كتاب الإيمان (25)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فيقول الإمام الحافظ ابن رجب في شرح حديث أنس في قوله -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار».

تعرفون أن مسار الدرس لما طال طولاً مله أكثر الطلاب وانقطعوا عنه بسبب ذلك، قلنا: إننا نقتصر على قراءة، أول الأمر قلنا: فتح الباري ويعلَّق عليه بما تيسر، ثم رأينا أن هناك حاجة إلى شروح أخرى فضممنا إليه الكرماني وابن رجب والنووي في أول الأمر، فتغير مسار الدرس من أن يكون شرحًا للبخاري إلى أن يكون قراءة في شروح البخاري والتعليق عليها، وجدنا أن هذه الطريقة أسهل وأسرع في الشرح، الشرح كان الحديث الواحد يأخذ أشهرًا، يأخذ دروسًا كثيرة جدًّا، بدء الوحي في مائة درس، سبعة أحاديث أو ثمانية في مائة درس، يعني عمر، فهذه الطريقة وجدناها فيها نفع، وفيها أيضًا تحبيب للطلاب لكتب أهل العلم؛ لما يُستخرج منها من كنوز وفوائد أثناء القراءة يعلق عليها وتوضح بحيث يألفها الطالب، طالب العلم، فيفيد منها ولا يقف في طريقه شيء مما كان يشكل عليه قبل ذلك.

 ونقتصر على ثلاثة شروح أو أربعة؛ لأن البخاري شُرح بشروح كثيرة جدًّا حتى قال بعضهم: إن له أكثر من ثلاثمائة شرح، لكن مقاصدها في هذه الشروح: ابن حجر، والكرماني، وابن رجب، والعيني أحيانًا إذا كان عليه استدراك على ابن حجر، والنووي معروف أنه ينتهي في كتاب الإيمان.

يعني في ترجمة كتاب الإيمان أظن أخذنا فصلاً دراسيًّا كاملاً، ما نجد محصله في فتح الباري، التنقيح لابن الملقن هو نُفخ بالطبع، يعني طبعته ترى ما يجيع شيئًا، لو تطبعه مثل فتح الباري ما يجيء خمسة، لكن الطبع له دور في عدد المجلدات. المسند كان ستة مجلدات وصار أكثر من خمسين.

طالب: ..........  

لا، الطبع له دور في نفخ الكتب.

طالب: ..........

العيني أفضل منه ترتيبًا.

قال -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-: (فصل: خرَّج البخاري ومسلم من حديث أبي قلابة، عن أنس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار».

وقد خرَّجه مسلم وعنده في رواية: «فقد وجد طعم الإيمان»، وجاء في رواية: «وجد طعم الإيمان وحلاوته».

فهذه الثلاث خصال من أعلى خصال الإيمان، فمن كملها فقد وجد حلاوة الإيمان وطعِم طعمَه، فالإيمان له حلاوة وطعمٌ يُذاق بالقلوب كما يذاق حلاوة الطعام والشراب بالفم، فإن الإيمان هو غذاء القلوب وقُوتُها، كما أن الطعام والشراب غذاء الأبدان وقوتها، وكما أن الجسد لا يجد حلاوة الطعام والشراب إلا عند صحته فإذا سقم لم يجد حلاوة ما ينفعه من ذلك، بل قد يستحلي ما يضره وما ليس فيه حلاوة لغلبة السقم عليه، فكذلك القلب إنما يجد حلاوة الإيمان إذا سلم من أسقامه وآفاته، فإذا سلم من مرض الأهواء المضلة والشهوات المحرمة وجد حلاوة الإيمان حينئذٍ، ومتى مرض وسقم لم يجد حلاوة الإيمان، بل يستحلي ما فيه هلاكه من الأهواء والمعاصي).

مرض القلب إما بسبب الشهوات أو بسبب الشبهات، هذا سبب مرض القلب: إما بسبب شهوة محرمة أو بسبب شبهة مضلة، وقد توافر الأمران وتفاقم أمرهما بسبب هذه الوسائل التي غزت المسلمين في قعر بيوتهم، ولذلك تجدون الاختلاف، كل واحد منا يجد الاختلاف الكبير، يعني لو رجعت إلى ما قبل عشر سنوات هل تجد في قلبك الآن ما تجده قبل عشر سنوات؟ وقل مثل هذا في العشر السنوات التي قبلها والعشر التي قبلها، كلٌّ على حسب سِنه، وهل أنت في رمضان هذا مثل رمضان العام الماضي؟ الفرق كبير، يعني المؤمَّل من المسلم لا سيما طالب العلم أن يزداد إيمانًا، لكن مع الأسف بسبب هذه الأمور من شهوات وشبهات ومن استمراء مشاهدة المنكرات صار المنكر عنده أمره سهل،

 يعني قبل ثلاث وأربع وخمس سنوات، الجوال إذا رن في المسجد بنغمة موسيقية، الجماعة كلهم يثورون عليه، ثم بعد ذلك كان الصفوة من الناس ينكرون، والآن يندر أن تجد من ينكر، هل لأن الحكم تغير؟ لا؛ لأنه كثر الإمساس، فمات الإحساس، لا نقول: قلَّ، بل مات، فهذه معضلة مشكلة، يعني لا سيما وأن أننا لا نبذل الأسباب التي تعين على زيادة الإيمان في القلوب.

طالب: ..........

وأخونا يقول: التصوير، نفس الشيء التصوير، التصوير أدركنا الناس قبل سنين وآلات التصوير تُكسر إذا رؤيت، ولا يمكن أن تعلن، يُستخفى بها، وإذا أُعلنت وظهرت كُسرت، كان بعض المسئولين يدور مع بعض الإخوان في المشاعر يكسرون آلات التصوير، الآن لا، صار الناس يصورون، منع التصوير داخل الحرمين مدة، ثم تواطأ الناس عليه وكثر وصار ما ينكَر.

 حتى وقفت أنا بنفسي خارج الحرم شباب جالسون، ومر مجموعة من الفتيات كاشفات وطلبوا من الشباب أن يصوروهن! علنًا يعني قدام الناس، مع أن هؤلاء النسوة المساكين ما يدرون وما المآل والعاقبة، ما يدرون الكوارث التي تحصل بسبب هذا والعار والخزي التي تُجر به البنت بسبب صورة، والله المستعان.

أقول: حلاوة الإيمان إذا كان ما يذكره الأئمة هنا، لا سيما الحافظ ابن رجب؛ لأن له عناية في أمراض القلوب وعلاجها، مثل ابن القيم ومثل من يكتب في هذا الباب، فنقول مثل ما قال مثل ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ- لما شرح حال المقربين قال: إنه ما شممنا لهم رائحة. ما هي بمسألة ذوق، حتى الرائحة ما شُمت، إذا كان ما يقرره أهل العلم في مثل هذا الباب، وهو الحق الذي يبنى على الأدلة، لكن مع ذلك إذا قرأ الإنسان في الجواب الكافي فقد يستعيد بعض ما فقده، قد لا يستعيد جميع ما فقده، لكن قد يستعيد إذا قرأه بتأمل، وكان قبل ذلك يقرأ القرآن على الوجه المأمور به بالتدبر والترتيل، ويستعين على ذلك بكلام أهل العلم من أهل التحقيق، يستفيد كما قال شيخ الإسلام -رَحِمَهُ اللهُ-.

على كل حال على الإنسان أن يسعى الآن، أسباب أمراض القلوب متوافرة، فعليه أن يسعى بالموانع ويبذل الأسباب أسباب حياة القلوب.

يقول: (فكذلك القلب إنما يجد حلاوة الإيمان إذا سلم من أسقامه وآفاته، فإذا سلم من مرض الأهواء المضلة والشهوات المحرمة وجد حلاوة الإيمان حينئذٍ، ومتى مرض وسقم لم يجد حلاوة الإيمان، بل يستحلي ما فيه هلاكه من الأهواء والمعاصي).

 يعني تجدون من فُتن بالنساء مثلاً وهي أعظم فتنة، من فُتن بالنساء تجده يلهث وراء امرأة لو عُرضت عليه للزواج ما بذل فيها فلسًا؛ لأنها لا تعجبه، وعنده زوجة أو اثنتان أو ثلاث أفضل منها بمراحل لا في الشكل ولا في المضمون، لكنه يجد هذه الحلاوة لأن قلبه سقيم مريض، يتلذذ ويستمتع بالمحرم أكثر من الحلال، هذا بعضهم يُقر به، حتى إن امرأة عرفت أن زوجها يتتبع النسوة من الحرام فتزيَّنت وخرجت من بيتها فتبعها وراودها وتمنعت، وبذل لها ما أرادت من الأموال، فلما كشفت فإذا هي امرأته!

أقول: هذا الباب من أولى ما يُعنى به المسلم وطالب العلم على الخصوص؛ لأننا والمشتكى إلى الله -جَلَّ وعَلا- في رمضان آخر رمضان ندخل المسجد ونخرج في الليالي العشر التي تُرجى فيها ليلة القدر، لا أقول مثل ما دخلنا، ولا أبالغ إذا قلت إننا أسوأ مما دخلنا، والله المستعان.

قال: (ومن هنا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن»؛ لأنه لو كمل إيمانه لوجد حلاوة الإيمان فاستغنى بها عن استحلاء المعاصي. سئل وُهيب بن الورد: هل يجد طعم الإيمان من يعصي الله؟ قال: لا، ولا من همَّ بالمعصية. وقال ذو النون: كما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمه، كذلك لا يجد القلب حلاوة العبادة مع الذنوب. فمن جمع هذه الخصال الثلاثة المذكورة في هذا الحديث فقد وجد حلاوة الإيمان وطعِم طعمَه؛ أحدها: «أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما». ومحبة الله تنشأ تارة من معرفته، وكمال معرفته تحصل من معرفة أسمائه وصفاته وأفعاله الباهرة، والتفكر في مصنوعاته وما فيها من الإتقان والحكم والعجائب)، يعني النظر في آيات الله سواء كانت المتلوة أو المرئية، كما قرر ذلك ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ- مما يزيد في الإيمان، ولذا جاء الحث على التفكر. النظر في أسمائه وصفاته وآلائه، لا شك أن هذا من أعظم الأسباب التي تعين على حياة القلب.

قال: (وكمال معرفته تحصل في معرفة أسمائه وصفاته وأفعاله الباهرة والتفكر في مصنوعاته وما فيها من الإتقان والحكم والعجائب، فإن ذلك كله يدل على كماله وقدرته وحكمته وعلمه ورحمته)، أي لما يرد مثل حديث: «إن لله تسعة وتسعين اسمًا، مائة إلا واحد، من أحصاها دخل الجنة»، ليس لأنها تُحفظ وتردد في كلام منثور أو منظوم، لا، إنما لتُفهم، ومن أفضل ما كُتب على اختصاره ما ذكره ابن القيم في نونيته، نظم الأسماء الحسنى وبين معانيها بألفاظ وجيزة مختصرة، وهناك مصنفات كثيرة في الأسماء الحسنى.

(فإن ذلك كله يدل على كماله وقدرته وحكمته وعلمه ورحمته. وتارة ينشأ من مطالعة النعم، وفي حديث ابن عباس المرفوع: «أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه، وأحبوني لحب الله»)، يعني أقل الأحوال أن تحب الله لأنه يحسن إليك وينعم عليك، لو أن إنسانًا تصدق عليه وأعطاك ونفعك أو نفحك بشيء يسير أحببته؛ لأن النفوس جُبلت على حب من أحسن إليها، فكيف بمن جميع النعم في تصرفه ومن خزائنه، والبشر إنما هو وسائط: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]. (خرجه الترمذي في بعض نسخ كتابه).

طالب: ..........

ماذا؟

طالب: ..........

(مصنوعاته): مخلوقاته، نعم.

طالب: ..........

ما يلزم، لا، إذا ما ثبت به النص لا.

طالب: ..........

على كل حال المسألة تعتمد على النص، متى ثبت أثبتناه وإذا ما ثبت ما أثبتناه.

طالب: وقد يطلق الفعل دون الاسم: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88].

دائرة الأفعال أوسع.

طالب: نعم.

أوسع من الأسماء والصفات.

(وقال بعض السلف: من عرف الله أحبه، ومن أحبه أطاعه؛ فإن المحبة تقتضي الطاعة كما قال بعض العارفين: المحبة الموافقة في جميع الأحوال، ثم أنشد: ولو قلتَ لي مُتْ مُتُّ سمعًا وطاعة وقلتُ لداعي الموت أهلاً ومرحبًا. ومحبة الله على درجتين)، حب المخلوق كما يحصل لبعض العاشقين أودى بهم إلى الهلاك وهو مخلوق لا ينفع ولا يضر.

(ومحبة الله على درجتين؛ إحداهما: فرض، وهي المحبة المقتضية لفعل أوامره الواجبة والانتهاء عن زواجره المحرمة والصبر على مقدوراته المؤلمة، فهذا القدْر لا بد منه في محبة الله، ومن لم تكن محبته على هذا الوجه فهو كاذب في دعوى محبة الله، كما قال بعض العارفين: من ادَّعى محبة الله ولم يَحفظ حدوده فهو كاذب، فمن وقع في ارتكاب شيء من المحرمات أو أخل بشيء من فعل الواجبات فلتقصيره في محبة الله حيث قدم محبة نفسه وهواه على محبة الله، فإن محبة الله لو كملت لَمَنعت من الوقوع فيما يكرهه، وإنما يحصل الوقوع فيما يكرهه لنقص محبته الواجبة في القلوب وتقديم هوى النفس على محبته، وبذلك ينقص الإيمان كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن»، الحديث.

 والدرجة الثانية من المحبة -وهي فضل مستحب-: أن ترتقي المحبة من ذلك إلى التقرب بنوافل الطاعات والانكفاف عن دقائق الشبهات والمكروهات)، الدرجة الأولى: «ما تقرب إلي أحد بأحب مما افترضت عليه»، الثانية: «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه». (والرضا بالأقضية المؤلمات، كما قال عامر بن عبد قيس: أحببت الله حبًّا هون عليَّ كل مصيبة ورضاني بكل بلية، فما أُبالي مع حبي إياه على ما أصبحت ولا على ما أمسيت)، يعني من أي حال من شدة وبؤس أو رخاء ونعمة، (وقال عمر بن عبد العزيز: أصبحت وما لي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر.

ولما مات ولده الصالح) عبد الملك (قال: إن الله أحب قبضه، وأعوذ بالله أن تكون لي محبة تخالف محبة الله)، يعني يختبر الواحد منا نفسه إذا مات له أحد، والمحك في الولد، قد يزعم محبة الوالد الأب والأم وهو كذلك، لكن محك الامتحان في الولد، يختبر يقينه إذا مات له ابن أو بنت، أو مرض، ينظر في شدة الخوف والوجل خشية أن يفارقه. اليقين يُمتحن هنا، ولا زالت الأمة فيها خير.

 نحن في بلد من بلدان هذه المملكة، وعندنا درس بعد صلاة العشاء كنا على موعد مع واحد من المشايخ، وعنده درس أيضًا بعد العشاء نفس الوقت، فكان الموعد متأخرًا في الحادية عشرة، ورحنا وجلسنا عنده إلى الساعة الواحدة، وخرجنا من عنده وهو على هيئته وعادته في حبه للفائدة وفي كثرة أسئلته وسؤاله عما يهم وطرائفه ونكته، فلما وصلنا مقرنا في السكن اتصل علينا واحد قال: تدرون ماذا صار للشيخ اليوم؟ قلنا: واللهِ ما ندري عنه شيئًا، ما استنكرنا شيئًا. قال: ابنه الأكبر وقع العصر فأغمي عليه وراح به للمستشفى، ما هو بسقط، بل إغماء من غير سبب، ودخلوه العناية ولا يدرون ما السبب إلى الآن! منا من يتحمل مثل هذا الأمر؟

(وقال بعض التابعين في مرضه: أحبه إلي أحبه إليه. وأما محبة الرسول -عليه الصلاة والسلام- فتنشأ عن معرفته ومعرفة كماله وأوصافه وعظم ما جاء به)، يعني هل في برامجنا العلمية ودروسنا عناية بأسماء الله وصفاته وآلائه؟ يعني من منا من قرأ في مفتاح دار السعادة وأدام النظر فيه؟ يندر؛ لأنه ليس على طريقنا في تعليمنا النظامي ولا ذكر له ولا استخلاص لبعض فوائده، ومن منا من قرأ أو أعطى السيرة حقها ونصيبها في دروسنا والشمائل والخصائص والمعجزات، هل لنا عناية بهذه الأمور لنعرف الرسول -عليه الصلاة والسلام- لنحبه؟ إذا ما عرفنا شمائله -عليه الصلاة والسلام- صار حبنا مجرد دعوى؛ لأن المحبة ناشئة عن المعرفة، إذا ما عرفته ما أحببته.

 اللهم صل على محمد.

طالب: ..........

المحبة معناها موافقة الأمر، يعني مع كراهيته له هو محبوب لديه من جهة أخرى، «يكره الموت وأكره مساءته»، والله -جل وعلا- أحب قبضه.

(وأما محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فتنشأ عن معرفته ومعرفة كماله وأوصافه وعظم ما جاء به، وينشأ ذلك في معرفة مرسِله وعظمته كما سبق، فإن محبة الله لا تتم إلا بطاعته، ولا سبيل إلى طاعته إلا بمتابعة رسوله، كما قال -جل وعلا-: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]. ومحبة الرسول على درجتين أيضًا:

 إحداهما: فرض، وهي ما اقتضى طاعته في امتثال ما أمر به من الواجبات والانتهاء عما نهى عنه من المحرمات وتصديقه فيما أخبر به من المخبرات والرضا بذلك، وأن لا يجد في نفسه حرجًا مما جاء به ويسلم له تسليمًا، وأن لا يتلقى الهدى من غير مشكاته، ولا يطلب شيئًا من الخير إلا مما جاء به.

الدرجة الثانية: فضل مندوب إليه، وهي ما ارتقى بعد ذلك إلى اتباع سنته وآدابه وأخلاقه والاقتداء به في هديه وسمته وحسن معاشرته لأهله وإخوانه، وفي التخلق بأخلاقه الظاهرة في الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، وفي جوده وإيثاره وصفحه وحلمه واحتماله وتواضعه، وفي أخلاقه الباطنة من كمال خشيته لله ومحبته له وشوقه إلى لقائه ورضاه بقضائه وتعلق قلبه به دائمًا وصدق الالتجاء إليه والتوكل والاعتماد عليه، وقطع تعلق القلب بالأسباب كلها، ودوام لهج القلب واللسان بذكره والأنس به والتنعم بالخلوة بمناجاته ودعائه وتلاوة كتابه بالتدبر والتفكر.

وفي الجملة: فكان خلقه -صلى الله عليه وسلم- القرآن، يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه، فأكمل الخَلق من حقق متابعته وتصديقه قولاً وعملاً وحالاً، وهم الصديقون من أمته الذين رأسهم أبو بكر خليفته من بعده، وهم أعلى أهل الجنة درجةً بعد النبيين كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق إلى المغرب»؛ لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء ما يبلغها غيرهم، قال: «إي والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين». خرجاه في الصحيحين من حديث أبي سعيد.

 الخصلة الثانية: «أن يحب المرء لا يحبه إلا لله»، والحب في الله من أصول الإيمان وأعلى درجاته. وفي المسند عن معاذ بن أنس الجهني: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن أفضل الإيمان، فقال: أن تحب لله، وتبغض لله، وتُعمِل لسانك في ذكر الله»)، أفضل الإيمان قال: «أن تحب لله، وتبغض لله، وتعمل لسانك في ذكر الله»، (وفيه أيضًا عن عمرو بن الجموح، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يحق العبد حق صريح الإيمان حتى يحب لله، ويبغض لله، فإذا أحب لله، وأبغض لله، فقد استحق الولاية من الله»، وفيه أيضًا عن البراء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله»).

 الولاء والبراء أجلب عليه الأعداء؛ لأنهم يعرفون منزلته في الدين، ويعرفون أنه إذا تم الحب في الله بين المسلمين، وصاروا يدًا واحدة على أعدائهم ما وقف أعداؤهم في وجوههم، وإذا أبغضوا في الله أبغضوا أعداءهم فقووا عليهم، فأجلبوا عليه، وأضعفوه في نفوس المؤمنين، وزاد الأمر على ذلك إلى أن أُلغي من مناهج التعليم، لا حول ولا قوة إلا بالله.

 (وخرَّج الإمام أحمد وأبو داود عن أبي ذر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله»)، الآن الحب في الإنسانية ليس في الله، الحب في الإنسانية، كل الناس أخوة، نسأل الله العافية، (ومن حديث أبي أمامة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان»، وخرجه أحمد والترمذي من حديث معاذ بن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وزاد أحمد في رواية: «وأنكح لله»)، يعني زوج ابنته لله.

(وإنما كانت هذه الخصلة تالية لما قبلها؛ لأن من كان اللهُ ورسوله أحب إليه مما سواهما فقد صار حبه كله له، ويلزم من ذلك أن يكون بُغضه لله وموالاته له ومعاداته له، وأن لا تبقى له بقية من نفسه وهواه، وذلك يستلزم محبة ما يحبه الله من الأقوال والأعمال، وكراهة ما يكرهه من ذلك، وكذلك من الأشخاص، ويلزم من ذلك معاملتهم بمقتضى الحب والبغض، فمن أحبه لله أكرمه وعامله بالعدل والفضل، ومن أبغضه لله أهانه بالعدل، ولهذا وصف الله المحبين له بأنهم {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54]، وكان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يبلغني إلى حبك». فلا تتم محبة الله ورسوله إلا بمحبة أوليائه وموالاتهم وبغض أعدائه ومعاداتهم. وسئل بعض العارفين: بِمَ تُنال المحبة؟ قال: بموالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه، وأصله الموافقة.

الخصلة الثالثة: أن يكره الرجوع إلى الكفر كما يكره الرجوع إلى النار، فإن علامة محبة الله ورسوله محبة ما يحبه الله ورسوله وكراهة ما يكرهه الله ورسوله كما سبق، فإذا رسخ الإيمان في القلب وتحقق به ووجد حلاوته وطعمه، أحبه وأحب ثباته ودوامه والزيادة منه وكره مفارقته وكان كراهته لمفارقته أعظم عنده من كراهة الإلقاء في النار، قال الله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7]. والمؤمن يحب الإيمان أشد من حب الماء البارد في شدة الحر للظمآن، ويكره الخروج منه أشد من كراهة التحريق بالنيران، كما في المسند عن أبي رزين العقيلي).

 لا شك أن كل مسلم يشترك فيه، المسلمون كلهم يكرهون أن يخرجوا عن دائرة الإسلام إلى دائرة الكفر، كلهم يكرهون أن يعودوا في الكفر، هذا قدر مشترك بين الجميع، لكن العبرة بمن بذل السبب سبب الثبات على الدين، وإلا فما فيه مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله يرخص عليه الإسلام، ويكون إيمانه وكفره سواءً، ولا يكره أن يعود في الكفر، كلهم يشتركون في هذا، لكن العبرة بمن بذل أسباب الثبات على الدين. يعني إذا كنت تكره أن تعود في الكفر وتحب أن تثبت على دينك، احرص على بذل أسباب الثبات.

(والمؤمن يحب الإيمان أشد من حب الماء البارد في شدة الحر للظمآن، ويكره الخروج منه أشد من كراهة التحريق بالنيران، كما في المسند عن أبي رزين العقيلي: «أنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان، فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما، وأن تُحرَّق في النار أحب إليك من أن تشرك بالله، وأن تحب غير ذي نسب لا تحبه إلا لله، فإذا كنت كذلك فقد دخل حب الإيمان في قلبك كما دخل حب الماء للظمآن في اليوم القائظ».
وفي المسند أيضًا: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصَّى معاذ بن جبل، فقال له فيما وصاه به: لا تشرك بالله شيئًا وإن قُطِّعت وحرِّقت». وفي سنن ابن ماجه: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصى أبا الدرداء وغيره أيضًا»)
، قد يقول قائل: إن الإنسان قد يكره على الكفر، فينطق بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، وهو معذور في ذلك إذا أكره؟ نعم هذه رخصة، لكن العزيمة فيما ذُكر: «لا تشرك بالله وإن قطعت وحرقت».

(وفي سنن ابن ماجه: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصى أبا الدرداء وغيره أيضًا»، وقد أخبر الله عن أصحاب الأخدود بما أخبر به وقد كانوا فتنوا المؤمنين والمؤمنات وحرقوهم بالنار؛ ليرتدوا عن الإيمان، فاختاروا الإيمان على النار).

طالب: ..........

لا ما يلزم، ما دام رخصة فجاز الله -جل وعلا- بالنص القطعي لا باستنباط ولا بغيره للإنسان مندوحة، لكن يبقى أن العزيمة منزلة أعلى من الرخصة بلا شك.

قال -رحمه الله-: (وفي الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أن امرأة أُتي به ومعها صبي»)، قال: («أن امرأة منهم») يعني من أصحاب الأخدود («أتي بها ومعها صبي لها يرضع، فكأنها تقاعست أن تلقي نفسها في النار من أجل الصبي، فقال لها الصبي: يا أمه اصبري فإنك على الحق»)، يعني أحد الثلاثة الذين تكلموا في المهد، في الحديث الصحيح: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة»، مع أنه ثبت بنصوص أخرى حتى وصل العدد إلى سبع. (وألقي أبو مسلم الخولاني في النار على امتناعه أن يشهد للأسود بالنبوة، فصارت عليه بردًا وسلامًا. وعُرض على عبد الله بن حذافة أن يتنصر فأبى، فأمر ملك الروم بإلقائه في قدر عظيمة مملوءة ماء تغلي عليه، فبكى وقال: لم أبك جزعًا من الموت، لكن أبكي أنه ليس لي إلا نفس واحدة يُفعل بها هذا في الله، لَوددت أنه كان لي مكانُ كل شعرة مني نفسًا يُفعل بها ذلك في الله -عزَّ وجلَّ-)؛ لأن الإنسان يتصور أنه لو وضع إصبعه في هذا القدر ما تحمل، لكن ما يتحمل اللذة التي تحصل له لو أقدم، فالله -جل وعلا- يبدله مما كان يخافه ويخشاه بضد ذلك. (هذا مع أن التقية)، كما جاء في شهيد المعركة، لا يحس.

طالب: إلا كلسعة العقرب.

نعم، مثل اللسعة، القتل مثل اللسعة عنده، سهل.

(هذا مع أن التقية في ذلك باللسان جائزة مع طمأنينة القلب بالإيمان، كما قال تعالى {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]، ولكن الأفضل الصبر وعدم التقية في ذلك)، معروف أن العزيمة في مثل هذه المواطن أفضل من الرخصة، العزيمة لا بد منها في مجموع الأمة، يعني قد تكون الرخصة لعموم الناس، لكن خواصهم لا بد من وجود مَن يرتكب العزيمة منهم، يعني لو أن الإمام أحمد أجاب في المحنة مع بقية من امتحن، كان الأمر- والعلم عند الله جل وعلا- أنه إلى الآن يُقرر الاعتزال والقول بخلق القرآن، لكن الله -جل وعلا- درأ هذه الفتنة بصبر هذا الإمام وأمثاله.

(فإذا وجد القلب حلاوة الإيمان أحس بمرارة الكفر والفسوق والعصيان، ولهذا قال يوسف- عليه السلام-: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33]. سئل ذو النون: متى أحب ربي؟ قال: إذا كان ما يكرهه أمرَّ عندك من الصبر. وقال بشر بن السَّري: ليس من أعلام المحبة أن تحب ما يبغضه حبيبُك.

واعلم أن القَدْر الواجب من كراهة الكفر والفسوق والعصيان هو أن ينفر من ذلك ويتباعد منه جهده، ويعزم على أن لا يلابس شيئًا من جهده؛ لِعلمه بسخط الله له وغضبه على أهله، فأما ميل الطبع إلى ما يميل من ذلك -خصوصًا لمن اعتاده ثم تاب منه- فلا يؤاخذ به إذا لم يقدر على إزالته).

 يعني كثير من الشباب يتوب، يتوب من معصية، وتبقى هذه المعصية تراوده مدة طويلة، تراوده، وقد يتذكر في نفسه بعض المواقف المتعلقة بها، فيجد شيئًا من النشوة وشيئًا من الاغتباط، وهذا لا شك أنه ينافي الكراهة، لكن ما دام هذا في نفسه وحديث نفس كما قال: (فلا يؤاخذ به إذا لم يقدر على إزالته؛ ولهذا مدح الله من نهى النفس عن الهوى، وذلك يدل على أن الهوى يميل إلى ما هو ممنوع منه، وأن من عصى هواه كان محمودًا عند الله -عزَّ وجلَّ-. وسئل عمر عن قوم يشتهون المعاصي ولا يعملون بها؟ فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات: 3]. وقد تَرتاض النفس بعد ذلك وتألف).

طالب: ..........

ماذا؟

طالب: ما يكون هذا خلافًا ..........

أين؟

طالب: إذا كانت النفس تشتهي، الأصل .......... الإيمان؟

لا، لكن أحيانًا يصير حديث نفس ما ينطق به، ولا يعمل، فيكون من المعفو عنه.

(وقد ترتاض النفس بعد ذلك وتألف التقوى حتى تتبدل طبيعتها وتكره ما كانت مائلة إليه وتصير التقوى لها طبيعة ثابتة. وهل هذا أفضل من الأول أم الأول أفضل؟)، لا شك أن الأول فيه مجاهدة، والثاني فيه لذة. وهو نظير ما اختلفوا فيه من ممن يكابد ويجاهد الطاعات، ومن يتلذذ بها.

(وقد ترتاض النفس بعد ذلك، وتألف التقوى حتى تتبدل طبيعتها، وتكره ما كانت مائلة إليه، وتصير التقوى لها طبيعة ثابتة. وهل هذا أفضل من الأول أم الأول أفضل؟ هذا قد يُخرج على اختلاف العلماء فيمن عمل طاعة ونفسه تأباها وهو يجاهدها، وآخر عملها ونفسه طائعة مختارة لها أيهما أفضل؟ وفيه قولان مشهوران للعلماء والصوفية. والأظهر أن الثاني أفضل).

 ما فيه شك أن الثاني ما وصل إلى هذه المرحلة وهذه المنزلة حتى جاهد وتجاوز المرحلة الأولى، يعني كما قالوا: وكابدنا قيام الليل عشرين سنة وتلذذنا به عشرين سنة. يعني على مستوى العلماء والتعليم، تجد بعض أهل العلم يتلذذ بالتعليم، ولا يقطع الدرس من تلقاء نفسه، يستمر يدرس ويستمر يتكلم وفي كل مناسبة، هذا لا شك أنه وصل إلى مرحلة التلذذ، وبعضهم يدرس عشرين ثلاثين أربعين سنة وهو يجاهد في كل درس، كل درس يحتاج إلى مجاهدة. يقول: (والأظهر أن الثاني أفضل، وفي كلام الإمام أحمد ما يدل على خلافه. وفي مسند الإمام أحمد قال: حدثنا يحيى بن سعيد عن حميد عن أنس: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل: أسلِم. قال: أجدني كارهًا. قال: وإن كنتَ كارهًا»، وهذا يدل على صحة الإسلام مع نفور القلب عنه وكراهته له)، لكن لا يلبث أنه إذا أسلم وخالطت بشاشة الإيمان قلبه فإنه يتلذذ به، (وهذا يدل على صحة الإسلام مع نفور القلب عنه وكراهته له، لكن إذا دخل في الإسلام واعتاده وألفه دخل حبه قلبه ووجد حلاوته.

وخرَّج مسلم حديث أنس المتقدم، ولفظه: «ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه». ويُستشكل من هذا اللفظ)، «ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه». قال: (ويُستشكل من هذا اللفظ أنه يقتضي وجود محبة الأمرين، أعني: الإلقاء في النار والرجوع إلى الكفر، وتُرجح محبة الأول على الثاني)؛ لأنه جاء به بصيغة أفعل التفضيل التي تقتضي مشاركة الأمرين في الوصف وزيادة أحدهما على الآخر في هذا الوصف. (وترجح محبة الأول على الثاني، ووقع مثله في القرآن في قوله تعالى حاكيًا عن يوسف -عليهِ السَّلامُ-: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33])، مع أن أفعل التفضيل قد لا تكون على بابها: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} [الفرقان: 24]، وأصحاب النار معروف أن ما عندهم خير بالكلية، و{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33] مقتضى أفعل التفضيل أن ما يدعونه إليه محبوب إليه، لكن السجن أحب، (ومثله قول علي -رَضِيَ اللهُ عنهُ-: إذا حدثتكم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلأن أخِرَّ من السماء إلى الأرض أحب إليَّ من أن أكذب عليه)؛ لأن الكذب عليه محبوب عند علي؟ أبدًا، فأفعل التفضيل ليست على بابها. (ويجاب عن ذلك: بأن من خُير بين أمرين مكروهين فاختار أحدهما على الآخر لشدة كراهته لِما رغب عنه، فإنه يقال إنه مُحب لما اختاره مريد له، وإن كان لا يحبه ولا يختاره لنفسه، بل لدفع ما عنده أشد كراهة وأعظم ضررًا.

ومن هنا ورد ما ورد من حب الموت في الفتنة والتخلص منها. وقيل لعطاء السليمي: لو أُججت نار وقيل: من دخلها نجا من جهنم، هل كنت تدخلها؟ فقال: بل كنت أخشى أن تخرج نفسي فرحًا بهذا قبل وصولي إليها)، (لو أُججت نار وقيل: من دخلها نجا من جهنم هل كنت تدخلها؟)، عندنا: (هل كنتم)، (قال: بل كنت أخشى أن تخرج نفسي فرحًا بها قبل وصولي إليها، ويشبه هذا حال المكره على فعل بضرب أو سجن أو تهديد أو بقتل ونحو ذلك إذا فعله افتداءً لنفسه مما أُكره عليه هل هو مختار له أم لا؟).

 العلماء بعضهم صبر على الجلد والضرب الشديد في مقابل القضاء، امتنع من القضاء فجلد، وبعضهم حصل له من أنواع الأذى ما حصل ومع ذلك امتنع، ما قال: أنا مكره، والله المستعان.

طالب: ..........

أين؟

طالب: ..........

ماذا فيه؟

طالب: ..........

يدل على صحة الإسلام مع نفور القلب وكراهته له، يعني في أول الأمر قبل أن يخالط بشاشته القلب.

طالب: ..........

نعم، هذه المباعية، هذا دليل عليه، هذا دليله.

طالب: ..........

ما هو بآخر الأمر في الدعوة، أول الأمر في الشخص نفسه، الكلام في الشخص نفسه، يعني لو وُجد الآن نقول: لا، هذا كان في صدر الإسلام، لا، كل شخص بحسبه.

(وفيه اختلاف مشهور بين الأصوليين، والتحقيق أنه مختار له لا لنفسه، بل للافتداء به من المكروه الأعظم، فهو مختار له من وجه دون وجه، وهذا بخلاف فِعل المؤمن الطاعات خوفًا من الله)، المؤمن يفعل الطاعات خوفًا من الله، (فإنه ليس فعله كفعل المكره؛ لأن المؤمن يجب عليه أن يأتي بالطاعة؛ خوفًا من عقاب الله، ورجاءً لثوابه وحبًّا له، فبذلك يفارق حال المكره.

ومن هنا تظهر المسألة التي تفر منها الفقهاء، وهي إذا قال رجل لامرأته: إن كنت تحبيني)، أو: تحبين؟ تحبين (إن كنت تحبين أن يعذبك الله بالنار فأنت طالق، فقالت: أنا أحبه، فقال كثير منهم من أصحابنا وغيرهم)، يعني الحنابلة (إنها تطلق؛ لأنها قد تختار ذلك وتحبه افتداءً به من معاشرة زوجها؛ لشدة بُغضها له، وجهلاً منها بتصور عذاب جهنم، فتكون صادقة فيما أَخبرت به).

 الأصل أنها إذا قالت: تحب أن تعذب في النار، إذًا ليست صادقة، بل هي تكره أن تعذب في النار، فكونها تخبر تكون كاذبة في خبرها، فلا يقع الطلاق، لكن إذا كانت ما تتصور مقدار هذا العذاب وتتصور العذاب القائم الموجود الآن المشاهد من زوجها له وكراهيتها له، امرأة كرهت زوجها وأبغضته بغضًا شديدًا وبذلت الأسباب لمفارقته فما قبِل، أفتاها من أفتاها أن ترتد عن الإسلام؛ ليفرق بينها وبينه، ابن المبارك يقول: من أفتى بهذا فهو كافر، ومن رضي بهذه الفتوى فهو كافر.

(ومن هذا: الحديث الذي فيه أن الكافر يقول من شدة ما يجد في الموقف يوم القيامة: رب أرحني ولو إلى النار).

 بعض البلدان المجاورة قبل الثورات قبل ستين أو سبعين سنة، تمنى بعض أهل تلك الجهات أن يبدل الحاكم ولو بيهودي، فيه ظلم، وفيه جور، فتمنى الناس إذا تخلصوا من هذا الواقع الذي يعيشونه، فما النتيجة؟ النتيجة قامت الثورة وساموا الناس سوء العذاب، وسلبوا خيراتهم، وصارت أحوالهم أسوأ بكثير لا في أمور دينهم ولا دنياهم.

(ومن هذا الحديث الذي فيه أن الكافر يقول من شدة ما يجد في الموقف يوم القيامة: رب أرحني ولو إلى النار. فظهر بهذا أن من خُير بين مكروهين فاختار أخفهما دفعًا لأعظمهما، أن يكون محبًّا لما اختاره مختارًا له من وجه دون وجه)، لأنه في الأصل مكروه. (وأما ما يقتضيه لفظ الحديث من كونه محبًّا للآخر، فهذا أولاً غير لازم على قول الكوفيين الذين لا يَرون أن أفعل التفضيل يلزم منه المشاركة مطلقًا، فيجوز عندهم أن يقال: الثلج أبرد من النار، وأما على قول البصريين فإنه قد ورد في كثير من نصوص الكتاب والسنة ما تمتنع فيه المشاركة، وتأولوا فيه أفعل بفاعل، فكذلك تُتأول هنا)، يعني المحدثون كثيرًا ما يقولون: هذا الحديث أصح ما في الباب. هل مقتضاه أن أحاديث الباب صحيحة، وأن هذا الحديث من باب أولى صحيح؟

لا يلزم، قد يقال في الضعيف: أصح وأقوى، يعني أنه أمثل من غيره وإن كان ضعيفًا، كما أنهم قد يقولون: هذا الحديث أضعف، ولو كان في الصحيح، لكنه عند الموازنة والمقارنة بغيره غيره أقوى منه.

يقول -رَحِمَهُ اللهُ-: (ومما بقي مما يتعلق بلفظ هذا الحديث، أن قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» يدل على أنه يجوز الجمع بين اسم الله واسم غيره من المخلوقين في كلمة واحدة. وفي سنن أبي داود عن ابن مسعود: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول في خطبته: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا».

وقال ابن مسعود لما قضى في بِرْوَع: إن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأً فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان من الخطأ.

وقد اختلف الناس في جواز مثل هذا التركيب في الكلام على أقوال؛ أحدهما: أنه لا يجوز. والثاني: أنه لا يجوز في كلام الله -عزَّ وجلَّ- دون غيره. والثالث: أنه ممتنع مطلقًا. واحتجوا بحديث عدي بن حاتم: «أن رجلاً خطب عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ومن يعصهما فقد غوى، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله»، خرجه مسلم.

وقد قيل: إن قوله: «قل: ومن يعص الله ورسوله» مدرجة في الحديث، وإنما أنكر عليه وقفه في قوله: «ومن يعصهما»، من جاءنا بسؤال قبل يوم السبت، سؤال أن الإنكار في قول الخطيب على وقوفه على قوله: «ومن يعصهما»، وهنا أشار إليه الحافظ -رَحِمَهُ اللهُ-، وقلت أنا في وقتها: إن هذا يحتاج إلى نقل، إن مثل هذا لا يثبت بمجرد احتمال أنه وقف، يحتاج إلى نقل.

(وإنما أنكر عليه وقفه على قوله: «ومن يعصهما»، وقد ذكر هذا الاختلاف ابن عطية في تفسيره وغيره. وفيه قول آخر: أنه يَمتنع في واو الجمع أو ألف التثنية المتصلينِ بالأفعال نحو: يفعلون، وتفعلانِ، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56]، وهذا هو الذي ذكره القاضي أبو يعلى في كتاب أحكام القرآن. ومن منع ذلك أجاب بأن في الكلام حذفًا تقديره: إن الله يصلي وملائكته يصلون، والله تعالى أعلم)، يعني مثل ما قيل في البيت:

نحن بما عندنا، وأنت بما عندك راضٍ، يعني نحن بما عندنا راضون وأنت بما عندك راضٍ.

والله أعلم.

 وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"