شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (003)
المقدم: نبدأ على بركة الله في قراءة خطبة الكتاب، والتي عنون لها المؤلف بقوله:
خطبة الكتاب:
قال -رحمه الله-: "الحمد لله البارئ المصوِّر الخلاق، الوهاب الفتاح الرزاق، المبتدئ بالنعم قبل الاستحقاق، وصلاته وسلامه على رسوله الذي بعثه ليتمم مكارم الأخلاق، وفضله على كافة المخلوقين على الإطلاق حتى فاق جميع البرايا في الآفاق، وعلى آله الكرام الموصوفين بكثرة الإنفاق، وعلى أصحابه أهل الطاعة والوفاق، صلاة دائمة مستمرة بالعشي والإشراق".
عرفنا أن هذا الكتاب مختصر من صحيح البخاري، والإمام البخاري -رحمه الله تعالى- لم يفتتح كتابه بخطبة تنبئ عن مقصوده مفتتحةً بالحمدِ والشهادة، واعتُذر له بأن الخطبة لا يتحتم فيها سياقٌ واحد يمتنع العدول عنه، بل الغرض منها الافتتاح بما يدل على المقصود، وقد صدّر كتابه بترجمة بدء الوحي، وبالحديث الدال على مقصوده المشتمل على أن العمل دائرٌ مع النية، وأما الحديث المشهور: «كل أمرٍ ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع» وحديث: «كل خطبة ليس فيها شهادة فهي كاليد الجذماء» خرجهما أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة، فالحديثان ليسا على شرط الإمام البخاري، فلا يلزمه العمل بهما؛ لأنهما ليسا على شرطه، ولعل الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- حمد وتشهد نطقًا عند وضع الكتاب ولم يكتب ذلك اقتصارًا واقتصر على البسملة. ويؤيد ذلك وقوع كتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الملوك كتبه في القضايا مفتتحة بالتسمية دون حمدلةٍ وغيرها، كما في حديث أبي سفيان في قصة هرقل، وستأتي -إن شاء الله تعالى-، وهذا يُشعِر بأن الحمد والشهادة إنما يحتاج إليهما في الخطب دون الرسائل، فكأن المصنف لما لم يفتتح كتابه بخطبة أجراه مجرى الرسائل إلى أهل العلم، والاقتصار على البسملة طريقة متبعة وجادة مسلوكة عند شيوخ الإمام البخاري وشيوخ شيوخه وأهل عصره، كمالك وعبد الرزاق وأحمد وأبي داود وغيرهم -رحمهم الله تعالى-، ويندر من وجد منهم في ذلك العصر ممن افتتح كتابه بخطبةٍ كمسلم -رحمه الله تعالى-.
أما الجادَّة المسلوكة فهي عدم ذكر هذه الخطب التي يبين فيها المناهج، مناهج الكتب، هذه طريقة المتقدمين من أهل العلم طبقة البخاري وشيوخه وشيوخ شيوخه، وأما المختصِر فجرى على عادة أهل عصره، ومن تقدم من ذكر خطبةٍ يبين فيها السبب الباعث على التأليف، ومنهجه في الاختصار، وسنده إلى مؤلف الكتاب.
فقال -رحمه الله تعالى-: الحمد لله رب العالمين "الحمد لله البارئ المصور الخلاق"، الحمد فيما حققه العلامة ابن القيم في الوابل الصيب هو الإخبار عن الله بصفات كماله -سبحانه وتعالى- مع محبته والرضا به، وأما الثناء فهو تكرير المحامد شيئًا بعد شيء، وجمهور العلماء يفسرون الحمد بأنه الثناء على المحمود بصفاتِ جلاله ونعوت جماله الاختيارية، ولا شك أن الحمد غير الثناء، ففي الحديث الذي خرَّجه مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال عن الله -سبحانه وتعالى-: «قَسَمْتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال: حمدني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم، قال: أثنى عليَّ عبدي» فجعل الحمد غير الثناء، ولذا المتجه في تعريف الثناء ما قاله العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- أنه هو الإخبار عن الله بصفات كماله -سبحانه وتعالى- مع محبته والرضا به، وأما الثناء فهو تكرير المحامد شيئًا بعد شيء يقال له: ثناء.
و"لله" الله علمٌ على ذات الرب -سبحانه وتعالى- المستحق لجميع المحامد الذي لا إله غيره ولا رب سواه.
"البارئ" بالهمز من البرء، وهو التهيئة للخلق، وقيل: هو الذي يخلق الخلق بريئًا من التنافر، ولا شك أن نعمة الخلق من أعظم البواعث على الحمد؛ لكون ذلك أول نعمة أنعم الله بها على الحامد وعلى غيره، وقال الحليمي: معناه الموجِد لما كان في معلومه من أصنافِ الخلائق البارئ هو الموجِد لما كان في معلومه من أصناف الخلائق، وهو الذي يشير إليه قوله -عز وجل-: {مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا} [سورة الحديد 22] يعني من قبل أن نوجدها، "المصوِّر" المعطي كل مخلوقٍ صورته، وقال الخطابي: "المصوِّر هو الذي أنشأ خلْقه على صورٍ مختلفة ليتعارفوا بها، والتصوير التخطيط والتشكيل"، "الخلاق"، الخلق إيجاد الممكن وإبرازه من العدم إلى الوجود، أي أن الله -سبحانه وتعالى- هو موجِد الكائنات، الخلاق صيغة مبالغة من الخالق، كلٌ من الخلاق والخالق من أسماء الله -سبحانه وتعالى-.
"الوهاب" المتفضل بالعطايا المنعم بها، لا عن استحقاقٍ عليه، "الفتاح" الذي يفتح أبواب الرزق والرحمة لعباده، ويفتح قلوبهم وعيون بصائرهم ليبصروا الحق، "الرزاق" المنعم على عباده بإيصال حاجتهم من الرزق، وقال الخطابي: هو المتكفل بالرزق، القائم على كل نفسٍ بما يقيمها من قوتها وكل ما وصل منه إليه من مباحٍ وغيره فهو رزق الله، وعلى هذا فالكسب المحرم رزق عند أهل السنة، وإن أخرجه المعتزلة من كونه من مسمى الرزق، على معنى أن الله قد جعله قوتًا ومعاشًا بغض النظر عن وسيلة الحصول إليه.
"المبتدئ بالنعم قبل الاستحقاق" يقول الخطابي: من كرم الله سبحانه وتعالى أنه يبتدئ بالنعمة من غير استحقاق لمن أسديت إليه والمراد بالنعم ما يشمل النعم الدنيوية والأخروية.
بعد أن أثنى على الله -سبحانه وتعالى- وحمده بما يليق بجلاله وعظمته ثنَّى بالصلاة على نبيه -عليه الصلاة والسلام- فأردف الحمدلة بالصلاة على رسوله فقال: "وصلاته وسلامه على رسوله الذي بعثه ليتمم مكارم الأخلاق" فعل ذلك -رحمه الله- لكون الرسول -عليه الصلاة والسلام - الواسطة في وصول جميع الكمالات العلمية والعملية إلينا من الله -عز شأنه- الذي بعثه الله –سبحانه- ليتمم ما جاءت به الرسل قبله من مكارم الأخلاق والشيم، وفضله على جميع الخلق الذين وجدوا في الآفاق، والآفاق جمعُ أفق، وهو الناحية من الأرض والسماء، والأحاديث الواردة في فضله -عليه الصلاة والسلام- على جميع الخلق أكثر من أن تحصى، فهو سيد ولد آدم، وأول شافع مشفَّع، وخاتم الأنبياء وأكرم المرسلين، "وعلى آله" أهل بيته وهم مؤمنو بني هاشم وبني المطلب أو أتباعه على دينه كما قاله جمعٌ من أهل العلم.
"الموصوفين بكثرة الإنفاق" أي إنفاق الخيرات المعنوية والحسية، وبذلها على أهل الآفاق، "وعلى أصحابه أهل الطاعة والوفاق" الشامل حيث أطاعوا الله وأطاعوا الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأنفقوا في سبيل الله نفائس الأموال، بل أنفقوا وبذلوا المُهَج فضلاً عن ما يملك من الأموال، "صلاة دائمة مستمرة بالعشي والإشراق"، أردف الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- بالصلاة على الآل والأصحاب؛ لكونهم الواسطة بيننا وبينه في نقل دينه، ولما لهم من مواقف جليلة في نصر دينه.
والصلاة في الأصل الدعاء، وهي من الله الرحمة، وروى البخاري في كتاب التفسير من صحيحه في باب قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [سورة الأحزاب 56] تعليقًا مجزومًا به عن أبي العالية قال: صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء وروى عن ابن عباس أنه قال: "يصلون يبركون" وفي جامع الترمذي باب ما جاء في فضل الصلاة على النبي -عليه الصلاة والسلام- من أبواب الصلاة، روي عن سفيان الثوري وغير واحدٍ من أهل العلم قالوا: صلاة الرب الرحمة، وصلاة الملائكة الاستغفار. ثم ذكر بعد ذلك المختصِر الصحيح الذي هو الأصل ومنزلته، والباعث على اختصاره، ومنهجه في الاختصار فقال:...
المقدم: عفوًا فضيلة الدكتور، قبل ذلك إذا أذنتم: في قوله: "وعلى آله الكرام" هل الآل هم أهل البيت أم يختلفون عند أهل السنة؟
الآل في الأصل هم الأهل، ولذا يصغَّر الآل على أُهَيْل، فالآل هم أهل البيت عند جمع من أهل العلم، ومن أهل العلم من يقول: إن آله -عليه الصلاة والسلام- من تبعه على دينه فهو من آله، كما يقال: آل إبراهيم آل فرعون آل كذا، كلهم أتباعه، ولا يخص أهل بيته.
المقدم: قال -رحمه الله-: "أما بعد: فاعلم أن كتاب الجامع الصحيح للإمام الكبير الأوحد مقدَّم أصحاب الحديث أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري -رحمه الله- من أعظم الكتب المصنفة في الإسلام، وأكثرها فوائد، إلا أن الأحاديث المتكررة فيه متفرقة في الأبواب، وإذا أراد الإنسان أن ينظر الحديث في أي باب لا يكاد يهتدي إليه إلا بعد جهل وطول فتشٍ، ومقصود البخاري -رحمه الله- بذلك كثرة طرق الحديث وشهرته، ومقصودنا هنا أخذ أصل الحديث لكونه قد عُلم أن جميع ما فيه صحيح.
قال الإمام النووي في مقدمة كتابه شرح مسلم: "وأما البخاري فإنه يذكر الوجوه المختلفة في أبوابٍ متفرقة متباعدة، وكثيرٌ منها يذكره في غير بابه الذي يسبق إليه الفهم أنه أولى به، فيصعب على الطالب جمعُ طرقه وحصول الثقة بجميع ما ذكره من طرق الحديث، قال: وقد رأيتُ جماعة من الحفاظ المتأخرين غلطوا في مثل هذا فنفوا رواية البخاري أحاديث هي موجودةٌ في صحيحه في غير مظانها السابقة إلى الفهم، انتهى ما ذكره النووي -رحمه الله-، فلما كان كذلك أحببت أن أجرد أحاديثه من غير تكرار، وجعلتها محذوفة الأسانيد ليقرب انتوال الحديث من غير تعب، وإذا أتى الحديث المتكرر أثبتُّه في أول مرة، وإن كان في الموضع الثاني زيادةٌ فيها فائدة ذكرتها وإلا فلا، وقد يأتي حديثٌ مختصرٌ ويأتي بعدُ في رواية أخرى أبسط وفيه زيادة على الأول فأكتب الثاني وأترك الأول لزيادة الفائدة، ولا أذكر من الأحاديث إلا ما كان مسندًا متصلاً، وأما ما كان مقطوعًا أو معلقًا فلا أتعرض له، وكذلك ما كان من أخبار الصحابة فمن بعدهم مما ليس له تعلقٌ بالحديث، ولا فيه ذكرُ النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا أذكره كحكاية مشي أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- إلى سقيفة بني ساعدة، وما كان فيه من المقاولة بينهم، وكقصة مقتل عمر -رضي الله عنه-، ووصيته لولده في أن يستأذن عائشة ليدفن مع صاحبيه، وكلامه في أمر الشورى، وبيعة عثمان -رضي الله عنه-، ووصية الزبير لولده في قضاء دينه، وما أشبه ذلك.
ثم إني أذكر اسم الصحابي الذي روى الحديث في كل حديثٍ ليُعلَم من رواه، وألتزم كثيرًا ألفاظه في الغالب، مثل أن يقول: عن عائشة، وتارة يقول: عن ابن عباس، وحينًا يقول: عن عبد الله بن عباس، وكذلك ابن عمر، وحينًا يقول: عن أنس، وحينًا يقول: عن أنس بن مالك، فأَتبعه في جميع ذلك، وتارةً يقول: عن فلان يعني الصحابي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتارةً يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحينًا يقول: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال كذا وكذا، فأتبعه في جميع ذلك، فمن وجد في هذا الكتاب ما يخالف ألفاظه فلعله من اختلاف النسخ، ولي بحمد الله في الكتاب المذكور...
يكفي يكفي.
بعد أن ذكر ما ينبغي ذكره من الثناء على الله -سبحانه وتعالى- والصلاة والسلام على نبيه وعلى آله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، قال: "أما بعد" وأما حرف شرط وبعد قائم مقام الشرط مبني على الضم؛ لأن المضاف محذوف مع نيته، واختلف العلماء في أول من قال: أما بعد على أقوال ثمانية، يجمعها قول الشاعر:
جرى الخُلف أما بعد من كان بادئًا
|
|
بها عُد أقوالٌ وداود أقربُ |
والاتفاق على أن الإتيان بها سنة، وهي ثابتةٌ عن النبي -عليه الصلاة والسلام- في خطبه وفي مكاتباته، ولا تتأدى السنة إلا بهذه الصيغة "أما بعد" وبعضهم يقتصر على الواو بدلا من أما، يتسامح فيها كثير من المتأخرين، لكن السنة لا تتأدى إلا بأما.
ويؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى آخر، وليست بحاجة إلى ثم قبلها، بحيث يقال: ثم أما بعد، كما يجري على ألسنة كثيرٍ من المنتسبين إلى طلب العلم في العصور المتأخرة، الثابت عنه -عليه الصلاة والسلام- "أما بعد" نعم إن احتيج إليها بعد ذلك للانتقال من أسلوب ثانٍ إلى ثالث يعطف على الأولى فيقال: ثم أما بعد، أما في الموضع الأول فلا حاجة إلى العطف، النصوص كلها ليس فيها ثمَّ، نعم أشار محقق تفسير الطبري أن في بعض نسخ التفسير "ثم أما بعد" لكن المعروف من أسلوبه -عليه الصلاة والسلام- وصحابته الكرام، ومن جاء بعدهم كلهم جروا على هذه الصيغة "أما بعد" وجوابها ما دخلت عليه الفاء، "فاعلم أن كتاب جامع الصحيح للإمام الكبير الأوحد مقدَّم أصحاب الحديث أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري" تقدمت ترجمته في حلقةٍ سابقة، "من أعظم الكتب المصنفة في الإسلام، وأكثرها فوائد" لا شك أن من أدام النظر في هذا الكتاب رأى العجب العجاب من الفوائد المتنية والإسنادية الحديثية والفقهية وغيرها من الفوائد، "إلا أن الأحاديث المتكررة" هذا يذكر المبرِّر للاختصار، المبرر لاختصاره الكتاب وجود التكرار، ووجود الأسانيد مع أن الكتاب صحيح، فيرى أن المتأخرين ليسوا بحاجة إلى تكرار، وليسوا بحاجة إلى سماع الأسانيد مع ثبوت المتون، نظرًا لضعف الهمم، وكثرة من يمل من سماع الأسانيد، "إلا أن الأحاديث المتكررة فيه متفرقة في الأبواب، وإذا أراد الإنسان أن ينظر الحديث في أي باب لا يكاد يهتدي إليه إلا بعد جَهْدٍ وطول فتش، ومقصود البخاري -رحمه الله تعالى- في ذلك كثرة طرق الحديث وشهرته، ومقصودنا هنا أخذ أصل الحديث لكونه قد علم أن جميع ما فيه صحيح"، يعني فلا داعي لذكر هذا التكرار الذي يستفاد منه تقوية الحديث بكثرة الطرق، وبلوغه إلى حد الشهرة وما أشبه ذلك، مع أنهم لا حاجة بهم إلى ذكر الإسناد مادامت المتون ثابتة، لكن الكتاب الأصلي لا يستغني عنه طالب علم، وكون بعض المثقفين ممن لا علاقة له بالعلم الشرعي يحتاج إلى من يختصِر له، ويقتصِر على المتون دون الأسانيد هذه وجهة نظر صحيحة لا بأس بها، لكن المتخصص في العلوم الشرعية لا بد له من معرفة الأسانيد، ولا بد له من إدامة النظر في هذه الأسانيد، وإن كانت صحيحة ثابتة، ورجالها كلهم ثقات.
"يقول الإمام النووي في مقدمة كتابه شرح مسلم: وأما البخاري فإنه يذكر الوجوه المختلفة في أبواب متفرقة متباعدة"، نعم البخاري يقطِّع الحديث الواحد ويجعله في أماكن متعددة، ويكرر الحديث الواحد في مواضع، لكنه لا يكرر الحديث إلا لفائدة، ولا يمكن أن يكرر الحديث في موضعين بلفظه إسنادًا ومتنًا إلا فيما ندر، يعني نحو عشرين موضعًا فقط في الصحيح، وأما ما عدا ذلك فكل المكررات لا بد أن يوجد فيها الاختلاف سواءٌ كان في المتن أو في صيغ الأداء أو في الإسناد، "وكثيرٌ منها يذكره في غير بابه الذي يسبق إليه الفهم أنه أولى به"، سبق أن مثَّلنا بحديث ضباعة بنت الزبير في الاشتراط في الحج، الباب الذي يسبق الفهم إليه باب الفوات والإحصار في الحج، لكنه -رحمه الله- جعله في كتاب النكاح، "باب الأكفاء في النكاح" ومغزاه بعيدٌ جدًّا لا ينتبه إليه كثيرٌ من المتعلمين؛ لأن الحديث اشتمل على قول الراوي، وكانت تحت المقداد، وهي قرشية هاشمية ابنة عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومع ذلكم هي تحت المقداد وهو مولى، "فيصعب على الطالب جمع طرقه وحصول الثقة بجميع ما ذكره من طرق الحديث، قال" يعني النووي "وقد رأيت جماعة من الحفاظ المتأخرين غلطوا في مثل هذا، فنفوا رواية البخاري أحاديث هي موجودة في صحيحه في غير مظانها السابقة إلى الفهم. انتهى ما ذكره النووي".
كلامه صحيح، وُجِد من بعض العلماء من نفى رواية البخاري لأحاديث هي موجودة فيه؛ لأن البخاري -رحمه الله تعالى- أغرب جدًّا وأبعد في الاستنباط من الحديث، وجعله في غير مظنته -رحمه الله تعالى-.
يقول بعد ذلك المختصِر: "فلما كان كذلك أحببت أن أجرد أحاديثه من غير تكرار، وجعلتها محذوفة الأسانيد ليقرب انتوال الحديث من غير تعب"، ليقرب حصول الحديث ونواله والوصول إليه من غير تعب من قِبَل الطالب "وإذا أتى الحديث المتكرر أثبتُّه في أول مرة، وإن كان في الموضع الثاني زيادة فيها فائدة ذكرتها"، ليقتصر على هذه الزيادة التي فيها فائدة، "وإلا فلا، وقد يأتي حديثٌ مختصَر، ويأتي بعد في رواية أخرى أبسط وفيه زيادة على الأول فأكتب الثاني وأترك الأول لزيادة الفائدة"، لكن يأتينا أنه في حديث «الأعمال بالنيات» ذكره في الموضع الأول مع أنه مختصَر، وفي المواضع الأخرى فيه زيادة ولم يذكرها.