التعليق على الموافقات (1428) - 05

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد:

قال المؤلف –رحمه الله- في تتمة المسألة السابعة: "فصل ويترتب على هذا أصلٌ آخر: وهو أن المشقة ليس للمكلف أن يقصدها في التكليف نظرًا إلى عظم أجرها، وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل.

أما هذا الثاني؛ فلأنه شأن التكليف في العمل كله؛ لأنه إنما يقصد نفس العمل المترتب عليه الأجر، وذلك هو قصد الشارع بوضع التكليف به، وما جاء على موافقة قصد الشارع هو المطلوب".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تقدم أن المؤلف –رحمه الله تعالى- ذكر مرارًا أن الشريعة مبنية على اليُسر والسهولة، ورفع الآصار والأغلال، وأن المشقة ليست مقصودة لذاتها إلا أنها قد تثبت تبعًا لبعض العبادات وما تتطلبه من مشقة، وهذه المشقة بالمقدور عليها مما يُقدر عليه ولا تخرج عن طوق المكلف، ولا عن قدرته.

إذًا مرَّ بنا مرارًا، ولكن قوله: "أن المشقة ليس للمكلف أن يقصدها في التكليف نظرًا إلى عظم أجرها" لا شك أن الإنسان إذا تيسرت له العبادة على الوجه الأتم الأكمل مع عدم المشقة فهذا هو الأصل، لكن إذا أراد إتمام العبادة والإتيان بها على الوجه المطلوب، ثم تبع ذلك من مشقة ما تبعه فإن الأجر على قدر النَّصب كما قال النبي –عليه الصلاة والسلام-: «أجركِ على قدر نصبكِ»، لكن المشقة لذاتها ليست مطلوبة شرعًا، لكن إذا تطلبتها العبادة أُجِر عليها الإنسان فليست من مقاصد الشرع المشقة، بل مقصد الشرع اليسر والسهولة، إن الدين يُسر {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الْحَجِّ:78]، لكنه أيضًا لا ننسى أنه دين تكاليف، وأنه على خلاف ما تهواه النفوس، وأن الجنة حُفت بالمكاره، وهذا لا يُنافي هذا؛ لأنه سبق أن ذكر أن ضابط المشقة التي تخرج العادة، أما ما اعتاده الإنسان في حياته اليومية، ولو كان مما يُشق عليه فإن هذا لا يُسمى مشقة.

وضرب لذلك مثلاً بأرباب التجارات، والصناعات، والزراعات في أعمالهم الأمور الشاقة، لكنهم يتلذذون بها، وليست بشاقة؛ لأنها جرت بها العادة، حتى إنه يُعد من لا يُزاول هذه المشقة إخلادًا إلى الراحة أنه كسلان، هذا يُذم بمثل هذا، وكذلك الذي يترك العبادات؛ نظرًا لِما يترتب عليها من مشقة، لكن لا شك أن هذا مُفرِّط يترك الحج؛ لأنه يترتب عليه المشقة، نقول: هذا إن كان ترك الفريضة فهو على خطرٍ عظيم، وإن كان ترك النافلة فلا شك أنه محروم، وقُل مثل هذا في صيام الهواجر، وقيام ليالي الشتاء الطويلة، ويحصل في هذا شيءٌ من الخفاء على كثير من طلاب العلم، كيف يُقال: الدِّين يُسر، ومع ذلك يُكلَّف بالحج مع الاستطاعة ولو ناله من المشقة ما ناله {لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ} [النحل:7]، فكيف تُنفى المشقة، وتُثبت المشقة؟ نقول: إن المشقة المنفية أن تكون مقصودةً لذاتها، وإذا جاءت تبعًا لعبادة فلا شك أنه يؤجر عليها؛ لأن الوسائل لها أحكام الغايات.

يقول: "وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل" يعني: يُفضِّل الصيام في أيام الصيف على الصيام في أيام الشتاء، لماذا؟ لأنه أعظم مشقة، هل فضَّله؛ لأنه أعظم مشقة أو لأن أجره أعظم؟

طالب: أجره أعظم.

نعم الذي يعظم أجره، فهو تفضيله لصيام الصيف على صيام الشتاء لا لأنه أشق على النفس؛ وإنما لأنه أعظم أجرًا، وقُل مثل هذا في قيام ليالي الشتاء بالنسبة لقيام ليالي الصيف الذي يُتلذذ بالقيام بها.

وعلى كل حال العبادات كلها شاقة على النفوس المبتدئة بالعبادات التي ما وصلت إلى حد التلذذ بها، الرسول –عليه الصلاة والسلام- قام، حتى تفطرت قدماه، هل نقول: إن هذا القيام يشق على الرسول –عليه الصلاة والسلام- وهو يرتاح به؟ هذا لا يشق عليه أبدًا، بل يتلذذ به وإن تعب جسده، فالمعوَّل على القلوب الراحة راحة القلب، لا راحة البدن، فتجد الإنسان يحمل لمن يُحبه الأمور الثقيلة جدًّا، الزوج في أيامه الأولى من أيام الزواج تجده يحمل متاع المرأة وإن كان ثقيلاً ويتلذذ به، لكن لو قيل له: احمل هذا الشيء اليسير تذمر به، لماذا؟ لأنه يتلذذ بهذا الحمل.

نضرب مثالًا: أهل الكتب مثلاً طلاب العلم تجد طالب العلم يحمل الكرتون مائة كيلو، وهو مرتاح يتلذذ بهذا الحمل، بينما لو قيل له: احمل العشرة الكيلو هذه من متاع الدنيا كيس بصل، قال: والله شاق هذا، فالذي يرتاح ويتلذذ هو القلب، النبي –عليه الصلاة والسلام- قام حتى تفطرت قدماه، وهو يقول: «أرحنا بالصلاة» بينما تجد الذي لا يتلذذ بهذه العبادة لو زِيد عليه آية واحدة لتذمر بها وضاق بها ذرعًا، وبحث عن مسجد آخر يُخفف، تجدون المساجد التي عُرِفت بالتخفيف يقصدها الفئام من الناس تمتلئ في رمضان، والذي يُطيل القراءة ولو كانت إطالته يسيرة ومقبولة ومحتملة تجد الناس لا يؤمونها ولا يقصدونها، والله المستعان.

ومثال رددناه مرارًا وكررناه، لكن يمكن أن يكون بعض الإخوان ما سمعه، قلنا: إن شيخًا جاوز المائة يُصلي خلف إمام قراءته متوسطة -يعني ما يُتلذذ بقراءته- صلاة التهجد، ويقرأ هذا الإمام في كل تسليمة جزءًا من القرآن، يقرأ جزءًا من القرآن، وأنا أعرف الإمام وهذا الشيخ الكبير وأدركتهم، المقصود أنه في التسليمة الأخيرة خفف؛ لأنه سمع مؤذنًا يؤذِّن الأذان الأول، والعادة جرت أنه لا يُؤذِّن الأذان الأول إلا إذا انتهوا من الصلاة، فأحس هذا الإمام أن الناس فرغوا من صلاتهم، ولا يُحب أن يشق على المؤمنين يُطيل عليهم، ويُضيِّق عليهم وقت السحور فخفف، فلمَّا سلَّم لامه هذا الشيخ الكبير الذي جاز المائة، وقال له: حرمتنا من أجرٍ عظيم لمَّا جاء وقت اللزوم؛ لأن آخر العبادة هي التي يُحرص عليها أكثر من أولها، معلوم؛ لأن الأمر إذا قارب الفوات يُحرص على بقيته، فلمَّا جاء وقت اللزوم حرمتنا من التلذذ بهذه العبادة، ولذة المناجاة في السجود لا يعرفها إلا من وفقه الله لها.

ونكرر ما ذكرناه، وإن كنا -الله يرحم الحال- ما وجدنا لهذا رائحة، ولا شممنا له رائحة، والنزاع مع النفس في صلاة ركعةٍ يوتر بها الإنسان بعد سهرٍ طويل يومًا يُوفَّق، ويومًا لا يُوفَّق -والله المستعان-.

"وأما الأول؛ فإن الأعمال بالنيات، والمقاصد معتبرةٌ في التصرفات كما يُذكر في موضعه -إن شاء الله- فلا يصلح منها إلا ما وافق قصد الشارع، فإذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة، فقد خالف قصد الشارع من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة، وكل قصدٍ يُخالف قصد الشارع باطل، فالقصد إلى المشقة باطل".

لو أن إنسانًا ذهب إلى مكة مع الناس للحج، ووصل إلى الميقات، ثم رجع فهل يؤجر على هذا السفر، وهو مبيت النية أنه يُشارك الحجاج في مسيرهم إلى مكة، وما هو حج؟ الحجاج يؤجرون على هذ السفر، لكن هذا لا يؤجر؛ لأنه جعله غاية، والأصل أنه وسيلة إلى غاية.

 فهو إذًا من قبيل ما يُنهى عنه، وما يُنهى عنه لا ثواب فيه، بل فيه الإثم إن ارتفع النهي عنه إلى درجة التحريم، فطلبُ الأجر بقصد الدخول في المشقة قصدٌ مناقض، فإن قيل: هذا مخالفٌ لما في (الصحيح) من حديث جابر، قال: خَلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلَمة".

سلِمة.

"فأراد بنو سلِمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لهم: «إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ» قَالُوا: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أَرَدْنَا ذَلِكَ. فَقَالَ: «بَنِي سَلِمَةَ! دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ، دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ!»".

يعني: الزموا دياركم، ولا تنتقلوا إلى قرب المسجد، ولا شك أن هذه الخطوات التي تكثر للبعد عن المسجد إنما هي ثبتت تبعًا للغاية التي هي الصلاة، ثبتت تبعًا للغاية، وإلا فبمجردها ليس فيها أجر؛ ولذا إذا أراد الإنسان أن يتخذ مسجدًا أو سكنًا إذا أراد الإنسان أن يتخذ سكنًا، وهناك قطعة أرض قريبة من المسجد وأخرى بعيدة عن المسجد، ويستشير يقول: هل أشتري القطعة القريبة أو البعيدة؟ هؤلاء من الأصل بعيدون عن المسجد، فنُظر إلى مسألة الخُطى، والأرض القريبة من المسجد من مزاياها التشجيع على إدراك الصلاة في جميع الأوقات، وفي جميع الأحوال والظروف، وإعانة من يتراخى عنها من الأولاد وغيرهم؛ لأن الإنسان قد يضبط نفسه، ويأتي إلى المسجد من مكانٍ بعيد، لكن لما يقول للأولاد: هيا بنا إلى المسجد، كثير منهم يقول: بعيد، إذا اشتد البرد نظر في الرخص وصلى في بيته، إذا اشتد الحر كذلك، إذا كان هناك مطر قال: والله المسجد بعيد، لكن إذا كان قريبًا من المسجد ما تعذَّر بشيء، وحصل له من المرجحات الشيء الكثير، أما إذا كان بعيدًا عن المسجد فأراد أن يقرب منه لاسيما إذا نظرنا إلى النص مجردًا، قلنا: الزم ديارك.

وإذا نظرنا إلى ما جاء في بعض الطرق أن النبي –عليه الصلاة والسلام- كره أن تُعرى المدينة، يعني: أطرافها لابد من حمايتها، فهؤلاء بنو سلِمة في طرفها؛ لحمايتها، فهذا ليس من أجل البُعد عن المسجد؛ وإنما هو لحماية المسجد كالثغر لحماية المدينة -والله المستعان-.

"وفي رواية: فقالوا: ما كان يسرنا أنَّا كُنا تحولنا.

وفي روايةٍ عن جابرٍ، قال: كانت ديارنا نائيةً عن المسجد".

جابر من بني سلِمة؛ ولذا يُقال في نسبته أيش؟ النِّسبة إلى مكسور الحرف الثاني سَلَمي يُفتح، سلِمة سَلَمي، النِّسبة إلى النمِر نَمَري ابن عبد البر النَّمَري، النسبة إلى ملِك مَلَكي وهكذا.

"وفي روايةٍ عن جابرٍ، قال: كانت ديارنا نائيةً عن المسجد، فأردنا أن نبيع بيوتنا فنتقرب من المسجد".

فنقترب.

طالب: عندك فنقترب؟

نعم.

"فنهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «إِنَّ لَكُمْ بِكُلِّ خُطْوَةٍ دَرَجَةً».

وفي (رقائق ابن المبارك) عن أبي موسى الأشعري".

كتاب (الزُّهد والرقائق) لعبد الله بن المبارك مطبوع، ومشهور، ومتداول.

"أنه كان في سفينةٍ في البحر مرفوعٌ شراعها، فإذا رجلٌ يقول: يا أهل السفينة! قفوا سبع مرار، فقلنا: ألا ترى على أي حالٍ نحن؟ ثم قال في السابعة: لقضاءٌ قضاه الله على نفسه أنه من عطَّش لله نفسه في يومٍ من أيام الدنيا".

في يومٍ حارٍّ من أيام الدنيا.

 في يومٍ حارٍّ من أيام الدنيا شديد الحر، كان حقًّا على الله أن يرويه يوم القيامة، فكان أبو موسى يتتبع اليوم المعمعاني الشديد الحر فيصومه.

وفي الشريعة من هذا ما يدل على أن قصد المكلِّف إلى التشديد على نفسه في العبادة وسائر التكاليف صحيحٌ مُثابٌ عليه، فإن أولئك الذين أحبوا الانتقال أمرهم الله عليه".

أمرهم -عليه الصلاة والسلام- بالثبوت.

 فإن أولئك الذين أحبوا الانتقال أمرهم -عليه الصلاة والسلام- بالثبوت؛ لأجل عِظم الأجر بكثرة الخُطى، فكانوا كرجلٍ له طريقان إلى العمل: أحدهما سهل، والآخر صعب، فأُمر بالصعب ووعِد على ذلك بالأجر، بل جاء نهيهم عن ذلك إرشادًا إلى كثرة الأجر.

وتأمل أحوال أصحاب الأحوال من الأولياء، فإنهم ركبوا في التعبد إلى ربهم أعلى ما بلغته طاقتهم، حتى كان من أصلهم الأخذ بعزائم العلم، وترك الرُّخص جملة، فهذا كله دليلٌ على خلاف ما تقدم".

الله –جلَّ وعلا- يُحب أن تؤتى رخصه، الله-سبحانه وتعالى- يُحب أن تؤتى رخصه، لكنه مع ذلك إنما شرع العزائم التي هي الأصل، والرُّخص على خلاف الأصل، وأثاب على العزائم أعظم مما يُثيب على الرُّخص إذا لم يكن العدول عنها رغبةً عن السُّنَّة.

فعندنا مثلاً مراتب الأمر والنهي «من رأى منكم منكرًا فليُغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه» الإنكار بالقلب رخصة، لكن إنكار اللسان أفضل منه، والإنكار باللسان رخصة بالنسبة للإنكار باليد، والإنكار باليد أفضل منه إذا لم يترتب عليه مفسدة؛ لأنه إن ترتب عليه مُنكر آخر عاد الأمر على الأصل بالنقص، فالعزائم ارتكابها لاسيما إذا تعينت على الشخص أو تواطأ الناس على تركها فإن ارتكاب العزائم أفضل؛ ولذا جاء: «أعظم الجهاد كلمة حقٍّ عند سلطانٍ جائر» وإلا بالإمكان أن يترخص الإنسان، ويُعذر إلا من أكره وقلبه مطمئنٌ بالإيمان.

ولذا الإمام أحمد –رحمه الله- لما ارتكب العزيمة، وثبت وصبر في مسألة القول بخلق القرآن، خلَّد الله ذكره إلى يوم القيامة، وعظُم أجره؛ بسبب صبره على العزيمة، وإلا فما الأمر لو كان الإمام أحمد قد ترخَّص كغيره، والعلم عند الله –جلَّ وعلا- أن المسألة تُقرر إلى آخر الدنيا، لكن ثبت وصبر واحتسب وقدَّم نفسه، ثم بعد ذلك كُشِفت الغُمة.

الله –جلَّ وعلا- قد يكشف ما ينزل بالمسلمين من مِحن بسبب ما يعلمه منهم من قيامهم بأمر الله –جلَّ وعلا- ولو من بعضهم، والله –جلَّ وعلا- يقول: { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33].

والعلماء لهم نصيب من هذا الذي يقدم شيئًا من نفسه لدينه لا شك أن المِحن التي تنزل بالأمة تُرفع بسببه أو ببركته التي جعلها الله فيه، وأدركنا أثر ذلك بعد أن فقدنا ما فقدنا من أهل العلم والعمل، كانت الأمة لا شك أنها تُرحم وتُنصر بسبب دعاء الصالحين، وبسبب جهاد المجاهدين، وبسبب عمل العاملين وهكذا، إذا أرى الناس الله من أنفسهم خيرًا كشف عنهم ما يكشف-والله المستعان-.

"وفي (الصحيح) أيضًا عن أُبي بن كعب، قال: كان رجل من الأنصار بيته أقصى بيتٍ في المدينة، فكان لا تُخطئه الصلاة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فتوجهنا له، فقلنا له: يا فلان! لو أنك اشتريت حمارًا يقيك من الرمضاء ويقيك من هوام الأرض؟ فقال: أما والله ما أُحب أن بيتي مُطنبٌ ببيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فحملت به حتى أتيت نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته، قال: فدعاه، فقال له مثل ذلك، وذكر أنه يرجو له في أثره الأجر. فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ لك مَا احْتَسَبْتَ».

فالجواب أن نقول: أولاً: إن هذه أخبار آحادٍ في قضيةٍ واحدة لا ينتظم منها استقراءٌ قطعي، والظنيات لا تُعارض القطعيات، فإن ما نحن فيه من قبيل القطعيات".

نعم، لا شك أن قصد المشقة ليس بشرعي لذاتها، وهذا مما عُلم من دين الإسلام بالضرورة قطعي هذا، فالمشقة منفية، والحرج منفي، والدِّين يُسر بالأدلة القطعية، وورد قضايا مثل ما ذكر من الأمثلة يُفهم منها أن المشقة لها شأن في الشرع، لكن المشقة إذا كانت وسيلة إلى غاية ثبت أجرها تبعًا لهذه الغاية وإلا فلا، وبهذا ينتهي الإشكال.

وثانيًا: إن هذه الأحاديث لا دليل فيها على قصد نفس المشقة، فالحديث الأول قد جاء في (البخاري) ما يفسره، فإنه زاد فيه: وكره أن تُعرى المدينة قبل ذلك؛ لئلا تخلو ناحيتهم من حراستها.

وقد رُوي عن مالكٍ بن أنس أنه كان أولاً نازلاً بالعقيق، ثم نزل إلى المدينة، وقيل له عند نزوله العقيق: لِما تنزل العقيق، فإنه يشق بعده إلى المسجد؟ فقال: بلغني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحبه ويأتيه، وأن بعض الأنصار أرادوا النقلة منه إلى قرب المسجد".

الحديث الوارد في ذلك مُضعَّف عند أهل العلم، لكنه كونه مُباركًا جاء فيه الحديث الصحيح «صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةٌ فِي حَجّة».

"فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أَمَا تَحْتَسِبُونَ خُطَاكُمْ؟» فقد فهم مالك أن قوله: «أَلا تَحْتَسِبُونَ خُطَاكُمْ؟» ليس من جهة إدخال المشقة، ولكن من جهة فضيلة المحل المنتقل عنه.

وأما حديث ابن المبارك فإنه حجةٌ من عمل الصحابي إذا صح سنده عنه، ومع ذلك، فإنما فيه الإخبار بأن عِظم الأجر ثابتٌ لمن عظمت مشقة العبادة عليه".

القصة التي ذكرها ابن المبارك، وأن القوم في السفينة، وأن الرجل الذي قام، وقال: قفوا، ثم قال: ما من مسلمٍ يصوم في يومٍ حار إلا كان له كذا وكذا، هذه القصة لا شك أن أسانيدها بمجموعها حسَّنها بعض أهل العلم، لكن هل صُرِّح برفعها إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- أو أن الذي قال ما قال ليس من ركبان السفينة أو من الإنس، وإنما هو هاتف قال مثل هذا الكلام؟ ولا شك أن فيها قلقًا، المسألة ليست...

يقول: "عن أبي موسى الأشعري أنه كان في سفينةٍ في البحر مرفوعٌ شراعها، فإذا رجلٌ يقول: يا أهل السفينة! قفوا سبع مرار، فقلنا: ألا ترى على أي حالٍ نحن؟ ثم قال..." إلى آخره، هذه القصة ما فيه شك أنها لم تُرفع إلى النبي –عليه الصلاة والسلام- وإن كان قوله: "لقضاءٌ قضاه الله على نفسه أنه من عطَّش لله نفسه" هذا له حكم الرفع؛ لأن مثل هذا لا يُقال بالرأي، لكن من تتابع على تخريجه ابن المبارك في (الزهد)، وأبو نعيم في (الحلية)، وابن أبي الدنيا في (الهواتف)، وابن شاهين في (فضائل الأعمال)، يعني ليس فيهم من أهل الكتب الأصلية التي هي دواوين الإسلام التي يُعوَّل عليها ويُعتمد عليها.

على كل حال نفسي من هذه القصة فيها شيء، الألباني حسَّن هذه القصة في (زوائد الترغيب) وتحتاج إلى زيادة تأمل.

"ومع ذلك، فإنما فيه الإخبار بأن عِظم الأجر ثابتٌ لمن عظمت مشقة العبادة عليه: كالوضوء عند الكريهات".

أهل العلم يذكرون المفاضلة بين من تشق عليه العبادة، ومن يتلذذ بها، يعني تجد اثنين كلاهما إذا بقي الثلث الأخير من الليل قاما إلى الصلاة، أحدهما يُزاول هذه العبادة كأنه يحمل رحى، والآخر كأنه يشرب عسلاً، فرق بين الأمرين واحد يتلذذ، وواحد شاق عليه العبادة.

منهم من يقول: إن الذي تشق عليه العبادة أكثر أجرًا؛ لأن له أجر العبادة وأجر المجاهدة، ومنهم من يقول: لا، الذي يتلذذ بها كحال النبي –عليه الصلاة والسلام- أفضل، وأنه ما وصل إلى هذه المرتبة إلا بعد أن فرغ من مسألة المجاهدة، فهل هذا أفضل أو ذاك؟ المسألة خلافيةٌ بين أهل العلم، لكن الذي يتجه أن الذي يتلذذ كحال النبي –عليه الصلاة والسلام- أفضل.

يعني قُل مثل هذا في التعليم بعض الناس يحتاج إلى جهاد في كل درس إذا أراد أن يخرج إلى الدرس كأنه يخرج إلى الجهاد الذي فيه إزهاق النفس، وبعضهم لا ينتظر متى يأتي الدرس، وأحيانًا يخرج قبل الدرس، والذي يُجاهد نفسه تجده دائمًا يتأخر عن الدرس، نقول: هل هذا أفضل أو ذاك؟ نفس الخلاف السابق، ولا شك أن الذي يأتي إلى العبادة بصدرٍ منشرح مُقبل عليها مُتلذذ بها أنه أفضل –والله المستعان-.

"كالوضوء عند الكريهات، والظمأ والنَّصب في الجهاد، فإذًا اختيار أبي موسى -رضي الله عنه- للصوم في اليوم الحار كاختيار من اختار الجهاد على نوافل الصلاة والصدقة ونحو ذلك".

لأنه نظر إلى عظم الأجر، ولم ينظر إلى المشقة، إنما نظره إلى عظم الأجر؛ ولذا مسألة المفاضلة بين العبادات مسألةٌ في غاية الأهمية ينبغي أن تكون على بال طالب العلم باستمرار؛ لأنه يتزاحم عنده العبادات في كثيرٍ من الأحوال، ثم لا يستطيع أن يُرجِّح هذه مسألة في غاية الأهمية.

ضربنا لذلك مثل بمن أتى إلى الصلاة في المسجد الحرام، والصلاة قد أُقيمت هل يقصد الصف الأول أو ما يليه من الصفوف أو يُصلي في أدنى صف؛ ليُدرك الصلاة كلها، ويُدرك الجنازة، ويأمن على صلاته من التشويش إذا قام لقضاء ما فاته؟ هذه مسألة تحتاج إلى نظر، لا شك أنه كل ما قرُب من الإمام أفضل، ووصل الصفوف أمرٌ مطلوب، لكن يبقى أن هناك أيضًا مفاضلة من جهاتٍ عدة لو لم يكن فيها أنه يضمن عدم التشويش فيما يقضيه من صلاته إذا سلَّم الإمام وقد فاته ركعة أو ركعتين أو ثلاث ما مصير صلاته التي يقضيها مع مرور الناس وزحامهم واضطرابهم؛ لأنه في حكم المنفرد الآن، ويفوته من الصلاة ما يفوته، وقد تفوته صلاة الجنازة.

 المقصود أن هذه أمور تحتاج إلى مفاضلة، وحينما يُقدِّم الجهاد على نوافل العبادة لا شك أنه لم ينظر إلى أن المشقة حاصلة في الجهاد أكثر من غيره، وإنما نظر إلى عِظم أجر الجهاد، وأجر الشهادة في سبيل الله –والله المستعان-.

"لا أن فيه قصد التشديد على النفس؛ ليحصل الأجر به، وإنما فيه قصد الدخول في عبادةٍ عظم أجرها؛ لعظم مشقتها، فالمشقة في هذا القصد تابعةٌ لا متبوعة، وكلامنا إنما هو فيما إذا كانت المشقة في القصد غير تابعة، وكذلك حديث الأنصاري ليس فيه ما يدل على قصد التشديد، وإنما فيه دليلٌ على قصد الصبر على مشقة بعد المسجد ليعظم أجره، وهكذا سائر ما فيه هذا المعنى.

وأما شأن أرباب الأحوال، فمقاصدهم القيام بحق معبودهم، مع اطراح النظر في حظوظ نفوسهم، ولا يصح أن يُقال: إنهم قصدوا مجرد التشديد على النفوس واحتمال المشقات، لِما تقدم من الدليل عليه، ولما سيأتي بعد إن شاء الله.

وثالثًا: إن ما اعترض به معارضٌ بنهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين أرادوا التشديد بالتبتل، حين قال أحدهم: أما أنا، فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا، فأقوم الليل ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا، فلا آتي النساء، فأنكر ذلك عليهم، وأخبر عن نفسه أنه يفعل ذلك كله، وقال: «مَنْ رغب عن سُنَّتِي، فَلَيْسَ مِنِّي»".

هذه الأمور إذا اقترنت بالرغبة عن السُّنَّة، وأن ما يأتي به هو أفضل مما جاء عن النبي– عليه الصلاة والسلام- لا شك أنه يُذم ويُنهى عن هذا، لكن أُثِر عن بعض السلف الزيادة على ما أُمروا به عبد الله بن عمرو قال له النبي –عليه الصلاة والسلام-: «اقرأ القرآن في سبع ولا تزد»، ومع ذلك يزيد يقرأ القرآن في ثلاث، نقول: مذموم أم ما هو مذموم؟ إنما نُهي عن الزيادة رفقًا به، وإلا فأصل العمل مشروع تتناوله نصوصٌ عامةٌ وخاصة، وتواطأ عليه سلف هذه الأمة، وكثيرٌ منهم يقرأ القرآن في ثلاث، كثير في التابعين، وفي الصحابة من يقرأ القرآن في ليلة، نقول: هؤلاء خالفوا النص؟ لا، لكن إذا زعم أن عمله أكمل مما وجهه إليه النبي– عليه الصلاة والسلام- هنا لا، حينئذٍ مَنْ رغب عن السُّنَّة «فَلَيْسَ مِنِّي».

"وفي الحديث: ورد النبي -صلى الله عليه وسلم- التبتل على عثمان بن مظعون، ولو أذن له لاختصينا.

ورد -صلى الله عليه وسلم- على من نذر أن يصوم قائمًا في الشمس، فأمره بإتمام صيامه، ونهاه عن القيام في الشمس".

نعم لمَّا كان الصيام عبادة «من نذر أن يُطيع الله فليُطعه»، وأما القيام في الشمس فليس بعبادة، ولا يجوز فعله على سبيل التقرب إلى الله –جلَّ وعلا-، فنهاه النبي –عليه الصلاة والسلام- عن ذلك.

وقال: «هلك المتنطعون» ونهيه عن التشديد شهيرٌ في الشريعة، بحيث صار أصلاً فيها قطعيًّا، فإذا لم يكن من قصد الشارع التشديد على النفس، كان قصد المكلِّف إليه مضادًّا لِما قصد الشارع من التخفيف المعلوم المقطوع به، فإذا خالف قصده قصد الشارع، بطل ولم يصح، وهذا واضح، وبالله التوفيق".

يُؤثَر أو يُعرَف عن بعض العلماء من المتقدمين والمتأخرين أيضًا من المعاصرين، ومن سبقهم من شيوخهم إلى عصور الأئمة من يُعرف بالتساهل، يعني أحكامه مبنية، يعني مذهبه عمومًا مبني على شيءٍ من اليُسر والسهولة في كثير من المسائل، في كثير من أبواب الدِّين وقد يُوجد في أبواب الدِّين بالنسبة له ما هو أشد من غيره فيه، فتجد مثلاً المالكية يُشددون في الشراب، ويتساهلون في الطعام عكس الحنفية، وتجد عند الشافعية أبوابًا من أبواب الدِّين هم أسهل فيها من غيرهم، وتجد الحنابلة دائمًا يُنبذون ويُوصفون بالتشدد؛ حتى إذا رُؤي شخص فيه شيء من الحرص والتحري، وعدم التساهل في الأمور قيل له: حنبلي، ويُوجد أيضًا في طبقة شيوخنا ومن أقراننا وغيرهم من تجد في فتاويه شيء من التحري والاحتياط، وتجد من يبني أمره على التساهل، ولا شك أن مثل هذا هذا له أصل لا شك أن سد الذرائع مطلوب، وأطر الناس على الحق لاسيما إذا عُرِف منهم التساهل ممن ليس بحاجة إلى مزيد دفع إلى هذا التساهل مثل هؤلاء يُوقف دون المطلوب، وحينئذٍ يؤطرون على العزائم.

وإذا وجِد الإنسان في مجتمعٍ الصبغة فيه التشديد عليه أن يُلاحظ أيضًا هذا الأمر، فلا يزيدهم تشديدًا إلى تشديدهم فيُخفف عليهم، وينظر في الأقوال الأخرى، وينظر إلى مقاصد الشريعة وقواعدها الكلية، فمثل هذا لابد من ملاحظته.

تجد مثلاً الناس عمومًا يقولون: هذا فلان كل شيء عنده حرام، حتى يُنبذ به من المشايخ المعتبرين الآن هذا كل شيء حرام عنده لا تسأله، وبالمقابل عامة الناس يعرفون عن فلان أنه متساهل، حتى العامة يعرفون أنه متساهل.

ولا شك أن الدِّين وسطٌ بين هذا وهذا لا يُعرف الإنسان بأنه يقصد التشديد لذات التشديد، ولا التساهل لذات التساهل، وإنما يعمل ويُفتي بما يدين الله به ويترجح عنده بالدليل.

"فصل: وينبني أيضًا على ما تقدم أصلٌ آخر: وهو أن الأفعال المأذون فيها، إما وجوبًا، أو ندبًا، أو إباحة، إذا تسبب عنها مشقةٌ، فإما أن تكون معتادةً في مثل ذلك العمل، أو لا تكون معتادة، فإذا كانت معتادةً، فذلك الذي تقدم الكلام عليه، وأنه ليست المشقة فيه مقصودةً للشارع".

ما فيه أحد يُفاجئ إذا حج أنه يجد زحامًا، فيه أحد يُفاجئ أنه... هو متوقع أنه إذا ذهب إلى الحج أنه مثل النزهة مع أحب الناس إليه؟ ما فيه أحد يُفاجئ؛ ولذلك المشقة معتادة، لكن إذا ذهب إلى نزهة، ووجد الناس كلهم في هذا الحيز أو في هذه البقعة، وتزاحم الناس فيها وتدافعوا، وحصل ما حصل من حوادث، ولم يرتح بالجلوس ولا بالبقاء فيها هذا غير معتاد، بخلاف الحج المشقة معتادة؛ ولذا لا يُقال: إن هذه المشقة غير مطلوبة في الشرع.

طالب:.........

لا، أولاً: على الإنسان أن يعمل ويُفتي بما يدين الله به بما يترجح عنده بالدليل، يكون الدليل هو القاعدة وهو السائق، لا يكون ترجيحه قبل الاستدلال، يعني خلاص يستروح إلى هذا القول الشديد، ثم يبحث له عن أدلة لا، الأصل أن ينظر في الدليل، ثم يستنبط منه ما يُوافق الدليل.

لكن بعض الناس تجده إما من شدة حرصه على الناس تجده يُشدد أو من شفقته عليهم تجده يتساهل، والإنسان مُطالبٌ بنجاة نفسه قبل نجاة غيره.

طالب:.........

هذا معروف عند أهل العلم.

طالب:.........

هذا استصحاب لهذا الحكم العام، لكن يبقى أن مفردات المسائل ترجع إلى أصولها، لكن إذا كان المسألة فيها تشديد، وفيها تخفيف حينئذٍ يُنظر أصل الشريعة مبناها على التسهيل والتيسير والدين يُسر، فإذا وجدنا في مجتمعٍ عُرِف بالتشديد، وعُرِف بالتطرف، وعُرِف بـ....مثل هذا تُسلك المسالك الشرعية التي تؤدي إلى الغرض الشرعي من غير مفسدة والعكس؛ لأن النصوص الشرعية علاج لأمراض الأفراد، وأمراض المجتمعات عندك نصوص وعيد، وعندك نصوص وعد، فإن أخذت بالوعيد وجنحت إلى الوعيد باستمرار صرت شبيهًا بالخوارج، والعكس إذا جنحت إلى نصوص الوعد باستمرار صرت شبيهًا بالمرجئة، فيُعالج من فيه شدة بنصوص الوعد، ومن فيه تفريط بنصوص الوعيد؛ ولذا وفِّق أهل السُّنَّة والجماعة حينما جمعوا بين الأمرين ونظروا إلى النصوص بكلتا العينين.

"وأنه ليست المشقة فيه مقصودةً للشارع من جهة ما هي مشقة، وإن لم تكن معتادة، فهي أولى أن لا تكون مقصودةً للشارع، ولا يخلو عند ذلك أن تكون حاصلةً بسبب المكلف واختياره، مع أن ذلك العمل لا يقتضيها بأصله، أو لا.

فإن كانت حاصلةً بسببه كان ذلك منهيًّا عنه، وغير صحيحٍ في التعبد به؛ لأن الشارع لا يقصد الحرج فيما أذن فيه، ومثال هذا حديث الناذر للصيام قائمًا في الشمس؛ ولذلك قال مالكٌ في أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- له بإتمام الصوم، وأمره له بالقعود والاستظلال، أمره أن يتم ما كان لله طاعة، ونهاه عما كان لله معصية؛ لأن الله لم يضع تعذيب النفوس سببًا للتقرب إليه، ولا لنيل ما عنده، وهو ظاهر، إلا أن هذا النهي مشروطٌ بأن تكون المشقة أدخلها على نفسه مباشرة، لا بسبب الدخول في العمل، كما في المثال، فالحكم فيه بيِّن.

وأما إن كانت تابعةً للعمل كالمريض غير القادر على الصوم أو الصلاة قائمًا، والحاج لا يقدر على الحج ماشيًا أو راكبًا، إلا بمشقةٍ خارجةٍ عن المعتاد في مثل العمل، فهذا هو الذي جاء فيه قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] ، وجاء في مشروعية الرخص".

فيه.

"وجاء فيه مشروعية الرخص، ولكن صاحب هذا إن عمل بالرخصة، فذاك، ويُمكن أن يكون عاملاً لمجرد حظ نفسه، وأن يكون قبِل الرخصة من ربه؛ تلبية لإذنه، وإن لم يعمل بالرخصة، فعلى وجهين".

يعني من الأمثلة الواقعية شيخ كبير السن مُقعد، حجَّ الناس، وهو مصنَّف ممن يعجز عن الحج، وقد أدى الحج سنين، ثم بعد ذلك وهو في منزله رأى الناس في يوم عرفة في منصرفهم من خلال الوسائل المرئية، فبكى -مُقعد- فقال له ابنه: ما الذي يُبكيك؟ قال: الناس ينصرفون يحجون، وأنا جالس هنا، فقال له: اركب، فجعل له مكانًا في السيارة كالفراش، وحمله ووضعه عليه، ومباشرةً إلى عرفة مرورًا بها في ليلة العيد، ثم إلى المزدلفة، وحج مع الناس.

هل هذا مُطالب بحج؟ لا، هذا لو ترخص برخصة- الحمد لله- فيه سعة، لكن هل يُلام على مثل هذا التصرف أو لا يُلام؟ هل يُذم بحجِّه أو لا يُذم؟ شق على نفسه، وشق على ولده، ومع ذلك حصل له ما أراد، لا شك أن مثل هذا يُؤجر على مثل هذا قدر زائد على الأجر الذي يُؤجر الإنسان السوي؛ لأن من التكاليف ما يُنظر فيه إلى مراعاة خلاف ما تهواه النفس، وإن كان أصل التشريع على شيء، ثم جاء هذا الشخص على خلاف ما تهواه نفسه قاهرًا لنفسه في عبادته لله –جلَّ وعلا- يكون حينئذٍ أجره أعظم؛ لأن الملاحظ فيها قهر النفس للعبادة.

مثال ذلك: الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار، أووا إلى غار فانسد عليهم، منهم رجل بار بوالده يأتي باللبن، فينتظر أباه إلى الصباح نائم وهو حاملٌ الإناء في يده والصبية يتاضغون.

يعني في الحكم الشرعي الأصل فيه هل النفقة على الوالد مقدمة على النفقة على الولد أو العكس؟ العكس نفقة الولد أوجب من نفقة الوالد، الصبية يتضاغون، يعني لو أنه سكب لوالده قدرًا يكفيه، ثم أعطى الصبية ألا يكون جمع بين الأمرين؟ لكن الله –جلَّ وعلا- نظر إليه أن قهر نفسه، وأتى على خلاف مرادها، وفضَّل والده النائم على أولاده الذين يتضاغون، الذين تدفعه إليهم الغريزة، ففُرِّج عنهم ومُدح بهذا الصنيع.

فهذ المشلول الذي لا يستطيع لا شك أن ثوابه عند الله عظيم تحمل هذه المشقة؛ لأنه خلاف ما تهواه النفس، ولا تُطيقه، ما قال: أنا معذور، بعض الناس لأدنى سبب يعذر نفسه لأدنى سبب، يقول: الحمد لله، أنا مزكوم نُفطر اليوم، مزكوم ويُفطر، وأما بالنسبة لصيام النوافل فالترخص لأدنى سبب معروف، والمتطوع أمير نفسه، لكن لو تحمل وصام بما لا يضره، يعني ما نقول: مريض بمرضٍ مُعين يُؤدي به الصيام إلى التلف والهلاك، لا، حينئذٍ يأثم، لكنها مشقة محتملة، والذي يغلب على الظن أنه لا يتضرر بهذا إذا تحمل هذه المشقة، فالأجر على قدر النَّصب، والله المستعان.

بالمقابل شخص مثل الأول رأى الناس ليلة عرفة، ما هو بليلة العيد بليلة عرفة، وقال: الليلة عرفة، والناس يقفون غدًا في هذا المكان العظيم، وجلس يبكي، فقال له ولده: أتريد الحج؟ قال: نعم، قال: تأهب، فذهب به إلى النقل الجماعي، وضاع هناك لا حج ولا... مسكين شايب ما يدبر نفسه، يعني هل أجر الولد الأول مثل الثاني؟ لا، وإن كان أجر من نوى الحج الشيخ الكبير الثاني قد لا ينقص عن الأول إن لم يزد عليه، لكن {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4] هذا ابنه ذهب به بنفسه ومكَّنه من حضور تلك المشاهد وأفعال الحج، وهذا رماه على النقل الجماعي وصار ما صار ضاع المسكين، حج الناس وهو ما يدري ماذا فعل – والله المستعان-.

"وإن لم يعمل بالرخصة، فعلى وجهين أحدهما: أن يعلم أو يظن أنه لا يدخل عليه في نفسه أو جسمه أو عقله".

أنه يدخل عليه.

"أن يعلم أو يظن أنه يدخل عليه في نفسه أو جسمه أو عقله أو عادته فسادٌ يتحرج به ويعنت، ويكره بسببه العمل، فهذا أمرٌ ليس له، وكذلك إن لم يعلم بذلك ولا ظن، ولكنه لمَّا دخل في العمل دخل عليه ذلك، فحكمه الإمساك عما أدخل عليه المشوش".

نعم قرر في نفسه أنه يقرأ القرآن في ثلاث، ثم بعد ذلك تضرر بهذا، ترك واجبات، وقرأ القرآن على وجهٍ غير مشروع مثلاً، ما نقول: خلاص إن أحب العمل إلى الله أدومه واستمر على هذا مادام قررت هذا استمر عليه، نقول: لا دخل عليك هذا المشوش اتركه، وعُد إلى ما كنت عليه سابقًا؛ لتجمع بين أنواع العبادات، تنوع العبادات مقصد شرعي معروف.

"وفي مثل هذا جاء: «لَيْسَ مِنَ الْبَرِّ الصِّيَامُ في السفر» وفي نحوه نهى عن الصلاة وهو بحضرة الطعام أو وهو يدافعه الأخبثان".

عندك نهى أم نُهي؟

طالب: نعم.

نُهي عن الصلاة.

طالب: نُهي.

نعم.

وقال: «لَا يقضِ الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» وفي القرآن: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء:43].

إلى أشباه ذلك مما نهى عنه بسبب عدم استيفاء العمل المأذون فيه على كماله، فإن قصد الشارع المحافظة على عمل العبد؛ ليكون خالصًا من الشوائب؛ والإبقاء عليه حتى يكون في ترفهٍ وسعةٍ حال دخوله في ربقة التكليف.

والثاني: أن يعلم أو يظن أنه لا يدخل عليه ذلك الفساد، ولكن في العمل مشقةٌ غير معتادة، فهذا أيضًا موضع لمشروعية الرخصة على الجملة، وينفصل الأمر فيه في كتاب الأحكام، والعلة في ذلك أن زيادة المشقة مما ينشأ عنها العنت، بل المشقة في نفسها هي العنت والحرج، وإن قدر على الصبر عليها، ففي مما لا يقدر".

فهي.

طالب: فهي؟

نعم.

"وإن قدر على الصبر عليها، فهي مما لا يقدر على الصبر عليه عادة، إلا أن هنا وجهًا ثالثًا، وهو أن تكون المشقة غير معتادة، لكنها صارت بالنسبة إلى بعض الناس كالمعتادة، ورب شيء هكذا".

نعم بعض الأمور معتاد لدى بعض الناس؛ لأنه عوَّد نفسه، ويراه بعض الناس ضرب من الخيال، يعني حينما يُذكر عن الإمام أحمد –رحمه الله- أنه يُصلي في اليوم والليلة ثلاثمائة ركعة عامة الناس وجمهور الناس يقولون: هذا مستحيل، وإذا سمع أن هناك من يقرأ القرآن في يوم قال: أبدًا هذا مستحيل؛ لأنه يقيس الناس على نفسه، هي كانت غير معتادة، ثم صارت معتادة بالمران، باطراد العادة، الإنسان إذا مرَّن نفسه على شيء خلاص ألفه واعتاده صار ما يشق عليه، بينما الشخص الذي لا يعتاد هذا الأمر يظنه ضربًا من الخيال.

ولا يُبالغ في مثل هذا كما بالغ الشيعة في حق علي –رضي الله عنه- قالوا: قول لابن المطهِّر في (منهاج الكرامة) أنه يًصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، فهل نقول: إن هذا مع المران يُمكن؟ ألف ركعة تحتاج إلى ألف دقيقة، فإذا قسَّمت الألف على الستين هذا على أقل تقدير، يعني إذا افترضنا هذا العمل آلي أقل ركعة في دقيقة، ألف دقيق تحتاج إلى كم؟ ثماني عشرة ساعة متواصلة، هذا مستحيل.

وشيخ الإسلام في رده على ابن المطهِّر يقول: الوقت لا يستوعب.

نعم النفس كلما جُبلت على شيء واعتادت عليه سهُل عليها وصار بالإمكان، يعني يجلس الإنسان ست ساعات يقرأ القرآن هذا مُعتاد ومُجرَّب جرَّبه غيرنا، لكن هل يستطيع إنسان أن يقول: إنه يقرأ القرآن في ساعة مستحيل الوقت لا يستوعب، الآن أهل البرمجة العصبية يقولون: بإمكانك أن تحفظ القرآن في ساعة أو في بضع ساعة، ويقولون: عن أمور يعني تصير عالمًا ومجتهدًا في يومين أو ثلاثة أو...هذا مستحيل هذا، يعني هذا لو كان خيرًا لسبقونا إليه، يعني لو أمكن ما تأخر عنه خيار الأمة.

في (إرشاد الساري) يقول: ذُكر أو بلغنا أو رُوِّينا عن فلان بالسند الصحيح أنه قرأ القرآن في....

طالب:.......

نعم.

طالب:.......

كيف؟

في سبع، قرأ القرآن في سبع، قلنا: طيب هذا ممكن، وقيل: في شوط أنه يقصد في سبع سبعة أشواط، والذي يُبينه قوله: وقيل: في شوط، يعني في الطواف، هذا أبدًا إنسان مقتدٍ، متأسٍّ، متبع لا يُمكن أن يصدر عنه مثل هذا بحال، لا يُمكن أن يصدر مثل هذا عنه، لكن جرَّب الناس أن الجزء يُقرأ في اثني عشر دقيقة، نعم ليس على الوجه المأمور به فيه شيء من السرعة، لكنه واقع، فمثل هذا ممكن وإن كان القراءة على الوجه المأمور به أفضل ولو لم يقرأ في اليوم إلا جزءًا واحدًا كفى.

والمفاضلة بين هذا وهذا بين أهل العلم، المفاضلة بين كثرة الحروف مع السرعة أو تقليل المقروء مع الترتيل والتدبر المسألة معروفة عامة جمهور أهل العلم على أن قراءة القرآن على الوجه المأمور به بالترتيل والتدبر أفضل ولو قَل.

يُذكر عند الشافعية وجه أن الإكثار من القراءة أفضل ولو كانت هزًّا.

"فإن أرباب الأحوال من العباد والمنقطعين إلى الله تعالى، المُعانين على بذل المجهود في التكاليف قد خُصوا بهذه الخاصية، وصاروا مُعانين على ما انقطعوا إليه، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] ، فجعلها كبيرةً على المكلف، واستثنى الخاشعين الذين كان إمامهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو الذي كانت قرة عينه في الصلاة، حتى كان يستريح إليها من تعب الدنيا، وقام حتى تفطرت قدماه، فإذا كان كذلك، فمن خُص بوراثته في هذا النحو نال من بركة هذه الخاصية.

وهذا القسم يستدعي كلامًا يكون فيه مد بعض نفس، فإنه موضعٌ مغفلٌ قَل من تكلم عليه، مع تأكده في أصول الشريعة".

اللهم صلِّ على محمد.

نعم.

طالب:........

من أيش؟

طالب:........

 

الخلاف بين أهل العلم في الجهاد وطلب العلم، مع أن كثيرًا منهم يُفضِّل طلب العلم على الجهاد المسنون، أما الجهاد المفروض فهذا ما فيه إشكال.

"