التعليق على الموافقات (1431) - 09

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

هذا يسأل يقول: هل الأولى للطالب المتوسط أن يكثر من الحضور عند المشايخ على حساب القراءة لنفسه في الكتب، من باب الحرص على مشايخنا حضورًا عندهم وقراءة عليهم؟

يعني على حساب القراءة في الكتب، ولو رتب نفسه وجدول وقته لاستطاع أن يجمع بينهما، لا سيما إذا كان يحضر لهذه الدروس قبل الحضور لاستفاد فائدة كبيرة، أما أن يكتب بمجرد الحضور، ولا يعرف الكتاب إلا في الدرس هذا فائدتها أقل بكثير، لكن لو كان يحضر لهذه الدروس، ويحضر ويترك وقتًا كافيًا لقراءة القرآن ومراجعة حفظه وحفظ المتون ومراجعة الشروح عليها، لا سيما المسموعة؛ لأنها أيسر، يعني في السيارة تستطيع أن تسمع شيئًا كثيرًا في اليوم، يعني المشوار يمكن أن تنهي شريطًا كاملًا في مشوار واحد، درسًا كاملًا، ثم بعد ذلك يناقش عما يشكل، إذا أشكل عليه في قراءته أو في درسه أو عند سماعه لشريط ونحوه يضع أسئلة يناقش فيها من يؤنس منه حسن الجواب عليها، المسألة تحتاج إلى ترتيب وإلا فالوقت فيه بركة.

طالب: أحسن الله إليكم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "وأما النظر الثاني في عوارض الأدلة فينحصر القول فيه في خمسة فصول:

 الفصل الأول: في الإحكام والتشابه، وله مسائل:

المسألة الأولى: المحكم يطلق بإطلاقين: عام، وخاص. فأما الخاص؛ فالذي يراد به خلاف المنسوخ".

يعني ما يقابل المنسوخ، حينما يقال: هذه الآية محكمة، أو يُختلف في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة؟ يكون إطلاقه بإزاء ما لم يُنسخ، يطلق ويراد به أيضًا ما يقابل المتشابه، والمتشابه سيأتي أسباب التشابه وما يورث هذا الحكم، فإذا قال بعضهم: هذا محكم، وهذا متشابه، ومنه ما جاء في صدر آل عمران: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]..

طالب: "وهي عبارة علماء الناسخ والمنسوخ، سواء علينا أكان ذلك الحكم ناسخًا أم لا، فيقولون: هذه الآية محكمة، وهذه الآية منسوخة".

يعني هل نسخت آية أخرى، أو لم تعارض أصلاً لكنها لم تُنسخ؛ هذه يقال لها: آية محكمة، سواء كانت في مقابل المنسوخ، أو مع عدم وجود المعارض الذي من أجله يُحكم بالنسخ.

طالب: "فيقولون: هذه الآية محكمة، وهذه الآية منسوخة. وأما العام؛ فالذي يُعنى به البين الواضح الذي لا يفتقر في بيان معناه إلى غيره".

يعني الإطلاق العام للمحكم فهو البين الواضح بحيث يقابله الخفي المستغلق.

طالب: "فالمتشابه بالإطلاق الأول هو المنسوخ، وبالإطلاق الثاني الذي لا يتبين المراد به من لفظه، كان مما يدرك مثله بالبحث والنظر أم لا، وعلى هذا الثاني مدارك كلام المفسرين في بيان معنى قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]".

وهذا التشابه أو الاشتباه نسبي عند قول أو على قول من يقول: إن الراسخين منهم من يعلم المتشابه، أو من المتشابه ما يعلمونه، وحينئذ يحسن الوقوف على هذا عند...

طالب: ......

نعم. {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7]. وأما على القول بأن هذا المتشابه لا يعلمه إلا الله، ولا يمكن الوصول إلى معرفته، فهو على درجة واحدة، لا يقال: إنه متفاوت، يمكن أن يعرفه هذا العالم ولا يعرفه ذلك العالم. وجاء في حديث النعمان بن بشير: «الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات»، ودائمًا الذي في الوسط بين طرفين يصعب حده وضبطه، فمثل هذا المتشابه المتردد بين المحكم، بين الحلال البين وبين الحرام البين، الحلال البين ما فيه إشكال، يعرفه الناس كلهم، والحرام البين يعرفونه. لكن الإشكال هو محل امتحان أهل العلم معرفة المتشابه الواقع بين الحرام والحلال. فهذه المرحلة المتذبذبة بين طرفين في كثير من العلوم يصعب تمييزها، بحيث يرى قوم أنها ملحقة بالأول، ويرى آخرون أنها ملحقة بالثاني، ويتذبذب بعضهم، ولا يستطيع إلحاقها بالأول أو بالثاني.

ونظير ذلك ما قاله أهل العلم في تعريف الحديث الحسن؛ لأنه واقع بين طرفين، بين الصحيح والضعيف، متذبذب بينهما، ولذا تجد أحكام الأئمة عليه غير متفقة، يختلفون فيه، ترى اختلافًا بينًا، منهم من يلحقه بالصحيح؛ لأنه في نقله ارتقى وارتفع، ومنهم من ينزله إلى درجة الضعيف؛ لأنه لا يرتقي إلى درجة القبول، ومنهم من يجعله في مرتبة متوسطة، ويحكم عليه بأنه حسن.

وعلى كل حال قيل في الحديث الحسن إنه لا مطمع في تمييزه، وكأن كلام الحافظ الذهبي في الموقظة يشير إلى هذا، والدليل على ذلك كثرة الاختلاف، اختلاف أهل العلم في تعريف الحسن، والسبب في ذلك أنه متردد بين طرفين، لا يُدرى أيلحق بالطرف الأول أو بالثاني، أو يبقى متذبذبًا بينهما فيصعب تمييزه وتحديده.

طالب: الراجح عندكم في.......

واللهِ الأكثر على أن المتشابه لا يعلمه إلا الله.

طالب:.......

مثل الحروف المقطعة، وهذا من باب الابتلاء للمكلفين، مقدار استسلامهم وإذعانهم، هذه الحكمة تكفي. كما قيل في النسخ: اختبار المكلفين، هل يدورون مع الأوامر والنواهي أو مع أهوائهم؟ يعني عاشوا على شيء نزلت إباحته واستمروا عليه، ثم مُنعوا منه أو العكس، هذا ابتلاء للمكلفين.

طالب: ... آيات الصفات...

غلط، وما ينسب للإمام مالك لا يصح عنه، بل هي من المحكم.

طالب: "ويدخل تحت المتشابه والمحكم بالمعنى الثاني ما نبه عليه الحديث من قول النبي : «الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات»، فالبين هو المحكم، وإن كانت وجوه التشابه تختلف بحسب الآية والحديث، فالمعنى واحد؛ لأن ذلك راجع إلى فهم المخاطَب، وإذا تُؤمل هذا الإطلاق، ووُجد المنسوخ والمجمل والظاهر والعام والمطلق قبل معرفة مُبيناتها داخلةً تحت معنى المتشابه".

نعم. إذا جاء عام ولم نجد تخصيصه، هل يُعمل به على عمومه أو يُتوقف فيه حتى يرد المخصِّص؟ إذا وُجد مطلق ولم يَرد تقييده، أو وُجد مثلاً مجمل ما وُجد تفسيره، هل يُعمل به أو يُتوقف على وجود ما يقابله؟ المسألة معروفة عند أهل العلم، لكنها من أسباب التشابه.

طالب: "كما أن الناسخ وما ثبت حكمه والمبيَّن والمؤوَّل والمخصَّص والمقيَّد داخلة تحت معنى المحكَم".

يعني أحيانًا يعمل الإنسان بحكم ويثاب عليه، ويعمل الإنسان بنقيضه، ويعمل آخر بنقيضه ويثاب عليه، لماذا؟ لأن هذا اطلع على الناسخ، والثاني لم يبلغه الناسخ، بنى هذا على الإباحة؛ لأنه وجد ما ينسخ دليل الحظر فأثيب على ذلك، والثاني ما بلغه دليل الحظر الناسخ أو العكس فيثاب عليه؛ لأن لزوم الحكم بالدليل من بلوغه.

طالب: "المسألة الثانية: التشابه قد عُلم أنه واقع في الشرعيات، لكن النظر في مقدار الواقع منه هل هو قليل أم كثير؟ والثابت من ذلك القلة لا الكثرة؛ لأمور".

على كل حال هذه أمور نسبية، بعض الناس عنده التشابه نزر يسير؛ لسعة اطلاعه وقوة فهمه، فيكون التشابه، يعني يستطيع أن يتعامل مع الأدلة براحة؛ لسعة اطلاعه وقوة فهمه. وبعض الناس التشابه عنده أكثر من هذا؛ لأنه أقل منه من حيث الاطلاع على نصوص الشريعة وقواعدها العامة، وفهمه أيضًا، وكيفية تعامله مع النصوص قد لا يصل إلى حد الأول، فتزيد عنده نسبة التشابه. وتزيد عند ثالث؛ لأنه أقل من الاثنين، وقد تكون هي الكثرة الكاثرة؛ لضعف اطلاعه، وضعف فهمه وحفظه.

طالب: لكن هل الاطلاع يا شيخ مؤثر في مسألة وجود التشابه؟

نعم. مؤثر، لماذا؟ لأن التشابه نسبي، ما نقول: إن هذه {المر} [الرعد: 1] مثلاً أو {الم} [البقرة: 1]، هذه من المتشابه التي لا يعلمها إلا الله، يستوي في معرفتها الخاص والعام، لكنْ هناك أمور لا سيما فيما يفيده الحديث بينهما أمور مشتبهات، يعني عند كثير من أهل العلم هي من الحلال البين، وعند بعضهم من الحرام البين. إذًا النسبة متشابهة، فالتشابه نسبي. وكيف يرتفع هذا التشابه؟ بمزيد الاطلاع؛ لأن الصورة إنما تكتمل بمزيد الاطلاع، يعني لو تخلف نص يفيد في هذه المسألة نقص فهم المجتهد لهذه المسألة بقدر ما نقص عنده من النصوص. يعني أنت تصور خارطة العالَم عند شخص ومزقها، ثم ذراها في الريح، وطارت بها الريح، ثم أخذ يجمع هذه، ندم على ذلك قال: نجمع ونلصق يمكن أن نحتاجها، فجمع منها ما استطاع وبقيت خروم وأوراق ضاعت، هل تكون الصورة في ذهنه مجتمعة؟ ما يمكن، بقدر ما ذهب عليه، لكن إن حصلها كاملة وألصقها يصير تصورها كاملًا.

طالب: لكن لو جردنا الاطلاع، قلنا مجرد النظر إلى النصوص من حيث إنها محكمة أو متشابهة؟

التشابه نسبي، إذا قلنا: لا يعلمه إلا الله، قلنا: إنهم يستوون في علمه، المبتدئ والمنتهي، المجتهد والمطلق والعامي، كلهم واحد. لكن إذا قلنا: إن الراسخين يعلمون المتشابه، والمراد بالمتشابه هنا الذي أشار الله إليه الذي يتبعه أهل الزيغ، هذا معنى الإشكال. لكن لو قلنا: إن المراد بالتشابه المشتبهات التي في حديث النعمان، وما أسباب التشابه؟ تعارض الأدلة، لكن أنا استطعت أن أوفق بين هذه الأدلة، وارتفع عني التشابه. يعني الاضطراب في الحديث، الاضطراب نوع من التشابه، فإذا وُجد مرجِّح لأحد الوجوه انتفى الاضطراب، خلاص انتهى التشابه، ارتفع من أصله، من جذره.

طالب: "أحدها: النص الصريح، وذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]، فقوله في المحكمات: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} يدل أنها المُعْظَمُ والجمهور، وأُمُّ الشيء مُعْظَمُه وعامَّتُه، كما قالوا: (أُمُّ الطريق) بمعنى مُعْظَمه، و(أُمُّ الدماغ)".

لكن لو قلنا بمثل هذا الكلام، وهو مورَد على هذا القول، لقلنا: إن الأصل الاتفاق بين أهل العلم؛ لأن المحكمات لا ينبغي أن يُختلف فيها؛ لأنها واضحة، لا ينبغي أن يَختلف فيها أهل العلم، فيكون الاختلاف في المتشابه القدر اليسير جدًّا. لكن لو نظرنا إلى الواقع؟

طالب: العكس.

هل الاتفاق أكثر أو الاختلاف أكثر؟ المسائل المختلف فيها أكثر.

طالب: "و(أُمُّ الدماغ) بمعنى الجلدة الحاوية له، الجامعة لأجزائه ونواحيه، و(الأُم) أيضًا الأصل، ولذلك قيل لمكة: (أُم القرى)؛ لأن الأرض دُحيت من تحتها، والمعنى يرجع إلى الأول، فإذا كان كذلك فقوله تعالى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} إنما يراد بها القليل".

نعم. إذا كان التشابه المشار إليه في آية آل عمران والوقوف على {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]، فالكلام صحيح؛ لأن القرآن نزل تبيانًا لكل شيء، فكون الأكثر المتشابه يخالف ما نزل من أجله القرآن. لكن على مفهوم الحديث وعرض ما يُفهم من الحديث على الواقع بين أهل العلم قلنا: إن التشابه كثير.

طالب: ........

نعم.

طالب: ........

لا، بعضهم، ما يلزم أن يكون الأقل، لكن إذا قلنا: إنه {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] ووقفنا على هذا، قلنا: إن المتشابهات نادرة وقليلة جدًّا.

طالب: "والثاني: أن المتشابه لو كان كثيرًا لكان الالتباس والإشكال كثيرًا، وعند ذلك لا يطلق على القرآن أنه بيان وهدًى، كقوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 138]، وقوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. وإنما نزل القرآن؛ ليرفع الاختلاف الواقع بين الناس، والمشكل الملتبس إنما هو إشكال وحيرة لا بيان وهدًى، لكن الشريعة إنما هي بيان وهدًى؛ فدل على أنه ليس بكثير، ولولا أن الدليل أثبت أن فيه متشابهًا؛ لم يصح القول به، لكن ما جاء فيه من ذلك فلم يتعلق بالمكلفين حكم من جهته زائد على الإيمان به، وإقراره كما جاء، وهذا واضح.

والثالث: الاستقراء؛ فإن المجتهد إذا نظر في أدلة الشريعة جرت له على قانون النظر، واتسقت أحكامها، وانتظمت أطرافها على وجه واحد؛ كما قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1]".

هل نقول: إن هذا يُنظر فيه إلى كل مجتهد على حدة، فالذي يُشكل على المجتهد قليل، لكن من ينظر إلى مجموع الأئمة، فإذا نظرنا إلى المشكل عند هذا، والمشكل عند هذا، والمشكل عند هذا، والمشكل عند هذا، يصفو منه قدر كبير، ثم بعد ذلك تأثير هذه المشكلات على من بعدهم على من ينظر في أقوالهم أيضًا يتحصل منها شيء كثير.

طالب:... فروعهم.

لكن إذا نظرنا إلى مذهب إمام بعينه، مذهب الإمام أحمد: أصول واحدة متفقة يُتعامل بواسطتها مع جميع النصوص، فتكون النتائج متقاربة. لكن إذا خلطت بين أصول أحمد وأصول أبي حنيفة وأصول مالك وأصول الشافعي وأصول كذا، ثم تعاملت بمجموع هذه الأصول وهذه القواعد مع النصوص؛ كثر التشابه. فهل المنظور إليه إلى أفراد الأئمة أو إلى مجموعهم؟

طالب:.....

إذا نظرنا إلى مجموع أهل العلم لا شك أن التشابه كثير جدًّا. وإذا أردنا أن نتعامل مع هذه النصوص على ضوء ما جاء من القواعد المختلفة عند الأئمة زاد التشابه. لكن الكلام: النظر فيما تتسق فيه القواعد، والقواعد العامة وأصول المذاهب، تجد التشابه عند الحنابلة قليلًا؛ لأن أصولهم ونظرهم في النصوص على وتيرة واحدة، والمالكية كذلك، والشافعية كذلك، وكلٌّ مطالب بما يؤديه إليه اجتهاده، فقد يكون محكمًا عنده ومتشابهًا عند غيره، وهو ما له دخل بغيره.

طالب: "وقال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس: 1]، وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23]، يعني: يشبه بضعه بعضًا، ويصدق أوله آخره".

يعني إذا وُصف {الْكِتَابِ} الذي هو القرآن كله متشابه، لا بد أن يُحمل على هذا؛ لأن فيه إحكامًا، والإحكام كثير. فإذا قلنا: إن القرآن كله متشابه، فمعناه: أنه "يشبه بعضه بعضًا، ويصدق أوله آخره".

طالب: "ويصدق أولُه آخرَه وآخرُه أولَه".

يعني مع طول المدة، بحيث إن وقت التنزيل ثلاث وعشرون سنة، هل تجد تناقضًا فيما نزل في السنة الأولى من البعثة وما نزل في السنة الأخيرة؟ يشبه بعضه بعضًا.

طالب: "أعني: أوله وآخره في النزول. فإن قيل: كيف يكون المتشابه قليلاً؟ وهو كثير جدًّا على الوجه الذي فُسر به آنفًا؛ فإنه قد دخل فيه من المنسوخ والمجمل والعام والمطلق والمؤول كثير، وكل نوع من هذه الأنواع يحتوي على تفاصيل كثيرة، ويكفيك من ذلك الخبر المنقول عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (لا عام إلا مخصص؛ إلا قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282])".

هذا أولاً لا يثبت عن ابن عباس، أطلقه بعض الأصوليين وبعض المتكلمين، ونقضه شيخ الإسلام ابن تيمية وضرب أمثلة من أوائل القرآن في سورة الفاتحة والورقة الأولى من سورة البقرة وأثبت عمومات لا مخصِّص لها.

طالب: "وإذا نظر المتأمل إلى أدلة الشرع على التفصيل مع قواعدها الكلية ألفيت لا تجري على معهود الاطراد".

"أُلْفِيَتْ" أو؟ "إذا نَظَرَ المتأمِّل".

طالب: "إذا نَظَرَ المتأمِّل إلى أدلة الشرع على التفصيل مع قواعدها الكلية أُلفِيَتْ"؟

"أَلْفَيْتَ" أو "أُلْفِيَتْ"؟

طالب: "أُلْفِيَتْ" يمكن.

كأنها "أُلْفِيَتْ" نعم.

طالب: "أُلْفِيَتْ لا تجري على معهود الاطراد؛ فالواجبات من الضروريات أوجبت على حكم الإطلاق والعموم في الظاهر".

يعني ما السبب في سعة المدونات والمصنفات؟ يعني تجد كتابًا في خمسين مجلدًا، في أربعين مجلدًا، في...؟

طالب: تشابه.

يعني لو كانت كل النصوص محكمة وظاهرة للناس ما فيها هذا التشابه الذي يُرتب عليه الأجور العظيمة بالنسبة للأئمة والمجتهدين، يعني ما جاء من عبث هذا التعب وهذا العناء، وإلا صار كل الناس علماء، كل الناس قاطبة يتزاحمون على العلم ويصيرون علماء، لولا هذا التشابه وهذا التعب في تقرير العلم، وهذا الذي وسع المصنفات والمدونات، وجعل هذا الكتاب يختلف عن هذا الكتاب، وهذا المذهب يختلف عن هذا المذهب.

طالب: "ثم جاءت الحاجيات والتكميليات والتحسينيات فقيدتها على وجوه شتى وأنحاء لا تنحصر، وهكذا سائر ما ذُكر مع العام. ثم إنك لا تجد المسائل المتفق عليها من الشريعة بالنسبة إلى ما اختلف فيه إلا القليل، ومعلوم أن المتفق عليه واضح، وأن المختلف فيه غير واضح؛ لأن مثار الاختلاف إنما هو التشابه يقع في مناطه. وإلى هذا فإن الشريعة مبناها في التكليف على الأمر والنهي، وقد اختلف فيه أولاً في معناه، ثم في صيغته، ثم إذا تعينت له صيغة (افعل) أو (لا تفعل)، فاختلف في ماذا تقتضيه على أقوال مختلفة؛ فكل ما ينبني على هذا الأصل من فرع متفق عليه أو مختلف فيه مختلف فيه أيضًا، إلا أن يثبت فيه تعينه إلى جهة بإجماع، وما أعز ذلك؟!".

يعني هؤلاء الذين يرون أن الأصل في الأمر الوجوب والنهي التحريم، يقابلهم من يرى القول الآخر، ثم بعد ذلك تجد من يستنبط من هذا الحديث أن هذا الحكم واجب، ويستنبط غيره أنه مستحب. منهم من يرى أن هذا الصارف يرقى لصرف الأمر من الوجوب إلى الاستحباب، ومنهم من لا يرى ويرقى. فيحصل بذلك سعة شقة الخلاف.

طالب: "وأيضًا؛ فإن الأدلة التي يتلقى معناها من الألفاظ لا تتخلص إلا أن تسلم من القوادح العشرة المذكورة في أول الكتاب، وذلك عسير جدًّا. وأما الإجماع؛ فمتنازع فيه أولاً، ثم إذا ثبت ففي ثبوت كونه حجةً باتفاق شروط كثيرة جدًّا".

متنازع في الإجماع، أولاً من جهة ثبوته لبعض الصحابة، من جهة ثبوت الإجماع، وإن كان الثبوت بعد أن تفرق الناس في الأمصار والأقطار يصعب أن يجمعهم ديوان واحد ينقل أقوالهم على الاتفاق، لكن هو حجة عند عامة أهل العلم.

طالب: "إذا تخلف منها شرط لم يكن حجةً أو اختلف فيه، ثم إن العموم مختلف فيه ابتداءً؛ هل له صيغة موجودة أم لا؟ وإذا قلنا بوجودها، فلا يُعمل منها ما يعمل إلا بشروط تُشترط وأوصاف تُعتبر، وإلا لم يعتبر، أو اختلف في اعتباره، وكذلك المطلق مع مقيده. وأيضًا، فإذا كان معظم الأدلة غير نصوص بل محتملةً للتأويل، لم يستقر منها للناظر دليل يسلم بإطلاق".

"معظم الأدلة غير نصوص"، ما معنى "غير نصوص"؟ يعني غير "نصوص" من الكتاب والسنة؟ أو أن النصوص من الكتاب والسنة تحتمل، ليست قطعية في دلالتها على المراد، بل هي من باب الظاهر، وقد تكون من باب المؤول فليست نصًّا في المراد.

طالب: "ثم أخبار الآحاد هي عمدة الشريعة، وهي أكثر الأدلة، ويتطرق إليها من جهة الأسانيد ضعف؛ حتى إنها مختلف في كونها حجةً أم لا، وإذا كانت حجةً؛ فلها شروط أيضًا إن اختلت لم تعمل".

خبر الواحد إذا صح أو وصل إلى درجة القبول، فهو حجة في جميع أبواب الدين عند جميع من يُعتد بقوله من المسلمين.

طالب: "حتى إنها مختلف في كونها حجة أم لا، وإذا كانت حجة فلها شروط أيضًا إن اختلف لم تُعمل أو اختلف في إعمالها، ومن جملة ما يقتنص منه الأحكام المفهوم، وكله مختلف فيه؛ فلا مسألة تتفرع عنه متفقًا عليه".

وقل مثل ذلك في بقية الأدلة المختلف فيها، فتجد من الأئمة، أو عامة أهل العلم يستدلون بالقياس، ويخالفهم غيرهم، فلا يثبتون حكمًا بقياس، منهم من يستدل بأصول أخرى يعارضه ويخالفه غيره من الأئمة.

طالب: "ثم إذا رجعنا إلى القياس أتى الوادي بطَمِّه على القرى؛ بسبب اختلافهم فيه أولاً، ثم في أصنافه، ثم في مسالك علله، ثم في شروط صحته، ولا بد مع ذلك أن يسلم عن خمسة وعشرين اعتراضًا، وما أبعد هذا من التخلص حتى يصير مقتضاه حكمًا ظاهرًا جليًّا".

مثل هذا الكلام الذي يستوحى من كلام المؤلف، أن العلم وتقرير مسائل العلم فيها عسر، وفيها مشقة، ليس الأمر من السهولة بحيث يقول بعض الناس: لماذا تنظر في كتب الفقه؟ لماذا تقرأ في الأصول؟ لماذا تحتاج إلى غير الكتاب والسنة؟ هو الإشكال: كيف تتعامل مع نصوص الكتاب والسنة؟ وإلا الكتاب والسنة هما الأصل. فإذا كنت تحتاج إلى أصول وقواعد بواسطتها تحسن التعامل مع نصوص الكتاب والسنة ترد عليك هذه الموارد، هذه الإيرادات لا بد أن ترد عليك، فإن كنت قد أجمعت العزم على أن تكون عالمًا ينفع الله بك الأمة، والعالم أمة؛ فأعد العدة، وإن كنت تقول: واللهِ أنا أبغى أن أموت طالب علم «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة»، وكانت همتك دون، فأنت ما تلتفت إلى مثل هذه الأمور، صح أم لا؟

طالب: الله المستعان.

نعم؟ فهذا العلم ليس بالسهل.

طالب: "وأيضًا؛ فإن كل استدلال شرعي مبني على مقدمتين: إحداهما شرعية، وفيها من النظر ما فيها. ومقدمة نظرية تتعلق بتحقيق المناط، وليس كل مناط معلومًا بالضرورة، بل الغالب أنه نظري، فقد صار غالب أدلة الشرع نظريةً، وقد زعم ابن الجويني أن المسائل النظرية العقلية لا يمكن الاتفاق فيها عادةً، وهو رأي القاضي أيضًا".

لماذا؟ لاختلاف الفهوم، ليست الفهوم في مثال واحد، فهم مالك مثل فهم أبي حنيفة ومثل فهم الشافعي، قد يكون القدر المشترك بينهم كبيرًا، لكن يبقى أن لكل إمام فهمه للنصوص. يعني تجدهم يستدلون بنص واحد، هذا يستدل به على الصحة وهذا على الصحة، ويستدل به على البطلان، نص واحد. «وعرفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن عرنة»، جمهور بالحديث يستدلون على بطلان الوقوف ببطن عرنة، والمالكية يستدلون بالحديث على صحة الوقوف ببطن عرنة. هل يمكن أن يقال: لأن الحديث ثبت عندهم أو ما ثبت، أو بلغ أو ما بلغ؟ لا، ثابت عندهم وبالغهم الحديث، كلهم يستدلون به، لكن كل واحد فهمه للحديث يختلف عن الثاني.

طالب: "وهو رأي القاضي أيضًا، والنظرية غير العقلية المحضة أولى أن لا يقع الاتفاق فيها؛ فهذا كله مما يبين لك أن المتشابهات في الشريعة كثيرة جدًّا، بخلاف ما تقدم الاستدلال عليه. فالجواب أن هذا كله لا دليل فيه، أما المتشابه بحسب التفسير المذكور -وإن دخل فيه تلك الأنواع كلها التي مدار الأدلة عليها-، فلا تشابه فيها بحسب الواقع؛ إذ هي قد فُسرت، فالعموم المراد به الخصوص قد نُصب الدليل على تخصيصه وبُيِّن المراد به، وعلى ذلك يدل قول ابن عباس: (لا عام إلا مخصص)".

مع أنه لم يثبت عن ابن عباس كما أشرنا.

طالب: "فأي تشابه فيه وقد حصل بيانه؟ ومثله سائر الأنواع، وإنما يكون متشابهًا عند عدم بيانه، والبرهان قائم على البيان، وأن الدين قد كمل قبل موت رسول الله ، ولذلك لا يقتصر ذو الاجتهاد على التمسك بالعام مثلاً حتى يبحث عن مخصِّصه، وعلى المطلق حتى ينظر هل له مقيِّد أم لا؛ إذ كان حقيقة البيان مع الجمع بينهما، فالعام مع خاصِّه هو الدليل، فإن فقَدَ الخاص صار العام مع إرادة الخصوص فيه من قبيل المتشابه، وصار ارتفاعه زَيغًا وانحرافًا عن الصواب".

"ارتفاعه" أم "اتباعه"؟

طالب: "ارتفاعه" عندي.

"ارتفاعه"؟

طالب: ارتفاع الخاص.

نعم؟

طالب: ارتفاع المخصص.

"ارتفاعه" يعني يكون المعلق، أي إهمال المخصص وعدم الأخذ به مع وجوده في الشريعة؛ لأن الدليل الشرعي هو مجموع العام والخاص، فالأخذ بالعام وحده.

طالب: زيغ.

زيغ، يعني: "ارتفاع" المخصص، "ارتفاع" النظر بالمخصص.

طالب: "ولأجل ذلك عُدت المعتزلة من أهل الزيغ؛ حيث اتبعوا نحو قوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، وقوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]".

يعني أن الإنسان يخلق عمله، وأنه له مشيئة مستقلة عن مشيئة الله -جل وعلا- وإرادته؛ هذا قول المعتزلة.

طالب: "وتركوا مُبينه، وهو قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]".

والإشكال الذي أوقع الفرق في الضلال: نظرهم إلى النصوص بعين واحدة، فتجد من ينظر إلى نصوص الوعد فقط، ومنهم من ينظر إلى نصوص الوعيد فقط، هؤلاء ضلال وهؤلاء ضلال، والخير في الوسط: من ينظر إلى المجموعتين، إلى نصوص الوعد ونصوص الوعيد، ويوفَّق للتوفيق بينها.

طالب: "واتبع الخوارج نحو قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]، وتركوا مبينه وهو قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا} [المائدة: 95]، وقوله: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35]. واتبع الجبرية نحو قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96], وتركوا بيانه وهو قوله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة: 82]، وما أشبهه. وهكذا سائر من اتبع هذه الأطراف من غير نظر فيما وراءها، ولو جمعوا بين ذلك ووصلوا ما أمر الله به أن يوصل لوصلوا إلى المقصود، فإذا ثبت هذا فالبيان مقترن بالمبين، فإن أُخذ المبين من غير بيان صار متشابهًا، وليس بمتشابه في نفسه شرعًا، بل الزائغون أدخلوا فيه التشابه على أنفسهم، فضلوا عن الصراط المستقيم، وبيان هذا المعنى يتقرر بفرض قاعدة، وهي...".

قف عليها، اللهم صل على محمد.

مثل ما ذكرنا أن سعة الاطلاع وقوة الفهم بعد توفيق الله -جل وعلا-، لا شك أنه هو الذي يوضح الصورة المتكاملة للعلم في كل باب بعينه.

اللهم صل على محمد.

طالب: .......

نعم؟

طالب: كلامه الأخير......

هو ذكر المسألة على الاحتمالين، على الكثرة وعلى القلة.

طالب: هو يذكر اعتراضات الآن ويريد أن.......

هو ذكر اعتراضات على القول الأول ثم أجاب عنها.

طالب: ........

لا، هو يقع التشابه بإلغاء ما يوضح المتشابه، بإلغاء الخاص يجعل العام متشابهًا، إلغاء المقيد يجعل المطلق متشابهًا، وهكذا.

اللهم صل على محمد.