كتاب العلم (22)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فيقول الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-: حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الحَكَمُ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ بِنْتِ الحَارِثِ زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَهَا فِي لَيْلَتِهَا، فَصَلَّى النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ، ثُمَّ قَالَ: «نَامَ الغُلَيِّمُ» أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا، ثُمَّ قَامَ"، قال: "فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، وَصَلَّى خَمْسَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَامَ، حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ أَوْ خَطِيطَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ".

هذا الحديث ترجم له الإمام البخاري كما عرفنا في الدرس الماضي: "باب السمر في العلم"، أُخذ من كونه -عليه الصلاة والسلام- نام، أولاً صلى قبل النوم ثم نام ثم قام. وقال: «نام الغليم» وفعل ما فعل وأمر بما أمر به، فدل على أنه ما نام من صلاة العشاء إلى الصبح، دليل على أنه سمر وسهر، وحصل منه ما حصل من التوجيه لابن عباس كما في بعض طرق الحديث.

(قوله: حدثنا الحكم بفتحتين هو ابن عتيبة بالمثناة تصغير عَتبة) يعني عتبة الدار عتبة الباب وما أشبه ذلك، (وهو تابعي صغير وكان أحد الفقهاء) الحكم بن عتيبة تنقل أقواله في كتب الفقه كثيرًا. (قوله: ثم جاء، أي من المسجد. قوله: «نام الغليم» بضم المعجمة وهو من تصغير الشفقة) ليس المقصود منه التحقير وإنما شفقة، وكان عمره إذ ذاك صغير؛ لأنه عند وفاته -عليه الصلاة والسلام- ما بلغ، ناهز الاحتلام لكن ما احتلم. (والمراد به ابن عباس، ويحتمل أن يكون ذلك إخبارًا منه -صلى الله عليه وسلم- بنومه أو استفهامًا بحذف الهمزة وهو الواقع) يسأل: «نام الغليم» يعني هل نام الغليم؟

(ووقع في بعض النسخ: يا أم الغليم بالنداء وهو تصحيف لم تَثبت به رواية) يعني خطأ ما ثبتت به رواية فيكون حينئذٍ خطأً من النساخ. (قوله: أو ك، لمة بالشك من الراوي، والمراد بالكلمة الجملة)؛ لأن الكلمة تطلق ويراد بها الكلام: وكلمة بها كلام قد يؤم، يعني يقصد كما قال ابن مالك. وكلمة التوحيد: لا إله إلا الله، «وأصدق كلمة قالها الشاعر»، يعني تطلق الكلمة ويراد بها الكلام، ليست الكلمة المفردة.

طالب: .......

كلمة هي.

(بالشك من الراوي، والمراد بالكلمة الجملة أو المفردة) الأصل أنها المفردة، لكن تطلق ويراد بها الجملة أو الجمل، (ففي رواية أخرى: «نام الغلام») بالتكبير، يعني لعلها تفسير للكلمة الأخرى، الكلمة التي تشبهها إما بالتصغير أو بالتكبير، شك الراوي. (قوله: غطيطه بفتح الغين المعجمة وهو صوت نفَس النائم، والنخير أقوى منه) عندك غطيط والخطيط والشخير والنخير، كلها تصدر من النائم.

(قوله: أو خطيطه بالخاء المعجمة، والشك فيه من الراوي، وهو بمعنى الأول) الخطيط والغطيط بمعنى واحد. (وهو بمعنى الأول، قاله الداودي، وقال ابن بطال: لم أجده بالخاء المعجمة عند أهل اللغة، وتبعه القاضي عياض فقال: هو هنا وهمٌ)، لكن ما يصدر من النائم شبهه بالخاء أو شبهه بالغين؟ لأن هذه حكاية صوت، أقرب إلى الخاء أو أقرب إلى الغين؟ أقرب إلى الخاء؛ لأن هذه حكاية صوت. (وقد نقل ابن الأثير عن أهل الغريب أنه دون الغطيط) الخطيط دون الغطيط.

(قوله: ثم صلى ركعتين، أي ركعتي الفجر) يعني بعد الخمس بعد الوتر، وهنا يكون قد صلى أربع ركعات ثم خمس، لعل اثنتين من الأربع الراتبة، راتبة العشاء؛ لأنه يصليها في بيته، والمغرب يصليها في البيت، والفجر يصليها في البيت.

طالب: .......  

نعم، صلى ركعتين بعد ركعتي الوتر. هل هما بعد الوتر فنحتاج للجواب عن حديث: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا»، أو تكون ركعتي الفجر فما نحتاج إلى الجواب. هو يخرج وجهه على القول الصحيح بانتصاف الليل إذا خرج وقتها خلاص انتهى، السنة فات محلها، إلا على القول بأن وقت العشاء يمتد إلى طلوع الفجر وهذا قول أكثر أهل العلم.

قال: (وأغرب الكرماني فقال: إنما فصل بينهما وبين الخمس ولم يقل: سبع ركعات) لماذا ما قال: تسع؟ لأن الثنتين الأوليين راتبة العشاء، (ولم يقل سبع ركعات؛ لأن الخمس اقتدى ابن عباس به فيها بخلاف الركعتين) أو يقصد مع الثنتين اللتين بعد الوتر؟ يقول: فصلى خمس ركعات، ما قال: سبع ركعات، خمسًا، وثنتين، (ولم يقل سبع ركعات؛ لأن الخمس اقتدى ابن عباس به فيها بخلاف الركعتين، أو لأن الخمس بسلام والركعتين بسلام آخر انتهى) وهذا من إغراب الكرماني على ما قال ابن حجر.

 (وكأنه ظن أن الركعتين من جملة صلاة الليل وهو محتمل، لكن حملهما على سنة الفجر أولى ليحصل الختم بالوتر، وسيأتي تفصيل هذه المسألة في كتاب الصلاة في باب الوتر إن شاء الله تعالى).

طالب: .......

هو نام بعد الركعات الأربع في أول الليل، ولما جاء من المسجد من صلاة العشاء صلى أربع ركعات ثم نام، ثم استيقظ في آخر الليل صلى خمس ركعات ووترًا وركعتين، فهل هما ما يختم به قيام الليل من ركعتين خفيفتين أو هما ركعتا الفجر؟

طالب: .......

نعم. ثم صلى ركعتين، ثم سمعت غطيطه أو خطيطه ثم خرج إلى الصلاة.

طالب: .......

هذه الضجعة، كان يضجع بعد الوتر -عليه الصلاة والسلام- وقد يسمع له خطيط أو غطيط، في أحاديث أخرى.

(وسيأتي تفصيل هذه المسألة في كتاب الصلاة في باب الوتر إن شاء الله تعالى، ومناسبة حديث ابن عمر للترجمة ظاهرة لقوله فيه: قام فقال)، لكن هل القول اليسير مثل هذا: «نام الغليم» هذا يعتبر سمرًا؟ يعني لو الإنسان طلع من المسجد وراح لبيته ويصلي الركعتين وينام على طول، هذا يكون سمرًا؟ وفي طريقه كلمه واحد ورد عليه.

طالب: .......  

ماذا؟

طالب: .......

لكن يسمى سمرًا في العلم؟

(ومناسبة حديث ابن عمر للترجمة ظاهرة لقوله: قام فقال بعد قوله: صلى العشاء، وأما حديث ابن عباس فقال ابن المنير ومن تبعه: يحتمل أن يريد أن أصل السمر يثبت بهذه الكلمة، وهي قوله: «نام الغليم»، ويحتمل أن يريد ارتقاب ابن عباس لأحوال النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا فرق بين التعليم من القول، والتعليم من الفعل، فقد سمر ابن عباس ليلته في طلب العلم) يعني في العلم في طلبه لا في التعليم.

 (زاد الكرماني: أو ما يُفهم من جعله إياه على يمينه، كأنه قال له: قف عن يميني، فقال: وقفت، انتهى. وكل ما ذكره معترَض؛ لأن من يتكلم بكلمة واحدة لا يُسمى سامرًا، وصنيع ابن عباس) في ترقبه لحال النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (وصنيع ابن عباس يسمى سهرًا لا سمرًا؛ إذ السمر لا يكون إلا عن تحدث، قاله الإسماعيلي، وأبعدها الأخير؛ لأن ما يقع بعد الانتباه من النوم لا يسمى سمرًا).

 إلى وقت قريب، يعني إلى أن شاع الكهرباء وانتشر وصار الليل كالنهار والناس ما يسمرون ولا يسهرون، كانوا يسمرون على ضوء القمر في القديم وفي الحديث، لكن نسبة هؤلاء يسيرة جدًّا، الناس ينامون، يجلس في الظلام ماذا يفعل؟ لكن لما وجد الكهرباء ووجدت الاستراحات، وتوسع الناس، وكُفوا المؤونة وإلا لو الواحد يشتغل في النهار في فلاحة أو صناعة أو شيء ما سهر، لكن كفوا المؤونة بالعمل اليسير يحصل ما يقتات به، والآن يحصل بدون عمل، يعطى مبلغًا من المال وهو جالس في بيته، يسهرون الليل على شيء قد يكون مما لا يرضي الله -جَلَّ وعَلا-، الشباب لأنهم تصرف لهم رواتب من المؤسسات بسبب السعودة، وهم يعبثون وكثير منهم ليس على خير، والله المستعان.

(إذ السمر لا يكون إلا عن تحدث، قال الإسماعيلي، وأبعدها الأخير لأن ما يقع بعد الانتباه من النوم لا يسمى سمرًا. وقال الكرماني تبعًا لغيره أيضًا: يحتمل أن يكون مراد البخاري أن الأقارب إذا اجتمعوا لا بد أن يجري بينهم حديث للمؤانسة، وحديثه -صلى الله عليه وسلم- كله علم وفوائد) كله علم.

طالب: .......

 ما أدري هو في هذا الحديث أو في غيره لكن موجود.

طالب: .......

 هذا الحديث مخرج عند البخاري يمكن في أكثر من عشرة مواضع.

طالب: .......

 اسمع: واحد اثنين ثلاثة ....... تسعة عشر موضعًا.

(قلت: والأولى من هذا كله أن مناسبة الترجمة مستفادة من لفظ آخر في هذا الحديث بعينه من طريق أخرى، وهذا يصنعه المصنف كثيرًا يريد به تنبيه الناظر في كتابه على الاعتناء بتتبع طرق الحديث) يعني ما يذكر اللفظ الصريح من ألفاظ الحديث الذي يناسب الترجمة، إنما يجعل الحديث مما يناسب الترجمة؛ لكي تبحث عن طرقه وألفاظه، وهذه طريقته - رحمه الله-.

(وهذا يصنعه المصنف كثيرًا يريد به تنبيه الناظر في كتابه على الاعتناء بتتبع طرق الحديث والنظر في مواقع ألفاظ الرواة؛ لأن تفسير الحديث بالحديث أولى من الخوض فيه بالظن، وإنما أراد البخاري هنا ما وقع في بعض طرق هذا الحديث، مما يدل صريحًا على حقيقة السمر بعد العشاء، وهو ما أخرجه في التفسير)، أخرجه البخاري، يعني في كتاب التفسير. (وغيره من طريق كريب عن ابن عباس قال: «بِت في بيت ميمونة فتحدث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أهله ساعةً ثم رقد» الحديث، فصحت الترجمة بحمد الله تعالى من غير حاجة إلى تعسف ولا رجم بالظن).

 ما الذي يجعل الشراح يبحثون عن مناسبة، أحيانًا يجدون، وأحيانًا لا يجدون، أحيانًا يُبعدون وأحيانًا يتلمسون؟

وابن حجر -رحمه الله- لأن ابن حجر ما يشرح الحديث إلا بعد معرفة جميع أطرافه، ابن حجر يجمع أطراف الحديث وينظر فيها جميعًا، وحينئذٍ يتضح معناه؛ لأن بعض الروايات يفسرًا بعضًا، وبعضها مجمل وبعضها فيه تفصيل، بعضها مختصر وبعضها فيه تطويل، وبهذا يتضح المقصود.

وأهل العلم يقولون: الباب إذا لم تُجمع طرقه لم يتبين خطؤه؛ لأنه قد يرد عليك إشكال كبير جدًّا في هذا اللفظ، لكن لو اطلعت على بقية الروايات زال الإشكال.

(فإن قيل: هذا إنما يدل على السمر مع الأهل لا في العلم؟ فالجواب أنه يلحق به والجامع تحصيل الفائدة، أو هو بدليل الفحوى؛ لأنه إذا شُرع في المباح ففي المستحب من طريق الأَولى، وسنذكر باقي مباحث هذا الحديث حيث ذكره المصنف مطولاً في كتاب الوتر من كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى. ويدخل في هذا الباب حديث أنس: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطبهم بعد العشاء»، وقد ذكره المصنف في كتاب الصلاة، ولأنس حديث آخر في قصة أسيد بن حضير، وقد ذكره المصنف في المناقب، وحديث عمر: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يسمر مع أبي بكر في الأمر من أمور المسلمين» أخرجه الترمذي والنسائي ورجاله ثقات، وهو صريح في المقصود إلا أن في إسناده اختلافًا على علقمة، فلذلك لم يصح على شرطه.

 وحديث عبد الله بن عمرو: «كان نبي الله -صلى الله عليه وسلم- يحدثنا عن بني إسرائيل حتى يصبح لا يقوم إلا إلى عظيم صلاة» رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة، وهو من رواية أبي حسان عن عبد الله بن عمرو وليس على شرط البخاري، وأما حديث: «لا سمر إلا لمصل أو مسافر» فهو عند أحمد بسند فيه راوٍ مجهول، وعلى تقدير ثبوته فالسمر في العلم يُلحق بالسمر في الصلاة نافلةً، وقد سمر عمر مع أبي موسى في مذاكرة الفقه فقال أبو موسى: الصلاة؟ فقال عمر: إنا في صلاة، والله أعلم).

 يعني إذا سمر طالب علم يقرأ في كتب، ويحرر المسائل، وضاق عليه وقت الصلاة. كان الشافعي -رحمه الله- يقسم الليل إلى ثلاثة أقسام: ينام الثلث، ثم يقوم في تحرير المسائل العلمية ثلثًا، ثم يصلي الثلث. بعض طلاب العلم يتأخر عن الصلاة المفروضة، تجده لا يأتي إلى المسجد إلا آخر الناس، لكنه في بيته منشغل بعلم، فهل نقول: إن التبكير المأمور به أفضل من هذا العلم، أو نقول: إن العلم نفعه متعدٍ، وفضله عظيم، وهو أفضل من نوافل العبادة، انشغل بالعلم ولو تأخرت، لكن الواجب لا تتركه، يعني صلاة الجماعة ما يجوز تركها بهذا العذر.

طالب: .......

لا شك أن النظر يدخل في مثل هذا، لا سيما إذا برأ من عهدة التقليد، إذا كان أحد يقلده وتأخر؛ لأن فلانًا يتأخر ولو كان في التبكير فضل لما سُبق إليه، وهكذا، هذه مسألة ثانية.

طالب: .......

 يعني مرجح من جهة أخرى، وإلا لا شك أن العلم أنفع؛ لأن نفعه متعدٍ، وفضله أعظم، وقد جاء فيه من النصوص ما لم يأتِ في نوافل العبادات الأخرى.

طالب: .......

لا لا ....... الصلاة في وقت أطول، الصلاة يستوعب الثلث، فعمر يقول: نحن في صلاة.

طالب: .......

نعم، نافلة، ما يمكن أن يتصور أنها الفريضة.

طالب: .......

 مع أبي موسى.

طالب: .......

نعم.

طالب: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال الإمام أبو عبد الله البخاري -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-: "بَابُ حِفْظِ العِلْمِ.

حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عنهُ-، قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَلَوْلاَ آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا، ثُمَّ يَتْلُو: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالهُدَى} [البقرة: 159] إِلَى قَوْلِهِ: {الرَّحِيمُ} [البقرة: 160]. إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنَ المُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ، وَإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمُ العَمَلُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِشِبَعِ بَطْنِهِ، وَيَحْضُرُ مَا لاَ يَحْضُرُونَ، وَيَحْفَظُ مَا لاَ يَحْفَظُونَ.

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَبُو مُصْعَبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عنهُ-، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنْسَاهُ؟ قَالَ: «ابْسُطْ رِدَاءَكَ» فَبَسَطْتُهُ، قَالَ: فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «ضُمَّهُ» فَضَمَمْتُهُ، فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَهُ.

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ بِهَذَا، أَوْ قَالَ: غَرَفَ بِيَدِهِ فِيهِ.

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عنهُ- قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وِعَاءَيْنِ: فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا البُلْعُومُ".

في بعض النسخ الآيتان مرقمتان بـ74 و75: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [البقرة: 174]، في بعض النسخ مرقمة 74 و75، والمقصود: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 159، 160]، ولا شك أن الترقيم إذا كان خطأً يوقع القارئ في وهم، مثل: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح: 17]، الموضوع في الأطعمة ويرقم ما في الجهاد أو العكس. ولو رجع القارئ إلى الترقيم لقال فيه خطأ كبير إذا اعتمده.

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} والله أمر خطير لمن عنده شيء من العلم {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا}، لا بد أن يبين أنه كتم فيما تقدم، فيما سبق {فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 159، 160]. وقل مثل هذا فيمن نشر الضلال بين الناس، لا بد أن يتوب، ولا بد أن يصلح، ولا بد أن يبين ضلال ما نشره، والله المستعان.

وأما الكتمان فيتذرَّع كثير من الناس ممن يكتمون العلم ولا يبينونه للناس إما بالخوف على النفس أو بملاحظة مصلحة أو درء مفسدة تترتب على البيان. وبعض الناس يخلط بين المصلحة العامة وبين المصلحة الخاصة، ويجعل المصلحة الخاصة مبررًا لمثل هذا الكتمان، ويظهر للناس أنه إنما لم يبين؛ نظرًا للمصلحة العامة، ولو بيَّن لتضرر في الدعوة أو تضرر في كذا وهو خائف، ولا يمنع أنه إذا خاف على نفسه أن لا يبين، لكن لا يظهر للناس أنه من أجل المصلحة العامة، مثل ما جاء في حديث: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه»، يعني الذي يهاجر من أجل الدنيا يُذم أم ما يذم؟ ضاقت به الأرزاق في بلده، وانتقل إلى بلد آخر؟ ماتت زوجته وبحث عن زوجة فما وجد، انتقل إلى بلد آخر يريد أن يتزوج، يذم أم ما يذم؟

طالب: .......

طيب الجملة في الحديث سياق ذم أم سياق مدح؟ سياق ذم، لكنه إذا أظهر للناس أنه هاجر لله ورسوله وقصده الدنيا أو قصده المرأة التي ينكحها هذا الذي يذم.

يقول -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-: "بَابُ حِفْظِ العِلْمِ. حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ" وهو الأويسي، "قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ"، مالك يُحدث أم يقرأ عليه؟

طالب: .......

 عندك؟

طالب: .......

لكن كل النسخ: حدثنا؛ لأن البخاري لا يفرق بين التحديث والإخبار، البخاري لا يفرق بين صيغ الأداء -رحمه الله-.

"عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ" يلومونه، يحدث بأحاديث لا يحدث بها أبو بكر ولا عمر، يلمزونه بهذا. "أكثر أبو هريرة، وَلَوْلاَ آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا، ثُمَّ يَتْلُو: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالهُدَى} [البقرة: 159] إِلَى قَوْلِهِ: {الرَّحِيمُ} [البقرة: 160]. إِنَّ إِخْوَانَنَا"، يبين ويبرر سبب كثرة روايته وقلة رواية غيره. "إن إخواننا مِنَ المُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ" التجارة، "وَإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمُ العَمَلُ فِي أَمْوَالِهِمْ" بالزراعة، "وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِشِبَعِ بَطْنِهِ" ما له نظر في الدنيا إلا ما يعينه على البقاء، على الحياة، "وَيَحْضُرُ مَا لاَ يَحْضُرُونَ، وَيَحْفَظُ مَا لاَ يَحْفَظُونَ".

(قوله: باب حفظ العلم، لم يذكر في الباب شيئًا عن غير أبي هريرة) يكفي؛ لأنه أحفظ الصحابة، (وذلك لأنه كان أحفظ الصحابة للحديث، قال الشافعي -رَضِيَ اللهُ عنهُ-: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في عصره، وقد كان ابن عمر يترحم عليه في جنازته ويقول: كان يحفظ على المسلمين حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، رواه ابن سعد.

وقد دل الحديث الثالث من الباب على أنه لم يُحدث بجميع محفوظه، ومع ذلك فالموجود من حديثه أكثر من الموجود من حديث غيره من المكثرين) فضلاً عن المقلين، (ولا يعارض هذا ما تقدم من تقديمه عبد الله بن عمرو على نفسه في كثرة الحديث؛ لأنا قدمنا الجواب عن ذلك، ولأن الحديث الثاني من الباب دل على أنه لم ينس شيئًا سمعه ولم يَثبت مثلُ ذلك لغيره).

 مطاعم المناوئين من المبتدعة والمستشرقين وغيرهم وسهامهم إنما توجه لأبي هريرة، والسبب كثرة مروياته؛ لأنهم إذا طعنوا في الراوي بطل المروي، والطعن في أبي هريرة يبطل نصف السنة، ولذلك لا تجد لا مبتدعًا ولا مستشرقًا ولا أحدًا يطعن في مثل آبي اللحم أو أبيض بن حمال الذين ما عندهم إلا حديث واحد أو الذي ما عنده إلا اثنان أو ثلاثة؛ لأنه يحتاج إلى أن يطعن في خمسة آلاف راوٍ؛ ليكون مثل أبي هريرة، ليجدي طعنه في السنة مثل طعنه في أبي هريرة.

(قوله: حدثنا عبد العزيز هو الأويسي المدني، والإسناد كله مدنيون. قوله: أكثر أبو هريرة، أي من الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما صرح به المصنف في البيوع من طريق شعيب عن الزهري، وله فيه، وفي المزارعة) فيه يعني في البيوع، (وفي المزارعة من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري هنا زيادة وهي: ويقولون ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثل أحاديثه؟ وبها تبِين الحكمة في ذكره المهاجرين والأنصار ووضعه المظهر موضع المضمر على طريق الحكاية حيث قال: أكثر أبو هريرة، ولم يقل: أكثرت)؛ لأنه يحكي كلامهم.

(قوله: ولولا آيتان، مقول قال، لا مقول يقولون) أبو هريرة الذي ذكر الآيتين وليس من غمزه. (وقوله: ثم يتلو مقول الأعرج) يعني يتلو أبو هريرة الذي يقوله الراوي عنه، (وذكره بلفظ المضارع استحضارًا لصورة التلاوة، ومعناه: لولا أن الله ذم الكاتمين للعلم ما حدَّث أصلاً، لكن لما كان الكتمان حرامًا وجب الإظهار، فلهذا حصلت الكثرة لكثرة ما عنده، ثم ذكر سبب الكثرة بقوله: إن إخواننا وأراد بصيغة الجمع نفسه وأمثاله) ما قال إخواني، (نفسه وأمثاله، والمراد بالأخوة أخوة الإسلام.

قوله: يَشغلهم بفتح أوله من الثلاثي، وحكي ضمه وهو شاذ. قوله: الصفق بإسكان الفاء وهو ضرب اليد على اليد) من التصفيق، (وجرت به عادتهم عند عقد البيع) يصفق يده بيد الآخر، العاقد يصفق يده بيد الآخر.

(قوله: في أموالهم أي القيام على مصالح زرعهم، ولمسلم: كان يشغلهم عمل أرضيهم، ولابن سعد: كان يشغلهم القيام على أرضيهم. قوله: وإن أبا هريرة فيه التفات؛ إذ كان نسق الكلام أن يقول: وإني) أو يكون من باب التجريد، يعني جرد من نفسه شخصًا آخر فتحدث عنه، يقول سعد كما تقدم: أعطى رهطًا وسعد جالس، ما قال: وأنا.

(قوله: لشبع بلام التعليل للأكثر، وهو الثابت في غير البخاري أيضًا، وللأصيلي: بشبع) والذي عندكم في المتن بالباء أم باللام؟ بالباء، يعني على رواية الأصيلي، وأما رواية الأكثر باللام. (وللأصيلي: بشبع بموحدة أوله، وزاد المصنف في البيوع: وكنت امرأً مسكينًا من مساكين الصُّفة. قوله: ويحضر أي من الأحوال، ويحفظ أي من الأقوال، وهما معطوفان على قوله: يلزم.

وقد روى البخاري في التاريخ والحاكم في المستدرك من حديث طلحة بن عبيد الله شاهدًا لحديث أبي هريرة هذا، ولفظه: لا أشك أنه سمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لا نسمع، وذلك أنه كان مسكينًا لا شيء له ضيفًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأخرج البخاري في التاريخ والبيهقي في المدخل من حديث محمد بن عمارة بن حزم أنه قعد في مجلس فيه مشيخة من الصحابة بضعة عشر رجلاً، فجعل أبو هريرة يحدثهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالحديث فلا يعرفه بعضهم، فيراجعون فيه حتى يعرفوه، ثم يحدثهم بالحديث كذلك حتى فعل مرارًا، فعرفت يومئذ أن أبا هريرة أحفظ الناس) يعني هل يُذم أبو هريرة بفقره؟

لا، ما يُذم بفقره، ولا يُمدح أحد بغناه، إلا إذا صرف هذا المال فيما يرضي الله، وإلا من أهل العلم من يقول: إذا وجدت طالب العلم غنيًّا فاتهمه، وأقل الأحوال أنه على حساب التعلم، والعالم كذلك، لا بد أن يكون هذا المال والتفرغ لجمعه على حساب التعليم.

(وأخرج أحمد والترمذي عن ابن عمر أنه قال لأبي هريرة: كنت ألزمَنا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأعرفَنا بحديثه، قال الترمذي: حسن. واختلف في إسناد هذا الحديث على الزهري فرواه مالك عنه هكذا، ووافقه إبراهيم بن سعد وسفيان بن عيينة ورواه شعيب عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن كلاهما عن أبي هريرة، وتابعه يونس بن يزيد، والإسنادان جميعًا محفوظان صحَّحهما الشيخان، وزادوا في روايتهم عن الزهري شيئًا سنذكره في هذا الحديث الثاني).

قال -رحمه الله-: "حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَبُو مُصْعَبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنْسَاهُ؟ قَالَ: «ابْسُطْ رِدَاءَكَ» فَبَسَطْتُهُ، قَالَ: فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «ضُمَّهُ» فَضَمَمْتُهُ، فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَهُ". قال: "حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ بِهَذَا، أَوْ قَالَ: غَرَفَ بِيَدِهِ فِيهِ". يعني الفرق بين الروايتين: غرف بيديه الاثنتين أو واحدة.

(قوله: حدثنا أحمد بن أبي بكر هو الزهري المدني صاحب مالك، وسقط قوله: أبو مصعب من رواية الأصيلي وأبي ذر، وهو بكنيته أشهر) هو راوي الموطأ، موطأ أبي مصعب أوفى الموطآت، وفيه زيادات كثيرة على رواية يحيى بن يحيى فضلاً عن غيرها من الروايات التي تنقص عن رواية يحيى. (والإسناد كله مدنيون أيضًا وكذا الذي بعده. قوله: كثيرًا هو صفة لقوله: حديثًا؛ لأنه اسم جنس) حديثًا كثيرًا.

(قوله: فغرف، لم يذكر المغروف منه وكأنها كانت إشارةً محضةً) يعني ما فيه شيء، يعني لا غرف ماءً ولا غرف تمرًا ولا غرف، غرف بيده هكذا ووضع في الإناء أو في الرداء. (لم يذكر المغروف منه، وكأنها كانت إشارة محضة) يعني ما فيه شيء. (قوله: «ضم»، وللكشميهني والباقين: «ضمه» وهو بفتح الميم، ويجوز ضمها) هو الآن فعل أمر، والفعل الأمر مبني على السكون، لكن إذا كان مضعفًا وبعده ضمير مبني على الضم: «إنا لم نردّه إليك إلا أنا حرم»، لم نردُّه أو نردَّه؟ العامل جازم، النووي يقول: إذا كان الضمير الذي بعده مضموم يبنى على الضم: لم نردُّهُ، النووي في شرح مسلم حول هذه الكلمة قال: يتعين الضم، وهنا قال: «ضُمَّه».

والحافظ ابن حجر ماذا يقول؟ (وهو بفتح الميم ويجوز ضمها).

طالب: .......

ماذا؟

طالب: .......

يجوز الضم، ما هو يتعين خلافًا للنووي. لو كان الضمير ضميرًا مؤنثًا مبنيًّا على الفتح: لم نردَّها، عند النووي افتح. لكن هل الأثر لما بعده أو الأثر لما قبله؟ المؤثر هو العامل، وهو قبل الفعل. والسكون متعذر؛ لأنه مضعف، والمضعف عبارة عن حرفين أولهما ساكن: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ} [البقرة: 217]، لو فككت الإدغام ظهر السكون، وإذا ضممنا الفعل على رأي النووي ألغينا عمل العامل؛ لأنه في الأصل لولا العامل لكان مرفوعًا، فإذا ضممناه فكأننا ألغينا العامل كأنه غير موجود. طيب إذا فتحناه والعامل يقتضي الجزم؟

طالب: .......

ماذا؟

طالب: .......

لا، تلغيه إذا أرجعته إلى أصله، تلغي العامل إذا أرجعته إلى أصله فضممته. الآن عمل، الفعل معمول فيه شيء، غُيِّر عن أصله، والعامل عامل جزم والجزم متعذر، فهل يُرجع إلى أصله بمعنى أنه يلغى العامل، أو يحرَّك بحركة غير ما يقتضيه العامل من أجل أن نعرف أنه مغير عن أصله، فلماذا حركناه بالفتحة؟ لنعرف أن العامل مؤثر فيه. يعني عندنا التقاء الساكنين: {يَرْفَعِ اللَّهُ} [المجادلة: 11] الفعل يُكسر؟ لا، لكن حُرك لالتقاء الساكنين. لماذا ما حرك للضم؟ ليعرف أنه متغير، أن الفعل غُير عن أصله، وإلا فالأصل أن الفعل ما يُجر، الجر من خواص الأسماء. فما ألغينا العامل وأرجعناه إلى أصله، والعمل أو الأثر الذي يقتضيه العامل متعذّر في مثل هذا، فإذا ألغينا العامل بالكلية وأرجعناه بالكلية فقد يقول قائل: إن هذا العامل لا عمل له وهو في الحقيقة له عمل، لكن تعذر عمله المقتضي الأصلي فيبحث عن حركة أخرى؛ لنبين أن الفعل تأثر، مثل: {يَرْفَعِ اللَّهُ} [المجادلة: 11]، وإلا الأصل أن الفعل لا يجر. ولذلك أنا عندي كلام ابن حجر أجود وأقوى: بالفتح.

طالب: .......

هذا الذي اعتمده النووي.

طالب: .......

نعم، لكن هذا يقتضي إلغاء العامل، والذي يقرأ ولا يتأمل في كلامه يقول: خلاص لم هذه لا عمل لها، لكن إذا وجده مغيرًا عن أصله قال: العامل مؤثر، لكن لماذا تأثر، لم ينظر بدقة.

طالب: .......  

تريد ابن حجر؟

طالب: .......

بالفتح من باب أولى، نعم.

(وقيل: يتعين لأجل ضمة الهاء ويجوز كسرها لكن مع إسكان الهاء وكسرها) «ضُمِّهْ» أو «ضُمِّهِ». (قوله: فما نسيت شيئًا بعدُ، هو مقطوع الإضافة مبني على الضم) لأنه مقطوع الإضافة مع نية المضاف إليه، مثل: أما بعدُ يبنى على الضم؛ لأنه مقطوع عن الإضافة مع نية المضاف إليه، {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4]، لكن لو أضيف: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ} [آل عمران: 137] أعرب. لو قُطع عن الإضافة مع عدم نية المضاف إليه لأعرب مع التنوين: فساغ لي الشراب وكنت قبلاً. (هو مقطوع عن الإضافة مبني على الضم، وتنكير شيئًا بعد النفي ظاهر العموم في عدم النسيان منه لكل شيء من الحديث وغيره)؛ لأنه نكرة في سياق النفي. (ووقع في رواية ابن عيينة وغيره عن الزهري في الحديث الماضي: فوالذي بعثه بالحق ما نسيت شيئًا سمعته منه، وفي رواية يونس عند مسلم: فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئًا حدثني به، وهذا يقتضي تخصيص عدم النسيان بالحديث) شيئًا حدثني به، وهو وإن كان نكرة في سياق النفي إلا أنه موصوف، والوصف يخصص. (ووقع في رواية شعيب: فما نسيت من مقالته تلك من شيء، وهذا يقتضي عدم النسيان بتلك المقالة فقط، لكن سياق الكلام يقتضي ترجيح رواية يونس ومن وافقه؛ لأن أبا هريرة نبَّه به على كثرة محفوظه من الحديث، فلا يصح حمله على تلك المقالة وحدها، ويحتمل أن تكون وقعت له قضيتان) يعني الواقع، واقع ما يرويه أبو هريرة من كثرة الأحاديث يدل على أنه ما نسي شيئًا من الحديث.

(ويحتمل أن تكون وقعت له قضيتان، فالتي رواها الزهري مختصة بتلك المقالة، والقضية التي رواها سعيد المقبري عامة، وأما ما أخرجه ابن وهب من طريق الحسن بن عمرو بن أمية قال: تحدثت عند أبي هريرة بحديث فأنكره، فقلت: إني سمعته منك، فقال: إن كنت سمعته مني فهو مكتوب عندي، فقد يتمسك به في تخصيص عدم النسيان بتلك المقالة، لكن سند هذا ضعيف، وعلى تقدير ثبوته فهو نادر) مكتوب عندي ويقول: ما كان أحد أكثر مني حديثًا إلا عبد الله بن عمرو فإنه يكتب ولا أكتب، هذا يدل على ضعف هذا. (ويلتحق به حديث أبي سلمة عنه: «لا عدوى»، فإنه قال فيه: إن أبا هريرة أنكره، قال: فما رأيته نسي شيئًا غيره.

فائدة: المقالة المشار إليها في حديث الزهري أُبهمت في جميع طرقه، وقد وجدتها مصرحًا بها في جامع الترمذي وفي الحلية لأبي نعيم من طريق أخرى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما من رجل يسمع كلمةً أو كلمتين أو ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا مما فرض الله فيتعلمهن ويعلمهن إلا دخل الجنة» فذكر الحديث. وفي هذين الحديثين فضيلة ظاهرة لأبي هريرة) هذا الحديث والذي قبله، (ومعجزة واضحة من علامات النبوة؛ لأن النسيان من لوازم الإنسان، وقد اعترف أبو هريرة بأنه كان يكثر منه) يعني النسيان قبل هذه القضية، (يكثر منه ثم تخلف عنه ببركة النبي -صلى الله عليه وسلم-) لما غرف ووضع في الرداء. (وفي المستدرك للحاكم من حديث زيد بن ثابت قال: كنت أنا وأبو هريرة وآخر عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «ادعوا»، فدعوت أنا وصاحبي وأمَّن النبي- صلى الله عليه وسلم-، ثم دعا أبو هريرة فقال: اللهم إني أسألك مثل ما سألك صاحباي وأسألك علمًا لا يُنسى، فأمَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلنا: ونحن كذلك يا رسول الله، فقال: «سبقكما الغلام الدوسي». وفيه الحث على حفظ العلم) الشاهد: اللهم إني أسألك مثل ما سألك صاحباي وأسألك علمًا لا يُنسى، يعني زاد عليهما.

(وفيه الحث على حفظ العلم)؛ لأنه ما فيه علم إلا بحفظ، لا علم إلا بحفظ؛ لأن العلم الشرعي الذي ورد الحث عليه وبيان فضله في الكتاب والسنة هو العلم المبني على نصوص الوحيين، والكتاب والسنة، فمن لا يحفظ ما يدرك شيئًا. (وفيه الحث على حفظ العلم، وفيه أن التقلل من الدنيا أمكن لحفظه) يعني لحفظ العلم؛ لأن الدنيا تشغل الذهن، وتشتت الذهن فيصعب الحفظ. (وفيه فضيلة التكسب لمن له عيال)؛ لأن كبار الصحابة وأبا بكر وعمر يتكسبون، (وفيه جواز إخبار المرء بما فيه من فضيلة إذا اضطر إلى ذلك، وأمِن من الإعجاب) يبين الإنسان ما عنده لا سيما إذا اتهم بشيء خلاف الواقع، ويكون من باب: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148]، ولما قيل: إن ابن عمر كان عييًّا، قال: كيف يكون عييًّا من في جوفه كتاب الله. يبين ما عنده من الفضيلة إذا اضطر إلى ذلك وأمن من الإعجاب.

(قوله: ابن أبي فديك بهذا، أشكل قوله بهذا على بعض الشارحين؛ لأن ابن أبي فديك لم يتقدم له ذِكر، وقد ظن بعضهم أنه محمد بن إبراهيم بن دينار المذكور قبل، فيكون مراده أن السياقين متحدان إلا في اللفظة المبينة فيه، وليس كما ظن؛ لأن ابن أبي فديك اسمه محمد بن إسماعيل بن مسلم، وهو ليثي) يقول في تهذيب التهذيب والتقريب: ديلي، (وهو ليثي يكنى أبا إسماعيل، وابن دينار جهني يكنى أبا عبد الله، لكن اشتركا في الرواية عن ابن أبي ذئب لهذا الحديث ولغيره، وفي كونهما مدنيينِ، وجوَّز بعضهم أن يكون الحديث عند المصنف بإسناد آخر عن ابن أبي ذئب، وكل ذلك غفلة عما عند المصنف في علامات النبوة) يعني الذي يشرح الحديث في الباب ذاته مع غفلته عن طرقه في المواضع الأخرى يقع في مثل هذا.

(وكل ذلك غفلة عما عند المصنف في علامات النبوة، فقد ساقه بالإسناد المذكور والمتن من غير تغيير إلا في قوله: بيديه، فإنه ذكرها بالإفراد وقال فيها أيضًا: فغرف، وهي رواية الأكثرين في حديث الباب، ووقع في رواية المستملي وحده: فحذف بدل فغرف، وهو تصحيف لما وضح في سياقه في علامات النبوة، وقد رواه ابن سعد في الطبقات عن ابن أبي فديك: فغرف).

"