شرح كتاب الأربعين النووية (13) - من حديث رقم 24 إلى حديث رقم 30

بسم الله الرحمن الرحيم

شرح الأربعين النووية (13)

الشيخ: عبد الكريم الخضير

 

الحديث الرابع والعشرون: ((حرمة الظلم)).

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

اللهم اغفر لشيخنا والسامعين والحاضرين.

قال المؤلف -عليه رحمة الله-:

عن أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه -عز وجل- أنه قال: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أَكسُكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) رواه مسلم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في الحديث الرابع والعشرين من حديث أبي ذر جندب بن جنادة الغفاري، هذا الحديث العظيم أعظم أحاديث أهل الشام كما قال أحمد وغيره.

"عن أبي ذر الغفاري -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه -عز وجل-" إذا روى النبي -عليه الصلاة والسلام- عن ربه غير القرآن فإنه يسمى الحديث القدسي أو الإلهي. والأحاديث القدسية فيها مصنفات جمعها أهل العلم في أكثر من مصنف، وحكمها من حيث الإضافة إلى الله -جل وعلا- يميزها بهذه الإضافة عن الحديث النبوي، فأضيفت إلى الله -جل وعلا-، فقيل: هذا حديث إلهي أو حديث قدسي، إضافة إلى الإله أو القدوس. وهي من حيث اللفظ ليست في حكم القرآن باعتبار أن القرآن منقول باللفظ متعبد بلفظه، وأما الأحاديث القدسية فحكمها من هذه الحيثية حكم الحديث النبوي، تجوز روايته بالمعنى؛ ولذا تجد هذا الحديث بلفظه عند مسلم وتجده عند غير مسلم بألفاظ مختلفة، وهو في حكم الحديث النبوي من حيث اللفظ، غير متعبد بلفظه، تجوز روايته بالمعنى كالأحاديث النبوية.

"عن ربه -عز وجل- أنه قال: ((يا عبادي))" هذه الإضافة إلى الله -جل وعلا- إضافة تشريف، يقول الشاعر:

ومما زادني فرحاً وتيهاً
دخولي في قولك: يا عبادي

 

وكدت بأخمصي أطأ الثريا
وأن صيرت أحمد لي نبيا

 

فهذا النداء من الله -جل وعلا- للعباد تشريف لهم بوصف العبودية الذي هو من أشرف الأوصاف، فالعبودية لله -جل وعلا- من أشرف الأوصاف، ووصف الله بها نبيه -عليه الصلاة والسلام- في أشرف المواطن.

((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي)) الله -جل وعلا- حرم الظلم على نفسه مع أن حقيقة الظلم مستحيلة بالنسبة لله -جل وعلا-؛ لأن الظلم حقيقته التصرف في ملك الغير بغير إذنه، والكل ملك لله -جل وعلا-. فالله -جل وعلا- من كرمه وجوده وفضله وإحسانه وعدله امتنع، منع نفسه من الظلم، وهو الذي منع نفسه، وهو الذي حرمه على نفسه، ولا يتصور أن يوصف هذا التحريم من الله -جل وعلا- وكذلك الإيجاب على نفسه, كما في قوله -تعالى-: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [(12) سورة الأنعام] يعني أوجبها على نفسه، فليس للعباد حق على الله -جل وعلا- أن يتصف بالمحرم الذي يتصف به المخلوق، أو الواجب الذي يتصف به المخلوق، مع أن المعتزلة من معتقدهم أنه يجب على الله -جل وعلا- كذا، فيوجبون عليه -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً-، فالله -جل وعلا- من كرمه وفضله أن منع نفسه من الظلم، امتنع من الظلم، وحرمه على نفسه، ومنعها منه، وأوجب على نفسه أشياء، وكتب على نفسه أشياء.

((إني حرمت الظلم)) وهو وضع الشيء في غير موضعه، هذا حده، مع أن هناك أشياء قد تندرج في هذا التعريف ولا تدخل في الظلم، الذي هو مجرد وضع الشيء في غير موضعه، يعني لو أن إنساناً وضع شيئاً لا أثر له، وأبدل شيئاً بشيء لا أثر له، لنفترض أن سلعتين من السلع المباحة التي تباع في الأسواق جديدة، ما استعملت، فأخذ قلمين يجربهما في المحل، ووضع غطاء هذا على الثاني والعكس، هذا في غير موضعه، لكن هل يسمى ظلمًا؟ هذا لا أثر له ألبتة، وبينه وبين الظلم الذي هو أعظم أنواع الظلم الذي هو الشرك بينها مراتب كثيرة جداً لا تعد ولا تحصى، منها ما يصل إلى الكراهة، ومنها ما يصل إلى التحريم، ومنها ما هو أعظم من ذلك، فهذا الحد يدخل فيه كل ما ذكر، لكن هناك أشياء معفو عنها.

ولو نزيد قيدًا في تعريف الظلم مما له أثر، فيقال: "وضع الشيء الذي له أثر في غير موضعه"، أما ما لا أثر له مثلما قلنا في القلم، أخذ قلمين وجربهما وحط غطاء كل واحد للثاني، فهذا لا أثر له؛ لأنهما متفقان في الصنعة وفي القيمة وفي اللون، ما يفرق.

((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي)) الله -جل وعلا- يصف أن له نفسا, قال الله -تعالى-: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} [(116) سورة المائدة]. والمراد بذلك ذاته -جل وعلا- مع أن الذات يطلقها أهل العلم على الله -جل وعلا- فيقولون: "الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات"، مع أنها بمعنى النفس لم يرد بها دليل صريح، إبراهيم -عليه السلام- كذب ثلاث كذبات كلها في ذات الله، وليس المراد بها في نفس الله، وإنما من أجله، على كل حال حديث صحيح صريح قد يعوز في مسألة إثبات الذات، وأهل العلم يقولون عن الله -جل وعلا- أن له ذاتا لا تشبه الذوات.

((إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً)) يعني حرم الله الظلم على خلقه، كما حرم عليهم أشياء كثيرة ومنها الظلم، وأقبح أنواع الظلم الشرك, قال الله -تعالى-: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [(13) سورة لقمان], وقال -تعالى-: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} [(82) سورة الأنعام].

((وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)) اعتمدوا هذا التحريم والتزموه، فلا ترتكبوا شيئاً يتضمن ظلماً لأحد، لا للنفس ولا للغير ((فلا تظالموا)).

((يا عبادي كلكم ضال)) "ضال" تائه عن الصراط المستقيم إما يميناً وإما شمالاً، وهذا أعظم أنواع الضلال، يعني قد يوصف الإنسان بأنه ضال، يعني لم يهتد الطريق الذي يريد أن يسلكه فيقال: ضال. ومن الرواة معاوية بن عبد الكريم الضال، ثقة، مع أنه وصف بالضال؛ لأنه ضل يعني ضاع في طريق مكة، وليس هذا هو المقصود، إنما المقصود الضلال الحيد والميل عن الصراط المستقيم.

((كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم)) قد يقول قائل: إن الناس ولدوا على الفطرة: ((كل مولود يولد على الفطرة)) والفطرة الدين، فكيف يقال: إن الناس كلهم ضلال؟ نعم يولدون على الفطرة ثم تجتالهم الشياطين في الغالب.

وبيان ذلك أننا إذا أردنا أن نأخذ الضلال بما هو أعم من الضلال التام فلا بد أن يوجد هذا الضلال حتى عند أصلح الناس، فيحتاج إلى طلب الهداية، الضلال بمطلقه وهو الحيد عن الصراط المستقيم ولو شيئاً يسيراً، هذا موجود عند الناس كلهم، حتى المولود على الفطرة لا بد أن يوجد عنده شيء من الانحراف إلا من عصمه الله -جل وعلا- من الأنبياء. ((يا عبادي كلكم ضال)) وقد حصل من بعض الأنبياء ما حصل قبل النبوة وقبل الرسالة، والخلاف بين أهل العلم في عصمتهم من الصغائر. المقصود أن هذا الوصف الثابت في هذا الحديث لا بد أن يتصف به كل عبد من عباد الله قَلّ هذا الضلال أو كثر، صغر أو كبر. ((كلكم ضال)) هذا الأصل ((إلا من هديته)) فالله -جل وعلا- يهدي من يشاء بأنواع الهداية، هداية الدلالة والإرشاد، وهداية التوفيق والقبول.

((فاستهدوني)) يعني اطلبوا مني الهداية ولا تطلبوها من غيري، ((فاستهدوني أهدكم)) السين والتاء للطلب ((فاستهدوني أهدكم)) فنطلب الهداية من الله -جل وعلا- في كل وقت وفي كل حين، ونلهج بها، وهذه مطلوبة من كل أحد، وفرض على كل مُصلٍّ أن يقول في كل ركعة: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} [(6) سورة الفاتحة] على خلاف بين أهل العلم في مسألة المأموم.

((يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته)) الأصل أن الإنسان يولد في بطن أمه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ثم بعد ذلك يطعم من ثدي أمه ومن كسب أبيه، فالمطعم هو الله -جل وعلا-، والأم والأب ومن سواهم كلهم أسباب لهذا الطعام وهذا الشراب. ((فاستطعموني)) يعني اطلبوا مني الطعام ((أطعمكم)) هذا بالنسبة للمولود ظاهر، بالنسبة للكبار يبذلون الأسباب، ويطلبون الكسب والطعام والشراب من الله -جل وعلا-، فمنه -جل وعلا- كل شيء، وهو مصدر، وهو الرازق -جل وعلا-، لكن من يكون على يديه الرزق من المخلوقين هو سبب؛ ولذا أشرف الخلق -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((إنما أنا قاسم والله المعطي)).

((يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته)) الأصل أن الإنسان يولد ويخرج من بطن أمه عارياً هذا الأصل فيه، ثم بعد ذلك تحصل له الكسوة من الله -جل وعلا-، وإن وجد السبب الذي يتحقق به هذا الأمر من والد أو والدة أو قريب أو بعيد. ((فاستكسوني أكسكم)) اطلبوا مني الكساء، ولا تطلبوه من غيري.

((يا عبادي إنكم تخطئون)) هذا المشهور، تخطئون من أخطأ الرباعي، وبعضهم يضبطها تخطَئون من خطئ الثلاثي، ويفرق بين خطئ وأخطأ، أخطأ من غير قصد {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [(286) سورة البقرة] وخطئ خاطئ هذا من قصد الخطأ. وقوله: ((وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني)) يدل على أنه الخطأ الذي يترتب عليه الذنب الذي تطلب له المغفرة، وعلى كل حال تخطئون هذا هو الأشهر.

((بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً)) قال الله -تعالى-: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} [(53) سورة الزمر] الله -جل وعلا- يغفر الذنوب جميعاً، لكن لا بد من الاستغفار ((فاستغفروني أغفر لكم)) يعني اطلبوا مني المغفرة لما بدر منكم من خطأ ومن مخالفات فيغفر الله -جل وعلا- لمن استغفره.

((فاستغفروني أغفر لكم)) يستغفر، يستعتب، يندم، يستحضر قلبه عند الاستغفار، يحضر قلبه عند الندم ليتم الوعد. ومن لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، وفوائد الاستغفار كثيرة جداً، ذكرها أهل العلم في كتب الأذكار، وممن ذكرها ابن القيم في الوابل الصيب، ذكر فوائد الذكر، ومنه الاستغفار.

((يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)) الله -جل وعلا- هو النافع وهو الضار، الله -جل وعلا- تعالى وتقدس لا يستطيع أحد أن يصل إليه فيحاول ضره، نعم قد يؤذيه ابن آدم كما جاء في الحديث: ((يؤذيني ابن آدم)) لا شك أن المعاصي وأعظمها الشرك أذية، ومن آذى النبي -عليه الصلاة والسلام- فقد آذى الله، لكن ليس بمعناه الذي ندركه ونحسه، كما هو الحاصل للمخلوق.

((إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)) الله -جل وعلا- هو الغني عن خلقه.

((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم)) يعني بدون استثناء، جميع الثقلين من أول مخلوق إلى آخر مخلوق، ((كانوا على أتقى قلب رجل)) أتقى قلب رجل، يقول بعض الشراح: "المراد محمد -عليه الصلاة والسلام-"، لو كان الخلق كلهم من أولهم إلى آخرهم، من الثقلين من الجن والإنس كانوا على أتقى قلب رجل وهو محمد -عليه الصلاة والسلام- ((ما زاد ذلك في ملكي شيئاً)) الله -جل وعلا- لا تنفعه طاعة مطيع، ولا تضره معصية العاصي ((ما زاد ذلك في ملكي شيئاً)). ومعلوم أنه إذا كانت الرعية صالحين أتقياء فإن الملك من المخلوقين ينتفع بهم كثيراً في ملكه، وإذا كانوا كلهم خارجين عن الطاعة فاسدين مفسدين فإن الملك يتضرر بهم، هذا بالنسبة للمخلوقين. أما الرب -جل وعلا- ((لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل)) لو كانوا كلهم على مستوى واحد، على مستوى قلب محمد -عليه الصلاة والسلام- أتقى الخلق وأعلم الخلق وأخشاهم لله ما زاد ذلك في ملك الله شيئا، وكذلك لو كانوا على شاكلة قلب إبليس، أفجر مخلوق، ما نقص ذلك من ملك الله شيئاً.

((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً)) كما هو مقرر ومعلوم بالضرورة أن الطاعة لا تنفع الله -جل وعلا-، الله غني عن الخلق، عن طاعتهم، ولا تضره معاصيهم.

((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم)) جميع المخلوقين ((قاموا في صعيد واحد)) أرض مستوية منبسطة تستوعبهم جميعهم، تستوعب جميع الخلق من الأولين والآخرين، من الإنس والجن ((قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته)) كل واحد يسأل من هؤلاء الخلق الذين لا يحصيهم إلا الله -جل وعلا-، لو كل واحد سأل وأعطي مسألته، وكل واحد يسأل غير ما سأله غيره ((ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيَط إذا أُدخل البحر)). لو أتيت بالإبرة الصقيلة التي لا يعلق بها ماء، ولا تشرب الماء، فالمراد بالمخيط الإبرة الكبيرة، المخيط الذي يخاط به، وأكثر ما يستعمل في بيوت الشعر. أما الإبرة الصغيرة تخاط بها الثياب، ((إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)) هذا في الحقيقة لا ينقص من ملك الله شيئاً، لكن هذا مثال تقريبي، أدخل المخيط أو الإبرة أو أي شيء صقيل ثم أخرجه لا يعلق به شيء؛ لأنه صقيل ما يشرب الماء.

تقدم لنا في قصة موسى والخضر أشرنا إليها، وأن العصفور نقر بمنقاره من البحر، وأن الخضر قال لموسى: ما نقص علمي وعلمك أو ما علمي وعلمك بالنسبة لعلم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر.

((يا عبادي إنما هي أعمالكم)) أعمالكم، كل واحد بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

((إنما هي أعمالكم أحصيها)) أضبطها وأحفظها في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ((أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها)) كل يجد جزاء عمله، ((فمن وجد خيراً فليحمد الله)) الذي وفقه على فعل الخيرات ((ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) لأن الله -جل وعلا- هداه ودله وأرشده وركب فيه من الاختيار والعقل الذي يدرك به ما ينفعه ويضره، ثم بعد ذلك اختار الطريق الثاني ((ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)).

نعم الله -جل وعلا- ما ترك له حجة يحتج بها، لا يمكن أن يأتي يوم القيامة ويقول: أنت كتبتني شقياً فكيف تلومني؟ كما تقول الجبرية، لا، ترك له من الحرية، بين له الطريق، هداه النجدين، وبين له الطريق كما لو وجد عنده الماء، ولا يوجد ما يمنعه منه، ثم لم يشرب فعطش، من يلوم حينئذٍ؟ لا يلومن إلا نفسه، هو الذي فرط. لو سافر سفراً بعيداً يقطع به المفاوز ولم يحمل معه ماء ولا زاد، فمات جوعاً وعطشاً من يلوم؟ يلوم نفسه؛ لأنه هو الذي فرط، وهو الذي خان نفسه. فالذي بُين له الحلال والحرام، وبُين له طريق الحق والصواب وطريق الضلال ثم اختار الضلال لا يلومن إلا نفسه.

العبد له مشيئة وله حرية وله اختيار، لكنه لا يخرج عن مشيئة الله وإرادته، فإذا أذن المؤذن ثم جلس في بيته ولم يصل قال: إنه كتب، هذا مكتوب عليه أنه ما يصلي، واحتج بالقدر على هذه المعايب، ليس له ذلك؛ لأنه ما الذي يدريه أنه مكتوب عليه أنه لا يصلي؟ ومن الذي يمنعه من أن ينهض إلى المواضئ ويتوضأ ويذهب إلى المسجد؟ هل أحد يمنعه؟ هل أحد حاول أن يقوم للصلاة وعجز؟ هل يمكن أن يقول: "والله حاولت أقوم وكلما قمت إلى الصلاة سقطت"؟ هذا إذا حاول وعجز معذور، هذا مريض، يصلي على حسب حاله، لكن الذي أعطاه الله -جل وعلا- من القدرة ومن الحرية والاختيار أن يذهب ويتوضأ ويذهب إلى المسجد ويرجع من دون أي معترض، ثم يقول: "أنا مكتوب علي أني ما أصلي". الاحتجاج بالقدر على المصائب لا على المعايب. ولذلك جاء في الحديث: ((لما تحاج آدم وموسى، موسى قال لآدم: "أنت أبو البشر خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك جنته، أخرجتنا وذريتك من الجنة"، يلومه، قال له آدم: "كم تجد هذا قد كتب علي قبل أن أفعل؟" قال: "قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة"، فحج آدم موسى))، يعني ما احتج آدم على المعصية بالقدر، إنما احتج على المصيبة التي نشأت عن هذه المعصية بالقدر، وأما المعصية فذهب أثرها بالتوبة، ما صارت معصية؛ لأن الله تاب عليه واجتباه وهداه، فزال أثرها، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، والتوبة تهدم ما كان قبلها، فاحتج بالقدر على المصيبة الناشئة عن هذه المعصية التي تاب منها ولم تكن بعد ذلك معصية، فلا يلومن إلا نفسه.

قد يتسبب إنسان في إضلال إنسان، ثم يتجه باللوم عليه، كما يفعل أهل النار -نسأل الله السلامة والعافية- يلومون المتبوعين، أنتم الذين أضللتمونا؛ لأنه قد يكون شخص سببًا في إضلال شخص، وسببًا في إغوائه، فإذا أراد أن يصلي، قال: "انتظر بعدين -إن شاء الله-، فما زال به حتى خرج الوقت. فلا تَلُمْ إلا نفسك، أنت الذي أطعته، فأنت مسؤول عن ذنبك، وهو مسؤول عن ذنبه وذنبك أيضاً؛ لأنه تسبب فيه، والله المستعان.

الحديث الخامس والعشرون: ((ذهب أهل الدثور بالأجور)). 

قال المؤلف -عليه رحمة الله-:

عن أبي ذر -رضي الله عنه- أيضاً أن ناساً من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: ((أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون، إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة)) قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: ((أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجراً)) رواه مسلم.

يقول -رحمه الله تعالى-: "وعن أبي ذر -رضي الله تعالى عنه- أيضاً" لأنه هو راوي الحديث السابق "أن أناساً من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" يعني من الفقراء، من فقراء المسلمين. فهم يعملون من شرائع الله بما يستطيعون، الأعمال البدنية ليس عندهم فيها إشكال، لكن ليست لديهم أموال يتصدقون بها، وينفعون غيرهم، فحز في أنفسهم أن يكون لدى الأغنياء ما يتصدقون به، وليس عندهم ما يتصدقون به. أناس من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا له -عليه الصلاة والسلام-: "يا رسول الله ذهب أهل الدثور -الأموال- بالأجور" يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون، يصلون ويصومون مثلما نفعل، ويزيدون علينا بالصدقة، يتصدقون بفضول أموالهم، القدر الزائد مما يحتاجون إليه من أموال يتصدقون به.

قال: ((أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به)) يعني تتصدقون به، والتاء محذوفة هنا، وهي معلومة كما في تظّالموا، أصلها تتظالموا.

((إن بكل تسبيحة صدقة)) تسبيحة صدقة منك على نفسك؛ لأنه يثبت بها الأجر العظيم، كما يثبت الأجر بدفع الأموال والصدقات.

((وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة)) الباقيات الصالحات، ولا يضرك بأيهن بدأت، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر، غراس الجنة، لك في كل جملة شجرة في الجنة، ولك بها صدقة على نفسك، أنت الآن تتصدق على نفسك بهذا الكلام الذي لا يكلفك شيئاً، والذكر فوائده أكثر من أن تحصى، ابن القيم أحصى ما يقرب من مائة فائدة في مقدمة الوابل الصيب، وفي الذكر من الفوائد أكثر من ذلك.

((وأمر بالمعروف صدقة)) الأمر بالمعروف صدقة على نفسك وعلى غيرك، يعني إذا كان التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير صدقة منك على نفسك؛ لأن نفعه قاصر لك، وفيه أيضاً نفع متعدٍّ، وإن لم يدركه الناس، قد يقول الإنسان: أنا أصلي، أقوم الليل، هذا نفعه قاصر، نقول: لا، فيه نفع متعدٍّ لغيرك، لمجتمعك، لأمتك؛ لأن الله يدفع بعبادتك ويدفع بدعائك عنك وعن غيرك، فالأمور تبدو قاصرة وهي في حقيقتها متعدية.

يأتي شخص لمن عنده قدرة لنفع الناس، يأتي إليه وهو يصلي أو يقرأ القرآن أو يذكر الله يقول: قم يا أخي ما هذا وقته، النفع المتعدي أفضل، اترك القرآن، اترك الصلاة لوقت غير هذا، نقول: لا يمكن أن يستعين على هذا إلا بهذا، فلا بد أن يضرب من جميع أبواب الخير بسهم، لا يمكن أن ينفع الناس إلا إذا أحسن ما بينه وبين ربه، وصدق في عبادة ربه، يستعين بهذا على هذا، فلا يقال: إن هذا نفع قاصر، مفضول، وهذا نفع متعدٍّ أفضل، اترك القاصر ليس ذلك بصحيح، بل افعل هذا وهذا. وفي أركان الإسلام ما يدل، أو ما يخرم هذه القاعدة، الصلاة نفعها قاصر، يعني في عرف الناس وعرف أهل العلم، والزكاة نفعها متعدٍّ، وأيهما أفضل الصلاة أو الزكاة؟ الصلاة بلا إشكال قولاً واحداً.

((ونهي عن المنكر صدقة)) ترى أخاك مقصراً في شيء فتحثه عليه، وتأمره به، تراه يرتكب مخالفة تكفه عنها، وتنهاه عن ذلك، صدقة منك على نفسك وعلى غيرك.

((وفي بضع أحدكم صدقة)) كل ما تقدم متصور عند الناس، التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذه واضحة أنها صدقات، وواضحة أنها مما يبتغى بها وجه الله، لكن ماذا عن جماع الرجل امرأته؟ قال: ((وفي بضع أحدكم صدقة)) تعجب الصحابة من أن الإنسان يأتي إلى ما يحتاجه ويتلذذ به ويكون له أجر؟! وهل إذا شرب الإنسان الماء هل يؤجر عليه؟ هل نقول: يمكن ما شربت ماء شربت خمر؟ لا يلزم، قد لا تشرب الماء، لكن لا يمكن تشرب الخمر، لكن هذه الغريزة الدافعة القوية إما صرفتها بالحلال انصرفت في حرام.

"((وفي بضع أحدكم صدقة)) قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟!" يعني هذا لو شرب الماء ليتقوى به على العبادة، أكل الأكل ليتقوى به على الطاعة، نام ليستعد لوظائف اليوم اللاحق، كل هذا يؤجر عليه بالنية الصالحة.

قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: ((أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجراً)) رواه مسلم.

هذا من باب القياس، قياس العكس، عندنا حلال وعندنا حرام، إذا عدل عن الحرام إلى الحلال يعني النبي -عليه الصلاة والسلام- قاس الحلال بالحرام قياساً عكسياً، فإذا جامع زوجته أو أمته التي تحل له كان له أجر، قياساً عكسياً على استعمال الحرام، يعني لو أن إنساناً تعامل بالبيوع معاملات شرعية، يبيع مع الناس على وجه شرعي، وإن لم يبع معهم ويتعامل معهم على الوجه الشرعي اضطر إلى أن يتعامل بمعاملات غير شرعية من ربا وغش وخداع وغرر، فكونه ينشغل بما شرعه الله -جل وعلا- عن الحرام فيستحضر هذه النية الصالحة يؤجر عليها أجراً عظيماً، ومن أهل العلم من يقول: إنه رتب الأجر على مجرد الوطء، ولا حاجة إلى أن تنوي به أنك تنصرف به عن الحرام، لكن إن نويت ذلك فالأجر أعظم.

((أرأيتم لو وضعها)) يعني وضع هذه النطفة أو هذه الشهوة ((في حرام أكان عليه وزر؟)) الجواب؟ نعم عليه وزر، "قال: ((فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)) رواه مسلم".

وهذه المسألة وهي الانشغال بالحلال عن الحرام، منه ما يحتاج إلى نية، ومنه ما لا يحتاج، فالجلوس في المسجد يؤجر عليه باعتباره عبادة، ينتظر الصلاة، يذكر الله في أشرف البقاع، لكن إذا قصد بجلوسه في المسجد الانكفاف عن المجالس وفضول الكلام، يقول: إن جلست في البيت جاءني أحد، إن رحت إلى أحد لا نسلم من القيل والقال، فأنا أجلس في المسجد أحفظ لساني، وكثير من السلف يحفظ صيامه بالمكث في المسجد، إذا صام مكث في المسجد عن القيل والقال؛ لأن الإنسان لا بد أن يتكلم، وأن يبدر منه في كلامه شيئًا، فهم يحفظون، فإذا استحضر هذه النية كان أجره أعظم.

 وإن قال: إن شهوته شديدة وقوية إذا لم يجلس في المسجد تعرض لرؤية النساء وافتتن بهن، استحضر هذه النية أيضاً يؤجر على ذلك، بخلاف ما إذا لم يخطر ذلك له على بال فإنما يؤجر على مجرد بقائه في المسجد، الأجر المقرر له.

الحديث السادس والعشرون: ((كل سلامى من الناس عليه صدقة)).

قال المؤلف -عليه رحمة الله-:

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة)) رواه البخاري ومسلم.

في هذا الحديث يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((كل سلامى))" المراد بذلك المفاصل التي اشتمل عليها البدن من العظام، وقدروها بثلاثمائة وستين مفصلاً –عضواً- يمكن فصله عن غيره، وهذه المفاصل وجودها في البدن من أعظم نعم الله -جل وعلا-. ومن أراد أن يتبين ذلك فلينظر إلى الضرر العظيم فيما إذا تصلب عنده مفصل، لو الأصبع الصغيرة، لا يستطيع الإنسان أن يثنيها، يتأذى به أذى لا يعرفه إلا هو، لو أن الرجل الذي يمدها ويكفها كيفما شاء ومتى أراد تصلبت، لا يستطيع أن يعطفها، تأذى بها أذى عظيماً، هذه نعم من الله -جل وعلا-، لا يقدرها ويعرف قدرها إلا من فقدها، هذه النعم تحتاج إلى شكر، شكر لله -جل وعلا- بأن تستعمل فيما يرضيه، وأن يتصدق عنها شكراً للواهب -جل وعلا-، فعلى الإنسان أن يتصدق يومياً بثلاثمائة وستين صدقة، يعني لو أن الأمر انتهى إلى هذا لصار فيه من المشقة على الناس الشيء العظيم، كثير من الناس لا يستطيع أن يتصدق، فكيف يتصدق بعدد السلامى، بعدد المفاصل، ثلاثمائة وستين صدقة، كل سلامى من الناس عليه صدقة، كيف نتصدق؟ كثير من الناس فقراء.

 "قال: ((كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة))" تحكم بين اثنين بالعدل وتصلح بين اثنين صدقة، قد يقول قائل: متى نجد أناسًا متنازعين، وإذا تنازعوا لا يأتون إلينا لنصلح بينهم، يذهبون إلى المحاكم، فما يتيسر لنا مثل هذا.

((وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها)) رجل زمن مقعد، ترفعه إلى دابته وتضعه عليها، أو تجعل نفسك تكأة له يصعد على دابته بواسطتك، هذه صدقة. قد يقول قائل: أنا عمري كله ما قد صادفت واحدا يقول: ارفعني على سيارتي أو على دابتي، فهناك حلول كثيرة ولله الحمد، شرعنا ولله الحمد ما ضيق علينا، الدين يسر.

((تعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة)) امتطى الدابة وركب السيارة ونسي شيئًا في الأرض، قال: أعطني إياه جزاك الله خيرًا، تعطيه إياه صدقة.

((والكلمة الطيبة صدقة)) كلمة طيبة، هذه كل يملكها، وكل يزاولها، يعني ما هي مثلما تقدم، قد لا تجد من يطلب الإعانة منك، يعني لو وجدت إنسانًا بحاجة إلى إعانة، صاحب سيارة ومعه أسرته في طريق ومنبشرة السيارة، هذه من أعظم الصدقات أن تعينه على إصلاحها. ليس كل الناس لديه القدرة على إصلاح مثل هذا، أو تجد شخصًا على الطريق يشير إليك لتحمله هذه صدقة عظيمة منك عليه، شريطة أن تأمن على نفسك؛ لأنه كثر من يقطع مثل هذه الأمور بسبب سوء تصرفاته، يشير إلى الناس في الطريق ثم إذا ركب مع أحد أجبره على أن يحيد عن الطريق يميناً أو شمالاً، وأخذ ما معه من مال، وقد يقتله، وقد يتعرض له بالأذى، فإذا غلب على ظنك أن هذا الشخص صادق في أنه يريد أن يحمل إلى البلد الفلاني أو المكان الفلاني هذا من أعظم الصدقات.

((الكلمة الطيبة صدقة)) سواءً كانت في تعليم أو في أمر بمعرف ونهي عن منكر، كلها كلام طيب، أو دعاء تدعو له وتسلم عليه، كل هذا كلام طيب, وقال الله -تعالى-: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [(10) سورة فاطر].

((والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة)) تصور كم بين بيتك وبين المسجد؟ كل خطوة ترفع خطوة حسنة، تضع الرجل الأخرى حسنة، فضل الله واسع. وبعض الناس يحرص على أن يكون البيت قريباً من المسجد، نعم هذا يعينه على الصلاة في المسجد، وقد يتثاقل إذا كان بيته بعيدًا عن المسجد، لكن إذا عرف الإنسان أن بكل خطوة حسنة وصدقة فإنه يهون عليه الأمر؛ ولذا لما أراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى جوار المسجد قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((بني سلمة، دياركم تكتب آثاركم)) يعني الزموا دياركم ولو كانت بعيدة. نعم الناس ضعف عندهم إرادة الخير الوارد في مثل هذا النص، فتجده إذا أراد أن يخرج لصلاة الظهر إلى المسجد وبيته خطوات، حسب لها ألف حساب، في الصيف مثلاً الشمس حارة، والكسل عام، فتجده يحسب حساب، يمكن البيت عن المسجد مائة متر، ويتأول لنفسه يقول: هذه مشقة عظيمة، وفي الحقيقة ليست مشقة، إذا تصورت الأجر المرتب على ذلك والإثم الناشئ عن ترك الصلاة في المسجد مع الجماعة، إذا تصورت ذلك هان عليك هذا الأمر، والله المستعان.

((والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة)) جاء في الجمعة: ((من بكر وابتكر، وغسل واغتسل، ومشى ولم يركب، ودنا واستمع من الإمام وأنصت كان له بكل خطوة يخطوها أجر سنة صيامها وقيامها)) لكن كم ممن يسمع مثل هذا الخبر وكأنه خبر جريدة، لا يؤثر فيه شيئاً، لا يبكر، يأتي قرب دخول الإمام، أو بعد دخول الإمام، وتجده من العجلة لا يغتسل ولا يغسل، وتجده يركب ولا يمشي، ويكون بعيداً عن الإمام، وقد لا يوفق للإنصات، وهو يسمع هذا الأجر العظيم، مع أن الحديث فيه كلام لأهل العلم، لكن بعضهم أثبته، أجر سنة صيامها وقيامها، كل خطوة، والخير موجود في أمة محمد إلى قيام الساعة.

نعرف من الشباب من يبعد عن المسجد كيلوات، في أقصى البلد، ويقصد إلى مسجد تصلى فيه على الجنائز، وهذا مقصد حسن، كونه يتجاوز عشرة جوامع إلى هذا الجامع من أجل أن يصلي على الجنائز هذا مقصد شرعي، بكل جنازة قيراط، ويمشي، يتجهز من طلوع الشمس، هو جلس في مسجده الذي صلى فيه الصبح إلى أن ارتفعت الشمس، ثم تجهز لصلاة الجمعة، ومشى ساعة أو ساعتين، كم خطوة في هذا؟ والذهاب والعودة حسابهما سواء، فلا يركب لا في ذهابه ولا في عودته. فهي أجور عظيمة، والموفق من وفقه الله، ويسر عليه هذا الأمر، وإلا فهو شاق. وتجد كثيرًا من الناس بما في ذلك بعض من ينتسب إلى العلم تجده إنما يحضر إلى الجمعة راكباً مع الإمام أو قبيل الإمام، هذا حرمان بلا شك.

((وتميط الأذى عن الطريق صدقة)) إماطة الأذى عن الطريق من شُعب الإيمان، وهي صدقة منك على نفسك، حيث تصدقت عليها، وأيضاً صدقة منك على غيرك الذي قد يتأذى بهذا الأذى، والله المستعان.

الحديث السابع والعشرون: "البر والإثم".

قال المؤلف -عليه رحمة الله-:

عن النواس بن سمعان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس)) رواه مسلم.

وعن وابصة بن معبد -رضي الله عنه- قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((جئت تسأل عن البر والإثم؟)) قلت: نعم، قال: ((استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك)) حديث حسن، رويناه في مسندي الإمام أحمد والدارمي بإسناد حسن.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في الحديث السابع والعشرين:

عن النواس بن سمعان -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((البر حسن الخلق)) وجاء تفسير البر في آية البقرة {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} [(177) سورة البقرة] يعني جاء تفسيره في القرآن غير التفسير المذكور هنا، فالبر يشتمل على أشياء كثيرة، البر اسم جامع لكل خصال الخير بدأ من الإيمان بالله وبقية أركان الإيمان، وجميع شرائع الإسلام كلها بر، لكن النبي -عليه الصلاة والسلام- حصر البر هنا بحسن الخلق. وحسن الخلق أشمل من أن يكون في التعامل مع المخلوق، فتتلقى الشرائع الإلهية والأوامر والنواهي بصدر رحب، لا مع ضيق النفس، لا مع تأفف، لا مع تذمر، فحسن الخلق يشمل جميع المعاملات، معاملة الإنسان مع ربه، معاملة الإنسان مع نفسه، معاملته مع غيره، حسن الخلق، وما وضع في الميزان أثقل من حسن الخلق.

((البر حسن الخلق)) هذا أسلوب حصر، تعريف جزئي الجملة يدل على الحصر، والحصر هنا إضافي للاهتمام بشأن ما حصر فيه المسند إليه، ليس بحصر حقيقي؛ لأن البر يكون بشرائع من شرائع الإسلام غير حسن الخلق، وإن كان حسن الخلق يمكن أن يدخل في جميع شرائع الإسلام، لكن مع ذلك هذا الحصر إضافي وذلك مثل قول الله -تعالى-: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} [(144) سورة آل عمران] هو رسول -عليه الصلاة والسلام-، وهو أيضاً له صفات أخرى بشرية ينتابه فيها ما ينتاب البشر، ومثل قولنا: "وما الشاعر إلا حسان"، هناك شعراء غير حسان، على كل حال يسمونه في مثل هذه الحالة حصر إضافي.

((البر حسن الخلق، والإثم)) ما يقابل البر ((ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس)) لأنه لا بد أن يكون فيه شيء، إذا كرهت أن يطلع عليه الناس، وتخشى أن ينكر عليك لا بد أن يكون فيه شيء.

قد يقول قائل: يكره الإنسان المخلص أن يطلع الناس على أعماله الصالحة، صلى بالليل، وصام بالنهار، وكره أن يطلع الناس عليه، فهذا ليس من هذا الباب؛ لأنه جاء فضل الإخفاء، إخفاء الصلاة، إخفاء العبادة، إخفاء الصدقة, كما في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)) فالإخفاء مطلوب. وهو يكره أن يطلع عليه الناس؛ لئلا يخدش إخلاصه، فإذا كان خوفه من اطلاع الناس على عمله أن يتأثر في إخلاصه، وأن ينتابه شيء من الشرك الخفي، فإن هذا شر، لكن إذا خشي أن يطلع الناس على عمله لئلا ينكروا عليه فهو المراد هنا: ((وكرهت أن يطلع عليه الناس)).

أحياناً يكون العمل صالحًا، والأفضل أن يخفيه عن الناس؛ لأنه أقرب إلى الإخلاص، قد يكون الأفضل له أن يظهره للناس من أجل أن يقتدى به، عمل صالح يقتدى به، فيكون له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة. فصلاة الرجل في بيته أفضل إلا المكتوبة، وقد تكون في المسجد أفضل منها في البيت إذا رأى الناس يتساهلون في النوافل أو يتهمونه بأنه لا يصلي النوافل وهو ممن يقتدى به، إذا أظهر ذلك أحياناً كان أفضل، يكون في حقه أفضل.

قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة)) هذا الحديث حسن مخرج في سنن أبي داود وغيره ((الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة)) هل المراد بالجاهر والمسر الذي يقرأ عند الناس في المسجد، يقرأ بين الناس إما برفع صوت أو بخفض صوت، أو أن يقرأ بين الناس في المسجد أو يقرأ في بيته؟ الجهر والإسرار كما يكون في الصوت يكون أيضاً في الظهور والخفاء، والمطابقة إنما تتم بين الجهر والإسرار بالقرآن، مع الجهر والإسرار بالصدقة أن تكون القراءة على الملأ، أو في الخلوة؛ لأنه لا يتصور أن يتصدق بصوت أو بعدم صوت، إنما يتصدق والناس ينظرون إليه، أو يتصدق فيخفي صدقته عن الناس. ومثل هذا قراءة القرآن، إذا قرأ بين الناس ولو أسر بصوته صار حكمه حكم المعلن بالصدقة، لكن قد يعتري رفع الصوت بالقرآن بين الناس ما يعتريه بخلاف الإسرار بالقراءة ولو كانت بين الناس؛ لأنه إذا قرأ بصوت يستحسنه الناس ويمدحونه به، ويثنون عليه، قد يتأثر بهذا المدح بخلاف ما إذا قرأ سراً، لا سيما إذا كان هناك من يتشوش بقراءته، فلا شك أن الإسرار أفضل.

((وكرهت أن يطلع عليه الناس)) رواه مسلم.

"وعن وابصة بن معبد -رضي الله تعالى عنه- قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" فبادره النبي -عليه الصلاة والسلام- وأخبره عما في نفسه؛ لأن الله -جل وعلا- أطلع نبيه على ما في نفسه، أو يكون بلغه بواسطة شخص تحدث إليه الواسطة، وإلا فما في القلوب لا يعلمه إلا علام الغيوب. النبي -عليه الصلاة والسلام- لا يعلم الغيب، لا يعلم الغيب إلا الله -جل وعلا-.

قال: ((جئت تسأل عن البر؟)) قلت: نعم، قال: ((استفت قلبك)) القلب السليم يدرك البر والإثم، القلب السليم لا القلوب المدخولة المنحرفة والفطر المتغيرة لا، هذا لا تدرك بذاتها.

((استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب)) إذا كنت ترتاح لهذا العمل وأنت قلبك سليم، وفطرتك مستقيمة ما اجتالتك الشياطين فالبر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب.

 ((والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر)) يعني سألت عن حكم مسألة وارتحت واطمأن قلبك إلى جواب من أفتاك هذا البر، لكن إذا كنت سألت هذا العالم وأفتاك بكلام لم ترتح له، لا سيما إذا كان يوافق هواك، ارتكبت شيئاً في حج أو عمرة ثم سألت من تثق بعلمه، وقال: ما عليك شيء، وأنت ما زال في قلبك شيء، احتمال أن يكون عليك دم، فأنت إذا ترددت في هذا اسأل غيره، اسأل غير هذا العالم لتطمئن، فإذا أفتاك الثاني بمثله انتهت المشكلة. وأما إذا أفتاك بما يخالف هواك, فقال هذا الأول: "عليك دم"، تقول: "والله ما أنا مرتاح لهذا الجواب"، لماذا لست مرتاحا؟ أنت غير مرتاح لأنه لا يوافق هواك، لا لأن صدرك مرتاح وقلبك مطمئن، فمثل هذا -الذي يغلب على الظن- معناه أنك تبحث عن رخص.

((والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك)) يعني مهما أفتوك وأنت في تردد من هذا. فلو قدر أن شخصاً على مذهب لا يرى أكل مثل هذا الحيوان، ثم ذهب يستفتي من يرى حل هذا الحيوان، يرتاح لهذه الفتوى أو لا يرتاح؟ حنبلي سأل شافعيا مثلاً أو مالكيا عن الثعلب يؤكل وأو لا يؤكل. فقال: "يؤكل". هذا السائل سيرتاح لهذه الفتوى لهوى في نفسه، هو محتاج للأكل، قد يكون محتاجًا للأكل فيوافق هواه، حينئذٍ مفترض أن لا يرتاح، وإن أفتاه من أفتاه، لو أفتاه الإمام الشافعي برأسه، والإمام مالك نجم السنن، فإنه حينئذٍ لا يرتاح؛ لأنه شب على كراهية مثل هذا اللحم أو تحريم هذا اللحم.

"حديث حسن، رويناه"، وعلى اصطلاح ابن الصلاح يقول: "رويّناه في مسندي الإمامين أحمد بن حنبل والدارمي بإسناد حسن.

والحديث فيه انقطاع، ولكن له شواهد، شواهد منها حديث النواس بن سمعان الذي قبله.

"رويّناه في مسندي الإمامين أحمد"، المسند يطلق ويراد به الكتاب الذي تروى فيه الأحاديث بالأسانيد، فالبخاري الجامع الصحيح المسند؛ لأنه تروى فيه الأحاديث بالأسانيد. والاصطلاح عند أهل العلم الذي استقر عليه أن المسند ما رتبت فيه الأحاديث على مسانيد الصحابة، كمسند أحمد. الدارمي له أيضاً مسند مرتب على المسانيد أشار إليه الخطيب البغدادي في ترجمته من تاريخ بغداد. وأما المشهور المستفيض بين يدي الناس هو الذي يخرج منه، فهو سنن، على الأبواب، وليس بمسند، اللهم إلا على الاصطلاح الأول القديم، الذي يسمى فيه البخاري مسندا، تروى فيه الأحاديث بالأسانيد:

ودونها في رتبة ما جعلا
كمسند الطيالسي وأحمدا
            

 

على المسانيد فيدعى الجفلا
وعده للدارمي انتقدا

 

ابن الصلاح عد الدارمي في المسانيد، مع أنه مرتب على الأبواب, فانتقد ابن الصلاح في هذا، اللهم إلا إذا كان يريد المسند الذي أشار إليه الخطيب، وهنا ذكر الدارمي باسم المسند، وقال: في مسندي الإمامين أحمد بن حنبل والدارمي بإسناد حسن.

الحديث الثامن والعشرون: "وجوب لزوم السنة". 

قال المؤلف -عليه رحمة الله-:

عن أبي نجيح العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون. فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: ((أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمّر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين, عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة)) رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

في الحديث الثامن والعشرين يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

"عن أبي نجيح العرباض بن سارية -رضي الله تعالى عنه- قال: وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" وعظنا ذكَّرَنا بالقرآن، وبشيء من كلامه الموحى إليه من سنته -عليه الصلاة والسلام- الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وعظهم النبي -عليه الصلاة والسلام- وذكرهم وخوفهم وأنذرهم وبشرهم، وأمرهم ونهاهم، وعظهم موعظة، يعني عظيمة مؤثرة، وجلت منها القلوب، خافت منها القلوب، لا سيما وأنها صادرة ممن لا ينطق عن الهوى، من أنصح الناس للناس، وأشفقهم عليهم، لا شك أن الموعظة إذا خرجت من قلب سليم ناصح أنها تؤثر.

"موعظة وجلت منها القلوب" خافت خوفاً شديداً, "وذرفت منها العيون" فاضت منها الدموع نتيجةً لهذا الخوف وهذا الوجل "فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع" يعني الرسول -عليه الصلاة والسلام- إذا خطبهم في الجمعة كأنه منذر جيش، اعتلى صوته، ويحمر وجهه -عليه الصلاة والسلام- كأنه منذر جيش يقول: "صبحكم ومساكم"، ليؤثر في خطبته -عليه الصلاة والسلام-. وهنا وعظهم موعظة، وذكرهم وخوفهم بهذه الموعظة المؤثرة التي ترتبت عليها آثارها، ونحن نسمع المواعظ، نسمع القرآن الذي جاء الأمر بالتذكير به، كما في قوله -تعالى-: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ} [(45) سورة ق], نسمع القرآن بأعذب الأصوات ومع ذلك لا نتأثر لقساوة في القلوب، وجفاف في الدموع والأعين، والسبب في ذلك الران الذي غطى على القلوب من المكاسب والمطاعم وغيرها.

"كأنها موعظة مودع" كأنهم رأوا أن النبي -عليه الصلاة والسلام- جاء بكل ما عنده، كأنه لا يريد أن يلقاهم بعد هذه الموعظة.

"كأنها موعظة مودع فأوصنا" يعني تصوروا أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أدى كل ما عليه "فأوصنا، قال: ((أوصيكم بتقوى الله -عز وجل-))" هذه وصية الله -جل وعلا- للأولين والآخرين. وسبق أنه أوصى من طلب منه الوصية بألا يغضب، فكل إنسان يوصى بما يليق به، إذا ظهر على الإنسان شيء من المخالفات يوصيه بترك هذه المخالفات، فقال له: أوصني، أوصاه بما يظهر عليه من المخالفات، إذا رأى منه فتورًا في الطاعات أوصاه بالمبادرة، إذا رأى عليه فتوراً في طلب العلم أوصاه بالاهتمام بالعلم، وغير ذلك كل يوصى بما يناسبه، لكن إذا كان طالب الوصية مجموعة، كل واحد منهم قد يحتاج إلى ما لا يحتاجه غيره، الجامع ذلك تقوى الله، التي هي وصية الله للأولين والآخرين.

((أوصيكم بتقوى الله -عز وجل-)) نظير ما يحصل منه -عليه الصلاة والسلام- من توجيه إما لأفراد، وإما لجماعات، حينما يخطب الجميع يحمر وجهه، ويعلو صوته، لكن إذا خاطب شخصاً واحداً يريد أن يوجهه وينكر عليه فهنا يختلف الأمر؛ لأن توجيه الخطاب إلى المجموع يختلف أثره عن توجيه الخطاب إلى الواحد. والعادة أن النبي -عليه الصلاة والسلام- ينكر برفق، فالأعرابي الذي بال في المسجد قال لما أراد الصحابة أن يوقعوا به، وشدوا عليه الكلام: ((دعوه، لا تزرموه)) يعني اتركوه. الرفق ما دخل في شيء إلا زانه. لكن حينما يخطب النبي -عليه الصلاة والسلام- بهذه القوة وبهذه الشدة فكل واحد من الحاضرين يقول: "لست أنا المقصود"، فيخف الأمر، لكن لو واجه شخصًا بعينه بقوة فهذا خلاف الهدي النبوي. ولا يمنع أن يخطب الإنسان ويذكر بعض المنكرات الشائعة، ويشدد في إنكارها، ويرفع صوته في إنكارها؛ لأنه لا يخاطب شخصًا بعينه، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((ما بال أقوام)) ويشدد. لكن لو واجه الشخص الذي فعل تجده يلطف به ويترفق به؛ لأن هذا أجدى وأدعى للقبول، ففرق بين هذا وهذا. وبعض الناس يقول: كيف النبي -عليه الصلاة والسلام- إذا خطب اشتد غضبه، وارتفع صوته، واحمر وجهه، وفي حال أخرى يقول: ((دعوه، لا تزرموه))، يعني هذا اضطراب؟ نقول: لا، خطاب المجموع يختلف عن خطاب الأفراد، المجموع أنت لا تخاطب شخصًا بعينه، كل واحد من الحاضرين يقول: لعله لا يقصدني، فيخف الأمر، بينما إذا واجه شخصاً بعينه، نعم قد يغضب لغضب الله -عليه الصلاة والسلام- لكنه لا ينتقم لنفسه. والإنسان إذا أسدي له نصيحة برفق ولين، ثم بعد ذلك مرة ثانية ثم ثالثة لا مانع أن ينكر عليه بقوة، وأن يؤطر على الحق فيما بعد ذلك؛ لأنه في الحقيقة إنسان لا يستحق مثل هذا اللين.

((والسمع والطاعة)) يعني لولي الأمر، ((وإن تأمر عليكم عبد)) وجاء في بعض الروايات: ((عبد حبشي رأسه كأنه زبيبة)). قد يقول قائل: تأمر، كيف يتأمر والأئمة من قريش؟ فهذا محمول على من دون الإمام الأعظم، أو الإمام الأعظم إذا تولى بالقوة والقهر والغلبة واستتب له الأمر فإنه لا يجوز الخروج عنه، وأما في حال الاختيار فالأئمة من قريش.

((وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم)) ممن تطول به الحياة ((فسيرى اختلافاً كثيراً)) وفي عهد عثمان -رضي الله عنه- وجد هذا الخلاف، لما كسر الباب بقتل عمر -رضي الله تعالى عنه- وجد الاختلاف، وتغير الناس، تغيرت القلوب، وحوصر الخليفة في داره، وقتل في قعر داره، وهو يقرأ القرآن صائماً، وذلك حصل بين المهاجرين والأنصار، وأي فتنة أعظم من هذه؟ والعهد ما بالعهد من قدم، العهد قريب، والله المستعان.

فإنه من دلائل نبوته -عليه الصلاة والسلام-، ومن أعلام النبوة أنه أخبر بما سيحدث.

((فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)) والحل؟ ((عليكم بسنتي)) وقال -عليه الصلاة والسلام- في حديث آخر: ((إنها ستكون فتن)) قلنا: يا رسول الله وما المخرج؟ قال: ((كتاب الله)). فالاعتصام بالكتاب وبالسنة كما في هذا الحديث هو الكفيل بإذن الله -جل وعلا- بالخروج خروج الإنسان المسلم سالماً من آثار هذه الفتن.

((فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)) الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي. فسنتهم سنة بإقرار النبي -عليه الصلاة والسلام-، إذا لم تعارض أقوالهم أو أقوال بعضهم ما جاء عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، وإلا فالعبرة بسنته -عليه الصلاة والسلام-، ثم إذا لم يوجد في الباب من سنته ما يستدل به يعمل بعمل الخلفاء الراشدين، ولذلك تقبلت الأمة الأذان الأول ليوم الجمعة ولا يوجد له أصل يدل عليه في هذا الوقت إلا فعل عثمان -رضي الله عنه-، وإن كان تكرار الأذان بالنسبة لصلاة الصبح مشروعا فكان يؤذن بلال ويؤذن ابن أم مكتوم لصلاة الصبح. فلا مانع من أن يكون لها أذانان، ولها أصل من سنته -عليه الصلاة والسلام-، أما بالنسبة للأذان الأول يوم الجمعة فهذا لا أصل له إلا من فعل عثمان، ويندرج بقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ)) يعني تمسكوا بها تمسكاً قوياً شديداً، لا يتزلزل ولا يتزحزح، بحيث لو كانت هذه السنة أمراً محسوساً فأطبقوا عليه بنواجذكم أقصى الأضراس.

((وإياكم) تحذير ((ومحدثات الأمور))، احذروا محدثات الأمور، يعني أمور الدين، ما يستحدث ويبتدع في الدين احذروه، ((فإن كل بدعة ضلالة)) كل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة، وجاء عند النسائي: ((وكل ضلالة في النار)). كل بدعة ضلالة، هذا التعميم من النبي -عليه الصلاة والسلام-، ومن أهل العلم – مع وجود هذا النص الكلي العام الذي يشمل جميع المحدثات في الدين وأنها ضلالة وأن الضلالة في النار- يقول بعضهم: "إن هناك بدع حسنة، وبدع سيئة"، ومنهم من يقول: "هناك بدع واجبة، وبدع مستحبة، وبدع..." إلى آخره، هذا التقسيم للبدع مخترع مبتدع، يعني قال به بعض أهل العلم كالعز بن عبد السلام, والنووي, وابن حجر، وجمع من أهل العلم، فقسّموا البدعة إلى الأحكام التكليفية الخمسة، لكن العبرة بالتعميم في قوله: ((كل بدعة ضلالة)) كيف يقول: ((كل بدعة ضلالة)) وأنت تقول: بدعة واجبة؟ فإما أن يكون العمل بدعة فيكون ضلالة، أو يكون واجباً فلا يكون بدعة، يعني هذا تناقض.

الشاطبي في الاعتصام رد هذا التقسيم وأبطله، وقوض دعائمه، وقال: "هذا تناقض ومعارضة لما قاله النبي -عليه الصلاة والسلام- فهو مردود على قائله".

قد يستدلون بـقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((من سن سنة حسنة)), وقول عمر -رضي الله عنه-: "نعمت البدعة هذه" فأثنى عليها وسماها بدعة. من سن في الإسلام سنة حسنة معناها أنه بادر إلى العمل بها ولها أصل، كالصدقة مثلاً، سنّ في الإسلام سنة حسنة، لو قدر أنه في بلد من البلدان لا يوجد مدارس تعلم العلم الشرعي، أو تحفظ القرآن الكريم، ثم بادر إنسان فأنشأ مدرسة، نقول: "هذا سنَّ في الإسلام سنة حسنة"؛ لأنه أحيا هذه السنة، وبادر إلى العمل بها، وهي في الأصل سنة مشروعة بدليل شرعي. وأما قول عمر: "نعمت البدعة هذه" يعني صلاة التراويح حينما جمعهم على إمام واحد، فهي في الحقيقة ليست بدعة لا لغوية كما يقول شيخ الإسلام، ولا شرعية كما يقول بعضهم: والبدعة بدعة ولو كانت من عمر. لا، هي ليست ببدعة، لكن عمر سماها بدعة من باب المشاكلة والمجانسة في التعبير، يعني كأن قائل قال: ابتدعت يا عمر؟ فقال: نعمت البدعة، يعني إذا كانت هذه بدعة فنعمت البدعة، وإلا فليست ببدعة؛ لأنها عملت على مثال سابق، صلاها النبي -عليه الصلاة والسلام- لأصحابه ليلتين أو ثلاث ثم تركها، لا نسخاً لها ولا عدولاً عنها، وإنما خشية أن تفرض.

((فإن كل بدعة ضلالة)) وتتمة الحديث عند النسائي: ((وكل ضلالة في النار)) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

الحديث التاسع والعشرون: " ما يدخل الجنة". 

قال المؤلف -عليه رحمة الله-:

عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، قال: ((لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت)) ثم قال: ((ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [(16) سورة السجدة]... حتى بلغ: {يَعْمَلُونَ} [(17) سورة السجدة]))، ثم قال: ((ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟)) قلت: بلى يا رسول الله، قال: ((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد)), ثم قال: ((ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟)) فقلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه وقال: ((كف عليك هذا)) قلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ((ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم)) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

"عن معاذ بن جبل -رضي الله تعالى عنه- قال: قلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار".

هذه أسئلة الصحابة -رضوان الله عليهم- لحرصهم على الخير؛ ولأن الدين رأس المال عندهم، وما عداه يأتي تبعاً. تجد أسئلتهم حول الدين، وما ينفعهم في آخرتهم، وتجد أسئلة كثير من الناس اليوم عن التجارة الرابحة في الدنيا، في العمل المربح، في المشاريع المجدية. لا مانع من ذلك، لكنه ليس هو الهدف، وليس هو القصد الأول والآخر كما هو شغل كثير من الناس, قال الله -تعالى-: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [(77) سورة القصص] لكن يبقى أن الأصل أن الإنسان خُلق لتحقيق العبودية.

"أخبرني بعمل يدخلني الجنة" هذا هدف، العمل مما يتحقق به الهدف وهو العبودية لله -جل وعلا-.

"أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار" أدخل الجنة، زحزح عن النار هذا الفائز الحقيقي، هذا هو الفائز الحقيقي.

" قال: ((لقد سألت عن عظيم))" لأن النتيجة عظيمة، فوز في الدنيا والآخرة، فهو عظيم، ((وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه))، يعني تجد الإنسان يعمر مائة سنة، ويتردد على المساجد، ويصوم الفرض وما تيسر له من نفل، ومائة سنة على هذه الطريقة، لا يمل ولا يكل، ويتصدق، ويضرب بأبواب الخير من كل باب بسهم وافر، الملل جبلي بالنسبة للمخلوقين، لكن هذا الأمر يسره الله عليه، يجد الإنسان من نفسه في بعض الأحيان فتورًا، لكن بعض الناس أمره سهل، مجرد ما يسمع الأذان يلقي ما في يده ويقوم، وفي أول عمره وآخره وأثنائه سواء، ما يتردد إذا سمع الداعي: "حي على الصلاة، حي على الفلاح".

ذكر عن بعض السلف أنه مكث أربعين سنة ما أذن إلا وهو في المسجد، وتوفي شخص قبل شهرين ذكر ولده الكبير أنه منذ أربعة وأربعين عاماً يقوم الليل في الحادية عشرة والنصف، صيفاً وشتاءً، ما أخل بذلك ولا ليلة، هذا يسر الله عليه هذا الأمر.

القرآن بعض الناس يمر به اليوم واليومين والثلاثة ما فتح المصحف، وبعض الناس يسر الله عليه, كما قال -تعالى-: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [(17) سورة القمر] يعني ما يؤتى على فرغة، وعلى شيء من الغفلة, لا, بل مع تذكر ومع اهتمام وهمة. فإذا اختط الإنسان لنفسه برنامجا لعبادته فإنه يسير عليه بكل هدوء وكل راحة، ويثبت عليه، يثبته الله -جل وعلا- عليه. أما أن يترك المجال، إن جاء إلى المسجد قبل الإقامة فتح المصحف وإلا فلا، هذا لا يقرأ المصحف، ولا ييسر عليه القرآن في الغالب، وتجده يفرح أن يجد من يحدثه بعد أداء السنة، أسهل عليه من أن يقرأ القرآن، لكن إذا كان له نصيب محدد من القرآن، وليكن جزء واحد أو جزأين أو ثلاثة أو أربعة، ومن السهل أن يقرأ القرآن في سبع، إذا حدد هذا النصيب لا بد أن يقرأه على أي حال، ولا يجد مع ذلك أي كلفة أو أي مشقة، ولا يعوقه عن ذلك عن أي مصلحة لا دينية ولا دنيوية ((وإنه ليسير لمن يسره الله عليه)).

((تعبد الله لا تشرك به شيئاً)) هذا الشرك -نسأل الله العافية- أعظم ذنب يعصى به الله -جل وعلا-، ولا يصح معه أي عمل، فلا بد من تحقيق التوحيد ونفي الشرك.

((وتقيم الصلاة)) التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام ((وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت)) الأركان الخمسة لا بد منها، فالركن الأول الذي لا يحققه ليس بمسلم اتفاقاً، والركن الثاني القول المرجح عند أهل التحقيق وهو المنقول عن الصحابة أن من لا يصلي كافر كفرًا أكبر مخرج عن الملة، والثالث والرابع والخامس يعني الثلاثة من الأركان العملية القول بكفر تارك واحد منها قول معروف عند المالكية، ورواية عند الحنابلة، والجمهور على أنه لا يكفر، لكنه على خطر عظيم.

"ثم قال: ((ألا أدلك على أبواب الخير؟))" أبواب الخير كثيرة جداً ((الصوم جنة)) جنة: درع واقٍ يقيك بإذن الله إذا حققته، مما يضرك في دينك ودنياك.

((والصدقة تطفئ الخطيئة)) الصدقة الواجبة والمستحبة تطفئ الخطيئة؛ لأن الخطايا لها حرارة في القلب؛ ولذا في دعاء الاستفتاح: ((اللهم اغسلني بالماء والثلج والبرد)) بما يبرد هذه الذنوب وهذه الخطايا.

((والصدقة تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل)) يعني يطفئ الخطيئة. ((وصلاة الرجل في جوف الليل)) معطوف على الصدقة ثم تلا -عليه الصلاة والسلام-: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [(16) سورة السجدة]. وجاء الحث على قيام الليل، وهو دأب الصالحين من قبلنا، وقام النبي -عليه الصلاة والسلام- حتى تفطرت قدماه، وقال -عليه الصلاة والسلام- لابن عمر: ((نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل)) فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً، بادر بالامتثال. وفي آية الزمر ما يدل على أنه –أعني قيام الليل- من سمات أهل العلم: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [(9) سورة الزمر] بعد ماذا؟ {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ} [(9) سورة الزمر] هذه سمة أهل العلم، مما يدل على أن الذي لا يقوم الليل، وإن كان عنده شيء من العلم فإنه لا يستحق ذلك، لا يستحق هذا الوصف.

"ثم قال: ((ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟))" ألا، تنبيه ((ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟)) قلت: بلى يا رسول الله، قال: ((رأس الأمر الإسلام)) يعني تستسلم لله -جل وعلا- في جميع أمورك، وتسلم قيادك لله، لأوامره ونواهيه، هذا رأس الأمر، ((وعموده الصلاة)) أعظم أركانه العملية، ((وذروة سنامه الجهاد)) لأنه هو الذي يرتفع به شأن الأمة، وإذا تركت الجهاد ورضيت بالدنيا، ضرب عليها الذل الذي لا يرفع إلا بمعاودة هذا الأمر.

"ثم قال: ((ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟)) قلت: بلى يا رسول الله" الذي يجمع هذه الأمور كلها "قلت: بلى يا رسول الله" فأخذ بلسانه، بلسان نفسه؛ لئلا ينسى معاذ؛ لأنه لو أخبره مجرد خبر قد ينساه، لكن إذا تصور أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أمسك بلسان نفسه فإنه لن ينسى هذا الموقف، فأخذ بلسانه "وقال: ((كف عليك هذا)) قلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟" يعني كثير من الناس لا يفتر عن القيل والقال، كأنه لا يدري أنه يحاسب على هذا الكلام، ولذا استبعد "وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ((ثكلتك أمك يا معاذ))" يعني فقدتك، وهذا الدعاء يجري على اللسان من غير قصد، وهذا كثير في كلام العرب.

((ثكلتك أمك، وهل يكب الناس)) يلقيهم ((في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم))، يعني شك، هل قال النبي -عليه الصلاة والسلام- على وجوههم، أو قال: على مناخرهم؟ والمناخر جزء من الوجه ((إلا حصائد ألسنتهم)) يعني ما يحصدونه من جراء ما يتكلمون به.

"رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح".

الحديث الثلاثون: "حقوق الله تعالى". 

قال المؤلف -عليه رحمة الله-:

عن أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها)) حديث حسن رواه الدارقطني وغيره.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في الحديث الثلاثين:

"عن أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر-رضي الله تعالى عنه- " العرب كانوا لا يهتمون ولا يحتاطون في الأسماء، ولا يكترثون لها، هذا اسمه جرثوم بن ناشر -رضي الله تعالى عنه-، يقولون: الآن هذه الأسماء بعضهم يلحظ ملحظًا أن العدو إذا سمع مثل هذا الاسم الخشن يخاف. وما زال الأعراب على هذا، يسمون أسماء قريبة من هذا، بل عندهم ما هو شر من هذا، أو أشد منه.

"عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الله تعالى فرض فرائض))" فرض فرائض، أوجب واجبات ((فلا تضيعوها)) التزموا بها، واعملوها، وحافظوا عليها، ولا تفرطوا فيها ((وحد حدوداً)) حرم محرمات ((فلا تعتدوها)) وأيضاً وضع أشياء محددة عقوبات على بعض المحرمات فلا تجوز الزيادة عليها، ((وحرم أشياء)) منعكم من أشياء، ورتب عليها الإثم، وقد يرتب عليها الحد فلا تنتهكوها. وقال -عليه الصلاو والسلام- في الحديث الآخر: ((الحلال بيّن، والحرام بيّن))، الواجب لا بد من العمل به، ويأثم تاركه، والمحرم لا بد من تركه، ويأثم فاعله. ((وسكت عن أشياء))، ما عدا ذلك، ما نص على وجوبه، وما نص على تحريمه، وما جاء الشرع بطلبه، وما جاء الشرع بالكف عنه، كل هذا معروف ومقرر بالأدلة، وما عدا ذلك تركها وسكت عنها رحمة لكم، رحمة بعباده، فيبقى ما عداها على الأصل وهو الإباحة.

 ((فلا تسألوا عنها)) فلا تبحثوا عنها، تنقروا عنها، تأتي في شيء لا نص فيه تسأل عنه، لا سيما في وقت التنزيل الذي قد ينزل نص بمنعه، وأشد الناس جرماً في المسلمين من سأل عن شيء فحرم من أجله.

((وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها)) لكن ما حرمه الله لا بد أن يجتنب، وما أمر به لا بد أن يفعل, فقد قال -عليه الصلاة والسلام-: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه)) وقد تقدم، وما سكت عنه -جل وعلا- فلا تبحثوا عنه؛ لأنه لا يسكت عنه نسيانًا؛ لأن المخلوق قد يذكر أشياء، ثم ينسى أشياء فيتأكد منها، هل هي مطلوبة أو غير مطلوبة؟ لكن الله -جل وعلا- ما سكت عنه فإنه إنما سكت عنه رحمة بعباده وخلقه، فليس نسياناً لها، فمثل هذه لا يبحث عنها، وإن كان تركها احتياطاً هو صنيع كثير من السلف، ترك كثير من الأمور التي ليس فيها نص، بل كثير من المباحات التي جاء النص بإباحتها احتياطاً وسياجاً؛ لئلا يرتكب ما منع الإنسان منه، والله أعلم.

 

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.