شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (199)
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا بكم إلى حلقة جديدة في برنامجكم شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.
مع بداية هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الدكتور.
حياكم الله، وبارك فيكم وفي الأخوة المستمعين.
المقدم: في الحلقة الماضية تفضلتم بسياق أقوال أهل العلم في حكم التكني بكُنية النبي-صلى الله عليه وسلم- دخل معه أيضًا حكم التسمي باسمه -صلى الله عليه وسلم- ورجَّحتم أن النهي منسوخ، وتوقفنا عند هذه المسألة في الحلقة الماضية، نستكمل فضيلة الدكتور.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلمَ وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،
الجملة الأولى انتهى الحديث عندها: «تسموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي» بقيت الجملة الثانية: «ومن رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي»، وأما الجملة الثالثة: «ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» هذا مضى الحديث والكلام عنها في الحديثين السابقين.
قوله: «ومن رآني»، (من) موصولة متضمنة معنى الشرط، ولهذا دخلت الفاء في الجواب وهو قوله: «فقد رآني» قاله العيني، وقال الكرماني: فقد رآني، «ومن رآني فقد رآني» وهنا يتحد الشرط والجزاء، من رآني فقد رآني، هل يصح أن يُقال: من قام فقد قام؟ عندهم لا يجوز أن يتحد الشرط والجزاء.
المقدم: هنا الحقيقة ما اتحد يا شيخ، اتحد لفظًا لكن هل اتحدا؟ لأنه قد يأتي شخص ويرى النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكنه في الحقيقة لم يره؛ لأن الشيطان تمثل به بصورة ليست هي صورة النبي.
الشيطان لا يتمثل به.
المقدم: نعم، لكن هذا إذا عرفت صورة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ما يخرج الشيطان في المنام ويقول أنا لبعض الناس بأنه هو النبي -صلى الله عليه وسلم-؟
هذا هو موضوع هذا الحديث، لكن دعنا في الجملة من حيث العربية، لا يجيزون اتحاد الشرط والجزاء، مَن قام فقد قام، مَن أكل فقد أكل، مَن شرب فقد شرب، إلا إذا ضمّنا الجزاء معنًى غير معنى الشرط.
المقدم: هذا المراد يعني نقول: إنه هنا اتحد لفظًا.
يعني تقدم لنا في حديث في أول حديث «مَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله».
المقدم: ضُمن الجزاء معنًى زائدًا.
معنًى آخر، وهنا يقول الكرماني على عادته في إيراد الإشكالات والإجابة عنها: فإن قلت: الشرط ينبغي أن يكون غير الجزاء، سببًا له متقدمًا عليه وهو هنا ليس كذلك، قلت: ليس هو الجزاء حقيقةً بل لازمه نحو فليستبشر، يعني ليس المعنى أن «من رآني فقد رآني» ليس هذا هو الأصل إنما ما يترتب على الجزاء، الجزاء هو ما يترتب على الرؤية المذكورة في الجزاء اللفظي، ليس هو الجزاء حقيقةً بل لازمه نحو فليستبشر فإنه قد رآني وهي رؤية ليس بعدها شيء. فإن الشرط والجزاء إذا اتحدا صورةً دل على الكمال والغاية، فإن الشرط والجزاء إذا اتحدا صورةً دل على الكمال والغاية نحو «مَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله»، في المنام لا في اليقظة، و «ومن رآني في المنام».
المقدم: «فقد رآني».
يعني لا في اليقظة، وهل معنى هذا أن من رآه في اليقظة يمكن أن يتلبس به الشيطان؟ أو من باب أولى..
المقدم: من باب أولى.
من باب أولى بلا شك، لا في اليقظة والفعل (رأى) يطلق بلفظ واحد ومصادره مختلفة، ففي المنام رؤيا، وفي اليقظة رؤيةً، وفي العقل رأيًا، فمثلًا تقول: رأيتُ زيدًا، المصدر رؤية يعني بصرية، ورأيتُ في المنام رؤيا، تقول رؤية أم رؤيا؟
المقدم: رؤيا.
رؤيا، وإذا أدركت ورأيت القول الراجح بعقلك صار رأيًا، «فقد رآني» في كتاب التعبير من صحيح البخاري «من رآني في المنام فسيراني في اليقظة»، وفيه من حديث أبي سعيد «من رآني فقد رأى الحق فإن الشيطان لا يتكونني» يعني لا يتلبس بي ولا يأتي على صورتي، ونقل ابن حجر عن بعض المتكلمين قوله: هي مدركة بعينين في القلب، يعني الرؤية مدركة بعينين في القلب، قال: وقوله: «فسيراني» معناه فسيرى تفسير ما رأى، لأنه حق وغيب أُلقي فيه، وقيل معناه فسيراني في القيامة، ولا فائدة في هذا التخصيص، يقول أهل العلم: لا فائدة في هذا التخصيص؛ لأن كل الناس، كل المؤمنين سوف يرونه في القيامة، منهم من رآه في الدنيا ومن لم يره، وسيأتي هذا الكلام، وقال عياض: يحتمل أن يكون المراد بقوله: «فقد رآني» أو فقد رأى الحق أن من رآه على صورته في حياته كانت رؤياه حقًّا ومن رآه على غير صورته كانت رؤيا تأويل، يعني إذا رآه على صورته التي عرفها وجاءت بها النصوص إذا كان لم يدركه كانت رؤيته حقًّا، ومن رآه على غير صورته كانت رؤيا تأويل، هل يمكن أن يُرى النبي -عليه الصلاة والسلام- على غير صورته؟! ممكن
المقدم: تمثل الشيطان.
لا يتمثل بي، لا نعارض.
المقدم: نعم لكن إذا خرج صورة وقال: أنا النبي -عليه الصلاة والسلام-، هذا معناه تَمثّل.
فإن الشيطان لا يتمثل بي.
المقدم: نعم بصورته الحقيقية، يعني ممكن يأتي في المنام الشيطان كما حصل لبعض السلف أنه جاءه الشيطان، ويُحكى هذا أنه خرج وأعطاه بعض التعليمات.
ومازالوا يتداولون مثل هذا.
المقدم: طيب.
لكن هل نقول: إن الشيطان تمثل به؟
المقدم: ما تمثل به، هو كذب الشيطان تمثل بشخص وقال: إنه هو النبي-عليه الصلاة والسلام-.
ابن سيرين إذا سُئل عن رؤيا من أحد زعم أنه رأى النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال: صفه لى؟
المقدم: حتى يعرف أنه تمثل..
فإن كانت أوصافه مطابقة لما جاء عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، كانت حقًّا، وإلا فهي رؤيا حلم، وجاء عن ابن عباس أيضًا فيما ذكره ابن حجر بإسناد لا بأس به أنه قيل له من قِبل بعض الصحابة وبعض من رأى النبي -عليه الصلاة والسلام-، فقال: إنه رأى النبي -عليه الصلاة والسلام، فقال: صفه لي، فقال: كأني أرى الحسن، قال: صدقت، قال عياض: يحتمل أن يكون المراد «فقد رآني» أو «فقد رأى بالحق» أن من رآه على صورته في حياته كانت رؤياه حقًّا، ومن رآه على غير صورته كانت رؤيا تأويل، رؤيا تأويل، وتعقبه النووي فقال: هذا ضعيف، من الصحيح أنه يراه حقيقةً سواء كانت على صفته المعروفة أو غيرها، يعني ولو جاء بغير صفة النبي -عليه الصلاة والسلام- المحفوظة بالنصوص، رأى النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن الشيطان لا يتمثل به، أخذًا بلفظ الحديث.
قال ابن حجر: ولم يظهر لي من كلام القاضي ما ينافي ذلك، بل ظاهر قوله إنه يراه حقيقةً في الحالين، لكنه في الأول تكون الرؤيا مما لا يحتاج إلى تعبير، والثانية مما يحتاج إلى التعبير، مما يحتاج إلى التعبير، ونقل الحافظ ابن حجر عن القرطبي قال: اختُلفَ في معنى الحديث، فقال قومٌ: هو على ظاهره، فمن رآه في النوم رآه حقيقةً كمن رآه في اليقظة سواء، قال: وهذا قول يُدرك فساده بأوائل العقول، يعني بدهيات، يعني من رآه حقيقة كمن رآه في اليقظة، وكأن القائل هذا يزعم أن من رآه في المنام رأى حقيقته، من رآه في المنام رأى حقيقته رأى شخصه حقيقةً، كمن رآه في اليقظة، وعلى هذا يلزم عليه ما يلزم على الرؤية الحقيقية، يلزم على هذا القول ما يلزم على الرؤية الحقيقية. بمعنى أنه يكون حكمه حكم الصحابة؛ لأنه رآه حقيقة وهو في المنام، لكنه في حكم من رآه كأنه هو رآه حقيقة، أو فقد رآه حقيقةً، وهذا تساعده الرواية «فقد رآني» يكون حكمه حكم الصحابة، وأيضًا على هذا القول لا يمكن أن يراه اثنان في موضعين في آن واحد، لأنه قد رآه حقيقةً، هذا رآه بالمدينة، وذاك رآه في مصر في آنٍ واحد، وقد رأوا حقيقة النبي -عليه الصلاة والسلام-، على هذا القول، يعني رأوا شخصه، ويلزم على هذا كما قال ابن حجر: أنه نظرًا لاتساع رقعة الأمة شرقًا وغربًا وكثرة من يراه -عليه الصلاة والسلام- منهم أنه لا يكون في قبره -عليه الصلاة والسلام-، لأنه قد لا يخلو يوم من الأيام من أحد يراه؛ يقول: وهذا قول يُدرك فساده بأوائل العقول. وقالت طائفةٌ: معناه أن من رآه رآه على صورته التي كان عليها، ويلزم منه أن من رآه على غير صفته أن تكون رؤياه من الأضغاث.
قال: والصحيح في تأويل هذا الحديث، والصحيح في تأويل هذا الحديث أن مقصوده وأن رؤيته في كل حال ليست باطلة، ولا أضغاثًا، بل هي حق في نفسها ولو رُئى على غير صورته، فتصور تلك الصورة ليس من الشيطان، بل هو من قبل الله، ولو كانت على غير صورته، لو مثلًا يعرف أوصاف النبي -عليه الصلاة والسلام- ويعرف أوصاف عمر، فرأى ما هو أقرب إلى وصف عمر وقيل له: إن هذا هو الرسول -عليه الصلاة والسلام-، نقول: هذه تحتاج إلى تأويل، فالشيطان لا يتمثل بالنبي -عليه الصلاة والسلام-، لكن هذه الرؤيا تحتاج إلى تأويل، واضح أم ليس بواضح؟ قال: والصحيح في تأويل هذا الحديث أن مقصوده أن رؤيته في كل حال حق، يعني ليست باطلة، ولا أضغاثًا، بل هي حق في نفسها، ولو رُئي على غير صورته فتصور تلك الصورة ليست من الشيطان، بل هو من قِبل الله، قال: وهذا قول القاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني وغيره، ويؤيده قوله: «فقد رأى الحق» أي رأى الحق الذي قصد إعلام الرائي به، فإن كانت على ظاهرها، إذا رآه على صفته فهذه لا تحتاج إلى تأويل، فإن كانت على ظاهرها وإلا سُعي في تأويلها كون النبي -عليه الصلاة والسلام- يتراءى للنائم في صورة عمر مثلًا لا شك أن لها دلالة، أو يتراءى في صورة أبي بكر لها دلالة، يعني تشبه صورة أبي بكر، لكنها في أصلها حق؛ لأن الشيطان لا يتمثل به، على هذا القول، ويؤيده قوله: «فقد رأى الحق» أي رأى الحق الذي قصد إعلام الرائي به، فإن كانت على ظاهرها وإلا سُعي في تأويلها ولا يُهملُ أمرها؛ لأنها إما بُشرى بخير أو إنذارٌ من شر، إما ليخيف الرائي وإما لينزجر عنه، وإما لينبه له حكم يقع له في دينه أو دنياه.
وقال ابن بطّال: قوله: « فسيراني في اليقظة» يريد تصديق تلك الرؤية في اليقظة، «فسيراني في اليقظة» يريد تصديق تلك الرؤية في اليقظة وصحتها وخروجها على الحق، وليس المراد أنه يراه في الآخرة؛ لأنه سيراه يوم القيامة في اليقظة، فتراه جميع أمته من رآه في النوم، ومن لم يره منهم، وسيأتي الجواب عن هذا الكلام، وقال المازري: إن كان المحفوظ «فكأنما رآني في اليقظة» فمعناه ظاهر التشبيه يحتمل مثل هذا، إن كان المحفوظ «فكأنما رآني في اليقظة» فمعناه ظاهر، وإن كان المحفوظ «فسيراني في اليقظة» احتمل أن يكون المراد أهل عصره ممن يهاجر إليه، فإنه إذا رآه في المنام يعني قبل الهجرة إليه بعد الإيمان به جُعل ذلك علامة على أنه يراه بعد ذلك في اليقظة، وأوحى الله بذلك إليه -صلى الله عليه وسلم-.
وقال القاضي: وقيل: معناه سيرى تأويل تلك الرؤيا في اليقظة وصحتها، وقيل: معنى الرؤية في اليقظة أنه سيراه في الآخرة، وهذا تقدم بأنه رُد عليه بأنه في الآخرة يراه جميع أمته من رآه في المنام ومن لم يره، يعني فلا يبقى لخصوص رؤيته في المنام مزية، وأجاب القاضي عياض: باحتمال أن تكون رؤياه له في النوم على الصفة التي عُرف بها ووصف عليها موجبة لتكرمته في الآخرة «فسيراني في اليقظة» يعني في الآخرة على نوع خاص من الرؤية التي لا تحصل لجميع المؤمنين الذين لم يحصل لهم شرف رؤيته في المنام- عليه الصلاة والسلام-.
وأجاب القاضي عياض: احتمال أن تكون رؤياه له في النوم على الصفة التي عُرف بها ووصف عليها موجبة لتكرمته في الآخرة، وأنه يراه رؤية خاصة من القرب منه، والشفاعة له بعلو الدرجة ونحو ذلك من الخصوصيات، قال: ولا يبعد أن يعاقب الله بعض المؤمنين يوم القيامة بمنع رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- مدةً، قال الحافظ ابن حجر: الحاصل من الأجوبة ستة:-
أحدها: أنه على التشبيه والتمثيل ودلّ عليه قوله في الرواية الأخرى: «فكأنما رآني في اليقظة».
ثانيها: أن معناها سيرى في اليقظة تأويلها بطريق الحقيقة أو التعبير.
ثالثها: أنه خاص بأهل عصره ممن آمن به قبل أن يراه.
رابعها: أنه يراه في المرآة التي كانت له إن أمكنه ذلك، وهذا من أبعد المحال، هذا قول قاله ابن أبي جمرة، وزعم أو ذكر أن ابن عباس رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام، وجاء إلى خالته أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث فأرته مرآة النبي -عليه الصلاة والسلام- فقالت: انظر إليها فرأى صورة النبي -عليه الصلاة والسلام- في المرآة ولم ير صورة نفسه، لكن هذا القول -كما قال- من أبعد المحال، يعني إذا تمكن ابن عباس من رؤية المرآة على تقدير صحة الخبر، فكيف يتمكن غيره من رؤية هذه المرآة؟! هذا القول لا شيء.
خامسها: أنه يراه يوم القيامة بمزيد خصوصية لا مطلق من يراه حينئذٍ ممن لم يره في المنام، وهذا تقدم في جواب القاضي.
سادسها: أنه يراه في الدنيا حقيقةً ويخاطبه، وفيه ما تقدم من الإشكال، هذا القول الأول الذي سيق ولزمت عليه اللوازم الباطلة.
وقال القرطبي: قد تقرر أن الذي يُرى في المنام أمثلة للمرئيات لا أنفس المرئيات، أمثلة للمرئيات لا أنفسها، غير أن تلك الأمثلة تارة تقع مطابقة وتارة يقع معناها، فمن الأول رؤياه -صلى الله عليه وسلم- عائشة، وفيه: فإذا هي أنتِ، أُريَ النبي -عليه الصلاة والسلام- عائشة في المنام في سرقة من حرير فكشف عن وجهها فإذا هي هي، فأخبر أنه رأى في اليقظة ما رآه في نومه -عليه الصلاة والسلام-، ومن الثاني رؤياه -عليه الصلاة والسلام- البقرة التي تُنحر، والمقصود بالثاني التنبيه على معاني تلك الأمور، قال ابن حجر نقلًا عن القرطبي: ومن فوائد رؤيته -عليه الصلاة والسلام- تسكين شوق الرائي؛ لكونه صادقًا في محبته ليعمل على مشاهدته وإلى ذلك الإشارة بقوله: «فسيراني في اليقظة»، أي من رآني رؤية معظمٍ لحرمتي ومشتاق إلى مشاهدتي وصل إلى رؤية محبوبه، وظفر بكل مطلوبه، تسكين شوق الرائي؛ لكونه صادقًا في محبته، لكن هل يلزم من هذا أن الذي يراه أفضل من جميع من لم يراه؟!
المقدم: لا ليس بالضرورة.
ما يلزم، نعم هذه مزية له ومَنقبة، لكن كون الإنسان يفضل في مزية ومنقبة هل معنى هذا أنه يفضل من جميع الوجوه؟! لا يلزم. قال: ويجوز أن يكون مقصود تلك الرؤيا معنى صورته وهو دينه وشريعته فيُعَبر بحسب ما يراه الرائي من زيادة ونقصان أو إساءة وإحسان، قلت: القائل ابن حجر وهذا جواب سابع، والذي قبله لم يظهر لي، فإن ظهر فهو ثامن، يعني تسكين شوق الرائي إن ظهر هذا هو الثامن.
في الحديث «فإن الشيطان» إما مشتقٌ من شاط أي هلك فهو فعلان، وإما من شطن أي بعُدَ فهو فيعال، والمراد منه إما إبليس بشخصه، فاللام للعهد، وإما نوعه، فاللام للجنس، قاله الكرماني، وقال العيني: الشيطان معروف، وكل عاتٍ متمرد من الجن والإنس والدواب شيطان، والعرب تسمي الحية شيطانًا، وقد تمدح بهذا اللفظ، وقد تمدح بهذا اللفظ، وجاء وصف بعض الرواة بأنه شيطان، «لا يتمثل» أي لا يتصور بصورته، قال القاضي عياض: قال بعضهم: خص الله تعالى النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن رؤية الناس إياه صحيحة، وكلها صدق، ومنع الشيطان أن يتصور في خلقته؛ لئلا يكذب على لسانه -صلى الله عليه وسلم- في النوم. يقول البغوي في شرح السُنة: رؤية الله تعالى في المنام جائزة، قال معاذ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إني نعست فرأيتُ ربي»، وتكون رؤيته جلّت قدرته ظهور العدل والفرج والخصب والخير لأهل ذلك الموضع، فإن رآه فوعد له جنة أو مغفرة أو نجاة من النار، فقوله حق ووعده صدق، وإن رآه ينظر إليه فهو رحمته، وإن رآه مُعرضًا عنه فهو تحذير من الذنوب؛ لقوله سبحانه وتعالى: {أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} آل عمران:77] يعني هل رؤية الباري -جلا وعلا- في المنام ممتنعة كرؤيته في اليقظة؟ على الرأي المرجح نورٌ أنّى أراه، وإن قال بعض الصحابة بأن النبي-عليه الصلاة والسلام- رأى ربه، أما عامة الناس فلن يروه حتى يموتوا كما جاء في الحديث الصحيح «اعلموا أن أحدكم لا يرى ربه حتى يموت»، فهل يشمل هذا النفي المنام كما هو في اليقظة؟
محي السنة البغوي يقول: رؤية الله في المنام جائزة، وحصلت للنبي-عليه الصلاة والسلام-، وهذا الجزء الذي ذكره قطعة من حديث صحيح «إني نعست فرأيتُ ربي»، وتتابع سلف هذه الأمة أنهم رأوه، يعني جاءت قصص وحوادث كثيرة أنهم رأوه -جل وعلا-، وقال: ورؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- حق، ولا يتمثل الشيطان به، وكذلك جميع الأنبياء والملائكة -عليهم السلام-، لكن قد يأتي الملك في صورة إنسان كما تقدم في بدء الوحي، أما الشيطان فلا يتمثل بالملك.
قال الكرماني: فإن قلت: إذا قلنا إنه رآه حقيقة فمن رآه في المنام هل يُطلق عليه صحابي أم لا؟ قلت: لا، إذ لا يصدق عليه الصحابي وهو مسلمٌ رأى النبي -صلى الله عليه وسلم-، إذ المراد منه الرؤية المعهودة الجارية على العادة أي الرؤية في حياته الدنيا؛ لأن النبي-صلى الله عليه وسلم- هو المخبر عن الله تعالى، وما كان مخبرًا للناس عنه إلا في الدنيا لا في القبر.
يقول الكرماني: فإن قلت: الحديث المسموع منه في المنام هل هو حجة يستدل ويحتج بها؟ الشيطان لا يتمثل بي، هل هذا الحديث حجة يُحتج به ويُستدل به؟
المقدم: إذا وافق الأصول يا شيخ، يعني لم يخالف شيئًا من النصوص الشرعية.
اسمع كلام الكرماني في غاية الجودة، قلت: لا، إذ يُشترط في الاستدلال به أن يكون الراوي ضابطًا عند السماع، والنوم ليس حالة ضبط، بدليل أن الرائي في كثير من أحواله ينسى أكثر رؤياه ليس على الضبط، ولا شك أن بعض من ينتسب إلى العلم يدّعي دعاوى عريضة طويلة أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال له، وذكر له، وسأل عن حديث فلان فصححه، وسأله عن الفرقة الفلانية وأجابه، المقصود أن مثل هذه الأمور التوسع فيها، حصل من بعضهم، وهو توسع غير مرضي؛ لأن الدين كمل بوفاته -عليه الصلاة والسلام-، ولا يثبت دينٌ برؤيا، وإنما يثبت بالنصوص الصحيحة عن الله وعن رسوله، وشرح آخر الحديث مضى في الذين قبله.
والحديث خرّجه الإمام البخاري في خمسة مواضع:-
الأول: هنا في كتاب العلم في باب إثم من كذب على النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: حدثنا موسى وهو ابن إسماعيل قال: حدثنا أبو عوانة الوضاح بن عبد الله عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة-رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «تسموا باسمي» الحديث، وتقدم ذكر مناسبته.
والثاني: في كتاب المناقب، في باب كنية النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: حدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا سفيان عن أيوب عن ابن سيرين قال: سمعت أبا هريرة -رضي الله عنه- يقول: قال أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم-: «سموا باسمي، ولا تكتنوا بكنيتي»، والمناسبة ظاهرة من جهتين، من جهة ذكر الصحابي لكنية النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن جهة نهيه -عليه الصلاة والسلام- عن التكني بكنيته.
الموضع الثالث: في كتاب الأدب، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي» قاله أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: حدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا سفيان عن أيوب عن ابن سيرين قال: سمعت أبا هريرة قال: قال أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم-، فذكره، والمناسبة ظاهرة، «سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي»، بلفظ الحديث، المناسبة ظاهرة، ومناسبة الكنية لكتاب الأدب باب «سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي» أن تكنية الشخص من الأدب.
المقدم: من الأدب.
نعم، بخلاف التسمية باسمه.
والرابع: في كتاب الأدب، باب من سمى بأسماء الأنبياء، من سمى بأسماء الأنبياء، وقال: أنسٌ قبّل النبي- صلى الله عليه وسلم- إبراهيم يعني ابنه، فالنبي-عليه الصلاة والسلام- سمى ابنه إبراهيم على النبي إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا أبو عوانة قال: حدثنا أبو حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «سموا باسمي»، وهو من الأنبياء، «ولا تكنوا بكنيتي» كما في حديث الباب سواء، والمناسبة ظاهرة.
والخامس: في كتاب التعبير في باب من رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام، قال: حدثنا عبدان عبد الله بن عثمان قال: أخبرنا عبد الله عن ابن المبارك عن يونس وهو بن يزيد الأيلي عن الزهري قال: حدثني أبو سلمة أن أبا هريرة قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي»، والمناسبة ظاهرة.
المقدم: جزاكم الله خيرًا، وأحسن إليكم، ونفع بعلمكم.
أيها الإخوة والأخوات، كنا وإياكم مع حلقة من كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، لنا بكم لقاء بإذن الله تعالى في حلقة قادمة، وأنتم على خير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.