التعليق على الموافقات (1429) - 03

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

يقول المؤلف الإمام الشاطبي -رحمه الله تعالى-: "المسألة الثانية (تحت النوع الرابع في بيان قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة): المقاصد الشرعية ضربان: مقاصد أصلية، ومقاصد تابعة. فأما المقاصد الأصلية، فهي التي لا حظ فيها للمكلف، وهي الضروريات المعتبرة في كل مِلة، وإنما قلنا: إنها لا حظ فيها للعبد من حيث هي ضرورية؛ لأنها قيام بمصالح عامة مطلقة، لا تختص بحال دون حال، ولا بصورة دون صورة، ولا بوقت دون وقت، لكنها تنقسم إلى ضرورية عينية، وإلى ضرورية كفائية".

هذه الضروريات أو الضرورات التي أشار إليها المؤلف وأنه "لا حظ فيها للمكلف"، يعني: لا نظر له فيها ولا خيار له فيها، لا نظر له فيها ولا خيار؛ بل يجب عليه حفظها.

منها ما هو عيني وما هو كفائي، يقول: "هي الضروريات المعتبرة في كل ملة"، يعني: اتفقت عليها الشرائع السابقة، وهي الضرورات الخمس.

قال: "وإنما قلنا إنها لا حظ فيها للعبد من حيث إنها ضرورية"، يعني: ليس له أن يختار، لا بد من تحققها، ولا توكل إلى نظره واختياره، وليس له فيها المثنوية.

"لأنها قيام بمصالح عامة مطلقة": للجميع، له ولغيره، فكما أنه يجب عليه أن يحفظ نفسه، وأن يحفظ عقله، وأن يحفظ دينه، وأن يحفظ ماله، وأن يحفظ عرضه؛ يجب عليه أيضًا أن يسعى ولا يفرط فيما يتعلق بالآخرين من الضرورات الخمس، لا يسعى في التفريط بأي ضرورة من الضرورات الخمس ولو لغيره، لا خيار له في ذلك. ولذا المكره يُرفع عنه التكليف، لكن إذا أُكره على قتل إنسان وإلا يُقتل، يستجيب أم ما يستجيب؟

طالب: ما يستجيب.

لا يجوز أن يستجيب بحال؛ لأن حفظ النفس لغيره، أقول: لأن حفظ نفسه ليس بأولى من حفظ غيره. هذه ضرورات لا تُترك إلى اختيار أحد، ولا يُرجح بينها ولا يفاضل بينها.

طالب: "فأما كونها عينيةً، فعلى كل مكلف في نفسه، فهو مأمور بحفظ دينه اعتقادًا وعملاً".

لا يجوز له أن يفرط في دينه، ولا أن يساوم عليه بحال من الأحوال، ولا يجوز له أن يداهن أحدًا في دينه: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9]، ولو ترتب على ذلك -على ما يذكر- شيء من المصالح الخاصة أو العامة المظنونة، الأمور العينية لا تقبل المساومة، فضرورة حفظ الدين اعتقادًا وعملاً لا يجوز له المساومة عليها.

طالب: "وبحفظ نفسه قيامًا بضروريات حياته".

نعم، لا يجوز له أن يمتنع عن الطعام أو عن الشراب حينما يُضطر إلى ذلك؛ ولذلك أبيح له ما حُرم بالنص وهو الميتة. لا يجوز له أن يفرط في حياته فيضرب عن الطعام أيامًا يغلب على الظن فيها هلاكه، هذا محرم عليه؛ لأن حفظ النفس من الضرورات التي توافقت عليها الشرائع.

طالب: "وبحفظ عقله حفظًا لمورد الخطاب من ربه إليه".

نعم، مناط التكليف العقل، ومورد الخطاب القلب. يعني خطابات الشرع كلها توجه إلى القلب، والتكليف نِيط بالعقل؛ مما يدل على الترابط الوثيق بينهما، فلا يجوز له أن يتناول ما يضر بعقله أو يغيب عقله؛ لأن حفظ العقل من الضرورات، وهو يسعى بذلك إلى رفع التكاليف عنه لإخلاله بعقله، فلا يجوز حينئذ أن يفعل ذلك. وبعضهم يقول: إذا سعى في ذلك لم ترتفع عنه التكاليف، فيصححون تصرفاته، يوقعون طلاق السكران مثلاً وإن كان قد ارتفع عقله؛ لأنه رفعه بنفسه، بخلاف ما لو ارتفع بأمر لا يد له فيه.

طالب: "وبحفظ نسله التفاتًا إلى بقاء عوضه في عمارة هذه الدار، ورعيًا له عن وضعه في مضيعة اختلاط الأنساب العاطفة بالرحمة على المخلوق من مائه".

نعم، "بحفظ نسله التفاتًا إلى بقاء عوضه"؛ لأنه إذا مات فمن يخلفه في هذه الأرض؟ يخلفه ولده، ولا يمكن أن يبقى النوع الإنساني إلا بالتناسل بالطريق المشروع.

"ويحفظ نسله التفاتًا إلى بقاء عوضه في عمارة هذه الدار"، يعني لو تواطأ الناس كلهم على عدم التزاوج مثلاً لانقطع النوع الإنساني، ولا يمكن أن يستمر النوع إلا بالنكاح الذي من جرائه يحصل التناسل.

"ورعيًا له عن وضعه في مضيعة اختلاط الأنساب العاطفة"، يعني لو صرف هذه الغريزة فيما حرم الله عليه، كونه يضرب عنها هذا فيه انقطاع النسل واستئصال النوع، لكن كونه يوجه هذه الغريزة إلى أمر لا يجوز له شرعًا؛ هذا يترتب عليه اختلاط الأنساب وتضييع العاطفة؛ لأن الزاني لا يمكن أن يعطف على ولد الزنا ولو كان من مائه.

ولذا قال: "ورعيًا له عن وضعه في مضيعة اختلاط الأنساب العاطفة بالرحمة على المخلوق من مائه"، وإذا ارتفعت هذه العاطفة عن المجتمع فماذا يكون مصيره؟ بلا شك أنه الدمار والهلاك.

طالب: "وبحفظ ماله استعانةً على إقامة تلك الأوجه الأربعة".

"الأوجه الأربعة"، أو الضرورات الأربعة التي تقدمت، لا يمكن أن تحقق إلا بحفظ المال، يعني الأصل أن الإنسان خُلق لتحقيق العبودية لله -جل وعلا-، لكن هل تتحقق العبودية بدون مال؟ ما يمكن؛ ولذا جاء النهي الإلهي: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77] من أجل أن تحقق هذه العبودية، وإذا تراخى الناس عن اكتساب الأموال من وجوهها وصرفها بوجوهها؛ لا شك أن المصالح سوف تتعطل، ولا يمكن أن تحقق هذه الضرورات.

طالب: يعني كأن المقصد هذا الخامس لا لذاته؟

لا لذاته، نعم.

طالب: متممًا له؟

نعم؛ لأن الحصر: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، هذا هو الهدف، لا شيء آخر، تحقيق العبودية. لكن كيف تتحقق هذه العبودية؟ بـ{وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77].

طالب: الله المستعان. "ويدل على ذلك أنه لو فُرض اختيار العبد خلاف هذه الأمور لحُجر عليه".

نعم، لو اختار تعريض نفسه للهلاك، ألا يجب أن يُحجر عليه؟ يعني لو رأيت إنسانًا يريد أن ينتحر، ألا يجب عليك أن تحول بينه وبين ما يريد؟ لو وجدت إنسانًا يتناول ما يُذهب عقله؟ كذلك لو وجدت إنسانًا يُحرق ماله؟ يجب عليك أن تحول بينه وبين ما يريد، والمسؤولية على ولي الأمر، ومن وُلي هذا، رعاية المصالح لا بد أن يقوم بهذا..

طالب: "لحُجر عليه ولحيل بينه وبين اختياره، فمن هنا صار فيها مسلوبَ الحظ، محكومًا عليه في نفسه، وإن صار له فيها حظ، فمن جهة أخرى تابعة لهذا المقصد الأصلي. وأما كونها كفائيةً، فمن حيث كانت منوطةً بالغير أن يقوم بها على العموم في جميع المكلفين، لتستقيم الأحوال العامة التي لا تقوم الخاصة إلا بها".

كونها عينية باعتبار أنها متعلقة بالشخص نفسه، وكونها كفائية تعقلها بالآخرين. يعني: يجب عليك ويجب على كل من يعلم حال من أراد أن يُهدر إحدى هذه الضرورات، أن يحول بينه وبينها. لكن هل يجب على الأمة بكاملها أن تحول بين شخص يريد أن ينتحر وبين ما يريد؟ لا يجب عليهم، هذا واجب على الكفاية، إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين.

طالب: .....

أين؟

طالب: الذي لا اختيار له.....؟

ما فيه نوع اختيار يتعين عليه، إذا تعين عليه فليس فيه نوع اختيار، لكن إذا قام به من يكفي خلاص انتهى، لا يتجه إليه أصلاً.

طالب: "إلا أن هذا القسم مكمل للأول، فهو لاحق به في كونه ضروريًّا؛ إذ لا يقوم العيني إلا بالكفائي، وذلك أن الكفائي قيام بمصالح عامة لجميع الخلق، فالمأمور به من تلك الجهة مأمور بما لا يعود...".

لا يستطيع الإنسان أن يحقق الضرورات الخمس لنفسه منفردًا عن غيره، ما يمكن إطلاقًا، ولا يمكن أن ينزوي إنسان بجهة من الجهات ويقول: أنا لا حاجة لي بغيري، ما يمكن أن يعيش بمفرده دون غيره.

قد يقول قائل: يدخر ما يكفيه من طعام وشراب، ثم ينزوي ولا يحتاج للناس؟

ادخاره ما يكفيه، هل هو من صنيعه أو من زراعته أو من فعله هو، أو من فعل غيره؟

طالب: ......

لا بد أن يستفيد من غيره مهما كان، لا بد أن يكون قيامه بمصالحه شيء من هذه المصالح قد قام على غيره؛ ولذلك لا يمكن أن يعيش إنسان بمفرده دون غيره.

طالب: "فالمأمور به من تلك الجهة مأمور بما لا يعود عليه من جهته تخصيص؛ لأنه لم يؤمر إذ ذاك بخاصة نفسه فقط، وإلا صار عينيًّا، بل بإقامة الوجود، وحقيقتُه أنه خليفة الله في عباده على حسب قدرته وما هُيئ له من ذلك؛ فإن الواحد لا يقدر على إصلاح نفسه والقيام بجميع أهله، فضلاً عن أن يقوم بقبيلة، فضلاً عن أن يقوم بمصالح أهل الأرض، فجعل الله الخلق خلائف في إقامة الضروريات العامة، حتى قام الملك في الأرض".

نعم، لا يستطيع الإنسان بمفرده أن يحقق لأحد شيئًا إلا بمعونة غيره، فلا يستطيع أن يحقق لنفسه إلا أن يعان على ذلك. لا يمكن أن يحقق مصالح نفسه دون النظر إلى غيره، ومن باب أولى تحقيق مصالح الغير لا يمكن أن يحققها بمفرده.

طالب: "ويدلك على أن هذا المطلوب الكفائي معرًّى من الحظ شرعًا، أن القائمين به في ظاهر الأمر ممنوعون من استجلاب الحظوظ لأنفسهم بما قاموا به من ذلك، فلا يجوز لوالٍ أن يأخذ أجرةً ممن تولاهم على ولايته عليهم، ولا لقاضٍ أن يأخذ من المقضي عليه أو له أجرةً على قضائه، ولا لحاكم على حكمه، ولا لمُفتٍ على فتواه، ولا لمحسن على إحسانه، ولا لمقرِض على قرضه، ولا ما أشبه ذلك من الأمور العامة التي للناس فيها مصلحة عامة، ولذلك امتنعت الرِّشا والهدايا".

"الرُّشا"، رُشا جمع رِشوة.

طالب: نعم، أحسن الله إليكم.

"امتنعت الرُّشا والهدايا...".

تعرف مثلث قُطرب: رُشا ورَشا ورِشا؟ نعم؟ هل أحد يحفظ المثلث؟ الفرق بين الثلاثة؟

طالب: الرِّشا.....

الرِّشا: الحبل الذي هو السبب، يربط بالدلو يُستخرج به الماء.

والرُّشا: جمع رِشوة.

والرَّشا ولد أيش؟

طالب: .....

نعم.

طالب: "والهدايا...".

مثلث قُطرب، يعني في أبيات يسيرة جدًّا حفظها ينفع طالب العلم.

طالب: "ولذلك امتنعت الرُّشا والهدايا المقصود بها نفس الولاية؛ لأن استجلاب المصلحة هنا مؤدٍّ إلى مفسدة عامة تضاد حكمة الشريعة في نصب هذه الولايات".

يعني كأن كلامه قد يُفهم منه أنه لا يجوز أخذ الأجر على هذه الأعمال العامة، فليس للقاضي أن يأخذ أجرة، وليس للحاكم أن يأخذ أجرًا، وليس... المقصود أن يأخذه ممن تعين عليه الفصل بينهم. الوالي لا يجوز أن يأخذ من الناس راتبه، نعم يأخذ من بيت المال ما يكفيه صحيح، القاضي كذلك، وكل من ذكر: المفتي لا يجلس وإن جاء أحد يسأل قال: كم؟ فلا يجوز له ذلك. لكن له أن يأخذ ما يكفيه من بيت المال. كذلك المحسن على إحسان، والمقرض على قرضه، حتى صار كالإجماع بين أهل العلم أن القرض الذي يجر النفع ربا.

طالب: طيب والمحدث هنا يا شيخ؟

والمحدث على حديثه لأخذ الأجرة على التعليم، أخذ الأجرة على التعليم حكمها؟ الجمهور على جوازها، أخذًا من قوله -عليه الصلاة والسلام- لأبي سعيد: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله»، لكن هل هذا مما يتعين عليه أن يُحدث؟ يعني لو عندك حديث لا يوجد عند غيرك، وجاء واحد يسألك عن هذا الحديث، تقول: ما أحدثك إلا بكذا؟ لكن تحبس نفسك للطلاب وتضيع من تمون وتضيع نفسك، وتأخذ أجرًا في مقابل هذا التضييع لا بأس. أما أن يكون عندك حديث وأنت ماشٍ في طريقك لا يعوقك عن شيء، يقول لك: حدثني بما سمعت؟ تقول، لا يجوز أن تأخذ عليه شيئًا.

طالب: الأول يُخرج عليه فعل الشيخ النسائي في الحارث؟

الحارث بن مسكين يأخذ أجره، وهذا كثير من أهل الحديث أخذوا على التحديث، لكن المقصود به من يصرف همته ووقته لهذا الأمر، بحيث لا يستطيع أن يتكسب لنفسه ولا لولده يجوز له ذلك. أما أن يُسأل عن مسألة وهو في طريقه ماشٍ لا يعوقه ذلك ثم يقول: بكم؟ ما يجوز. أو يتقدم للصلاة بالناس، ويقول: لن أصلي بكم هذا الفرض، لا يجوز.

طالب: "وعلى هذا المسلك يجري العدل في جميع الأنام، ويصلح النظام، وعلى خلافه يجري الجور في الأحكام، وهدم قواعد الإسلام".

نعم؛ لأنه لو قيل إن هذا يؤخذ عليه أجر، صارت المسألة ضياعًا، يجيء واحد يخفض من الأجر فيلجأ إليه دون الأول، ويأتي أناس يزيدون في الأجر فيضيع بعضهم على حساب بعض، وضرر الرشوة التي عتت في الأرض فسادًا ظاهر للعيان، يعني أمور الناس تعطلت بسبب الرشا. ولا يقول قائل: إنني أنفع هذا ولا ألتفت إلى غيره من باب النفع ومن باب الخدمة ومن باب كذا، كله لا يجوز، هذا ليس بمبرر. ولو لم يطلب؛ لأنك تفسده على غيرك، إذا تعود الأخذ وأخذ منك لا بد أن يأخذ من غيرك.

طالب: قد يكون يعني الرشوة أمر معنوي؟

مثل أيش؟

طالب: يعني مثل الواسطة أو كذا، يعني يتوسط له.....

فرق بين الشفاعة وبين الرشوة، الشفاعة هذه: «اشفعوا تؤجروا»، لكن إذا ترتب على هذه الشفاعة تقديم المفضول على الفاضل يُمنع من هذه الحيثية، وإذا لم يترتب عليها ضرر بوجه من الوجوه فإنها هي الشفاعة التي أمر النبي بها -عليه الصلاة والسلام-.

طالب: "وبالنظر فيه يتبين أن العبادات العينية لا تصح الإجارة عليها، ولا قصد المعاوضة فيها، ولا نيل مطلوب دنيوي بها، وأن تركها سبب للعقاب والأدب، وكذلك النظر في المصالح العامة موجِب تركها للعقوبة؛ لأن في تركها أي مفسدة في العالم".

نعم، ولا يعني أن الإنسان لا يأخذ ما يكفيه من بيت المال بالجعل، يُجعل له في مقابل ما يصرفه من وقت وجهد؛ هذا ما فيه ما يمنع، فرق بين الأجرة والجعالة.

طالب: "وأما المقاصد التابعة، فهي التي روعي فيها حظ المكلف، فمن جهتها يحصل له مقتضى ما جُبل عليه من نيل الشهوات، والاستمتاع بالمباحات، وسد الخلات؛ وذلك أن حكمة الحكيم الخبير حكمت أن قيام الدين والدنيا إنما يصلح ويستمر بدواعٍ من قِبل الإنسان تحمله على اكتساب ما يحتاج إليه هو وغيره".

نعم، يعني: وجود هذه الغرائز في الإنسان، وجود الغرائز في الإنسان ليس عبسًا، وبوجود هذه الغرائز التي تدفع الإنسان دفعًا لتحصيلها، بها تحصل عمارة الأرض، لو افترضنا أن الإنسان ما جُبل على هذه الغرائز، ما جُبل على حياء، ما جُبل على شجاعة، ما جُبل على كرم، ما جُبل على حب النساء، ما جُبل على حب الولد، ما، ماذا يصير فرقه بين البهائم؟ ما فيه فرق.

يقول: الإضراب عن الطعام طريقة نافعة لاسترجاع الحقوق، لكنها مضرة بإحدى الضروريات الخمس، فهل يُنظر إلى قدر المضرة، أي أستخدم هذه الطريقة وأضر نفسي لكن تُرجع الحقوق إلى أهلها وهكذا؟

لا، ليست طريقة شرعية، هذه ليست طريقة شرعية، يعني عُرف الإضراب عن الطعام في حالة واحدة، وهي أن سعد بن أبي وقاص لما أسلم أضربت أمه عن الطعام وحلفت ألا تأكل حتى يرجع عن دينه. مثل هذا يجاب أم ما يجاب؟ ومثل هذه تصلح أن تكون قدوة أو لا تصلح؟ لا، أبدًا ما يمكن أن يكون قدوة مثلها.

طالب: "فخلق له شهوة الطعام والشراب إذا مسه الجوع والعطش؛ ليحركه ذلك الباعث إلى التسبب في سد هذه الخَلة بما أمكنه، وكذلك خلق له الشهوة إلى النساء لتحركه إلى اكتساب الأسباب الموصلة إليها، وكذلك خلق له الاستضرار بالحر والبرد والطوارق العارضة، فكان ذلك داعيةً إلى اكتساب اللباس والمسكن".

نعم، هذه الغرائز وهذه الدوافع التي تدفعه إلى اكتساب هذه الأمور، لا شك أن بها صلاح وعمارة الأرض. يعني هذه الأمور يترتب عليها أمور كثيرة، يعني لولا الاستضرار بالحر والبرد ما نشط الناس لصنع الألبسة، وتعطل كثير من المصالح بسبب هذا. لكن اضطر الناس إلى اللباس أولاً لمواراة السوءة الذي كشفها هو هدف من أهداف ومقاصد إبليس الأولى، يعني بعد الأكل من الشجرة أول مقصد: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} [الأعراف: 27]، وكذلك خلفاؤه من بعده الذين يسعون إلى كشف العورات، لا سيما ما يتعلق بالنساء، هؤلاء هم خلفاء الشيطان وورَّاثه، نسأل الله العافية.

بدءًا من ستر العورات والسوءات، إلى مسألة الاستدفاء والاستظلال من الحر والبرد؛ كل هذه تدفع الإنسان إلى أن يشتري ما يكفيه، وتدفع غيره إلى أن يصنع هذه الأمور، فتتم عمارة الأرض بهذه الطريقة.

وكذلك الجوع والعطش، تدفع الإنسان إلى أن يزرع، تدفع الآخر إلى أن يصنع، وتدفع الثالث إلى أن يبني... وهكذا.

طالب: "ثم خلق الجنة والنار، وأرسل الرسل مبينة أن الاستقرار ليس هاهنا، وإنما هذه الدار مزرعة لدار أخرى، وأن السعادة الأبدية والشقاوة الأبدية هنالك، لكنها تُكتسب أسبابها هنا بالرجوع إلى ما حده الشارع، أو بالخروج عنه، فأُخِذ المكلفُ".

"فأَخْذ" أو "فأَخَذَ المكلَّفُ".

طالب: "فأَخَذَ المكلَّفُ في استعمال الأمور الموصلة إلى تلك الأغراض، ولم يُجعل له قدرة على القيام بذلك وحده؛ لضعفه عن مقاومة هذه الأمور، فطلب التعاون بغيره، فصار يسعى في نفع نفسه واستقامة حاله لنفع غيره".

يعني: وإن لم يقصد نفع غيره؛ لأن كل إنسان يسعى في نفع نفسه، لكن بالضرورة يسعى في نفع غيره ولو لم يقصد ذلك، يعني الإنسان إذا خرج بسلعته إلى السوق هو يريد أن ينتفع بها الناس، هو يقصد هذا؟ أو يقصد قيمتها؟ الدافع الأول قيمتها. لكن بعض الناس يوفق إلى هذا وهذا، فيؤجر على الأمرين.

نعم، شيء؟

طالب: .....

هذا ليس بشرع أن يتضرر يأثم.

طالب: .....

وأضرب عن الطعام؟

طالب: .....

لا لا، ما يلزم، ما يلزم. هذه قصة ثابت بن قيس.

طالب: نعم.

قصة ثابت بن قيس في وقت التشريع وفي وقت التنزيل رأى أنه يرفع صوته عند النبي -عليه الصلاة والسلام-، فرأى أن الحكم ينطبق عليه، حبط علمه وقال: لا أحل هذا ما ربطت وإلا يحلها رسول الله ، وحصل هذا. لكن الطعام، ما نقل أحد أنه ما أكل.

طالب: أحسن الله إليك، في قضية الرشوة، يعني يحصل أنه.....

الشَّيخ: على كل حال، الأمور بمقاصدها، والرشوة كما تكون بالكبير تكون بالقليل أيضًا.

طالب: يأخذ هذا أو يرده؟

الشَّيخ: لا، يأثم إذا أخذه لأنه، ولكن، هذا إذا أثر على القضية هذا ما فيه إشكال أنها رشوة، إذا أثر يعني بادر في نفعه وقضاء حاجته هذا لا إشكال في كونه رشوة، إذا لم يؤثر الأولى والورع أن يرد عليه كارته ويقول: أنا لست بحاجة.

طالب: أحسن الله إليك، إذا كان لا يستطيع أن يأخذ حقه إلا برشوة؟

ما فيه رشوة إلا من أجل هذا، الرشوة من أجل هذا مُنعت، والدنيا كلها لا تقوم في مقام اللعن ولو ضاع حقه.

طالب: أحسن الله إليك،.....

لا لا، كلهم يموتون بعد.

طالب: ......

هذا لو رآه حي ما التفتوا له، لا، ما يلتفتوا لو رأوه، كل يوم يموت واحد.

طالب: .....

نعم.

طالب: بعضهم يأخذ حقه بهذه الطريقة.....

على كل حال هذه كلها أمور طرائق ليست شرعية، هذه طرائق ليست شرعية مثل المظاهرات ومثل أنواع من الفساد، تُستعمل في كثير من الأقطار لكن ليست بشرعية.

طالب: ينسحب عليها قوله -عليه الصلاة والسلام-: «ليس منا من عمل بسنة غيرنا»؟

نعم، هذه ليست من طرائق المسلمين.

طالب: "فطلب التعاون بغيره، فصار يسعى في نفع نفسه واستقامة حاله بنفع غيره، فحصل الانتفاع للمجموع بالمجموع، وإن كان كل أحد إنما يسعى في نفع نفسه".

يعني لو خرجت إلى المعارض بسيارتك، أنت خرجت لنفع نفسك بالقيمة، والمشتري خرج لنفع نفسه بالسيارة، غير ملتفت إليك وأنت غير ملتفت إليه، لكن بالضرورة لا يحصل هذا إلا بهذا. والمسألة كلها مبنية على الرغبة، فمرغوب فيه ومرغوب عنه، فالبائع راغب في القيمة راغب عن السلعة، والمشتري راغب في السلعة راغب عن القيمة.

طالب: "فمن هذه الجهة صارت المقاصد التابعة خادمةً للمقاصد الأصلية ومكملةً لها، ولو شاء الله لكلف بها مع الإعراض عن الحظوظ، أو لكلف بها مع سلب الدواعي المجبول عليها، لكنه امتن على عباده بما جعله وسيلةً إلى ما أراده من عمارة الدنيا للآخرة، وجعل الاكتساب لهذه الحظوظ مباحًا لا ممنوعًا، لكن على قوانين شرعية هي أبلغ في المصلحة، وأجرى على الدوام مما يعده العبد مصلحةً".

يعني لو كُلف بالنكاح، وكُلفوا بالأولاد، بالتكاثر، ومع ذلك ما وُجدت هذه الغريزة فيهم، تجد هذا الأمر من أثقل الأمور عليهم، ثقيل. لكن وُجدت هذه الغريزة التي تدفعهم إضافة إلى التكليف، وهذا من إعانة الله -جل وعلا- لعباده على تحقيق هذه المصالح. وقل مثل هذا في جميع الغرائز.

طالب: "وجعل الاكتساب لهذه الحظوظ مباحًا لا ممنوعًا، لكن على قوانين شرعية هي أبلغ في المصلحة وأجرى على الدوام مما يعده العبد مصلحة، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، ولو شاء لمنعنا في الاكتساب الأخروي القصد إلى الحظوظ، فإنه المالك، وله الحجة البالغة، ولكنه رغبنا في القيام بحقوقه الواجبة علينا بوعد حظي لنا، وعجل لنا من ذلك حظوظًا كثيرةً نتمتع بها في طريق ما كُلفنا به، فبهذا اللحظ قيل: إن هذه المقاصد توابع، وإن تلك هي الأصول، فالقسم الأول يقتضيه محض العبودية، والثاني يقتضيه لطف المالك بالعبيد".

يعني "لطف المالك بالعبيد"، لو أن الله -جل وعلا- جعل فعل الأوامر التي أوجبها واجتناب النواهي التي حرمها، فعل الأوامر موجب لدخول النار مثلاً، يعني فضلاً عن كون الإنسان جُبل ورُكب فيه غرائز تدفعه إلى ما ينفعه أحيانًا، وإلى ما يضره أحيانًا؛ لأن هذه الغريزة- غريزة الشهوة- تدفعه إلى النكاح بطريق شرعي ويؤجر عليه، تدفعه إلى الزنا فيأثم به.

لكن لو كان التكليف على سبيل الافتراض عكس هذا، جُعلت الغرائز فيما يضره، كلها، الغرائز كلها ما وُجد بديل لهذه الغرائز، يعني رُكب فيك شهوة، وارتكابها أو تلبية هذه الشهوة كلها مؤدٍّ إلى النار، كيف يكون حال الناس؟ يعني ما وُجد بديل شرعي؟ لكانت المشقة عظيمة. أو ما يوصل إلى الجنة ليس به أدنى ما يدفع من أمر غريزي مما ركبه الله من لطفه بعبيده، فضلاً عن أن يكون عكس التشريع تمامًا: أن يكون ما يضر هو الموصل إلى الجنة، وما ينفع هو الموصل إلى النار، تعالى الحكيم الخبير أن يشرع مثل هذا.

اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

طالب: ......

يعني من باب أنهم مساكين، ويحتاجون إلى إعانة، من غير نظر إلى كونهم خدموه؛ لأنه إن نظر إلى كونهم خدموه فهذه رشوة، وإذا رأى أن عليهم آثار المسكنة وهم من المسلمين فما فيه ما يمنع.

طالب: أحسن الله إليك يا شيخ، لو أن من تعين عليه الفتيا والتدريس لا يعطى من بيت المال، ماذا يصنع؟ ويتعين عليه، ما فيه أحد غيره؟

يتعين عليه، يكتسب بيده وينفع الناس بطريق لا يضر بمصلحته.

طالب: يلزم الاكتساب؟

نعم، ويلزم ولي الأمر أن يرفع حاجته ما دام تعين عليه، لكن إذا ما أعين على ذلك من بيت المال، عليه أن يكتسب لنفسه ولمن يمون، وما زاد من ذلك من وقت يصرفه في مصالح المسلمين.

طالب: لكن الناس ما يلزمهم يا شيخ؟

 

لا، ما يلزمهم.