ينبغي للمحرم ألا يتكلم إلا بما يعنيه، وغير المحرم كذلك. قال -صلى الله عليه وسلم-: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» [الترمذي: 2317]، والمحرم من باب أولى. وجاء الحث على حفظ الجوارح في الحج، وأيضًا في سائر الأحوال والأوقات والأزمان، لكنه بالنسبة للحاج أولى؛ ليرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه. كما يقال أيضًا مثل هذا بالنسبة للصائم. وكثير من الناس تسول له نفسه، أو تمنيه أن يسلك هذا المسلك إذا حجّ، لا سيما وأن الحجّ يمكن أن يؤدّى بأربعة أيام. فيقول الإنسان بإمكانه أن يملك نفسه، ويملك جوارحه خلال الأربعة الأيام. لكن الواقع يشهد بضده ولو حرص الإنسان ما دامت أيامه معمورة بالقيل والقال فإنه لن يستطيع أن يملك نفسه في هذه الأيام. ولو اعتزل ولم يأته أحد لذهب يبحث عن من يتكلم معه فيما كان يتكلم به طول حياته وأيام رخائه، وقد وُجد من يغتاب الناس عشية عرفة، ووُجد من يسبّ الناس ويشتمهم عشية عرفة؛ لأنه مشى على هذا طول حياته، ولم يتعرف على الله في الرخاء ليعرفه في مثل هذه الشدة. ووجد من يتابع النساء في عرفة؛ لأنه في سائر أيامه مشى على هذا. ويوجد من ينام عشية عرفة إلى أن تغرب الشمس؛ لأنه مفرط في بقية أيامه، والجزاء من جنس العمل، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [سورة فصلت: 46]، هذا ما قدمت يداك، وهذا ما جنيت على نفسك. فعلى الإنسان أن يحرص على حفظ جوارحه طول حياته، ليُحفظ في مثل هذه الأيام. وقد وجد من يغتاب في الاعتكاف، ووجد من ينام عن ليلة ترجى أن تكون ليلة القدر وهو معتكف؛ لأنه طول أيامه على هذه الحالة. وإذا كان المعتكف ديدنه التأخر عن الصلوات، وهذا أمر مشاهد ومجرب، نسأل الله -جل وعلا- أن يعفو عن الجميع، ثم خرج بعد أن أعلن عن الشهر، مغرب آخر يوم من رمضان، فإنه في الغالب إذا كانت تفوته شيء من الصلوات في شعبان، أن تفوته العشاء، أو يفوته شيء منها ليلة العيد، وهو الآن خرج من المعتكف؛ لأنه ما تعرف على الله في الرخاء.
ونعرف أناس -ولله الحمد- لا فرق عنده بين عشية عرفة وغيره، ولا بين الاعتكاف وغيره، هذا حاله على طول العام. ولو قيل له: إن الروح تخرج الآن، لا يمكن أن يزيد تسبيحه. وهذا موجود -ولله الحمد- والخير في أمة محمد، وما زال فيها. لكن الإشكال في عموم الناس، لا سيما كثير من طلاب العلم، والله المستعان.