شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (275)

 

المُقَدِّم: بسم الله الرحمن الرحيم.

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين، أيُّها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، طابت أوقاتكم بكل خير وأهلًا بكم إلى حلقة جديدة في برنامجكم" شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح".

مع بداية هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بضيف اللقاء فضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلًا ومرحبًا بكم يا شيخ.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المُقَدِّم: نحن في حديث ابن عباس- رضي الله عنهما-، وكان الحديث توقف بنا عند مناسبة إيراد هذا الحديث، أو مناسبة هذه الترجمة لما قبلها، وسقتم كلامًا كثيرًا لأهل العلم حول هذا الموضوع، نستكمله بإذن الله.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ذكرنا في آخر الحلقة أو أواخر الحلقة السابقة كلام الكرماني، وهو أنَّه لا وجه ولا مناسبة بين هذه الأبواب، وليس هذا أيضًا هو جل اهتمام البخاري، وإنَّما معظم نظره إلى نقل الحديث وإلى ما يتعلق بتصحيحه غير مهتمّ بتحسين الوضع وترتيب الأبواب؛ لأنَّ أمره سهل كما يقول، وأيضًا قال: لا يراعي حسن الترتيب، وجملة قصده إنَّما هو في نقل الحديث وما يتعلق بتصحيحه لا غير، ونعم المقصد.

وذكرنا رد العيني عليه، ابن حجر يقول: العجب من دعوى الكرماني أنَّه لا يقصد تحسين الترتيب بين الأبواب مع أنَّه لا يُعرف لأحد من المصنفين على الأبواب من اعتنى بذلك غيره حتى قال جمع من الأئمة: فقه البخاري في تراجمه، وقد أبديت في هذا الشرح من محاسنه وتدقيقه في ذلك ما لا خفاء به.

قال: وقد أمعنت النظر في هذا الموضع فوجدته في بادئ الرأي يظن الناظر فيه أنَّه لم يعتن بترتيبه كما قال الكرماني، لكنه اعتنى بترتيب كتاب الصلاة اعتناءً تامًّا كما سأذكره هناك، وقد يَتلمَّح أو يُتَلَمَّح أنَّه ذكر أولًا فرض الوضوء، وأنَّه شرط لصحة الصلاة، ثم فضله، وأنَّه لا يجب إلا مع التيقن، وأنَّ الزيادة فيه على إيصال الماء إلى العضو ليس بشرط، يعني من باب تخفيف الوضوء.

وأنَّ الزيادة على إيصال الماء إلى العضو ليس بشرط، وأنَّ ما زاد على ذلك من الإسباغ فضل كما في الباب الذي يليه، ومن ذلك الاكتفاء في غسل بعض الأعضاء بغرفة واحدة، وأنَّ التسمية مع أوله مشروعة كما يشرع الذكر عند دخول الخلاء، فاستطرد من هنا لآداب الاستنجاء وشرائطه، ثم رجع لبيان أنَّ واجب الوضوء المرة الواحدة، وأنَّ الثنتين والثلاث سُنَّة، ثم ذكر سُنَّة الاستنثار إشارة إلى الابتداء بتنظيف البواطن قبل الظواهر، وورد الأمر بالاستجمار وترًا في حديث الاستنثار، فترجم به؛ لأنَّه من جملة التنظيف، ثم رجع إلى حكم التخفيف، فترجم بغسل القدمين لا بمسح الخفين إشارة إلى أنَّ التخفيف لا يكفي فيه المسح دون مسمى الغسل، لعله فترجم بغسل القدمين لا بمسح.. ، لا بمسح القدمين أو الخفين؟

المُقَدِّم: هنا قال: ثم رش.

ثم رجع إلى حكم التخفيف.

المُقَدِّم: يمكن من الرش يا شيخ؟

عندك في الباب؟ لا، ما هو في الباب، لا هو في ترجمة لاحقة.

المُقَدِّم: نعم.

ثم رجع إلى حكم التخفيف فترجم بغسل القدمين لا بمسح الخفين إشارة إلى أنَّ التخفيف لا يكفي فيه المسح دون مسمى الغسل، ثم رجع إلى المضمضة؛ لأنَّها أخت الاستنشاق، ثم استدرك بغسل العقبين؛ لئلا يظن أنَّهما لا يدخلان في مسمى القدم.

المُقَدِّم: نعم هذا في الترتيب الذي يليه. باب غسل الرجلين.

نعم، في الأبواب اللاحقة.

المُقَدِّم: في النعلين ولا يمسح على النعلين.

نعم، ثم استدرك بغسل العقبين؛ لئلا يظن أنَّهما لا يدخلان في مسمى القدم، وذكر غسل الرجلين في النعلين ردًّا على من اقتصر في سياق الحديث المذكور فاقتصر على النعلين، على ما سأبينه.

 ثم ذكر فضل الابتداء باليمين، ومتى يجب طلب الماء للوضوء، ثم ذكر حكم الماء الذي يستعمل، وما يوجب الوضوء، ثم ذكر الاستعانة في الوضوء، ثم ما يمتنع على من كان على غير وضوء واستمر على ذلك إذا ذكر شيئًا من أعضاء الوضوء استطرد منه إلى ما له به تعلق لمن يمعن التأمل إلى أن أكمل كتاب الوضوء على ذلك، وسلك في ترتيب الصلاة أسهل من هذا المسلك، فأورد أبوابها ظاهرة التناسب في الترتيب، فكأنَّه تفنن في ذلك، والله أعلم.

يعني هذه المناسبات التي أبداها ابن حجر لا شك أنَّها تدل على دقة الإمام البخاري، ومن ثَمَّ دقة الحافظ ابن حجر الذي استطاع أن يستنبط هذه الأمور.

ويقول العيني: المتأمل فيه إذا أمعن في نظره عرف وجوه المناسبات بين الأبواب، وإن كان الوجه في بعض المواضع يوجد ببعض التكلف، فنقول: لمَّا ذكر كتاب الوضوء عقيب كتاب العلم للمناسبة التي ذكرناها هناك ذكر عقيبه ستة أبواب ليس فيها شيء من أوصاف الوضوء، وإنَّما هي كالمقدمات لها، ثم ذكر الباب السابع الذي فيه صفة الوضوء وكان ينبغي أن يذكره بعد ذكر أبواب الاستنجاء في أثناء الأبواب التي يذكر فيها صفات الوضوء، ولكنه ذكره عقيب الباب السادس بطريق الاستطراد والاستتباع للمعنى الذي ذكرناه، ثم شرع يذكر أبواب الاستنجاء وبعدها أبواب صفات الوضوء على ما يقتضيه الترتيب، وقدم باب التسمية على الجميع؛ لأنَّ المتوضئ أولًا يستنجئ، فبالضرورة قدم أبواب الاستنجاء على أبواب الوضوء، ثم لا بد أنَّ يقدم التسمية قبل كل شيء؛ لأنَّا أمرنا أن نسمي الله تعالى في ابتداء كل أمر ذي بال؛ ليقع المبدوء به مبروكًا ببركة الله تعالى، فبالضرورة قدم باب التسمية.

هذه الالتماسات، وفي بعضها -على ما قالوا- تكلف، وقول الكرماني أقرب ما يكون إلى قول الشوكاني بالنسبة لآي القرآن.

المُقَدِّم: في المناسبة بين الآيات.

في المناسبة بين الآيات، الشوكاني يُنكر أن يكون هناك شيء اسمه مناسبة بين الآيات، الآية قد تكون مكتوبة بعد آية بعدها...

المُقَدِّم: لا علاقة بينهما.

بسنين، أو بعدها بسنين، ولا علاقة لها، هذا موضوع، وهذا موضوع. الشوكاني له كلام يرد به على البقاعي برهان الدين البقاعي الذي ألَّف كتابه..

المُقَدِّم: المناسبات.

نعم، الدرر، ما اسمه؟ في مناسبات الآيات والسور..

يقول الشوكاني: اعلم أنَّ كثيًرا من المفسرين جاؤوا بعلم متكلف، وخاضوا في بحر لم يكلفوا سباحته، واستغرقوا أوقاتهم في فن لا يعود عليهم بفائدة، بل أوقعوا أنفسهم بالتكلم بمحض الرأي المنهي عنه في الأمور المتعلقة بكتاب الله- سبحانه وتعالى-، وذلك أنهم أرادوا أن يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف، فجاؤوا بتكلفات وتعسفات يتبرأ منها الإنصاف، ويتنزه عنها كلام البلغاء، فضلًا عن كلام الرب- سبحانه وتعالى-، حتى أفردوا ذلك بالتصنيف، وجعلوه المقصد الأهم من التأليف، كما فعله البقاعي في تفسيره ومن تقدمه حسبما ذكره في خطبته.

 وإنَّ هذا لمن أعجب ما يسمعه من يعرف أنَّ هذا القرآن ما زال ينزل مفرقًا على حسب الحوادث المقتضية لنزوله منذ نزول الوحي على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى أن قبضه الله- عزَّ وجلَّ- إليه، وكل عاقل فضلاً عن عالم لا يشك أنَّ هذه الحوادث المقتضية نزول القرآن متخالفة باعتبار نفسها، بل قد تكون متناقضة، كتحريم أمر كان حلالًا، وتحليل أمر كان حرامًا، وإثبات أمر لشخص أو أشخاص يناقض ما كان قد ثبت لهم قبله، وتارة يكون الكلام مع المسلمين، وتارة مع الكافرين، وتارة مع من مضى، وتارة مع من حضر، وحينًا في عبادة، وحينا في معاملة، ووقتًا في ترغيب، ووقتًا في ترهيب، وآونة في بشارة وآونة في نذارة، وطورًا في أمر دنيا، وطورًا في أمر آخرة، ومرة في تكاليف آتية، ومرة في أقاصيص ماضية.

 وإذا كانت أسباب النزول مختلفة هذا الإختلاف ومتباينة هذا التباين الذي لا يتيسر معه الائتلاف، فالقرآن النازل فيها هو باعتبار نفسه مختلف كاختلافها، فكيف يطلب العاقل المناسبة بين الضب والنون، والماء والنار، والملاح والحادي، وهل هذا إلا من فتح أبواب الشك، وتوسيع دائرة الريب على من في قلبه مرض، أو كان مرضه مجرد الجهل والقصور؟ فإنَّه إذا وجد أهل العلم يتكلمون في التناسب بين جميع آي القرآن، ويفردون ذلك بالتصنيف، تقرر عنده أنَّ هذا أمر لا بد منه، وأنَّه لا يكون القرآن بليغًا معجزًا إلا إذا ظهر الوجه المقتضي للمناسبة، وتبين الأمر الموجب للارتباط، فإن وجد الاختلاف بين الآيات فرجع إلى ما قاله المتكلمون في ذلك، فوجده تكلفًا محضًا وتعسفًا بينًا انقدح في قلبه ما كان عنه في عافية وسلامة.

هذا على فرض أن نزول القرآن كان مترتبًا على هذا الترتيب الكائن في المصحف، فكيف وكل من له أدنى علم بالكتاب وأيسر حظ من معرفته يعلم علمًا يقينًا أنه لم يكن كذلك، ومن شك في هذا وإن لم يكن مما يشك فيه أهل العلم رجع إلى كلام أهل العلم العارفين بأسباب النزول المطلعين على حوادث النبوة، فإنه ينثلج صدره، ويزول عنه الريب بالنظر في سورة من السور المتوسطة، فضلًا عن المطولة؛ لأنَّه لا محالة يجدها مشتملة على آيات نزلت في حوادث مختلفة وأوقات متباينة، لا مطابقة بين أسبابها وما نزل فيها في الترتيب، بل يكفي المقصر أن يعلم أنَّ أول ما نزل {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، وبعده {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1]، و{ يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1]، ويمعن أين موضع هذه الآيات والسور في ترتيب المصحف؟

 وإن كان الأمر هكذا، فأي معنى لطالب المناسبة بين آيات نعلم قطعًا أنَّه قد تقدم في ترتيب المصحف ما أنزل الله متأخرًا، وتأخر ما أنزله الله متقدمًا، فإن هذا عمل لا يرجع إلى ترتيب نزول القرآن، بل إلى ما وقع من الترتيب عند جمعه ممن تصدى لذلك من الصحابة، وما أقل نفع مثل هذا وأنزر ثمرته وأحقر فائدته، بل هو عند من يفهم ما يقول وما يقال له من تضييع الأوقات وإنفاق الساعات بأمر لا يعود بنفع على فاعله، ولا على من يقف عليه من الناس، وأنت تعلم أنه لو تصدى رجل من أهل العلم للمناسبة بين ما قاله رجل من البلغاء من خطبه ورسائله وإنشاءاته، أو إلى ما قاله شاعر من الشعراء من القصائد التي تكون مدحًا، وأخرى هجاءً، وحينا نسيبًا، وحينًا رثاءً، وغير ذلك من الأنواع المتخالفة، فعمد هذا المتصدي إلى ذلك المجموع، فناسب بين فقره ومقاطعه، ثم تكلف تكلفًا آخر فناسب بين الخطبة التي خطبها في الجهاد، والخطبة التي خطبها في الحج، والخطبة التي خطبها في النكاح، ونحو ذلك، وناسب بين الإنشاء الكائن في العزاء، والإنشاء الكائن في الهناء، وما يشابه ذلك، لعد هذا المتصدي لمثل هذا مصابًا في عقله، متلاعبًا بأوقاته، عابثًا بعمره الذي هو رأس ماله، وإذا كان مثل هذا بهذه المنزلة وهو ركوب الأحموقة في كلام البشر، فكيف تراه يكون في كلام الله- سبحانه- الذي أعجزت بلاغته بلغاء العرب، وأبكمت فصاحته فصحاء عدنان وقحطان، وقد علم كل مقصر وكامل أن الله- سبحانه- وصف هذا القرآن بأنه عربي، وأنزله بلغة العرب، وسلك فيه مسالكهم في الكلام، وجرى به مجاريهم في الخطاب، وقد علمنا أن خطيبهم كان يقوم المقام الواحد فيأتي بفنون متخالفة وطرائق متباينة، فضلًا عن المقامين، فضلاً عن المقامات، فضلًا عن جميع ما قاله ما دام حيًّا، وكذلك شاعرهم.

 ولنكتف بهذا التنبيه على هذه المفسدة التي تعثر في ساحاتها كثير من المحققين، وإنَّما ذكرنا هذا البحث في هذا الموطن؛ لأنَّ الكلام هنا قد انتقل من بني إسرائيل بعد أن كان قبله مع أبي البشر آدم- عليه السلام-، فإذا قال متكلف: كيف ناسب هذا ما قبله؟ قلنا: لا كيف.

إذا قال متكلف: كيف ناسب هذا ما قبله؟ قلنا: لا كيف.

هذا ما قاله الشوكاني في مسألة تناسب الآيات والسور التي تعب عليها البرهان.

المُقَدِّم: في الفتح يا شيخ؟

لا، هذا في فتح القدير، في تفسير قوله- جلَّ وعلا-: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:40]، وهذه بعد قصة آدم.

 على كل حال هذه المناسبات بعضها يلوح واضحًا وفي ذكره فائدة يتوقف على فهمها المعنى أحيانًا، وفي بعضها تكلف شديد وإنجاع في الرأي، فلا كلام الشوكاني، ولا كلام البقاعي، لا تُطلب مناسبة لكل آية، ولا تُهدر المناسبات والروابط بين الآيات، فالتوسط في مثل هذا واضح، وعدم التناسب بين بعض المقاطع ظاهر إلا بتكلف شديد، وتعسر كما فعل البقاعي، وبعضها المناسبات ظاهرة، وفهم المقطع الثاني يتوقف على فهم الرابط بينه وبين المقطع الذي قبله، فالتوسط في مثل هذا هو المطلوب.

بقي علينا أن نشير إلى أنَّ الحافظ ابن حجر- رحمه الله تعالى- رغم مدافعته عن البخاري، ابن حجر دافع عن البخاري في كثير من المواضع، يعني بعض الشراح قد يسيء الأدب بالنسبة للبخاري، وتتبعهم الحافظ ابن حجر في هذه المواطن كلها، ما ترك شيئًا، فأحسن وأجاد- رحمه الله-، دافع عن البخاري، ودافع عن الصحيح، وصان الصحيح عن مثل هذه الاعتراضات، إلا أنَّه وقع في زلة وهفوة عظيمة من وجهة نظري، أساءت إلى الإمام البخاري من غير قصد من ابن حجر- رحمه الله تعالى-.

بعد أن ذكر هذه المناسبات قال ابن حجر- رحمه الله- في صفحة مائتين وثلاثة وأربعين من الجزء الأول، لمَّا ذكر المناسبات قال: مع أنَّ البخاري في جميع ما يورده من تفسير الغريب إنَّما ينقله عن أهل ذلك الفن كأبي عبيدة والنضر بن شميل والفراء وغيرهم، وأمَّا المباحث الفقهية فغالبها مستمدة له من الشافعي وأبي عبيد وأمثالهما، وأمَّا المسائل الكلامية- يعني مسائل الاعتقاد- وأمَّا المسائل الكلامية فأكثرها من الكرابيسي وابن كلاب ونحوهما.

أقول: أمَّا استمداده الغريب فلا أشك في اعتماد الإمام البخاري على أهل الفن، وعلى رأسهم من ذكر ابن حجر أبو عبيد، والنضر، وغيرهما، هذا أمر مُسلَّم، وأمَّا المباحث الفقهية فلكون ابن حجر شافعي المذهب، وشرح الصحيح، ورأى التقارب بين الإمامين البخاري والشافعي.

المُقَدِّم: فقد قالها.

ظنَّ أنَّه يستمد الفقه من الشافعي وأبي عبيد، هناك تقارب بين فقه الإمام البخاري وفقه الإمام الشافعي وفقه الإمام أحمد وفقه الإمام مالك أحيانًا، والإمام البخاري ليس بمقلد، الإمام البخاري إمام مجتهد معوله على النصوص، فلا يقلد أحدًا كما يظهر جليًّا لمن نظر في فقهه، وتراجمه، وقارن بين أقواله وأقوال أهل العلم. وأمَّا المسائل الكلامية، وهذه هي التي فيها الانتقاد الشديد يعني إذا كان نقد ابن حجر في ادعائه أنَّه يستمد الفقه من الإمام الشافعي...

المُقَدِّم: مقبولًا.

إلى حد ما.

المُقَدِّم: نعم.

فهو ليس بمقبول على إطلاقه؛ لأنًّه يجعل البخاري...

المُقَدِّم: مقلدًا.

مقلدًا، هو في الحقيقة مجتهد، وليست موافقة البخاري للإمام الشافعي أكثر من موافقته للإمام مالك، أو موافقته للإمام أحمد- رحمهم الله-، أو إسحاق، أو غيرهما من الأئمة، وقد يأتي بأقوال لا تذكر في المذاهب الأربعة كلها؛ لأنَّه إمام مجتهد ومعوله على النصوص، وأشرنا إلى هذا مرارًا فيما مر من الأحاديث والتراجم، المُشكل الأكبر..

المُقَدِّم: في إشارته إلى ابن كلاب.

في قوله: وأمَّا المسائل الكلامية فأكثرها من الكرابيسي وابن كلاب، المسائل الكلامية يقصد بذلك ما يتعلق بالعقائد، ومعوله لا على ما ذُكر، وإنَّما معوله على نصوص الوحيين كما يظهر جليًّا في كتابي الإيمان والتوحيد.

المُقَدِّم: والتوحيد.

فالبخاري إمام محقق على سنن أئمة الإسلام، وسلف هذه الأُمَّة، فكيف يُقرن بالكرابيسي وابن كلاب، ولديهما مخالفات عقدية في مسائل من العقائد؟ ولو نظرنا على سبيل المثال...

المُقَدِّم: تصديه للقول باللفظ في القرآن.

نعم.

المُقَدِّم: يعني يكفي في الرد على الكلابية وأمثالهم.

نعم، أيضًا في درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية في الجزء الأول من صفحة مائتين وسبعين إلى مائتين وست وسبعين، ذكر شيخ الإسلام كلامًا طويلًا يخالف فيه الإمام البخاري ابن كلاب في مسألة الكلام، ومعروف مواقفه الصلبة في هذا الباب، والمسائل المتعلقة بالقرآن، مسائل اللفظ، مسائل كثيرة من هذا الباب ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-، وذكر أيضًا الإمام البخاري- رحمه الله تعالى- في كتبه، لا سيما كتاب الإيمان الذي تقدم، وكتاب التوحيد الذي ذكره في آخر الكتاب، وفي ثنايا الصحيح من ذلك الشيء الكثير الذي يبرهن على أنَّ الإمام محمد بن إسماعيل البخاري من أئمة الإسلام المجتهدين في الفروع، إلا أنَّه في مسائل الأصول محتذٍ حذو سلف هذه الأُمَّة وأئمتها، مقتفٍ للنصوص وأقوال السلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

المُقَدِّم: طيب، في كتاب خلق أفعال العباد، ما اطلع عليه ابن حجر- رحمه الله- يمكن أن يكون جزء كبير من هذا الكتاب في الرد على الكلابية وأمثالهم.

أنت تعرف أن رأي ابن حجر في مسائل الاعتقاد فيها ما فيها.

المُقَدِّم: نعم، نعم.

فيها ما فيها، فيهون عليه اعتقاد ابن كلاب، واعتقاد الكرابيسي، ليس شأنه ومثله مثل من هو محقق في هذا الباب، مهتم في هذا الشأن، يغار على النصوص من التحريف، لا، يعني لو كان ابن حجر محققًا في هذا الباب في باب الاعتقاد لما قال مثل هذا الكلام؛ لأنَّ غير المحقق لا يغار على مثل هذه المسائل ونسبتها إلى أئمة الإسلام، وعلى كل حال ابن حجر ليس بمجتهد في هذا الباب، إنَّما هو مقلد نقَّال، نقَّال كشأن أهل جيله ومذهبه في ذلك الوقت.

المُقَدِّم: في مسائل الاعتقاد.

في مسائل الاعتقاد أن يؤول ميلهم إلى الأشعرية، فعلى هذا لا يحققون في هذه المسائل كما لو كان المتكلم فيها مثلًا ابن القيم ما يمكن أن يقول هذا الكلام.

المُقَدِّم: صحيح.

نعم، وكل شخص يعرف منزلة الإمام البخاري في الدين، وإمامته في الدين ولا سيما في مسائل الاعتقاد، وأنَّه على المنهج الصحيح، لا يُمكن أن يقول مثل هذا الكلام، وهذه في نظري زلة من الحافظ ابن حجر، لكن إذا عرفنا أنَّ واقع الحافظ ابن حجر في هذه المسائل بهذه المنزلة وأنَّه..

المُقَدِّم: ناقل.

نقال هو، أولًا هو مجرد ناقل، وأحيانًا ينقل مذهب الذين نسميهم الخلف، ويسكت عليه، وأحيانًا ينقل ما ثبت عن السلف في مسألة ويسكت عليه، فليست لديه قاعدة مطردة في تبني مذهب معين في مسائل الاعتقاد، لكنه في الأصل بيئته أشعرية، ونظراؤه في زمنه كلهم من هذا المذهب، وعلى هذا تأثر بلا محالة في هذا المذهب.

المُقَدِّم: الكرابيسي أشعري يا شيخ؟

هو أقرب إلى الأشعرية.

المُقَدِّم: وهو من أتباع ابن كلاب كان أم قبله؟

لا، الذي يبدو لي أنَّهما متعاصران أو قبله بقليل.

المُقَدِّم: جزاكم الله خيرًا، وأحسن إليكم، ونفع بعلمكم، أيُّها الإخوة والأخوات سوف نستكمل بإذن الله تعالى ما تبقى من ألفاظ وأحكام هذا الحديث في حلقة قادمة، وأنتم على خير، شكرًا لطيب متابعتكم، نلقاكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.