على ذلك فقد تعدى وظلم»، قال: ويُحمل قوله: «فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ» يعني يديمها، يطيل يديم، فالطول والدوام بمعنى متقارب، أي فمن استطاع أن يواظب على الوضوء لكل صلاة فإنَّه يطيل غرته، أي يقوي نوره ويتضاعف بهاؤه، فكنى بالغرة عن نور الوجه يوم القيامة، يعني بالتكرار يقوى النور ويتضاعف بهاؤه، لا بإطالته بالزيادة على ما شرع الله- جلَّ وعلا-، يعني هذا كلام ابن بطال.
تعقبه ابن حجر بقوله: وَكَلَامُهُمْ مُعْتَرَضٌ مِنْ وُجُوهٍ وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ صَرِيحَةٌ فِي الِاسْتِحْبَابِ فَلَا تَعَارُضَ بِالِاحْتِمَالِ؛ لأنَّ لفظها كما تقدم « فليطل غرته وتحجيله»، هي صَرِيحَةٌ فِي الِاسْتِحْبَابِ فَلَا تَعَارُضَ بِالِاحْتِمَالِ، وَأَمَّا دَعْوَاهُمُ اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِ مَذْهَبِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ فَهِيَ مَرْدُودَةٌ بِمَا نَقَلْنَاهُ عَن ابن عُمَرَ، يعني ما رواه ابن أبي شيبة من فعله وهو خبر حسن، وَقَدْ صَرَّحَ بِاسْتِحْبَابِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَأَمَّا تَأْوِيلُهُمُ الْإِطَالَةَ الْمَطْلُوبَةَ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْوُضُوءِ فَمُعْتَرَضٌ بِأَنَّ الرَّاوِيَ أَدْرَى بِمَا رَوَى ، كَيْفَ وَقَدْ صَرَّحَ بِرَفْعِهِ إِلَى الشَّارِعِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم-.
الشيخ ابن باز- رحمة الله عليه- علق على ذلك بقوله: الأصح في المسألة شرعية الإطالة في التحجيل بخاصة، وذلك بالشروع في العضد والساق تكميلًا للمفروض من غسل اليدين والقدمين كما صرح أبو هريرة برفع ذلك إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- في رواية مسلم.
يعني أنَّ النبي- عليه الصلاة والسلام- توضأ فغسل يديه حتى أشرع في العضد، وغسل رجليه حتى أشرع في الساق، هذا ظاهر يعني رفعه إلى النبي- عليه الصلاة والسلام-.
وتعقب العيني ابن بطال في استدلاله بحديث عمرو بن شعيب بقوله:" هذا استدلال فاسد؛ لِأَن المُرَاد بِهِ الزِّيَادَة فِي عدد المرات" يعني لو زاد رابعة، النبي- صلى الله عليه وسلم- توضأ ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال: « فمن زاد فقد تعدى وظلم وأساء»، إذا زاد عن عدد المرات، أَو النَّقْص عَن الْوَاجِب، أَو الثَّوَاب الْمُرَتّب على نقص الْعدَد لَا الزِّيَادَة على تَطْوِيل الْغرَّة والتحجيل.
والحديث أخرجه الإمام البخاري- رحمه الله تعالى- في هذا الموضع فقط في كتاب الوضوء، في باب فضل الوضوء والغر المحجلون من آثار الوضوء، قال- رحمه الله تعالى-: حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث عن خالد عن سعيد بن أبي هلال عن نعيم المجمر قال: رقيت مع أبي هريرة على ظهر المسجد فتوضأ فقال: إني سمعت النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول: «إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الوضوء» الحديث، وسبق ذكر المناسبة. والحديث أخرجه مسلم فهو متفق عليه، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المُقَدِّم: عليه الصلاة والسلام، جزاكم الله خيرًا، وأحسن إليكم، ونفع بعلمكم، أيُّها الإخوة والأخوات، بهذا نصل إلى ختام هذه الحلقة في شرح كتاب" التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح"، لقاؤنا بكم في حلقة قادمة بإذن الله تعالى مع الحديث مائة واثنى عشر في المختصر، مائة وسبعة وثلاثين في الأصل، نلقاكم على خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.