التعليق على الموافقات (1428) - 07

 السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد:

قال المؤلف –رحمه الله- في تتمة المسألة السابعة: "فصل: وأما الثاني، فإن المكلَّف مطلوبٌ بأعمال ووظائف شرعية لا بد له منها، ولا محيص له عنها، يقوم فيها بحق ربه تعالى، فإذا أوغل في عملٍ شاقٍ، فربما قطعه عن غيره، ولاسيما حقوق الغير التي تتعلق به، فيكون عبادته أو عمله الداخل فيه قاطعًا عما كلفه الله به، فيُقصر فيه، فيكون بذلك ملومًا غير معذور؛ إذ المراد منه القيام بجميعها على وجهٍ لا يخل بواحدةٍ منها، ولا بحالٍ من أحواله فيها".

الاشتغال بنوافل العبادات، واستغراق الأوقات فيها لا شك أنه يكون على حساب غيرها؛ لأن الوقت لا يستوعب الجميع مع الإيغال والإكثار من الشيء، فإذا أخذ على نفسه أن يُصلي في اليوم والليلة من نوافل الصلاة ثلاثمائة ركعة، وكانت هذه الركعات وإن كانت عبادة مطلوبة؛ بقوله –عليه الصلاة والسلام-: «أعني على نفسك بكثرة السجود»، لكنها إن عاقت عن واجب أثِم بذلك، وإن عاقت عن مُستحب فالمفاضلة، وإن كان هذا المستحب أفضل منها فلا شك أنه يُلام، وقد تعوقه عن حقوقٍ واجبة لله –جلَّ وعلا- أو لخلقه، قد تعوق عن حقوق الزوجة مثلاً فيُقصر في حقها بسبب إيغاله في هذه العبادة، وقد تعوق عن حقوق الله –جلَّ وعلا- فيترك ما أوجب الله عليه، وما شرعه له مما هو أفضل من هذه العبادة فيُلام عليها.

وبعض الناس قد يأثم بالعبادة وهو لا يشعر، تجده -على سبيل المثال- عنده الزوجات الثلاثة أو الأربع أو الثنتان، فتجده في يوم واحدة يُكثر المُكث في المسجد، ويُصلي ما كُتب له، وقد يصوم، ويُكثر من التلاوة، وفي اليوم الثاني لا يفعل ذلك، يُثاب على هذه العبادات أو لا يُثاب؟ يأثم؛ لأن العدل واجب، فيأثم إذا تأخر في يوم وترك يوم، إذا أوغل في العبادات على حدٍّ سواء، ولم تعقه هذه العبادات عما هو أهم منها، ولم تُدخله في ترك واجب أو ارتكاب محظور، فإنما هو إنما خُلق لتحقيق العبودية وهذا منها.

والعبادات بلا شك أن بعضها يُعين على بعض هذا الأصل، لكن الكلام في القدر الزائد الذي يكون على حساب غيره مما هو أهم منه.

قد يقول قائل: إن جلوسي في المسجد بعد صلاة الصبح إلى انتشار الشمس قد يعوقني عن تحصيل العلم، نقول: إن جلوسك تذكر الله في مكانك الذي صليت فيه الصبح في جماعة هذا مما يُعينك على تحصيل العلم، وقد صرَّح به جمع من الأكابر إن هذا مما أعانهم ويُعينهم على التعليم أيضًا، فهذا مطلوب، لا نقول: إن هذا المفترض أنه بدلاً من أن يجلس يذكر الله إلى أن تطلع الشمس يكون في درس؛ لأن النفع المتعدي أهم في الجملة، ولا يُقال: مطلقًا؛ لأن أهل العلم يُطلقون مثل هذا، النفع المتعدي أفضل من اللازم، يعني إذا تساويا في أصل المشروعية، أما الصلاة ونفعها لازم أفضل من الزكاة ونفعها متعدٍّ بلا خلاف.

فالمسألة مسألة موازنة ومُفاضلة، فإذا كان الإيغال في العبادات المطلوب أصلها يكون على حساب ترك واجب أو ارتكاب محظور فإنه يُلام على ذلك، أو ترك فاضل مع أنها مفضولة، وهذا ما أشار إليه المؤلف –رحمه الله-.

"ذكر البخاري عن أبي جَحيفة"

جُحيفة..جُحيفة.

طالب: جُحيفة؟

وهب بن عبد الله السوائي صحابي معروف.

"قال: آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بين سلمان وأبي الدرداء".

المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار معروفة، لمَّا هاجروا، كانت هناك مؤاخاة قبل ذلك في مكة بين المسلمين، ثم بعد ذلك لمَّا هاجروا آخى النبي –عليه الصلاة والسلام- بين المهاجرين والأنصار، والمؤاخاة بين سلمان وأبي الدرداء هذه مذكورة في الصحيح في البخاري والقصة معروفة.

"فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء -وهي زوجةٌ- مُتبذلة، فقال لها: ما شأنك؟".

يعني لابسة ثياب بِذلة، ثياب مهنة، ومعلوم أن البيوت صغيرة، وأم الدرداء امرأةٌ كبيرة جدًّا وسلمان وأبو الدرداء أخوان في الله، وسلمان عمره طويل، حتى قيل: إنه جاوز مائتين وخمسين سنة، وقيل في ذلك: ثلاثمائة، وقيل: أقل من ذلك، حتى إن الذهبي استنكر هذا العدد هذا الرقم، وقال: إنه لا يتجاوز الثمانين بحال، لكنه لم يذكر دليلاً على ذلك، إنما مجرد استظهار.

الرجل الذي بهذا السن والمرأة كبيرة، وأخوه أبو الدرداء مؤاخاة شرعية، يعني ما هي مؤاخاة شركة مال ولا شِبهه، لا، رآها "متبذلة" يعني: غير متجهزة ومتزينة لزوجها.

قد يقول قائل: إنه سكن عندهم ويرى زوجته، فيستدل بهذا على شيءٍ مما يدعو إليه من اختلاط، هذا الكلام ليس بصحيح، رجل عمره مديد، عاش الديانات كلها الثلاث مددًا متطاولة ولا يبعد أن يبلغ عمره أكثر من مائة سنة بكثير هذا ليس ببعيد، فمثل هذا لا يُظن به السوء الذي يُلصقه به بعض الناس، والفتنة مأمونة بلا ريب، فليس في هذا مُستمسك لدُعاة الحرية.

طالب:........

لا، هذا بالمدينة.

طالب:........

في المدينة على كل حال.

"قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجةٌ في الدنيا".

نعم هي تُعرِّض أنه ليس له بها حاجة؛ إنما هو منقطع للعبادة.

"فجاء أبو الدرداء فصنع له طعامًا، فقال له: كل فإني صائم، فقال: ما أنا بآكلٍ حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال: نم، فنام، ثم ذهب ليقوم، فقال: نم. فلما كان من آخر الليل، قال سلمان: قم الآن، فصلينا".

الرواية التي في الصحيح "فصليا"، يعني أبو الدرداء وسلمان.

"فلمَّا كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم" أولاً: كان هذه تامة، والليل فاعل فـ"ذهب" إعرابها؟ "فلمَّا كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم".

طالب:.........

نعم.

طالب:.........

صحيح من أفعال الشروع ما يذكرونها في كتب النحو (ذهب) أنشأ وطفق وعلِق، لكن معناها ولا شك أنه شروع.

فقال له سلمان: إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعطِ كل ذي حق حقه، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر له ذلك، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «صَدَقَ سَلْمَانُ»".

وفي روايةٍ: «سلمان أفقه منك».

سلمان ينهى أبا الدرداء عن العبادة، نهاه عن الصيام وأمره بالفطر، ونهاه عن القيام حتى تأخر في قيام الليل جدًّا، لماذا؟ لأنه يترتب على فعل أبي الدرداء ترك واجب، وهو إهماله لنفسه، ولأهله، ولزوره، ترتب عليه تفويت الحقوق الواجبة.

"وقوله -عليه الصلاة والسلام- لمعاذ: «أفتَّان أَنْتَ، أَوْ أَفَاتِنٌ أَنْتَ؟» ثلاث مرات".

«أفتَّان أَنْتَ، أَوْ أَفَاتِنٌ أَنْتَ؟» الإعراب؟

الهمزة للاستفهام "فتان" مبتدأ.

طالب:........

نعم.

طالب:........

أأنت فتان؟ ما إعرابها؟ خبر مقدم لمبتدأ مؤخر.

من فاعل الفتنة؟

طالب:........

نعم.

طالب:........

إذا قلنا: أقائمٌ الزيدان؟ يعربون الزيدان فاعل سد مسد الخبر، لكن هنا؟

وما المانع من أن يكون خبرًا الزيدان، عدم المطابقة يمنع من أن يكون خبرًا، لكن هنا في ما يمنع من أن يكون الخبر؟ ها يا شيخ.

طالب: في الثانية «أَفَاتِنٌ أَنْتَ؟»؟

كلها أفتانٌ أو فاتن، هذه فتان صيغة مبالغة، وفاتن اسم فاعل.

طالب: إذًا اسم فاعل رافعٌ لمُكتفى به مثل: أقاطن قوم سلمى أم نووا ظعنًا.

يعني فاعل سد ما سد الخبر.

الذي يمنع من إعراب الزيدان في أقائمٌ الزيدان يقولون: عدم المطابقة بين المبتدأ والخبر، المبتدأ مفرد، والخبر مثنى، لا بُد من المطابقة، الآن هنا مطابق ما الذي يمنع من أن يكون مبتدأً وخبرًا؟ على كل حال يجوز إعرابها فاعل سد مسد الخبر؛ لأنه فاعل في الحقيقة، الذي فعل الفتنة أنت، لكن المانع من إعرابه خبرًا في أقائمٌ الزيدان؟ عدم المطابقة، هناك يتعين إعرابه فاعلًا سد مسد الخبر، وهنا لا مانع من أن يُعرب فاعلًا سد مسد الخبر أو خبر.

طالب:........

كيف؟

طالب:........

 

لكن من حيث المعنى هل هو يُخبر أو يُسند الفتنة إليه؟ هل هو يُخبر عنه؟ «أفتَّان أَنْتَ؟» ولو قلنا: بالتقديم والتأخير تقدير أنت فتانٌ، وتقديم الفتنة للعناية بها، والاهتمام بشأنها، لكن المطابقة موجودة، فهل يمنع مانع من أن تُعرب جملة على أصلها مبتدأ وخبر، بدل من أن نقول: فاعل سد مسد الخبر، وهو في المعنى فاعل، يعني لو حولت صيغة المبالغة أو اسم الفاعل إلى فعل أعربنا «أنت» فاعلًا بلا شك.

طالب: أقول: هنا وصف فتان وفاتن؟

وصف يعمل عمل فعله.

طالب: ...المبتدأ ويرفع... على أنه فاعل.

ويرفع...فاعل سد مسد الخبر.

لكن المانع الأصلي من أقائمٌ الزيدان؟ الذي يذكرونه عدم المطابقة لا يوجد هنا.

«فلولا صليت بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1]، و{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1]، و{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1]، فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الْحَاجَةِ»، وكان الشاكي به رجل أقبل بناضحين وقد جنح الليل، فوافق معاذًا يصلي، فترك ناضحيه وأقبل إلى معاذ، فقرأ سورة البقرة والنساء، فانطلق الرجل. انظره في البخاري".

يشتكي إلى النبي –عليه الصلاة والسلام- انفرد وكمَّل صلاته، وذهب إلى النبي –عليه الصلاة والسلام- ووصِف هذا الشاكي بأنه منافق، لكنه في الحقيقة ليس بمنافق، لكنه محتاج «فإن فيكم الضعيف، والكبير، وذا الحاجة» فهذا صاحب حاجة.

"وكذلك حديث: «إِنِّي لَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صلاتي» الحديث".

وهذا فيه نوعٌ من التشريك المباح، بل المشروع؛ لأن الذي فعله النبي –عليه الصلاة والسلام- أنه يدخل الصلاة يُريد تطويلها، ثم إذا سمع بكاء الصبي خفف؛ مراعاةً لحال أمه، وعكسه التطويل عند الحاجة إليه كتطويل الإمام الركوع انتظارًا للداخل، المالكية لا يُجيزون مثل هذا، بل يقولون: إنه تشريك في العبادة، والتشريك ممنوع.

نقول: مادام جاز التخفيف من أجل بكاء الصبي، فلأن يجوز تطويل الركوع من أجل الإحسان إلى هذا الداخل؛ ليُدرك الصلاة، ويُدرك الركعة من باب أولى؛ شريطة ألا يشق على المأمومين؛ لأن المأمومين الذين تقدموا إلى الصلاة أولى بالمراعة من هذا الداخل.

طالب:........

نعم.

طالب:........

عروة بن الزبير وغيره قُطعت أرجلهم.

طالب:........

المسألة مسألة طويلة الذيول، يعني حتى وجِد من يُصعق لسماع القرآن، والنبي –عليه الصلاة والسلام- أكمل الناس، وأتقى الخلق، وأخشاهم لله وأعرفهم بربه ما حصل له شيءٌ من ذلك، والمسألة ذكرناها مرارًا، وبسطناها في مواضع، وقلنا: إن الرسول –عليه الصلاة والسلام- يستشعر ويستحضر عظمة المتن، وعظمة القرآن {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزَّمل:5] القرآن ثقيل جدًّا { لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21].

والقلب قوي يحتمل مثل هذا، قلب الرسول -عليه الصلاة والسلام- وقلوب الصحابة مع استشعارهم هذه العظمة إلا أن القلوب قوية تحتمل مثل هذه الأمور.

في عصر التابعين وجِد الاستشعار لعظمة القرآن وضعفت القلوب ما صاروا يتحملون مثل هذا، صاروا مثل ما قال الله -جلَّ وعلا- عن الجبال: { لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21] قلب ابن آدم شيء، أقول: ضعيف لا يُقاوم الجبال، والجبال كما قال جمعٌ من أهل العلم لم تُليَّن لأحد بخلاف الحديد، فالجبل يخشع ويهبط من خشية الله، والقلب الضعيف إذا استشعر عظمة هذا القرآن لا بُد أن يحصل له شيءٌ من هذا، إذا لم يكن فيه قوة مثل قلب الرسول –عليه الصلاة والسلام- وقلوب أصحابه.

ثم بعد ذلك تتابعت القرون، فخفيت على كثيرٍ من الناس عظمة هذا القرآن، بسبب ما ران على القلوب وجِدت الغفلة، وجِد الصدود، وجِدت قسوة في القلوب، فما صاروا يستشعرون عظمة القرآن، وإلا ضعف القلوب موجود ما صار كان كأن الأمر لا يعنيهم، فانقطع هذا منذ أزمانٍ متطاولة قد يوجد في النوادر، لكنه في عصر التابعين وتابعيهم موجود وجود كثرة، نسمع كثيرًا أنه صار، وإن كان محمد ابن سيرين التابعي الجليل يُشكك في مثل هذا فيما نقله عنه الحافظ الذهبي، قال: يُجعل مثل هذا على حائط ويُتلى القرآن إن سقط فهو صادق.

وشيخ الإسلام –رحمه الله- يُقرر أن مثل هذا قد يُوجد، قد يُوجد صعق للإنسان من سماع القرآن؛ لضعف القلب وعظمة المسموع.

على كل حال المسألة طويلة، ويُنكرها كثيرٌ من أهل العلم؛ استدلالاً بحال النبي –عليه الصلاة والسلام- أنه لم يحصل له شيءٌ من ذلك، ولا صحابته الكرام، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، لكن الواقع والوقائع المستفيضة الكثيرة عن التابعين ومن تبعهم موجودة سواءٌ قلنا: ضعف أو ليس بضعف، لكن إذا قارنا ضعف الاستشعار مع ضعف القلب وجدنا أن ضعف القلب أسهل من ضعف الاستشعار، يعني قد يُوجد عندنا الآن في أيامنا هذا من يسمع القرآن المؤثِّر ولا يلين قلبه، نقول: هذا لا يستشعر، وقلبه ضعيف، لكن لو استشعر لأثر فيه، والله المستعان.

طالب:..........

يُفتح الباب.

طالب:..........

نعم، مُشرّع، لكن تدري أن أحوال الناس تختلف، بعض الناس إذا فتح الباب خلاص انتهت صلاته، لن يُدرك منها شيئًا، وإن سمع بكاء صبي خلاص انصرف عن صلاته بالكلية، النبي– عليه الصلاة والسلام- يحصل هذا بين يديه ويشعر به، ويُقبل على ربه، وعنده من استشعار عظمة الله –جلَّ وعلا- ما لا يُدرك.

الأَنبجانيَّة كادت أن تفتنه، كساء فيه خطوط كادت أن تفتنه في صلاته.

أحيانًا نصلي في بعض المساجد، والله ما نُدرك من صلاتنا شيئًا من الزخارف، الرسول كادت أن تفتنه؛ ولذلك أعادها إلى صاحبها، ونحن نصلي في بعض المساجد ما كأن أمرًا يعني يقلب الإنسان...، في بعض المساجد من له أدنى ذوق في الخط والرسم لن يُدرك من صلاته شيئًا، لن يُدرك ولا واحدًا بالمائة من صلاته، نقوش وزخارف ومع ذلك...-والله المستعان- وبعض الناس بدون زخارف يدخل الصلاة ويخرج منها بلا شيء.

شخص يقول: دخلت مسجدًا كبيرًا جدًّا إلا أنه ليس بجامع، صليت بجوار المؤذِّن، هذا شخص يقول: صلى في مسجد كبير إلا أنه ليس بجامع، صلى بجوار المؤذِّن، مسجد كبير جدًّا، يقول: لمَّا كبَّرت أتأمل لماذا هذا المسجد ليس بجامع، توجد جوامع أصغر منه؟ ثم قلت: هذا لم يُوضع فيه منبر، فإذا بجوار المحراب غرفة، هدم الغرفة، ونقل العفش الذي فيها إلى مؤخرة المسجد، وسلَّم ما بقي عليه إلا الإذن من المسؤولين والمتابعة، انتهت صلاته بهذا، الإنسان قد تنتهي صلاته في أمر الله يعني ولا شك أن هذا من انصراف القلوب وصدوده، نسأل الله العافية، والله المستعان.

طالب:..........

تشريك الجهاد في الصلاة، عمر بن الخطاب يُجيش الجيوش وهو في الصلاة، تشريك عبادة بعبادة، لكن الإقبال على العبادة التي هو بصددها أولى من أن ينصرف إلى غيرها من العبادات.

طالب:..........

هو الآن كل عبادة لها وقت محدد، وهي في هذا الوقت أفضل من غيرها باتفاق، يعني التسبيح في الركوع أفضل من القرآن، في السجود أفضل من القرآن، التشهد أفضل من القرآن في وقته، كل شيء في وقته، والصلاة في وقتها إذا دخل فيها أفضل من الجهاد.

طالب:..........

ذكرت أنا قصة الشخص الذي يُصلي في الدور الثاني في المسجد الحرام، ويُطل على الكعبة والمطاف، والإمام يقرأ بقراءةٍ مؤثرة، وصوتٍ جميل، وآياتٍ عظيمة تهز القلوب وهو يبكي، يبكي لا من القراءة، يبكي من رؤية الناس يموجون في صحن الحرم، ويتذكر ما يحصل في المحشر فبكى، هذا تشريك، تشريك عمل نافع وخير وفضل، لكنه صرفه عن عبادته التي هو بصددها.

"ويُروى عن محمدٍ بن صالح أنه دخل صوامع المنقطعين، ومواضع المتعبدين، فرأى رجلاً يبكي بكاءً عظيمًا؛ بسبب أن فاتته صلاة الصبح في الجماعة لإطالته الصلاة من الليل".

يحصل مثل هذا في العشر الأواخر من رمضان، يعني التغير ظاهر في صلاة الفجر في جميع المساجد في العشر الأواخر من رمضان، لماذا؟ لأنهم يتعبون في التهجد وفي السهر، ثم يكون على حساب صلاة الفجر إلا أنه على حساب تحقيق سُنَّة لا على حساب أصل الصلاة، يصلون الصلاة ويأتون بشروطها وأركانها وواجباتها، لكن إطالتها وتحسينها، وتحسين القراءة فيها، يأتي عليه شيء من النقص؛ بسبب إطالة قيام الليل والسهر، يعني ما نُدرك هذا من صلاة الفجر في العشر الأواخر أقل بكثير من صلوات الشهور الأخرى، والأيام الأخرى، كله بسبب السهر، إلا أن هذا باعتباره لا يتناول شيئًا من الشروط، ولا الواجبات، ولا الأركان يُتسامح فيه.

"وأيضًا فقد يعجز الموغل في بعض الأعمال عن الجهاد أو غيره، وهو من أهل الغناء فيه؛ ولهذا قال في الحديث في داود -عليه السلام-: «كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلَا يفرُّ إِذَا لَاقَى»".

نعم هو ينفع في الجهاد، له غناء في الجهاد «وَلَا يفرُّ إِذَا لَاقَى»؛ لأنه يستعين بأيام فطره على أيام صيامه.

"وقيل لابن مسعودٍ -رضي الله عنه-: وإنك لتُقل الصوم. فقال: إنه يشغلني عن قراءة القرآن، وقراءة القرآن أحب إلي منه".

لكن هل الصيام يُشغل عن قراءة القرآن أو يُعين على قراءة القرآن؟ الناس يتفاوتون، بعض الناس إذا صام شغله عن جميع الأعمال، وبعض الناس إذا صام استعان به على كثير من الأعمال، لاسيما التلاوة التي لا تكلف شيئًا، لا تُكلف شيئًا التلاوة -والله المستعان-.

"ونحو هذا ما حكى عياضٌ عن ابن وهب أنه آلى أن لا يصوم يوم عرفة أبدًا؛ لأنه كان في الموقف يومًا صائمًا، وكان شديد الحر فاشتد عليه. قال: فكان الناس ينتظرون الرحمة وأنا أنتظر الإفطار".

أولاً: صيام يوم عرفة للحاج لا شك أنه أقل أحواله الكراهة الشديدة، وبعض أهل العلم صرَّح بتحريمه، والشيخ/ ابن باز –رحمه الله- يقول: يأثم من صام يوم عرفة بعرفة.

ومن أهل العلم من يرى أنه صيامه جائز، والوعد المرتب عليه متحقق ولو كان حاجًّا؛ لأنه لا منافاة بين الوقوف وبين الصيام.

وأما قول ابن وهب: "الناس ينتظرون الرحمة وأنا أنتظر الإفطار" هذا الكلام في الظاهر صحيح، لكن الرحمة إنما تُنتظر بمثل الصيام، يعني لو كان جائزًا، يعني لو لم يرد أن النبي– عليه الصلاة والسلام- أفطر وأشهر الفطر على الناس لقلنا: إن النص عام، ويتناول الحاج وغير الحاج، وقلنا: إن الرحمة إنما تُنتظر بالصيام، لاسيما وأن الصيام مما يُعين على التلاوة، ويُعين على الدعاء، ويُعين على الذكر، والفطر قد يجعل الإنسان في حالٍ يُنفق شيئًا من وقته على الأكل والشرب، ثم البحث بعد ذلك عن محلات قضاء الحاجة، وينصرف عن العبادة، يعني هذا له وهذا له، لكنه مع شدة الحر قد يحتاج إلى النوم، يحتاج إلى الراحة، يحتاج إلى كذا، ويشق عليه مزاولة بعض العبادات.

أما في الغالب أن الصيام يكون عونًا على الصلاة، وعلى الذِّكر، وعلى التلاوة –والله المستعان-.

"وكره مالكٌ إحياء الليل كله، وقال: لعله يُصبح مغلوبًا، وفي رسول الله أسوة".

نعم وروت عائشة –رضي الله عنها- أن النبي –عليه الصلاة والسلام- ما قام ليلةً كاملة، ما أحيا ليله، وذُكِر عنه –عليه الصلاة والسلام- أنه كان في العشر الأواخر يُحيي الليل، فإما أن يكون هذا خاص بالعشر الأواخر، أو يكون هذا على حد علم عائشة، وخفي عليها ما كان يفعله في العشر الأواخر، أو أن المراد بإحياء الليل إحياء الغالب غالب الليل.

"ثم قال: "لا بأس به ما لم يضر ذلك بصلاة الصبح، فإن كان يأتيه الصبح وهو نائمٌ، فلا، وإن كان وهو به فتورٌ أو كسلٌ، فلا بأس به".

التأثير لا بد منه، لكن من الناس من إذا سهر الليل نام عن صلاة الصبح أو نام في صلاة الصبح أو صلى الصبح على وجهٍ لا يعقل منها شيء، ومنهم من يسهر ويُؤدي صلاة الصبح على الوجه المطلوب، ويجلس في مُصلاه؛ حتى تنتشر الشمس إذا كان معتادًا لذلك وهو سهران، ثم بعد ذلك إذا جاء وقت النوم نام، فمثل هذا إن استغل ليله بطاعة الله –جلَّ وعلا- مطلوب، لكن إذا كان على حساب ما هو أوجب منه فلا.

"فإذا ظهرت علة النهي عن الإيغال في العمل، وأنه يُسبب تعطيل وظائف، كما أنه يُسبب الكسل والترك ويُبغِض العبادة، فإذا وجدت العلة أو كانت متوقعةً، نُهي عن ذلك، وإن لم يكن شيءٌ من ذلك، فالإيغال فيه حسن، وسبب القيام بالوظائف مع الإيغال ما تقدم في الوجه الأول من غلبة الخوف أو الرجاء أو المحبة.

فإن قيل: دخول الإنسان في العمل وإيغاله فيه، وإن كان له وازع الخوف، أو حادي الرجاء، أو حامل المحبة لا يمكن معه استيفاء أنواع العبادات، ولا يتأتى له أن يكون قائمًا الليل، صائمًا النهار، واطئًا أهله، إلى أشباه ذلك من مواصلة الصيام مع القيام على الكسب للعيال، أو القيام بوظائف الجهاد على كمالها، وكذلك إدامة الصلاة مع إعانة العباد، وإغاثة اللهفان، وقضاء حوائج الناس، وغير ذلك من الأعمال، بل كثيرٌ منها تضاد أعمالاً أُخر بحيث لا يمكن الاجتماع فيها، وقد لا تُضادها، ولكن تُؤثر فيها نقصًا، وتزاحم الحقوق على المكلف معلومٌ غير مجهول، فكيف يمكن القيام بجميع الحقوق أو بأكثرها والحالة هذه؟ ولهذا جاء: «مَنْ يُشَادَّ هَذَا الدِّينَ يَغْلِبْهُ»".

وفي (الصحيح): «ولا يُشاد أحدٌ الدِّين إلا غلبه» نعم.

وأيضًا فإن سُلِم مثل هذا في أرباب الأحوال ومُسقطي الحظوظ، فكيف الحال مع إثباتها والسعي فيها والطلب لها؟

فالجواب أن الناس -كما تقدم- ضربان:

أحدهما: أرباب الحظوظ، وهؤلاء لا بُد لهم من استيفاء حظوظهم المأذون لهم فيها شرعًا، لكن بحيث لا يُخل بواجبٍ عليهم، ولا يضر بحظوظهم، فقد وجدنا عدم الترخص في مواضع الترخص بالنسبة إليهم".

يعني أصحاب الالتفات إلى الدنيا والكسب والتجارة هؤلاء لهم حظوظٌ من الدنيا، لكن لا تؤثر على حساب الواجبات.

"فقد وجدنا عدم الترخص في مواضع الترخص بالنسبة إليهم مُوقعًا في مفسدةٍ أو مفاسد يعظم موقعها شرعًا، وقطع العوائد المُباحة قد بويع في المحرمات".

يُوقع، قد يُوقع.

"قد يُوقع في المحرمات، وكذلك وجدنا المرور مع الحظوظ مطلقًا خروجًا عن ربقة العبودية؛ لأن المسترسل في ذلك على غير تقييدٍ ملقٍ حكمة الشرع عن نفسه، وذلك فسادٌ كبير، ولرفع هذا الاسترسال جاءت الشرائع، كما أن ما في السموات وما في الأرض مسخرٌ للإنسان.

فالحق الذي جاءت به الشريعة هو الجمع بين هذين الأمرين تحت نظر العدل".

الأصل أن الله –جلَّ وعلا- خلق الجن والإنس لتحقيق العبودية {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون} [الذاريات:56]، ومع ذلك خلق لهم ما في الأرض جميعًا، خلق لهم ما في الأرض جميعًا؛ ليستفيدوا وتقوم به حياتهم؛ من أجل تحقيق الهدف، فالهدف والغاية تحقيق العبودية، ووجود مُتع الحياة والإفادة منها إنما هو للاستعانة بها على تحقيق الهدف.

فبعض الناس يعكس حتى إنه يفهم قول الله –جلَّ وعلا-: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} [البقرة:45] فهو يصبر ويُصلي؛ لتحقيق حظه من الدنيا، يستعين بالعبادة على حظ الدنيا هذا عكس، هذا قلب للهدف الشرعي، المفترض أن يستعين بما أباحه الله له من متع هذه الدنيا على تحقيق الهدف الذي من أجله خُلق.

"فيأخذ في الحظوظ ما لم يخل بواجب، ويترك الحظوظ ما لم يؤدِ الترك إلى محظور، ويبقى في المندوب والمكروه على توازن، فيُندب إلى فعل المندوب الذي فيه حظه كالنكاح مثلاً، ويُنهى عن المكروه الذي لا حظ فيه عاجلاً كالصلاة في الأوقات المكروهة، ويُنظر في المندوب الذي لا حظ له فيه، وفي المكروه الذي له فيه حظ -أعني: الحظ العاجل- فإن كان ترك حظه في المندوب يؤدي لِما يكره شرعًا، أو لترك مندوبٍ هو أعظم أجرًا، كان استعماله الحظ وترك المندوب أولى، كترك التمتع بزوجته المؤدي إلى التشوف إلى الأجنبيات، حسبما نَبه عليه حديث: «إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ امْرَأَةً فأعجبته...» إلى آخره.

وكذلك ترك الصوم يوم عرفة؛ أو لأجل أن يقوى على قراءة القرآن".

يعني كما جاء عن ابن مسعود، نعم.

"وفي الحديث «إِنَّكُمْ قَدِ اسْتَقْبَلْتُمْ عَدُّوَّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ».

وكذلك إن كان ترك المكروه الذي له فيه حظ يؤدي إلى ما هو أشد كراهةً منه، غُلِّب الجانب الأخف، كما قال الغزالي: إنه ينبغي أن يُقدم طاعة الوالدين في تناول المتشابهات".

لا شك أن ارتكاب أخف الضررين أمرٌ مقرر شرعًا؛ لدفع أعلاهما، كما أن ترك أن ترك أدنى المصلحتين مقررٌ شرعًا؛ لتحصيل أعلاهما، فطاعة الوالدين تُقدم على تناول المتشابهات، يعني لو أن أباه أمره أن يدخل في معاملةٍ فيها اشتباه ليس فيها مُحرَّم إنما فيها شيء كرهه بعض أهل العلم وما أشبه ذلك، نقول: أطع أباك، من طلاب العلم من سعى له أبوه عند ولي الأمر بقطعة أرض يستعين بها على زواجه، طلب له قطعة أرض فمُنِح هذه القطعة فردها على أبيه، وهي من السلطان من غير استشراف، ولا طلبها، ولا فيها أدنى إشكال، إلا أنه قال: يقول: إن أهل العلم لا يقبلون العطيات، ولا يقبلون الهبات، لكن هذا في مقابل ماذا؟ في مقابل طاعة الوالد، الوالد سعى وتجشَّم، وفي النهاية تُرد، هذا كلام ليس من الفقه مثل هذا ليس من الفقه في شيء.

"إنه ينبغي أن يُقدم طاعة الوالدين في تناول المتشابهات على التورع عنها مع عدم طاعتهما، فإن تناول المتشابهات للنفس فيها حظ، فإذا كان فيها اشتباهٌ طُلب التورع عنها وكره تناولها لأجله، فإن كان في تناولها رضى الوالدين، رجح جانب الحظ هنا؛ بسبب ما هو أشد في الكراهية، وهو مخالفة الوالدين، ومثله ما رُوي عن مالك أن طلب الرزق في شبهةٍ أحسن من الحاجة إلى الناس".

ولذا يُقرر شيخ الإسلام –رحمه الله- أن المال الذي فيه شبهة تُسدد به الديون؛ لأن شغل الذمة أعظم من كون المال فيه مجرد شبهة، بخلاف المال المُحرَّم، المال المُحرَّم لا يجوز لا أكله، ولا التصدق به، ولا سداد الديون منه، المال المُحرَّم، أما ما فيه شبهة فإنه يجوز أن تُسدد به الديون، وقد يجوز أكله؛ لكونه أفضل من أن يتكفف الناس أو يعرض نفسه، ويذل نفسه للناس، فالشبهة التي لم يتحرر فيها الحكم من حرمةٍ أو إباحة..

طالب: يعني هذه مسألة التائب عن التعامل بالربا...الكفار؟

هذا يتخلص منه.

طالب: يعني يأخذ الفائدة ويتخلص منه كيف؟

يتخلص لا ينوي بها التقرب إلى الله –جلَّ وعلا-؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وقال النبي– عليه الصلاة والسلام-: «الحجام كسبه خبيث أطعمه ناضحك»، فلو اشتُرى بمثلها علفًا للدواب أو مادام المال خبيثًا يُصرف في المصارف الخبيثة مثل: دورات المياه، ومثل: الصرف وما أشبه ذلك كان مناسبًا.

"فالحاصل أن الحظوظ لأصحاب الحظوظ تُزاحم الأعمال، فيقع الترجيح بينها، فإذا تعين الراجح ارتُكب وتُرك ما عداه، وبسط هذه الجملة هي عُمدة كلام الفقهاء في تفاريع الفقه.

والثاني: أهل إسقاط الحظوظ، وحكمهم حكم الضرب الأول في الترجيح بين الأعمال، غير أن سقوط حظوظهم لعزوب أنفسهم عنها".

عزوف..عزوف.

طالب: لعزوف؟

نعم.

"لعزوف أنفسهم عنها منع الخوف عليهم من الانقطاع وكراهية الأعمال، ووفقهم في الترجيح بين الحقوق، وأنهضهم من الأعمال بما لم ينهض به غيرهم، فصاروا أكثر أعمالاً، وأوسع مجالاً في الخدمة، فيسعهم من الوظائف الدينية المتعلقة بالقلوب والجوارح ما يستعظمه غيرهم ويعده في خوارق العادات".

نعم، بعضهم أنكر أن يُصلي –كما نُقل عن الإمام أحمد- ثلاثمائة ركعة، وقال: هذا مستحيل، كيف يُصلي ثلاثمائة ركعة؟! كيف يختم القرآن في ست ساعات؟! مستحيل؛ لأن هذا قاس الناس على نفسه، نفسه لا تُطيق ولا عُشر هذا الأمر، لا تُطيق مثل هذه الأمور، فظن الناس كلهم مثله، والنفس بالتدريب والتمرين تستجيب، لكن بقدر ما يستوعبه الوقت، لا أكثر من ذلك بقدر ما يستوعبه الوقت.

 ولو ادعى شخصٌ أنه مرَّن نفسه؛ حتى صار يقرأ القرآن كله في ساعة، قلنا: ما هو بصحيح، هذا الكلام ليس بصحيح الوقت لا يستوعب؛ ولذا لمَّا قال ابن المطهِّر الحلي عن علي بن أبي طالب في (منهاج الكرامة) قال: إن عليًّا يُصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، قال شيخ الإسلام– رحمه الله تعالى-: الوقت لا يستوعبه.

هذا الكلام صحيح لا يستوعب الوقت، يعني أقل ركعة بدقيقة، يعني أقل قدر مُجزئ من الركعة بدقيقة، فالوقت لا يستوعب.

والصوفية لهم نظرات، ولهم تقديرات في هذا الأمر، ويُشبههم أهل البرمجة العصبية الذين نبغوا في آخر الزمان، وقالوا: إنه يتمكن الإنسان أن يقرأ الكتاب عشرة مجلدات في لحظة أو في ساعة أو في شيءٍ من هذا كله، هذا كلام ليس بصحيح، وإلا ما يوجد أحرص من الصحابة على الخير كانوا يقرؤون القرآن في لحظة ويحصل لهم ثلاثة ملايين حسنة، هذا الكلام ليس بصحيح، وليس بشرعي.

ذكرت مرارًا أن القسطلاني في (إرشاد الساري) ذكر عن بعض الشيوخ الذي وصفهم بالمعرفة، قال: إنه قرأ القرآن في أسبوع، وقيل: في شوط، هذا كلام ليس بصحيح، أسبوع يعني: الدوران على الكعبة سبع مرات، هذا الكلام ليس بصحيح، وقيل: في شوط، يعني الواحد بإمكانه يقرأ القرآن سبع مرات في الطواف، هذا الكلام ليس بصحيح، وهذا الكلام لا شك أنه يفتح بابًا ومجالاً لأهل الشطحات، ولأهل التعلق بالخرافات، والوقت لا يستوعب.

أما كون القرآن يُقرأ في ست ساعات، يعني في الساعة خمسة أجزاء فهذا مُجرَّب ومعروف، ومع ذلك لا يُمكن أن يتأتى قراءة القرآن في هذه المدة على الوجه المأمور به بالتدبر والترتيل، لا بُد أن يكون هزًّا بهذه الطريقة.

طالب: أقول: هذا الذي يتخرَّج عليه ما قيل في عثمان -رضي الله تعالى عنه-؟

ما قيل في عثمان بإمكانه أن يقرأ القرآن في ست، سبع ساعات في الليلة، يُصلي بعد صلاة العشاء إلى طلوع الصبح، كم؟ ثماني ساعات يقرأ القرآن بالراحة.

"وأما أنه يمكنهم القيام بجميع ما كُلفه العبد ونُدب إليه على الجملة، فمُتعذر، إلا في المنهيات، فإنه تركٌ بإطلاق".

نعم أما المأمورات فلا يُمكن بأن يأخذوا العزيمة، ويوغلوا في جميع المأمورات، هذا مستحيل الوقت ما يستوعب، يوغل في جميع نوافل العبادات فعلاً هذا لا يستوعب، لكن التروك الوقت يستوعب؛ لأنها ما تحتاج إلى وقت، يعني يترك الزنا، يترك الشرب، يترك السرقة، يترك.....إلى آخر ذلك من المحرمات، بإمكانه أن يترك ولا يتعارض هذا مع فعل ما أُمر به، نعم.

"فإنه تركٌ بإطلاق، ونفي أعمالٍ لا أعمال، والنفي العام ممكن الحصول".

يقول: ونفي أعمالٍ لا إعمال.

طالب: لا إعمال؟

يجوز هذا وهذا، يعني لا أعمال يعني موجودة أو لا إعمال للبدن في إيجاد هذه الأعمال.

"والنفي العام ممكن الحصول بخلاف الإثبات العام، ولمَّا سقطت حظوظهم صارت عندهم لا تُزاحم الحقوق إلا من حيث الأمر، كقوله: «إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا»، وحقه من حيث هو حق له ضعيفٌ عنده أو ساقط، فصار غيره عنده أقوى من حظ نفسه، فحظه أيضًا".

فحظه إذًا.

طالب: وحظه إذًا أم أيضًا؟

عندنا إذًا.

"فحظه إذًا آخر الأشياء المستحقة، وإذا سقطت الحظوظ لحق ما هو بدلٌ عنها؛ لأن زمان طلب الحظ لا يبقى خاليًا، فدخل فيه من الأعمال كثير، وإذا عمل على حظه من حيث الأمر، فهو عبادةٌ كما سيأتي، فصار عبادةً بعد ما كان عادة، فهو ساقطٌ من جهته، ثابتٌ من جهة الأمر كسائر الطاعات، ومن هنا صار مُسقَط الحظ".

مُسقِط.

صار مُسقِط الحظ أعبد الناس، بل يصير أكثر عمله في الواجبات، وهنا مجالٌ رحب له موضعٌ غير هذا".

يعني إذا قلنا: إن الجماعة لا تلزم النساء أو قلنا: إن الجمعة لا تلزم المسافر هم يقولون: من حضرها أجزأته، لماذا؟ لأن عدم جوبها وعدم لزومها من أجل حظ نفسه، فإذا أسقط حظ نفسه وحضر ما لم يجب عليه صار آخذًا بالعزيمة.

 

اللهم صلِّ على محمد.